طالما تساءلت مع نفسي بعد إنجاز أي أمر: أكان يستحق العناء الذي بذل مني فعلا؟ وماذا بعد ذلك؟ ماذا سأفعل؟ كيف يجب علي الشعور الآن؟ ولا تفضي أسئلتي إلى جواب مناسب في كل مرة. ثم إذا كان ما أرغب بكشفه لبصيرتي مهما فلماذا إذن بعد كل اكتشاف تتزاحم الرؤى أكثر حتى تكاد الرؤية الأصلية تتلاشى وتختفي؟!
لكنني وبعد خمسة أعوام توصلت لجواب عندما شاهدت الفيلم الأميركي "true story"، وهو فيلم روائي أنتج في سنة 2015 وقصته حقيقية حدثت بين سنتي 2001 و2002 بشأن شخص اسمه "كريستيان لونجو" قتل زوجته وثلاثة من أطفاله الذي لا يتعدى عمر أكبرهم ست سنوات، في مكان مكشوف أمام بيته تم رميهم في الماء؛ حيث جعل "المكان المكشوف" لإنهاء الجريمة يثير التساؤل عند الناس: كيف له القدرة على القتل وإخفاء ما فعله في هكذا مكان فاضح؟ ماذا من الممكن أن يكون السبب عدا كون القاتل يمتلك قوة ذهنية تجعله يسيطر على انفعالاته وتوتره -إن وجد- أثناء جريمته. عند القبض عليه بعد أسبوعين من هروبه عرف عنه بأنه كان يعرِّف نفسه باسم "مايكل فينيكل"، وهو اسم حقيقي لكاتب وصحفي أميركي يعمل في صحيفة «نيويورك تايمز» وهو صحفي مرموق ومعروف، نبه وحذق، ولربما مشهد لعب الورق في العمل يثبت ذلك، لكنه طرد من الوظيفة بسبب خطأ فادح وتضليل في المعلومات في تقرير صحفي أعده شخصيا لقضية مهمة.
وفي خضم انتقال الصحفي مع زوجته إلى ولاية مونتانا مواصلا البحث عن عمل جديد، يتصل به صديق ليخبره بأمر القاتل، ويتساءل الصديق حول سبب انتحال القاتل اسم الصحفي ذاته!
يثير ذلك الفضول عند مايكل الحقيقي، ويرغب بتلبية نداء تشابه الاسم المقصود، ويبرر قبوله هذا لنفسه ولزوجته، بأنه فرصة لتحقيق عمل صحفي واستعادة سمعته الصحفية، وبأنه يحتاج معرفة بضعة أجوبة لأسئلة من الممكن أخذها من حوار مع القاتل. أسئلة نبعت من ضياعه لذاته بعد فقدانه وظيفته وبفهم المتهم سيتمكن من فهم نفسه، و عدا كونها وظيفة ذات دخل مادي مرموق، فهي تشكل أيضا كل ما يحلم أن يناله صحفي يوما ما. وأشير هنا لنقطة سنأتي على ذكرها لاحقا، وهي بذل كل مجهود وتذويب كل الصعاب من أجل الحصول على حلم ما. وفي لحظة يتلاشى الحلم، لأسباب كثيرة قد يكون سببها نحن، وقد يكون سببها الآخرون. ودائما ما يكون هنالك آخرون!
تستمر اللقاءات، وأحيانا يكون التواصل على شكل مكالمات هاتفية وأحيانا أخرى تبادل الرسائل، وكل ما سبق كان سببه إعطاء قصة تعيد مايكل صحفيا مرة أخرى، ومن جانب القاتل إثبات براءته، حيث أنه عند كل تواصل تقريبا كان يدين نفسه مرة ويبرئ نفسه مرة أخرى، رغبة منه بإثارة الشك العام تجاهه وبقوله "أحيانا عليك أن تقبل بأن تبدو نوعا معينا من الأشخاص من أجل حماية شيء أكثر أهمية". وحيلة هذا التصرف واضحة جدا، كان يأخذ ويعطي لتعميق العلاقة بينه وبين مايكل من جهة، ليستحوذ على ذهنه، ليشل تفكيره به فقط ويوهمه أنه الوحيد القادر على إرجاعه للقمة، وبأن كل شيء به مهم ويدعو للتفكر، ودليل ذلك أن مايكل تناسى عن قصد كل الحقائق التي تدين كريستيان، حتى ذهب لإهماله زوجته أيضا، ليس هنالك شيء أهم من تبرئة كريستيان، فهو أحيانا لا يتذكر تفاصيل ارتكابه الفاجعة أصلا، ولربما في صمته وهدوئه المفتعل ليس إعلانا لرباطة جأش قوية يمتلكها المجرم الاستثنائي، وإنما خلل في الذاكرة، أو لربما رد فعل عاطفي، ولربما هو يضحي بنفسه من خلال أقواله لحماية شخص آخر، إنه بطل! كل ذلك وضع مايكل موضع المدافع عن كريستيان، فمن منا يتحمل فكرة أن ينصر شخصا ظالما؟ غير أن نكذب -على أنفسنا بأن الشخص ليس ظالما- كذبا محترفا!
ولشدة تعلق مايكل بشخصية كريستيان، وفيما لو كان بريئا ويحاول التغطية على ذنب شخص آخر، لم ينتبه لكمية المعلومات التي يعلمها كريستيان بشأنه؛ دكتور سوس! وتفاصيل متعلقة بحياته الزوجية!
في أثناء تدوين الأحداث، يطلب كريستيان من مايكل تعليمه كيفية كتابة المقالات الصحفية، لغرض الترفيه ربما وتحقيقا لطموحه في تأليف الروايات. تلهمه الكلمات بشكل لافت، فهو بحاجة إليها لأنه يفتقر إلى كيفية ليّ ذراع الحقيقة بالكلمات، ولعلمه المسبق بأن المحاكمات تعتمد بشكل كبير على تعاطف هيئة المحلفين مع المتهم، وبإمكانه خداعهم إذا أثار إحساسهم بالشفقة عليه. ما ينقصه إذن هو فقط ترتيب بضع كلمات ليكمل مشهده الزائف، وقد نال ذلك بشكل جدير بالاهتمام من مايكل، حيث أثارته كلمتا "نفي مزدوج"، فأعاد تدويرهما عند الاستجواب.
في أحد اللقاءات بينهما، يعلمه الصحفي أمر الغمزة، وهي "عندما يضع الكاتب رسالة سرية لشخص مميز كدعابة خاصة"، أي تفعل هذه الحركة فعل تمرير أمر ما من خلال أمر آخر معاكس له تماما، في آخر استجواب وبنهايته عند إصدار الحكم يفعلها المتهم لمايكل! كإشارة واضحة على أن كل ما قلته لم يكن حقيقيا. وصُدم مايكل أيما صدمة! حيث كان يعول كثيرا على أن كريستيان غير مذنب، وأنه يستحق تأليف كتاب "ذكريات" عنه، وذلك هو الشيء الوحيد الذي سيعيد لمايكل مجده!
وعلى الرغم من ذلك كله، يستمر مايكل بمقابلة كريستيان عند بداية كل شهر بعد صدور حكم السجن المؤبد، لربما تأخذه العزة بالإثم وعدم قدرته على الاعتراف كليا بأن كريستيان مذنب حقا، وكل الدلائل تشير إلى ذلك فعلا، أو لسبب آخر وهو تعلق غير مسؤول بشخصية مثيرة تعيد لمايكل عند كل لقاء بعضا مما يفقده في العالم الخارجي، السيطرة.
وعلى الرغم من انتهاء أمر كريستيان من مايكل، بأنه أراده صديقا كوسيلة لمنفعته الشخصية، لم ينته مايكل من كريستيان، لا لحاجته إليه، بل لعدم معرفته كيف يقطع هذا التواصل، والخاسر الوحيد هنا هو من يفلت من يده التحكم بزمام الأمور، ولم يحدث هذا إلا مع مايكل، فكريستيان حول كل شيء من صداقته الظاهرية مع مايكل، لصالحه قبل المحاكمة وبعدها، حيث أنه أصبح يكتب مقالات شهرية لصحيفة نيويورك تايمز، فيا لسخافة القدر! في حين طرد مايكل من وظيفته لعدم مصداقيته، أكان كريستيان صادقا إذن لتطلب صحيفة عالية الشأن مادته الأدبية؟ بالطبع لا، لكنه عرف جيدا كيفية تسليط الضوء على ما يحتاجه الناس فقط، بغض النظر إن كان صادقا أم كاذبا، إنه فن التزييف، الحياة قائمة على فن التزييف فقط.
هذا بالضبط ما حدث معي وبدأ منذ خمس سنوات، فمنذ سنة ٢٠١٥ كانت هنالك لحظة انتفضت فيها وقررت كتابة قصة، لم أقرر إن كانت القصة طويلة أم قصيرة. كانت هناك أحداث معينة ورغبة ملحة بتدوينها. رغبة أبقتني متيقظة لليالٍ بقلق لا مثيل له سابقا، حتى انتفض القولون العصبي لدي لمدة خمسة أشهر متواصلة، ولم يهدأ حتى وضعت أساسيات القصة بعناوين كبيرة.
لم تراودني هذه الرغبة الفجائية مسبقا، على الرغم من قراءاتي المكثفة منذ سنوات الجامعة، وعلى الرغم من قراءاتي الشعرية في سنوات الإعدادية كانت تصب في كتابة الشعر الفصيح، حتى أصبحت القصائد يوما ما ديوانا كاملا. الآن لا أتذكر "بسبب ضعف ذاكرتي الشديد والغريب" منها سوى بعض ما تروي من صور شعرية، تلك القصائد. مزقتُ الديوان في لحظة انهيار وغضب بعد موت أخي الحبيب أمام عيني.
في بداية ٢٠١٦، ولكثرة معاودة قراءة ما بدأت في سرده، حدث خطأ تقني في جهازي اللوحي، ما أدى إلى غلقه، ولا يوجد سبيل لتشغيله مرة أخرى سوى بحذف كل المعلومات التي فيه.
كانت صدمة بالنسبة لي لم أقرر تخطيها إلا بعد أسابيع عدة واستسلامي لإرجاعه على حساب حذف كل شيء ومعاودة كتابته. إلا أن الذاكرة أوقعتني في فخ أكبر، وهو عدم تذكر الكثير من الأحداث على الرغم من كتابتي للكثير من القصاصات. أو هو توتري الذي نتج في إثر الخلل التقني فسر لي عدم إمكانيتي من معاودة ما كتبت. كبرت تلك الثغرات في تفاصيل القصة وبالتالي كبرت فجوة رغبتي بكتابتها مرة أخرى.
في أحد الأيام وبعد أشهر عدة من القراءة الغنية سألت نفسي: أحقا أرغب بكتابة تلك القصة؟ أتمثل تلك القصة نتاج حياتي حتى هذه اللحظة؟ كان هناك شيء غريب يبعدني عن إعادة سردها. الشيء ذاته كان يأخذ بيدي ويدفنها ضمن أسطر الروايات. باحثة عن تلك العواطف التي تثيرني من قراءة السرديات. حتى اكتملت تلك الثغرات لكن بمنحى آخر تماما.
قررت كتابة رواية، وبأحداث مختلفة تماما، لم يبق من القصة القديمة إلا فصل واحد تمت إعادة تدويره بحسب سير الأحداث الجديدة.
ترتكز "السائرون بظلين" على كم هائل من المعلومات التي تخص الطب النفسي، العلاج النفسي بشكل أدق. قرأت كل ما يقع تحت يدي عن هذا الجانب وقابلت أطباء نفسيين عدة. من أبدى المساعدة بشكل جدي كان الدكتور محمد عادل الموسوي في مستشفى ابن رشد، الذي توفي إثر مرض عضال، كان يجيب عن اطمئناني عنه في فترة المرض، إضافة لإلحاحه على إكمال الرواية وإصراره على استمراري لطرح كل ما أجهل عن مرض تعدد الشخصيات الانفصالي، "على الرغم من رغبتي القوية بترك الكتابة عزاء لنفسي بخسارته المؤجلة".
تركت الكتابة لفترات وعاودتها بفترات، أحيانا لأيام متواصلة وأحيانا لساعات متواصلة، أحيانا لا أطيق تحرير سطر فيها. كانت رغبة تواصلي بالكتابة جامحة وكنت أدعها كما هي. . .حرة تماما.
لربما هذه السنوات الخمس استغرقت فترة لمعالجة الرواية أكثر من فترة كتابتها، تقديم تلك المعلومة على هذه وتأخير هذا الفصل على الجميع. وهكذا أفقت فجأة من دوامة المعالجة التي كان الخروج منها أصعب من الخروج من كتابة الرواية بشكل كامل.
وها أتت مرحلة التحرير والتدقيق اللغوي، كنت أستجدي الجدّية في التعاطي مع تحرير الرواية من قبل بعض المحررين. محررون كما يزعمون. ضقت ذرعا بالبعض من مساومتهم بطرق خسيسة لإتمام العمل. أما البعض الآخر فكانوا يعملون بها بنصف ضمير. المهم أنها بقيت مبتورة. إلى أن التقيت بالصحفي أمجد صلاح عن طريق صدفة مذهلة، وبعد عرض كتابة الرواية عليه، قبل تحريرها بجدية، لكنه وبدلا من أن يعرض علي تحريرها العاجل، عرض علي قلبه الثمين، وما أجمله من قلب. يا لحظي الكبير بحبه يا الله!
أخذنا العشق إلى أنفاق الأحاديث المتواصلة واللقاءات اليومية، وهكذا تمت الخطوبة والزواج وتم تأجيل الرواية.. ثم الانتقال لتركيا.. وهكذا.
أعرض كل ما سبق لأنني أعتبره مسيرة حياة الرواية أيضا وليست مسيرة حياتي فقط. إذ أن الرواية ومناخها، ظروفها وتفاصيلها مرتبطة رباطا وثيقا بسير حياة كاتبها. الشيء الذي لم يمنعني من التراجع على الرغم من كل تغيرات الظروف، ذاك ما أكد لي أنها على خط الروايات. ولأنني لم أشعر برغبة في التراجع، فقد حررها أمجد بشكل مكثف مؤخرا. تخلل عملية التحرير الكثير من الصدامات بشأن ما نحذف وما نبقي وما نضيف، حتى خرجت بالشكل الذي يشبهني ويمثلني. أخذ الصمت لحظات من أمجد ثم قال "ليست جيدة بما يكفي، لكنها استثنائية". ذلك ما أردته دوما. بدء نقطة جديدة في السرد. . . مختلفة. . . أن لا أشبه أحدا، وأن عن طريق الصدفة.. الجيد والسيء بالنسبة لي متغير بمرور الزمن.. أتتشابه رواية "المسرات والأوجاع" مع رواية "بصقة في وجه السماء" لفؤاد التكرلي؟ بالطبع لا، بسبب المسافة الزمنية بينهما.. لكن كلتيهما روايتان.. وأن يطلق على منجز سردي اسم رواية، فهذا بحد ذاته وضع الحجر الأساس في المهمة.
ومن يستطيع التقدم خطوة لولا ركل أول حجارة في الطريق؟ تلك الحجارة التي أحيانا تكون سهلة الرمي، أو صعبة في أحيان أخرى. وجاء الوقت المناسب لنشر الرواية، وبقناعة تامة بأن الأدب لا يثمن، اعتزمت عدم دفع دينار واحد لقاء طباعتها، ولن أتسلم دينارا أيضا، طباعة ونشر لغرض الأدب لا غير، ومن المتعارف عليه أن هذه الخطوة تحتاج الكثير من العلاقات الوصولية التي لا أجيدها، والكثير من التنازلات. فقدت الكثير من الأصدقاء عندما عارضوا عدم رغبتي بوضع كرامتي على الأرض ودفعها ثمنا لاستجداء الطباعة، لكنني لم أفعل كل ذلك، ودفعتها إلى مسابقة منذ شهر تشرين الثاني من العام الماضي، وبسبب ظروف البلد والأزمة الصحية في العالم، كان المسؤول عن الدار غير مهني وغير صادق في الإجابة عن تساؤلاتي. لا أقصد الإهانة أبدا بقدر قصدي توضيح كيف أن الأدب أصبح لعبة من لا لعبة له! وتجارة أيضا، ولا ضير في ذلك، ما دام الجميع يبحث عن مصدر رزق، لكن البعض الآخر من ادعوا أدبيتهم المحضة، رفضوا الرواية لأنها "ما إلها سوگ"! على الرغم من أنها أدب حقيقي، وصاحب المسابقة يخبرني عند كل مرة بأنه أصدر الأوامر بسير تفاصيل المسابقة، لكن كل أعضاء اللجنة كانوا ينكرون الأمر، ويؤكدون عدم تلقيهم أي تعليمات بهذا الشأن!
لست بصدد الإساءة لمن يجد نفسه معنيا بالتشخيص، أبدا، أنا أروي جانبي من القصة فقط، وبأن هذه السياسة الثقافية السائدة لا تناسبني على الرغم من شيوعها! انهرتُ مجددا، خاصة أن هنالك رواية أخرى قد ضاق خيالي بها وأحتاج نقلها إلى الورق، لكن كيف أنقلها وورقي السابق ممتلئ برواية لم تطبع الى الآن؟!
فقلت لأراسل من جديد أكثر من دار، منهم من رفض، ومنهم من قابل المادة باستحسان كبير، وطلب مبلغ 1700 دولار! وأرسل العقد من دون التهاون في إعداده! رفضت بالطبع، وقدمت عرضي بأنني أود الطباعة لا المتاجرة. وتم قبول عرضي، وقالوا لي بأن العقد الآخر سيتم إرساله قريبا ببنود أغيرها كيفما أشاء، شكرت لطفهم وتفهمهم، ولم يصلني العقد الثاني منذ أكثر من شهر، لأنه خال من أي ثمن، لكن العقد الأول وصلني بعد أقل من أسبوع!
تمسك مايكل بكريستيان على الرغم من خسارته مصداقيته تجاه نفسه، (وهو أثمن شيء يمتلكه الإنسان يوما، كيف إذن بالكاتب؟)، وتجاه الآخرين، أرعبني، هز نقطة عميقة وبعيدة بداخلي، كان يظن بذهابه إليه لأول مرة بأنه هو المتحكم وهو المسؤول عما سيحدث، لكن لسطوة وقوة وذكاء كريستيان، جعل الأمر بشكل معكوس، وأصبح هو المستفيد الوحيد حينما أخذ خبرته وأصبح صحفيا عند صحيفة «نيويورك تايمز».
تحول الأدب وتفاصيله وتبعاته مثل كريستيان ضدي، بقائي طوال تلك الظروف والسنوات على رغبتي بالنشر قد عرضتني لخسائر كثيرة، وهي خسائر عظيمة في محاولات غير مجدية لتقديم مجهودي، في حين كان من هو أقوى مني يظهر نفسه أكثر من خلالي، لقد أعطيتهم الفرصة لإثبات زيفهم، والآن أثبت لهم بأن زيفهم هو الوحيد القادر على الاستمرار.
أيكون الأدب مخادعا؟ أيستغلنا كدمى تشاهد وتبصر بدلا عنه وتقدم كل الأدلة بدلاً عنه وتخفيه خلف ظهرها لكي لا يمسه إلا المطهرون؟!
لولا استغلال كريستيان لمايكل، لما استمر مايكل بلقائه، ولولا مهنته هذه بالذات، لما عرف العالم من يكون كريستيان، ولولا ذكاء القاضي لكان المجرم حتى هذه اللحظة يمتلك فريقين للتنازع بشأنه حينما كان يقدم إفادة مختلفة في كل مرة، شكك البعض بإجرامه وببراءته.. في كل مرة الزيف يحتاج وسيلة، وليس هنالك أغبى من الإنسان ليكون وسيطه المجدي!
خمس سنوات من عمري، وبالصدفة، صادفت تجارب قادرة على كتابة أكثر من كتاب! لكن اليوم أنا على يقين تام بأن الأمر لم يعد يستحق أن أضفي لزيفهم إثباتا آخر بأنهم هم الوحيدون القادرون على حمل راية الأدب، الأدب؟ هو مخادع مثلهم، لكن بشكل أذكى وأدهى.
يا لخفية الإنسان حين يعلم متى ينتهي الأدب منه، ومتى ينتهي هو من الأدب! من الآخرون في روايتي؟ ومن يسير بظلين دائما؟ لربما كل ما سبق هو معني بذلك. ولربما أعاود الكتابة بعد سنوات، لكنني بالتأكيد لن أعلن ذلك ولن أنشر حرفا مما أكتب، ولا قول لي أخيرا غير: وداعا أيها العالم الماكر والوهمي.. حياتي منذ اللحظة ملكي أنا فقط، وما أثمن الحياة التي تكون ملك أصحابها.
وأقول لميثم الحربي: لقد فعلتها، وضعت فكرة الهرب في سلة الريح.