بعد التعرض لمرجعين حصريين للنفري، ابن عربي وعفيف الدين التلمساني، وقد بينت في الملاحظات الأولى ما يتصل بابن عربي، ورجحت بما توافر من شواهد اطلاع ابن عربي على كتاب المواقف للنفري بشكله الأصل، وأن هذا الأصل غاب بعد ابن عربي، وظهرت بدلاً عنه نسخ منتحلة مشوهة، هي ما بقيت الآن تنسب إلى النفري، ثم عدت إلى التلمساني بوصفه مرجعا ثانياً، وذكرت ملاحظات تتصل بكتابه شرح المواقف، سأقف، ههنا، طويلاً مع التلمساني، لأنه يشكل حلقة التباس، وقد اسهم بشكل واخر في رسوخ المواقف المنتحل، وسأضع ملاحظات أيضاً على شرحيه (المواقف/ فصوص الحكم)، لأعود بعد هذا، في حلقة أخرى، لمساءلة المخطوطات التي تعد المرجع الثالث للنفري، وما رافقها من مشكلات..
تناول التلمساني النفري في كتابين، شرحه لمواقف النفري، وشرحه لفصوص ابن عربي، وعلى الرغم من ان الشرحين توافرا بنسخ بعد وفاة التلمساني، فأقدم نسخة لشرح المواقف سنة 695هـ، أي بعد وفاة التلمساني بخمس سنوات، وأقدم نسخة لشرح الفصوص سنة 800هـ، غير أن المؤكد هو سبق شرح المواقف على شرح الفصوص، لتأثير النفري في شرح الفصوص، ولذكره في موضعين أيضاً، هذا كلّه يشي بأسبقية شرح المواقف على الفصوص للتلمساني، وهذا يسوغ لنا طرح فكرة، مفادها: إن التلمساني قد تأثر وعني بالنفري قبل ابن عربي على الرغم من تباعد النفري زماناً ومكاناً، وقرب ابن عربي زماناً ومكاناً، و التلمذة على فكره بوساطة القونوي، وشيوع فكر ابن عربي وقوة تأثيره، وانحصار فكر النفري وانعدام تأثيره، بل أثره، أليس في هذا نوعٌ من المفارقة!، وليكن!، غير أن فكرة أخرى تلح بالطرح، وهي أن محرضات الشرح في تقاليد القرن السادس والسابع الهجري خاضعة لسياقات محددة، فلا يتبرع صوفي أو فيلسوف أو نحوي أو أي معني بمجالٍ ما بشرح متنٍ ما إن لم يكن وراء ذلك دوافع سياسية أو اقتصادية أو ثقافية: تعليمية، أو اخوانية، ولا يخلو الأمر من هذه الثلاثة، فقد جرت العادة، عادة الشراح ان يفتتحوا شروحاتهم بدوافع الشرح، فالتلمساني نفسه كتب في مفتتح شرح فصوص الحكم ما يلي: ((إنني لما رأيت أخي وولي قلبي السيد الأجل أبا القاسم عبد الكريم بن الحسين بن أبي بكر الطبري متعه الله بما اعطاه وبلغه من شرف الارتقاء النهاية من مناه ممن يجب حقه ويتعين ويظهر بين طلاب الحضرة الالهية صدقة ويتبين، جعلته سبب شرحي لفصوص الحكم وخصوص الكلم الذي تناوله شيخنا ختم الأولياء من خاتم الانبياء..))، وكلّ هذه الدوافع تقضي بأمرين: حاجة الكتاب، وشيوعه. وهنا أسألُ: هل كانت ثمة حاجة للكتاب، أي بما يتضمنه، في عصر التلمساني؟ وهل كان شائعاً؟ وقبل عناء الاجابة، أشير إلى مسألة: وهي ان هذين السؤالين ينسفان كلّ التأويلات والاسباب التي طرحها المعاصرون في تبرير غياب النفري ونتاجه، لاسيما في القرنين السادس والسابع الهجري، فشرح التلمساني في ضوء ما تقدم، وهو جزء من الاجابة، يضعنا إزاء احتمالين، اما ان تكون لكتاب المواقف حاجة وشيوع، وهذا يقتضي توافر معلومات عنه في مدونات القرن السابع الهجري، أو في الأقل الثامن الهجري، ومن ثم توافر اثره، واما ان يكون شرح المواقف منتحلاً أيضاً، أو ألف فيما بعد بشكله الآن من شخص آخر، وبقيت جذاذاته الأولى طي الغياب!! وهذا ما أرجحه بشواهد ستذكر فيما بعد، منها في الأقل نسخة شرح المواقف المصرية التي جاءت بالمواقف الثمانية الأولى فقط، وكان تاريخ النسخ متأخراً عن النسخة الكاملة، وكذلك الموقف الذي ذكره التلمساني في فصوص الحكم (موقف النار) والذي غاب نهائياً عن الذكر، وثمة شاهد آخر ما ورد في شرح التلمساني على كتاب منازل السائرين للهروي، فهناك يقول: ((قرأ جميع هذا الكتاب من أوله لآخره، وهو شرح منازل السائرين إلى الحق، انشاء الشيخ الامام شيخ الاسلام أبو اسماعيل عبد الله بن محمد الانصاري الهروي، العالم الراسخ المحقق أبو العباس أحمد بن محي الدين ابراهيم بن عمر الفاروثي، وأجزت له أيده الله أن يروي عني كلما صح لديه من نثري ونظمي، وما وافق الشريعة المطهرة، مما نسب الى اسمي، وكتب منشئ الشرح المذكور الفقير الى الله الغني به سليمان بن علي بن عبد الله بن علي العابدي في العشر الأول من رمضان المبارك سنة سبعين وستمائة، وقرأ عليّ أيده الله من كتابي المتضمن شرح المواقف لعلم الأولياء محمد بن عبد الجبار النفري، وأجزت له أن يروي عني باقيه..))، وهذا النص يحيل إلى مفهومي القراءة والاجازة في الثقافة العربية، فالقراءة تعني، فيما تعني، ((أن يقرأ التلميذ على الشيخ من كتاب، أو يلقي من حافظته على الشيخ، والشيخ منصت يقارن ما يقرأ أو يلقى بما في نسخته، أو بما وعته حافظته...)) والاجازة تعني، فيما تعني، ((أن يعطي الشيخ أو الراوي المُجاز، اجازة أو تصريحاً لآخر بأن يروي نصاً محدداً، ، أو أن يمنحه اجازة أو تصريحاً برواية كتب، لا تسمى بالتفصيل، كأن يقول له اجزتك رواية كل ما ارويه...))، وفي ضوء من مفهومي القراءة والاجازة نكون ازاء تفسير واحد في نص التلمساني، وهو ان التلميذ يقرأ في نسخة متوافرة معه، والشيخ التلمساني يقارن ما يُقرأ في نسخته الأصل، وبناء على هذا ثمة نسختان لشرح المواقف، اجيز، في ضوء منها، التلميذ بالرواية، وهاتان النسختان، نسخة التلمساني الأصل، ونسخة تلميذه أبو العباس أحمد بن محي الدين ابراهيم بن عمر الفاروثي، لم يتوافرا، وهما في سنة 670هـ، بينما ما توافر نسخة بتوقيع سنة 695هـ، وهي أقدم نسخة بين ما توافر من نسخ، و بلا اسم ناسخ، وهي التي اعتمدها المحققون، سواء أكانوا محققي الشرح، أم المواقف فقط، وجاء في ختامها: (( آخر ما كان في الأصل ووافق الفراغ سادس عشر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وستمائة أحسن الله بعضها والعاقبة فيها بمحمد وآله وصحبه وحسبى الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم))
إذاً نحن ازاء مشكلة أخرى مع كتاب المواقف للنفري، مشكلة مرجعه الثاني، ألا هو شرح التلمساني، وهو المرجع الأهم الذي وفر معلومات ومتناً، ولذا أجد وضعه كمسلمة هو ما عزز الثقة بكتاب المواقف بشكله المتوافر الآن، وهو يمثل الحلقة المفقود في التعرف على مسألة الانتحال.
في العودة إلى متن شرح التلمساني وقراءته بتأنٍ، وفي ضوء عصره، نعثر على خفايا كثيرة، تقف داعماً لما رجحناه سابقاً، ومن بين ما نعثر عليه هذا النص: ((وأقول ان الموقف الذي وجد في بعض النسخ يلي هذا الموقف هو موقف الادراك وهو غير موجود في أصل الذي ألف المواقف فهو لزيادة اذن في هذه النسخ فلأجل هذا لم أكتبه هنا وكتبت ما بعده وهو: موقف الاسلام))، فهو رفعَ موقفاً كاملاً لأجل عدم توافره في الأصل الذي ألف، هذا الأصل الذي قال عنه، فيما سبق، مضطرب النظام، واستدل في ضوء منه على ان النفري لم يؤلف كتاباً، وانما جذاذات أوراق!. وقد اشار ارثر يوحنا في مقدمته لوجود هذا الموقف في مخطوطتين، وحين وجده لا يختلف عن بنية المواقف الأخرى، اضافه منفرداً في آخر الكتاب، وكان ترتيبه في المخطوطتين: (76)، أي بين (موقف الاصطفاء، وموقف الاسلام)، وجاء وضعه منفرداً آخر المخاطبات بناء على ما فعله التلمساني وما برر به، غير أن أرثر يوحنا لم يشر لما فعله التلمساني، ثم تبع التلمساني في هذا الحذف المحقق الراحل قاسم محمد عباس في الأعمال الكاملة / المدى، فلم يرد هذا الموقف نهائياً، ومن الملاحظ أيضاً ثمة نصوص تتصل بالولاية، وصفها أرثر يوحنا بقوله: (( تحتوي المخطوطات (ج) و (ق) و (م) على زيادة مقحمة في نص المواقف مباشرة بعد الموقف (63)، بعنوان: " مخاطبة وبشارة وايذان الوقت". واخذاً بظواهر الأشياء من المستبعد أن تصحّ نسبتها إليه، فهي عن موضوعة المهدي، وبالرغم من أنها تنسجم في المحتوى والأسلوب مع قطعتين أخريين في نص المواقف فإن من السهل الافتراض بأنه القطع الثلاث زيادات أقحمتها يد أخرى، ولم تكن في نص النفري الأصيل. ويقوى هذا الافتراض بكون القطعتين في المواقف تقطعان، حيت وردتا، الترتيب الأدبي للنص على نحو لا مبرر له. ولم يكن النفري معنياً بدعاوى المهدوية، لأن ملكوته لم يكن في هذا العالم، بل في العالم الآخر.))، ولهذا لم يعتمد أرثر يوحنا هذه النصوص على الرغم من انسجامها في المحتوى والأسلوب مع المواقف، بل يستبعد نسبتها إلى النفري، ربما بناء على فهم مغلوط لفكرة الولاية في التصوف، وكأنه لم يطالع مدونات القرن الثاني والثالث الهجريين، فمسألة الولاية كانت مثار جدل الصوفية والمتكلمين، وقد كتب الحكيم الترمذي كتاباً كاملاً بهذا الشأن، بل لم يطالع ابن عربي الواضع رسالة كاملة بهذا الشأن، وقد شرح أيضاً كتاب الترمذي، وربما استبعدها واستبعد نسبتها إلى النفري بناء على مزاج وحساسية خاصة، وهذا مما لا استبعده، لأن تعليله الاستبعاد لم يكن بمستوى محقق كأرثر يوحنا، تعليل ضعيف، وينم عن انتقاء وترجيح بلا مرجح، ولا أدري كيف توصل إلى ان النفري لم يكن معنياً بدعاوى المهدوية، والمعلومات عنه لم تتجاوز صفحة بحجم A4في كل ما وردنا من مدونات!، وكان عصره عصر ادعاءات كثيرة، ويبقى سؤال يتصل بهذه الفقرة، كيف توصل أرثر يوحنا إلى استنتاج ان هذه النصوص المستبعدة تتصل بموضوعة المهدوية، مع انه لا يرد فيها ذكر صريح سوى تفوهات على طريقة الشطح؟ والإجابة ليست بصعبة، فهو استند إلى شرح المواقف للتلمساني، في نسخ منه ذكر التلمساني شارحاً: ((فذلك اشارة إلى ظهور المهدي وهو خليفة الله في وجوده ومنبع كرمه...))، والمفارقة ان هذه النسخة من الشرح لم تعتمد من قبل أرثر يوحنا، ومن محقق شرح المواقف د. جمال المرزوقي، ومع اني مع ما ذهب إليه ارثر يوحنا في قوله ((أقحمتها يد أخرى))، لكنني أرى ان هذه اليد طالت كل المواقف، ولم تقتصر على المواقف، وانما تعمدت ملاحقة شرح التلمساني أيضاً، وبعيداً عن هذه التفاصيل التي سأتعرض إليها بشكل أوسع، يشير كلّ ما تقدم إلى ان ثمة حذف وإضافة وإعادة صياغة، و(تحويرات)، ووضع، رافق كتاب المواقف وشرحه. أليس هذا كلّه يدعو لإعادة النظر في كتاب (المواقف والمخاطبات)؟!