حين يلتقي قارئ كبير بمبدع كبير تَنْقَدحُ شرارةُ الكشف ويحدث التحول الفكري والروحي وينفتحُ أفقٌ لرؤية معرفية جديدة، وهذا ما يحدث للكبار حين يقرأون الكبار، فما بالك بالكبار الرؤيويين والذين يعمّقون مفهوم الاختلاف ويُحدثون ثورة في سياقهم المعرفي. ولا شك أن حياة المتصوف والشاعر الحسين بن منصور الحلاج (858- 922) ورؤيته الصوفية التي تجاوزت الخلافات العقائدية والمذهبية، وتوهجه في الإطار الكوني قدموا أجوبة روت ظمأ روح الباحث والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1812- 1962) القلقة، ووضعته على عتبة كشف معرفي دفعه إلى تأليف كتاب آلام الحلاج بالفرنسية الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1922. ولم يضمّن ماسينيون الكتاب زبدة بحثه المنهجي عن حياة الحلاج وأعماله وأفكاره وصورة عصره وشخصياته وتياراته فحسب بل أيضاً نظرته الفلسفية الوجودية الشخصية والتي تقاطعت، كما ذهبَ عددٌ من الباحثين، مع رؤية الحلاج واتخذت منحى اعتبره بعضهم خارجاً عن دقة البحث العلمي المنهجي الموضوعي، ومنهم الباحث تود لوسون الذي أشاد بأهمية الكتاب وسعة اطلاع ماسينيون لكنه اعتبر أن أفكار المؤلف الخاصة والوجودية صارت جدارَ كنيسةٍ سجنَ الكتاب داخل حدود معينة، وصار الحلاج انعكاساً إسلامياً ليسوع المسيح.
وكان من أسباب تأثير الحلاج الأخرى في ماسينيون مكابدته المعرفية وشهادته المأساوية وخطه المنحرف عن الإسلام الأرثوذكسي الرسمي ونقله في تصوفه الإسلام من مستوى الخالق كأفق لوجود المخلوق إلى مستوى المخلوق أفقاً لتجلي الخالق وناطقاً بلسانه، بالإضافة إلى عمق تجربته الصوفيه وعمق تعبيره عنها شعرياً، ثم نهايته التراجيدية على يد السلطة، بعد أن جُلد بالسياط ألف جلدة، وقُطعت يداه ورجلاه، وضُربت عنقه وتم حرق جثته وعُلق رأسه على سور جسر وإلى جانبه يداه ورجلاه ثم أُحرقت جثته ودُفن ما تبقى منه في قبر في بغداد ليصبح من شهداء المعرفة ومن ضحايا الاستبداد، وصورة رمزية للمسيح المصلوب، كما لو أن السلطة حين قتلت الحلاج قتلت أيضاً حلول الله فيه كي تعيد كل شيء إلى حظيرة فقهها الرسمية.
كان الحلاح تجاوزياً في رؤيته، وتحرك خارج حدود العقائد والخلافات الدينية، في إطار أكثر شمولاً، في تصوف كوني فالت من أسر العقيدة، أعلن فيه أن الإنسان هو الخالق والمخلوق وهو الحق وجاهر بأنه سيموت على ”دين الصليب“ فداء للخلق، ثم جاءت لحظة اكتشاف لويس ماسينيون للحلاج، والتي أحدثت فيه انقلاباً معرفياً دفعه على دروب البحث والتأليف، فولد هذا الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى في الفرنسية في 1922 وصدرت طبعته العربية بعد زمن طويل في 2019 في دمشق عن دار نينوى السورية في دمشق لصاحبها أيمن الغزالي في أربعة أجزاء من القطع الكبير بترجمة إلى العربية قام بها باحث ومحقق ومترجم سوري ينحدر من عائلة الحلاج أو تَنْسب عائلته نفسها إليه، كما يقول، وهو الحسين حلاج الذي بذل جهداً كبيراً وقدم خدمة جليلة للمكتبة العربية سيظل القراء والباحثون يشكرونه عليها وخاصة من يهتم منهم بالتصوف الإسلامي، وعانى المترجم في تجربته مع الناشر الأول الذي تعامل معه والذي لم يتقيد بأصول المهنة ويسدد له حقوقه كما يذكر في مقدمة الكتاب.
جاءت لحظة اكتشاف لويس ماسينيون للحسين بن منصور الحلاج في رحلة كانت لها أهداف أخرى يضيق الحديث عنها هنا. حدث ذلك في 24 آذار 1907 أثناء امتحان يتعلق بأبحاث لويس ماسينيون، إذ صادف اسم الحسين بن منصور الحلاج ومقولة له فأسرع وكتب إلى والده في 29 نيسان من العام نفسه وأخبره عن تحوله المفاجئ في عمله في الآثار. ويروي المترجم في مقدمة الطبعة العربية أنه بعد اطلاع لويس ماسينيون على مقولة الحلاج ورسالته إلى والده وترجله من الباخرة التركية بلوس لنش قام في اليوم نفسه بزيارته الأولى إلى مقام الحلاج في بغداد فيما يعرف حالياً بمنطقة العلاوي قبل أن يذهب إلى القنصلية الفرنسية للتعريف بنفسه كما جرى العرف في ذلك الوقت، وبدأت رحلته في التنقيب في الكتب وجمع كل ما كتبه الحلاج وما رُوي عنه وشرع بوضع مسرد للمصطلحات التقنية في لغة الصوفية تطور فيما بعد إلى كتاب أصدره بعنوان ”بحث“. هذا التحول فتح آفاق رحلة روحية وبحثية اتسمت بالدقة المنهجية والمعاناة الفكرية وبالتحول الروحي، وقضى ماسينيون 40 سنة من عمره باحثاً ومنقباً في المخطوطات عن كتابات الحلاج ومن أجل هذه الغاية، سافر في أنحاء الشرق الأوسط وإلى غرب الهند كي يوثق ويجمع ما تبقى من كتاباته والقصص عن حياته وموته. وكما أسلفنا، نُشر كتاب آلام الحلاج في 1922، ولدى موته في 1962 ترك ماسينيون نسخة موسعة جداً، نشرت على أنها الطبعة الفرنسية الثانية (1975). و يمكن القول إن الحلاج صار موضوع حياته الوحيد وانصرف ماسينيون إلى الإحاطة بهذا الموضوع والتعمق فيه قدر استطاعته، ولقد سُمي ب“منقذ الحلاج“، و“الشيخ الكبير“، ومعرّف الغرب على الحلاج وعلى الجانب الأكثر عمقاً في الإسلام.
أعاد ماسينيون في كتاب آلام الحلاج رسم صورة مجتمع الحسين بن منصور الحلاج بكافة تفاصيله ذاكراً الأشخاص والأفكار والأحداث والأمكنة بمخيلة الروائي والمؤرخ والباحث، ولم تكن هذه مهمة سهلة نظراً لصعوبة القيام بالأبحاث في ذلك الزمن، لكن لويس ماسينيون تخطى العقبات كلها وبرهن أنه لا شيء يقف أمام روح البحث، وأن المفكر الذي يروم التعمق في موضوع، بوسعه فعل ذلك، شرط أن يكون مؤمناً به، غير آبه بتعب أو أرق البحث والكشف. وتتوجت الرحلة المعرفية والبحثية التي استغرقت سنوات طويلة وأسفاراً كثيرة في تأليف لويس ماسينيون لهذا الكتاب المفصلي والذي شكل تأليفه تحولاً في تجربة المؤلف وفي تكوينه المعرفي، كما يشكل صدوره في العربية إغناء للثقافة، وللخط الذي يبحث فيه الكتاب.
ويجب أن نذكر هنا أن المفكر والباحث المصري عبد الرحمن بدوي أثنى في كتابه ”شخصيات قلقة في الإسلام“ على الجهد الضخم الذي بذله ماسينيون قائلاً إن كتاب ”آلام الحلاج“ شكل حدثاً ضخماً في تاريخ دراسة التصوف الإسلامي وتاريخ الدراسات الإسلامية بعامة وهو دراسة شاملة لكل التيارات الصوفية والكلامية والفلسفية وقدم معلومات مفيدة جداً وآراء دقيقة وأصيلة في نواح عديدة من الحياة الروحية والدينية والعقلية في الإسلام. وفي كتابه ”موسوعة المستشرقين“ ذكر عبد الرحمن بدوي ماسينيون قائلاً إنه ”امتاز عن المستشرقين الآخرين بعمق النظرة وعمق الاستبطان والقدرة على استنباط التيارات المستورة وراء المذاهب الظاهرة والأفكار السطحية“، ويعود ذلك، بحسب بدوي، إلى ”مزاج ماسينيون الخاص وإيغاله في الاستبطان وإضفاء روحانية عميقة على ما هو حرفي نتيجة اشتغاله في فهم أسرار الصوفية“.
ويشير بدوي إلى نقطة مهمة وهي أن لماسينيون رأياً أصيلاً في نشأة التصوف الإسلامي وهو أنه ”نشأ عن أصول إسلامية خالصة مستمدة من القرآن الكريم وسنة الرسول وحياته وأصحابه ذوي النزعات الزاهدة“. وهو بهذا يخالف الرأي الاستشراقي الذي كان سائداً في عصره.
يروي المترجم حسين حلاج في المقدمة قصة علاقته مع الكتاب ودور والده المرحوم والذي كان كاتباً مسرحياً في تعريفه عليه وقيامه بمراجعة الجزء الأول وتزويده بملاحظات لغوية مهمة، ويذكر كيف أنه نظراً لصعوبة النص الفرنسي وتعقيد أسلوب لويس ماسينيون قام بالعودة إلى النص الإنجليزي الذي ترجمه هربرت ماسون وهو أستاذ الدراسات الدينية والتاريخ الإسلامي في جامعة بوسطن، بالإضافة إلى كونه شاعراً وروائياً ومترجماً لملحمة جلجامش إلى الإنجليزية، وصدر كتاب آلام الحلاج عن مطبعة جامعة برنستون.
راسل حسين حلاج هربرت ماسون الذي أرسل له النسخة الإنجليزية ودعاء بالتوفيق، وسهلت الترجمة الإنجليزية مهمة الترجمة الشاقة عن الفرنسية ذلك لأن ترجمة هربرت ماسون بسطت وشرحت ما استغلق في النص الفرنسي كما قال المترجم. ويذكر المترجم في المقدمة أن دائرة الرقابة في وزارة الإعلام السورية رفضت منح موافقة لطباعة كتاب ”آلام الحلاج“، وربما كان السبب في هذا يعود إلى نفوذ وزارة الأوقاف حارسة الإسلام الرسمي في سوريا. ولا شك أن رفض كتاب بهذه الأهمية خطأ كبير. وبعد هذا الرفض لجأ المترجم إلى ناشر ثان نشره في سوريا من خلال حيلة عبر نشر الكتاب من كيان دار نشر في بيروت وتقديمه إلى الرقابة في دمشق على أنه مطبوع خارج القطر، غير أن هذا الناشر (كما يذكر المترجم في مقدمة الطبعة العربية) أعاد طبع الكتاب أكثر من مرة دون أن يعلم المترجم ودون إدراج الأخطاء التي صححها، ولم يدفع له مقابل أتعابه، وهذه معاناة يعيشها كثير من المؤلفين والمترجمين والمحققين والباحثين في العالم العربي، بسبب أن كثيراً من دور النشر العربية تفتقر إلى التقاليد والمعايير المهنية والجرد القانوني والتقيد بجدول زمني منصف وبتسديد الأتعاب بعد استلام المخطوطات وطباعتها واحترام حقوق المؤلف والمترجم والمحقق. ومن حظ القراء أن الرقابة غيرت رأيها فيما بعد وسمحت بطباعة الكتاب في سوريا.
يتوسع كتاب ”آلام الحلاج شهيد التصوف الإسلامي“ في الحديث عن معنى حياة وتعاليم الحلاج في القرن العاشر. وببصيرة روحية عميقة وتعاطف عابر للثقافات، يدرس ماسينيون التصوف الإسلامي بطريقة لم تكن معروفة سابقاً. ويلقي الضوء على الحياة الدينية والفلسفية والسياسية لبغداد والعراق وفارس في تلك الفترة، وعلى العالم الذي نشأ فيه الحلاج، وتأثيره وعلاقته مع القرامطة الذين تميزوا بفكرهم وثورتهم الاشتراكية، وإيمانه بأهمية الاختلاف في الرأي. كما يسلط الضوء على رحلته إلى كشمير وكابول في حوالى 896، وقد كانت كشمير آنذاك مركزاً فكرياً مهماً احتك فيه الهندوس والبوذيون مع شخصيات فكرية إسلامية. ويتناول الجزء الثاني تأثير الحلاج في الإسلام عبر القرون وتفاجئك معرفة ماسينيون العميقة بالتاريخ الإسلامي من ناحية العلاقة مع حقيقة الحلاج. ويناقش تأثير الحلاج بين السنة والشيعة واستمرار ميراثه في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي كالعراق وفارس وخراسان والأراضي الناطقة بالتركية، وشبه الجزيرة العربية، والمغرب والهند وجافا حيث لعبت شهادة الحلاج دوراً في أسلمة أرخبيل ملايو. يلقي الضوء أيضاً على موقع الحلاج في الأدب العربي وخاصة بين المتصوفين وخاصة ابن عربي وأصداء أقواله بين فلاسفة مثل ابن سينا والسهروردي وابن رشد والطوسي.
ترافق صدور ترجمة كتاب آلام الحلاج، شهيد التصوف الإسلامي لمؤلفه لويس ماسينيون عن دار نينوى في دمشق مع صدور كتاب باللغة الإنجليزية في أمريكا يضم مختارات من أشعار الحلاج، بعنوان ”الحلاج: قصائد شاعر صوفي“، ويضم الكتاب 117 قصيدة من شعره ترجمها عن العربية الباحث الأمريكي كارل إرنست، وقد صدر الكتاب عن مطبعة نورثويسترن يونيفرسيتي، ويؤكد هذا على أهمية التجربة الصوفية للحلاج وكونيتها، ويبين أن ما حاربه الفكر الإسلامي الرسمي وضيق عليه يشكل الجانب العميق في الإسلام والقادر على إغناء الآخر في كل الثقافات.
ويمكن القول إن كتاب آلام الحلاج لماسينيون وثق لشخصية من أعمق الشخصيات الصوفية ولعصرها، وقدم صورة مكتملة له فتحت الباب أمام الباحثين لفهمه وفهم تياراته الفكرية، كما أنه قدم فكرة عن العشق الفكري، والافتتان المعرفي بالآخر، ذلك أن ماسينيون اكتشف شبهاً في شخصيته وفي أفكاره مع الحلاج، وتقاطعاً في القناعات وفي الخروج من عباءة الانتماءات الدينية الضيقة وتوسيع الأفق الإنساني الكوني المتجاوز للحدود الثقافية، وكان لتعميق هذا الاكتشاف من خلال البحث الدؤوب والمضني والأسفار المتلاحقة، دور في صقل رؤية لويس ماسينيون ومنحها أفقاً أوسع لاكتشاف الآخر وتقديمه في صورة معرفية شاملة ودقيقة لم تقع في مصيدة التخندق في أنا مركزية أوربية متعالية لا ترى في الآخر إلا ما تريد أن تلبسه له.