ملاحظات أولى
عاش محمد عبد الجبار النفري في القرن الرابع الهجري(354هـ) ، وجاء لقبه نسبة لقرية نفر من قرى بابل، وله كتاب (المواقف والمخاطبات)، هكذا تداولت المصادر الحديثة التعريف به، واستندت في هذه المعلومات على ما ورد في كتاب الفتوحات المكية لابن عربي، ورسائل أخرى، وما ذكره شارح المواقف عفيف الدين التلمساني، فقد ذكر ابن عربي النفري في الفتوحات على ستة مواضع موزعة على المجلدات الخمسة الأولى في ضوء من طبعة بولاق، فجاء في الموضع الأول، من المجلد الأول، في (معرفة أهل الليل)، ذكرُ اسمه كاملاً، وذكرُ موقف من مواقفه: (( قال محمد بن عبد الجبار النفري وكان من أهل الليل: أوقفني الحق في موقف العلم، وذكر رضي الله عنه ما قال له الحق في موقفه ذلك فكان من جملة ما قال له في ذلك الموقف: يا عبدي الليل لي لا للقرآن يتلى الليل لي لا للمحمدة والثناء يقول الله تعالى: إن لك في النهار سبحاً طويلاً ، فاجعل الليل لي كما هو لي، فإن في الليل نزولي فلا أراك في النهار معاشك فإذا جاء الليل وطلبتك ونزلت إليك وجدتك نائماً في راحتك وفي عالم حياتك وما ثم إلا ليل ونهار، فلا في النهار وجدتك وقد جعلته لك ولم أنزل فيه إليك وسلمته لك...))، وفي الموضع الثاني من المجلد الثاني، جاء ذكر اسمه وكتابه في ايضاح الوقفة بين المقامات، ((... فإن المقامات في هذا الطريق كأنواع الأعمال في الشريعة مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وغير ذلك، فكما أن لكل نوع من هذه الأعمال علم يخصه، كذلك لكل مقام آداب ومعاملة تخصه، وقد بين ذلك محمد بن عبد الجبار النفري في كتابه الذي سماه بـ "المواقف" والقول وقفت على أكثره وهو كتاب شريف يحوي على علوم وآداب المقامات، يقول في ترجمة الموقف اسم الموقف يقول في انتقاله إلى موقف العلم مثلا وهو من جملة مواقفه في ذلك الكتاب فقال: موقف العلم، ثم قال: أوقفني في موقف العلم وقال لي: يا عبدي لا تأتمر للعلم ولا خلقتك لتدل على سواي، ثم قال: قال لي: الليل لي لا للقرآن يتلى الليل لي لا للمحمدة والثناء) إلى أن ينتهي إلى جميع ما يوقفه الحق عليه...))، وفي الموضع الثالث من المجلد الثاني نفسه جاء ذكر اسمه وكتابه مع بيان مذهبه في ايضاح المرض الذي يجوز فيه الفطر : ((... واما من اعتبر المرض بالميل وهو الذي ينطلق عليه اسم مرض وهو مذهب محمد بن عبد الجبار النفري صاحب المواقف من رجال الله هكذا أحسبه...))، والموضع الرابع في المجلد الثالث في ايضاح مقامات التوبة وما بينهما من مواقف، ذكر اسمه: (( ... والواقفية أرباب المواقف مثل عبد الجبار النفري وأبي يزيد البسطامي...))، وفي الموضع الخامس في المجلد الرابع في ايضاح الموقف ذكر اسمه واسم كتابه ((واعلم انه ما من منزل من المنازل ولا منازلة من المنازلات ولا مقام من المقامات ولا حال من الحالات إلا وبينهما برزخ يوقف العبد فيه فيسمى الموقف. وهو الذي تكلم منه صاحب المواقف محمد بن عبد الجبار النفري رحمه الله في كتابه المسمى بالمواقف الذي يقول فيه، أوقفني الحق في موقف كذا، فذلك الاسم الذي يضيفه إليه هو المنزل الذي ينتقل إليه أو المقام أو الحال أو المنازلة إلا قوله: أوقفني في موقف وراء الموقف، فذلك الموقف مسمى بغير اسم ما ينتقل إليه...))، وفي الموضع السادس والأخير من المجلد الخامس في ايضاح موقف السواء ذكر اسمه : (( ... وهذا هو المنزل الذي سماه النفري في مواقفه موقف السواء لظهور العبد فيه بصورة الحق...)).
هذا كل ما ذكره ابن عربي فيما يتصل بالنفري وكتابه وبيان مذهبه في بعض المواقف، والتمثل باسلوبه، أي ذكر طريقة مفتتح الموقف عنده، وقد تمثل بموقف العلم مرتين، وأوردَ مقطعاً من المواقف سأعود إليه بوصفه شاهداً على الانتحال..
من القرن الرابع الهجري، أي عصر النفري الذي وقفت عليه بدقة المصادر الحديثة، بعد ما يقارب أربعة قرون من ابن عربي، في كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة، وهو يذكر سنة وفاة النفري354هـ، وصولاً إلى القرن السابع الهجري لم يرد النفري سيرة وكتاباً في أي مورد سوى ما ذكره ابن عربي، وهذا يثير أسئلة كثيرة، وبعض هذه الأسئلة تتضمن اجاباتها، ويحرض أيضاً على رصد التصوف ومدوناته في هذه القرون، بدء بالقرن الثاني الهجري، ومراجعة كتاب المواقف والمخاطبات في ضوء منها، ثم مساءلة ما توافر مع عفيف الدين التلمساني، وما توافر من مخطوطات، ثم متابعة (المواقف والمخاطبات) بعد القرن السابع الهجري، في العهد المملوكي تحديداً، وما رافق هذا العصر بقرونه الثلاثة من اتساع التصوف، وتحولاته، لاسيما دفع السلطة بهذا الاتجاه، بعدما تحول مركز التصوف من بغداد إلى مصر ثم الشام، والذي يبدو لي، بشواهد ووثائق، أنه عصر انتحال المواقف والمخاطبات، لكن المقال ههنا يقتصر على اشارات سريعة، وشواهد موجزة، تؤكد انتحال كتاب المواقف والمخاطبات، وأن ما وصلنا بكل نسخه المحققة قد شوه، ولا يمت بصلة في كثير من جوانبه لكتاب المواقف الأصل، وسأعتمد على الفتوحات المكية أولاً، ثم اتعرض للمراجع الأخرى لاحقاً.
ذكر ابن عربي في الفتوحات اسم النفري، ثم ذكر كتابه، وقد اقتصر في ذكر الكتاب على (المواقف)، ولم يرد ذكر (المخاطبات) وهذا يدفع بنا للسؤال عن مرجع ما يتصل بالمخاطبات، فلم ترد المخاطبات في فتوحات ابن عربي، ولم ترد مع التلمساني في شرحه، وما اشار إليه المحقق الراحل قاسم محمد عباس في مقدمة تحقيقه لأعمال النفري الكاملة من ان ابن عربي سماه بـ (بالمواقف والقول) فيه لبس، أولاً: لم يذكر ابن عربي (المواقف والقول) بوصفه كتاباً كما اشار قاسم محمد عباس، وانما ذكر المواقف فقط، ومفردة القول جاءت في نص الفتوحات زائدة على عنوان الكتاب، أو لنقل منفردة ، وما ورد من ذكر للكتاب بـ (المواقف) في غير موضع من الفتوحات يؤكد هذا، والأمر الآخر في مطابقة نسخ الفتوحات التي خلت من (القول)، ولهذا في طبعات أخرى للفتوحات وضعت (المواقف) بين شارحتين، وثانياً: لم يسمِ ابن عربي الكتاب، وانما ورد هكذا بالنص: ((وقد بين ذلك محمد بن عبد الجبار النفري في كتابه الذي سماه بـ "المواقف" والقول وقفت على أكثره وهو كتاب شريف يحوي على علوم وآداب المقامات))، فهو ينقل العنوان كما سماه النفري نفسه.
بقي ابن عربي في فتوحاته وبعض رسائله، كرسالة الأعيان، مرجع النفري، ومن الملاحظ ان المحققين والدارسين، فيما طالعت، لم يوفروا العناية الكافية في قراءة مواضع الفتوحات المكية، وانما تعاملوا معها كتراجم وفرت لهم معلومات عن النفري، فيما يتصل باسمه، وكتابه، وايضاح الوقفة، تاركين سياقات هذه المواضع، والاشارات التي تحيل إلى متن النفري، بل لم يكترثوا لما تمثل به الشيخ الاكبر من موقف للنفري، وهو موقف العلم. ففي العودة إلى مواضع الفتوحات وقراءتها بعناية نعثر على اشارات هامة، منها: أن ابن عربي وصف كتاب المواقف بانه ((كتاب شريف يحوي على علوم وآداب المقامات))، وبعيداً عن وصف الـ (شريف) الذي يتوافر في المدونات الصوفية بكثرة ويجيء بمعنى مزية اضافية لكتاب استوفى صاحبه شروط الكتابة فيما استوفى، تحيل فقرة ((يحوي على علوم وآداب المقامات)) إلى تنويعين، (علوم المقامات، وآداب المقامات)، وواحدة مما يصدق عليها علوم المقامات هي تراتب المقامات بانتظام صوفي، أو كما يقول الصوفية، ولا سيما القشيري: ((أن لا يرتقي من مقام إلى مقام آخر، ما لم يستوف احكام ذلك المقام، ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة))، وهذا مما لا نجده، أي النظام الصوفي، في كتاب المواقف والمخاطبات، وفي مروية عفيف الدين التلمساني التي شكك فيها بنسبة التدوين للنفري بناء على عدم انتظام المواقف على طريقة التصوف، ما يؤكد هذا الأمر. هذا اذا ما ارفقنا مفتتح فقرة ابن عربي ((وقفت على أكثره)) يتضح أن الكتاب الذي وقف عليه الشيخ الأكبر، ووصفه بـ(كتاب شريف يحوي ...)) ليس هو ما وصل إلينا من مخطوطات، لا سيما التي تحمل عنوان (( الأعمال الكاملة)). هذا وأن بعض المخطوطات المعتمدة فيما حُقق تحمل توقيع سنة 581هـ، وهي مما اعتمده أرثر يوحنا أربري ومن جاء بعده، أي كانت في عصر ابن عربي، وتزداد مشكلة النظام الصوفي في (موقف وراء المواقف)، فهو حسب ابن عربي (( الموقف الذي لا يكون بعده ما يناسب الأول، وهو عندما يريد الحق أن ينقله من المقام إلى الحال، ومن الحال إلى المقام، ومن المقام إلى المنزل))، واذا رجعنا إلى نص المواقف الذي ذكره ابن عربي، أي موقف العلم، نقف على مشكلات أخرى، منها ما يتصل ببنية المواقف، فما توافر من نسخ حققت تتشكل بنيتها على النظام المقطعي، أي تكرار (قال لي)، بينما ما ذكره ابن عربي هكذا: (( قال محمد بن عبد الجبار النفري وكان من أهل الليل: أوقفني الحق في موقف العلم، وذكر رضي الله عنه ما قال له الحق في موقفه ذلك فكان من جملة ما قال له في ذلك الموقف: يا عبدي الليل لي لا للقرآن يتلى الليل لي لا للمحمدة والثناء يقول الله تعالى: إن لك في النهار سبحاً طويلاً، فاجعل الليل لي كما هو لي، فإن في الليل نزولي فلا أراك في النهار معاشك فإذا جاء الليل وطلبتك ونزلت إليك وجدتك نائماً في راحتك وفي عالم حياتك وما ثم إلا ليل ونهار، فلا في النهار وجدتك وقد جعلته لك ولم أنزل فيه إليك وسلمته لك، وجعلت الليل لي فنزلت إليك فيه لأناجيك وأسامرك وأقضي حوائجك فوجدتك قد نمت عني واسأت الأدب معي ما دعواك محبتي وايثار جنابي، فقم بين يديّ وسلني حتى اعطيك مسألتك، وما طلبتك للتلو القرآن فتقف مع معانيه فان معانيه تفرقك عني، فآية تمشي بك في جنتي وما اعددت لأوليائي فيها، فأين أنا إذا كنت أنت في جنتي مع الحور المقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان متكئا على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان؟! تسقى من رحيق مختوم.......
فأين أنا وأين خلوتك بي؟ ما عرفني ولا عرف مقدار قولي الليل لي، وما عرف لماذا نزلت إليك بالليل إلا العارف المحقق الذي لقيه بعض إخوانه فقال له: يا أخي اذكرني في خلوتك بربك فأجابه ذلك العبد فقال: إذا ذكرتك فلست معه في خلوة...))
ففي هذا المقطع، الذي اقتطعتُ منه أيضاً ولم أقتبسه كاملاً، لم تتكرر (قال لي)، ومن الملاحظ حضور المرجعية القرآنية بشكل كبير في النص، خلافاً للمواقف والمخاطبات الجديد الذي يبدو علمانياً، ويقتصر في اكمله على تناصات قليلة، ثم غياب اسلوب الحكي كما في المقطع أعلاه: ((وما عرف لماذا نزلت إليك بالليل إلا العارف المحقق الذي لقيه بعض إخوانه فقال له: يا أخي اذكرني في خلوتك بربك فأجابه ذلك العبد فقال: إذا ذكرتك فلست معه في خلوة))، وهذا الاسلوب صوفي بامتياز، وهو اسلوب مدونات القرون الأولى في التصوف تحديداً، ثم العناية بالتكثيف والايجاز تمثل مشكلة أخرى، و (موقف العلم) هذا الذي ذكره ابن عربي لم يرد، لا بشكله هذا، ولا باسمه، في تحقيق أرثر يوحنا، وانما اُخذت مقاطع صغيرة منه وحشرت في (موقف اسمع عهد ولايتك)، كما ورد هكذا: ((وقال لي الليل لا للقرآن يتلى، الليل لي لا للمحامد والثناء..))، وحين عاد قاسم محمد عباس وحقق الأعمال الكاملة ذكر موقف (اسمع عهد ولايتك) كما ذُكر في طبعة أرثر يوحنا، غير أنه اضاف موقف العلم بوصفه موقفاً جديداً مكتشفاً، بناء على ما توافر من مخطوطات، لكنه، أي موقف العلم، جاء على بنية مواقف أرثر يوحنا، بنظامه المقطعي، وبعلمانيته، وبايجازه الخالي من الحكي. والمشكلة الأخرى مع قاسم محمد عباس انه وضعنا ازاء موقف مختلف تماماً عما ذكره ابن عربي، اختلافاً اسلوبياً و مضمونياً، ومن الملاحظ أن توافر موقفين بهذا العنوان يشي بانتحال واضح، لا سيما أن ما اعتمد عليه المحققون من نسخٍ لم يتكرر، فيها، موقفٌ مرتين. وفيما ذكر ابن عربي أيضاً (موقف السواء)، قائلاً: ((وهذا هو المنزل الذي سماه النفري في مواقفه موقف السواء لظهور العبد فيه بصورة الحق))، غير أننا لم نعثر على هذا الموقف فيما توافر من نسخ طبعت بأكثر من تحقيق..
المسألة الأخيرة التي تثار كشاهد انتحال، وسأبقي تفاصيل أخرى إلى حين نشرها بدراسة كاملة وموسعة، أن معجم المواقف والمخاطبات الجديد، قام على مرحلة ما بعد ابن عربي، مرحلة اضطراب اللغة عبر التداخل الاصطلاحي الذي يشي بتفاوت بين نثر واضح طري، مثيل هذا النص من موقف التيه: ((وقال لي من لم يمش في المحبة لم يهتد إليّ))، وبين غموض وتعقيد مثيل هذا النص من موقف كدت لا أواخذه: (( وقال لي أنا في كل شيء بلا أنية فيه ولا حيثية منه ولا محلية منفصلة ولا متصلة ولست فيها ولا هو فيّ وأنا أبدو لك فأفني منك ما تتعلق به المعرفة وأبقي لك ما تتعلق به من العلم...))، وهذا النص، مع نصوص أخرى، يحتفي بوضوح مفضوح بفكرة الجمع بين التنزيه والتشبيه، هذه الفكرة الجديدة التي قامت بشكل رئيس على (وحدة الوجود) لابن عربي، والتي طردت فيما طردت تسرب التنزيه الافلوطيني للتصوف، وقد ذكرها ابن عربي في فصوص الحكم، فص الحكمة السبوحية: ((المنزِّه اما جاهل أو بلا أدب ...)).