سارة قدري
خبر الرحيل
يهبط خبر رحيل سارة على أذني مثل هبوط دلو مليء بالثلج على جسد دافئ في يوم مشمس، مثل هزة أرضية عنيفة تزلزل الأرض من أسفلنا. تذكير صادم بموقعنا، وبفشلنا وهزيمتنا التي نحاول دائمًا إنكارها. عجزت عن فهم ما حدث للحظات.. تمنيت أن يكون تشابه أسماء أو تداول معلومات خاطئة على فضاء إلكتروني يسمح بمثل هذه الأخطاء. ومع الصدمة صاحبتني حفنة من الأسئلة. عجزت عن تفسير مدى تأثير سارة في وجه نظام سياسي واجتماعي فاشي ديكتاتوري. هل كانت فعلًا سارة تمثل تهديدًا حقيقيًا لهذا الكيان العملاق بكل مؤسساته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي من صفاته الأساسية: الإقصاء والتهميش والإسكات لكل من هو/هي مختلف. عجزت عن إدراك مدى هشاشة هذا النظام أمام سارة: ناشطة نسوية كويرية تعيش في نقطة جغرافيًا أبعد ما يكون عنه. ماذا أراد النظام منها؟
لحظات من الإنكار يتبعها حزن مفجع.. نتشارك نفس الاسم وفي كل مرة سمعت أحد يتلفظ باسمها في جملة مليئة بالأسى والحزن، أشعر بتواصل معها وأشعر إنها كانت مني وأنا منها. لم يجمعني بسارة معرفية شخصية. كانت علاقة افتراضية بدأت مع محاولة لمشاكسة الواقع واللعب معه في ظهور شبه علني في حفلة موسيقية عام 2017. لم تكن سارة الوحيدة التي رفعت علم قوس قزح يومها كان الكثير منا موجود. فمنا من كان أكثر حظًا ولم يكن في خط المواجهة وفي الطليعة. كان ولا يزال منا الكثير. كان يومًا خارج عن الوقت والمكان. لحظة سريالية استطعنا فيها للحظات أن نترك خلفنا هموم وأعباء واقعنا المعاش. وفي لحظات معدودة سرقنا من واقعنا الأليم فخر الوجود والظهور غير مبالين ومباليات. في لحظات، مارسنا ما يقولون عنه «فحشاء» و«فجور» بحرية وبخفة من غير وصم وأحكام تأمر بقتلنا. أتذكر، غنيت بعلو الصوت وصرخت وكأني أصرخ في وجه وحش قاتل يأكل في أحشائى منذ أن خلقت. رأيت سحاقيات وشواذ عن النظام السائد يحتفون بوجودهم وبهويتهم.. للحظات معدودة كنا هنا.. كنا موجودين.. كنا ظاهرات.. فهل من الممكن أن تكون هذه خطيئتنا الكبرى التي لا زلنا نحاسب عليها حتى هذه اللحظة؟
تذكير دائم بواقع أليم
رحلت سارة عن عالمنا، ومع رحيلها نعيش تجليات قيم وتعاليم الأسرة المصرية من خلال انعكاس واضح ومباشر لكل ما كانت ترفضه وتحارب سارة ضده. رفضت سارة النظام الأبوي والذكورية وانعكاساته الواضحة في واقعنا اليومي المعاش. رفضت سارة الكراهية والعنف والتمييز على أساس النوع الاجتماعي والجنسانية والطبقة والخلفية الاجتماعية. أدانت التهميش بأشكاله المتقاطعة في حياتنا وتجاربنا اليومية. ناضلت من أجل واقع أكثر براح واتساع لأحلامها وتصوراتها عن عالم يقبل الاختلاف والتنوع.
سارة حجازي ناشطة كويرية نسوية، تعرضت للاستهداف الأمني والمجتمعي منذ عام2017. ألقى القبض على سارة حجازي في 1 أكتوبر 2017 على خلفية قضية «علم الرينبو». تعرضت للتعذيب النفسي والجسدي من محققي «الأمن الوطني» عند استجوابها ومن سجينات القسم التي كانت محتجزة به. تابعت أحداث قضية سارة منذ البداية، وشاركت في الحملات الإلكترونية للإفراج عنها ودونت عنها كثيرًا. وتحدثت عنها مع الأهل والمعارف. علمت جيدًا أن كل هذا لن يكفي. سافرت سارة إلى كندا من أجل التخلص من التهديد الأمني والوصم الاجتماعي.
تذكرنا تعليقات الكراهية والحقد أسباب سارة للرحيل من هنا. تقِل فرص التنفس وتنحصر أسباب النجاة والاستمرار لنا. تجادل الأكاديمية البريطانية جاكلين روز بأن اعتماد الدولة على اعتقاد الأفراد بأنها موجودة أو ينبغي أن تكون موجودة من خلال تنظيم مستمر لتصورات مقبولة للحياة الاجتماعية بطرق وهمية محددة. هناك محاولات دائمة لسد الفجوة بين أحكام الدولة والحياة الاجتماعية في الواقع حتى تستطيع الدولة في ممارسة سلطتها على كل أفراد المجتمع مع تقديم مثال مشرف من الانسجام بين رعاياها. تذكرنا روز: «بعدت الدولة عن الناس وأصبحت غريبة».
مشاكسة سريعة وخفيفة
تقول سعدية هارتمان في كتابها البديع والملهم «حياة العاصيات، تجارب جميلة، تواريخ حميمية للبنات السود الصاخبات والنساء المًتعبات والكويريات الراديكاليات»، ترتبط العاصية بعائلة من الكلمات; «المشاكسة»، و«الخارجة عن النظام»، و«الهاربة»، و«الأناركية»، و«المتهورة»، و«المتمردة»، و«المُتعمِدة»، و«المثيرة للمشاكل»، و«الثورية»، و«المشاغبة»، و«الصاخبة»، و«الجامحة». شاكست سارة وهويتها النظام والدولة الأبوية وخرجت عن أدابها ونظامها. مثلت سارة للنظام الصورة الأمثل للعاصية والخارجة عن القانون والقيم والمبادئ التي نستند عليها لنقيم دولة الأب العظمى. الدولة هي الأسرة، والرئيس هو الأب، ألم يعد ذلك واضح بما يكفي؟ الدولة هي من تقوم العاقين وتعاقبهم بهدف التربية السليمة. نعيش هذا في أدق التفاصيل اليومية، بداية من ظهورنا للعالم الخارجي بزي مخالف «للمجتمع ومعتقداته»، وصولًا إلى تعبير عن هوية جنسية أو جندرية غير نمطية. يُمارس علينا صور مختلفة من السيطرة والتحكم في كيفية سير واقعنا المعاش. في أدوار جندرية محددة وفي ممارسات سائدة في إطار بنية اجتماعية تتسم بالهيمنة والصوت الواحد والقرار الواحد.
احتلال عالمنا من أجل النجاة
لنحتل العالم من خلال طرقنا غير الصائبة وأدواتنا غير المناسبة. لنكن واعيات بالحواجز بيننا وبين واقعنا وبين أحلامنا. لنتحدى اشتياقنا لعالم لا يكون حاكمه الأسياد والشرطة والرجال والأباء. العاصيات: المتحركات غير المنتظمات والطائفات في الأفق الحرة. زيارات بدون جهة وصول ثابتة. بحر تجول فيه الفرص الضائعة والإمكانيات غير المحدودة. هجرة مطولة -استعجال وطيران- ومعاناة يومية للعيش بحرية. يستخدمن المٌنزعات والمنازعات والخارجات عن السيطرة أحذيتهن للسفر بعيدًا عن الاستقرار وحب ما لا يجب حبه.
نسجل اليوم هزيمتنا أمام الدولة والنظام، وتذكرنا سارة أن مقاومتنا هي السبيل الوحيد للنجاة.. وفي رسالتها الأخيرة سامحت سارة عالم لا يستحق الغفران. رحلت سارة وتركت لنا إرثًًا طيبًا من القبول والتسامح. ومهمة صعبة في الاستمرار والنجاة في عالم لنا ومنا.
[عن موقع "مدى مصر"]