كانت النشرة السابقة، في مراجعة انتحال (المواقف والمخاطبات) للنفري، تتصل بمرجع النفري الأول: كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي، وقد أوردتُ مواضع ذكر النفري تفصيلاً، وهي ستة مواضع، بناء على أكثر من طبعة، منها طبعة بولاق، خلافاً لما جاء في مقدمة أرثر يوحنا بترجمة سعيد الغانمي (منشورات الجمل)، فقد ذكر هناك: ((يذكر محي الدين بن العربي اسم المؤلف أربع مرات في كتابه "الفتوحات المكية" ويرد فيه دائماً بصيغة النفري، وعلى هذه الصيغة يتابعه كتّاب عرب كثيرون...))، ثم يعود ويقول: (( جاء ذكر النفري أو أحيل إليه خمس مرات في "الفتوحات المكية..))، من دون أن نجد هامشاً في الأقل للأستاذ سعيد الغانمي أسفل الترجمة، أو في مقدمته، يوضح اضطراب أرثر يوحنا في احصاء مواضع ذكر النفري: أهي أربعة، أم خمسة؟، بل ستة مواضع!
وبعيداً عن هذه التفصيلة غير الهامة، و بعيداً عن طبعة الجمل التي أعادت نشر ما توافر مع أرثر يوحنا واضافات جديدة، كما جاءت طبعة المدى أيضاً، بفارق ترجمة مقدمة أرثر يوحنا، ومقدمة واسعة للأستاذ سعيد الغانمي، جاء فيها: (( ليس من الصعب تقدير أن التلمساني في وصفه النفري بقوله: " كانَ مولهاً لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد" إنما يستنتج هذه الملاحظة من التعليقات الواردة في نهايات كتب النفري وحواشيها، حيث يشير النص إلى تنقله بين البصرة والنيل، وهي مرة أخرى: نيل الحلة، لا نيل مصر كما توهمه التلمساني، ونفر وواسط... إلخ. غير أن التلمساني يضع يده على واقعة مهمة في حياة النفري، وهي كونه "سائحاً" جوالاً لا يستقر بأرض. وحين يستعمل كلمة (موله) فهو يعني بها مفهوم (التوله) الذي يشرحه المتصوفة بحكاية يسردونها عن الشبلي يكون فيها (المولّه) " من هام بحب الله، وتاه في طلبه، وتوله بذكره، ومات باسمه". وهنا يجب التمييز بين عدة مفاهيم متقاربة في دلالتها، ولكنها مختلفة تاريخياً. فالانقطاع أو العكوف في زاوية أو رباط أو خانقاه مفهوم متأخر شاع بعد رسوخ التصوف كمؤسسة اجتماعية بتأثير من ابن سبعين وابن عربي...)).
ومن الملاحظ، سريعاً، أن سعيد الغانمي اعتمد وصف التلمساني للنفري (كان مولهاً) بناء على طبعة الهند لشرح المواقف، بينما جاء في طبعة مصر: ((فإنه كان (مؤلهاً) لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد...))، وهذا الوصف أشبه، فـ (التوله) حسب التلمساني نفسه يتنافى مع (( لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد))، حيث يجيء في شرحه المواقف: ((قد جرت سنة الله تعالى مع أوليائه في أكثر الأمر أن يفاجئوا بالعيان دفعة واحدة فـ (يتوله) كثير منهم وأكثرهم يدركه الرعب فيبقى في مكانه ورأيت منهم في الديار المصرية رجلاً مغربياً يقال له الشيخ أبو الحسن الشاذلي قدسه الله كان من علامات الرعب المستولى عليه أنه كان إذا حضر عنده المناسبون لذوقه فأخبرهم عن وارداته وتنزلاته أنه كان يصيح ويرفع صوته في كلامه حتى يكاد يسمعه من يمر في الشارع..))، والملحظ الآخر: إنّ ((الانقطاع أو العكوف في زاوية أو رباط أو خانقاه)) لم يكن مفهوماً متأخراً شاع بعد رسوخ التصوف الاجتماعي بتأثير من ابن سبعين وابن عربي، وانما هو مفهوم رافق التصوف منذ بداياته، ولا أريد، ههنا، الاطالة في ذكر شواهد عن (العكوف في زاوية أو رباط)، لكن سأكتفي بالإشارة إلى (المقدمة في التصوف/ لأبي عبد الرحمن السلمي ـ 412هـ)، وإلى (العكوف في خانقاه)، حيث شاع تحديداً مع الغزالي (505هـ) في ايران، وقد ورد في سيرته: اتخاذه، إلى جوار داره، خانقاه للصوفية، وفي العراق شاع قبل القرن السادس الهجري أيضاً، وفي تناول دلالة (خانقاه) من قبل ياقوت الحموي (626هـ) ما يؤكد هذا الشيوع، ولا صلة لابن عربي بالأمر، ولم يكن بتأثير منه.
بعيداً عن هذا كلّه، أعود إلى عفيف الدين التلمساني (610 ـ 690 هـ) شارح المواقف بوصفه مرجعاً آخر للنفري. وقد عاش التلمساني في القرن السابع الهجري، وتأثر بفكر الشيخ الأكبر ابن عربي، وقد اضاف معلومات تتصل بالنفري وكتابه، منها ما يتصل بسيرة النفري، ومنها ما يتصل بكتابه وطريقة تأليفه، ومنها ما يتصل بفكره، غير أن المحققين، وجامعي المواقف الجدد اكتفوا بشرح التلمساني للمواقف، ولم يشيروا، فيما طالعت، لشرح فصوص الحكم لابن عربي، فهناك أيضاً ذكر التلمساني النفري، وشرح الفصوص بتأثير منه، وقد تعاملوا مع هذا المرجع، أيضاً، بوصفه كتاب تراجم، يوفر لهم معلومات حسب، وسأتعرض لهذين المرجعين، أي (شرح المواقف، وشرح فصوص الحكم)
شرحَ التلمساني، في كتابه هذا، (77) موقفاً للنفري، وبالتراتب الذي ورد في تحقيق أرثر يوحنا، ومن جاء بعده، يبدأ بـ (موقف العز) وينتهي بـ (موقف الكنف)، غير أن هذا الكتاب لم يقع على مقدمة تكشف نسبة الكتاب إلى النفري، ولا شيئاً عن سيرة حياته، وإنما استعجل الشرح مباشرة، لكنه اشار في أكثر من موضع، داخل الشرح، إلى معلومات تتصل بالنفري وكتابه، منها: ((هذا التنزل ليس هذا الموقف موقفه إذ هو لائق بأهل البداية، وهو مما يدل على ما قيل إن الذي ألف هذه المواقف هو ولد ولد الشيخ النفري رحمه الله، وليس هو الشيخ نفسه إذ كان الشيخ لم يؤلف كتاباً إنما كان يكتب هذه التنزلات في جزازات أوراق نقلت بعده، فإنه كان (مؤلها) لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد، وذكر أنه توفى بأرض مصر في بعض قراها، والله أعلم بجلية أمره))، وفي موضع ثانٍ : (( هذا التنزل فيه وصية نافعة لكنها ليست لصاحب المقام المذكور في التنزل الذي قبل هذا فإن مقام هذا التنزل سلوك وذلك الأول النهاية وهذا يدل على أن الذي ألف هذه المواقف لم يكن هو النفري بل بعض أحبابه وقيل ابن بنته. فلا جرم لم يأت مرتباً ترتيب المقامات في نفس الأمر.))، وفي موضع ثالث: ((والشيخ النفري قدس الله ارواحنا به لم يذكر شيئا من احكام السفر الثاني ولا الثالث ولا الرابع..)
هذا كلّ ما ورد خارج الشرح من معلومات تتصل بالنفري وكتابه، ولنناقش هذه النصوص تباعاً:
أولاً: ما ذكره التلمساني من معلومات تقع في التهافت، أو لنقل مضطربة، فمرة يقول : ((يدل على ما قيل إن الذي ألف هذه المواقف هو ولد ولد الشيخ النفري رحمه الله، وليس هو الشيخ نفسه إذ كان الشيخ لم يؤلف كتاباً إنما كان يكتب هذه التنزلات في جزازات أوراق نقلت بعده))، فهو ينفي عملية تأليف الكتاب عن النفري، ويؤكد (القول) ان مؤلف الكتاب حفيد الشيخ من ابنه، ويقول لنا إن النفري كان يكتب في جزازات أوراق نقلت بعده، أي أوراق صغيرة، ثم يعود فيقول: ((وهذا يدل على أن الذي ألف هذه المواقف لم يكن هو النفري بل بعض أحبابه وقيل ابن بنته. فلا جرم لم يأت مرتباً ترتيب المقامات في نفس الأمر))، وهنا يضعنا ازاء مؤلفين جدد: أحبابه و(ابن بنته)، ثم يجزم بنفي نسبة التأليف إلى النفري، وفي ضوء من هذا نقف ازاء مراحل تكوين كتاب المواقف:
1ـ (جزازات أوراق)
2ـ تأليفها مع مجموعة مؤلفين (ولد ولد النفري/ ابن بنته/ أحبابه)
3ـ الشكل الأخير الذي اعتمده التلمساني.1ص
ثانياً: بناء على هذه المراحل، ما وقف عليه ابن عربي في قوله (كتاب شريف وقفت على أكثره) ليست هذه الجزازات، وانما الكتاب الذي ألفه أحد هؤلاء الثلاثة، وإذا كان الأمر كذلك ما وصفه ابن عربي (وقفت على أكثره)، بل كان أشبه أن يقول: ((وقفت عليه))، ثم لو كان التأليف متأخراً عن الجذاذات، وفيه اضطراب المواقف، كان اشار إليه ابن عربي، وهذا مالم يحدث، غير ان اضطراب النظام الصوفي لم يحدث في تراتب المواقف بعامة، وانما في تنزلات منها، وهذا ما اشار اليه التلمساني في شرحه، وفي مواضع قليلة، بل كان يوضح في كل شرح لتنزل صلته بما قبله، حتى قال، مثالاً: ((ختم هذا الموقف بما يليق ان يختم به..))، وهذا يضع التلمساني في تهافت آخر، كيف كتبت المواقف في أوراق صغيرة متناثرة، وكانت بحاجة إلى تأليف، وقد جاءت بهذا الانسجام، حتى أن التلمساني شرحها في ضوء من الأسفار الأربعة!، ولهذا قال: (( وهذا آخر ما ذكر في هذا الموقف الشريف، وهو كما قلنا مقام آخر السفر الأول من أسفار أربعة))
ثالثاً: لم يذكر التلمساني طبيعة تأليف المواقف بشكلها بعد الجزازات، هل كان تأليفاً واحداً نُسب إلى مجموعة، أو (تأليفات) عدة نُسبت إلى غير مؤلف؟!. ثمة اشارة في شرح المواقف ربما تعيننا على الوصول إلى اجابة مقنعة، فقد تكرر مع التلمساني القول بوجود أكثر من نسخة للمواقف، وكان يقابل بينها، ويصحح بناء على هذا، منها قوله: (( في نسخة فليس أسمائي، وهو اشارة إلى ما ذكرناه..))، وفي موضع آخر: ((في نسخة أخرى وقال لي حجاب الحروف..))، وثمة اشارة أخرى في شرحه على فصوص الحكم، يذكر هناك في فص حكمة ملكية (موقف النار) للنفري، (( قال النفري رضي الله عنه: أوقفني في النار، فرأيت...)) بينما لم نعثر على هذا الموقف في كتابه شرح المواقف، ولا النسخ التي توافرت حديثاً، وما توافر في شرحه وفي النسخ الحديثة، مفتتح هذا الموقف بلا أوقفني، وباسم موقف آخر، وبصياغة أخرى: موقف ما يبدو (( قال لي قف في النار، فرأيته يعذب بها ورأيتها جنة ورأيت ما ينعم به في الجنة هو ما يعذب به في النار))، من دون أن ينبه التلمساني كما نبه على تنزلات أخرى!
ربما هذه الاشارات تصلح كشاهد على وجود تأليف واحد، ونسخ لهذا التأليف، نسخها أحبابه أو ابن بنته أو ولد ولده، لم تضبط مع الكتاب الأصل من جهة، ولم تستوفه من جهة ثانية، فجاءت باختلافات ونقص، وهذا الشاهد يدعمه الفارق التاريخي بين النفري (354هـ) والتلمساني (690هـ)، ويباعد فكرة التلمساني في تأليف المواقف، أو يفسرها بطريقة أخرى.
هل القول بوجود مؤلَّف للنفري، هو الذي وقف ابن عربي على أكثره، واسمه (المواقف)، وقد توافر بنسخ، حتى شرحه التلمساني وقابل بين نسخه، ينفي انتحال الكتاب بما وصل إلينا؟
كلّ ما تقدم من استعراض لمرجع النفري، ألا وهو (شرح المواقف للتلمساني)، ومحاكمة ما توافر من معلومات، جاء استبانة لما استند عليه المحققون والمعنيون بالنفري، وهو يتضمن مساءلة لنص التلمساني من جهة، وللمحققين من جهة ثانية، ويفسر أمراً واحداً، وهو أن كتاب (المواقف والمخاطبات) قد كتبَ مع النفري، وبإشرافه، على طريقة الامالي، أو أية طريقة أخرى، ليس المهم عندي، الآن، كيف كُتب، ومن كتبه، فشخصياً استبعد تدوين المواقف بيد النفري نفسه، فهو ينتمي للاتجاه الشفاهي في التصوف، لكن ما يهمني، هو أن الكتاب كتب في حياة النفري، وهو الذي وقف على أكثره ابن عربي، وهو الذي غيب لصالح نسخة أخرى اعيد انتاجها في العهد المملوكي، هذه النسخة هي ما تتوافر الآن، وسأكمل في ملاحظات أخرى ما رافق كتاب (المواقف) من مشكلات مع التلمساني وما بعده.