قد يبدو السؤال صادماً أو جدلياً، وقد يُسارع البعض للإجابة سواء بالنفي أو الإثبات. وربما تجنح الغالبية بإبداء رأي قطعي ونهائي إزاء هذه المسألة. إلاّ أن الوصول لإجابة مُقنعة يتطلب منّا بدايةً استيعاب بعض المفاهيم وتشخيصها، وإدراك الإشكاليات المُستجدّة والسياقات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية.. إلخ.
لماذا الاشتراكية؟ وما الذي تهدف إليه؟
لا يسعنا هنا الخوض في الأسس الفلسفية العميقة للأنظمة الاقتصادية ونظرياتها، لكن يمكننا أن نلخّص هذه المدارس وأهدافها وتوجهاتها لنشكّل وعياً أولياً بها. تسعى الاشتراكية لتحقيق عدة أهداف منها: تحقيق العدالة الاجتماعية، توزيعٌ أكثر عدالة للثروة بما يُحقّق رفاهية للجميع قدر الاستطاعة، والملكية العامة للثروات الطبيعية والمشاريع الإنتاجية الكبرى. هنا تبرز إشكالية محورية، وهي أن تطبيق هذه الأهداف يعتمد بشكل أساسي على نظام الدولة الاقتصادي وعلاقته بالمنظومة العالمية للاقتصاد والتي تخضع بشكلٍ عام -وللأسف- للمنظومة الرأسمالية.
نظرياً، وفي حالة مثالية، فإن الثروات الطبيعية ووسائل الإنتاج الأساسية والأراضي هي ملك للجميع، وضمن بعض الاتجاهات الاشتراكية -وليس جميعها- يكتفي الشخص بامتلاك بعض المقتنيات التي يستخدمها شخصياً وليس بهدف مراكمة رأس المال مقابل استغلال قوة العمل، مثل: المنزل، السيارة الشخصية، أو حتى مشروع صغير يدرّ دخلاً بمثابة مرادفٍ لفكرة الوظيفة العامة بمتغيرات مختلفة.
الرأسمالية: مقبرة الطبقات العاملة
إن المنجم الأساسي الذي يُشكّل العمود الفقري للنظام الرأسمالي -الهادف لتحقيق أقصى إمكانيات الربح- هو استغلال قوة العمل وتجييرها لصالح كِبار الرأسماليين، وهذا ما شكّل دوماً صراعاً بين الطبقات العاملة والمالكة -إن صحّ التعبير- إذ شُكّلت علاقة تعتمد على الاستغلال والتهميش، ويهدف هذا النظام لمراكمة رأس المال بشتى الطرق المُمكنة وسن تشريعات وقوانين ونُظم تخدم هذا الهدف.
وحقيقة أن النظرية هي - الأفكار العامة التي نستطيع من خلالها تكوين مجموعة القيم والمبادىء - التي تشكّل نظرتنا حيال العالم؛ لا تتعارض بالضرورة مع ما تواجهه من عقبات عند التطبيق، حيث ديناميكيات العمل تختلف تبعاً للسياقات المختلفة لحقل التجربة والعمل.
لنفكّك على سبيل المثال مفهوم صاحب رأس المال في الأنظمة التي تلت الإقطاع. فمع الثورة الصناعية وبروز الرأسمالية كوريث -بحلّة جديدة- لمفهوم الإقطاع، تم استحداث نظام الأجر مقابل العمل بشكل بدائي، فقد استغل أصحاب رؤوس الأموال -كعادتهم- التحول الجديد، وقاموا بتجييره لصالحهم، فحولوا الأجر مقابل العمل إلى نظام استعبادي جديد يُوهم العامل بحريته، وهو ما يصح لنا أن نُطلق عليه (عبودية دون صك تمليك)، فبات العمّال في المصانع والشركات يعملون لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً مقابل مبالغ مالية زهيدة تكفيهم بالكاد لدفع الإيجار السكني والمواد الغذائية الأساسية مع ملبس متواضع، مقابل تحقيق أرباح خيالية خاصة بعد أن استطاعت القوى الرأسمالية من استعمار شعوب أخرى وفتح أسواق جديدة لبضائعها مستغلّة تملّكها لوسائل النقل وشبكات الطرق والملاحة حول العالم. وكانت البنوك والمؤسسات المصرفية الأخرى رافداً آخر لهم لزيادة ثرواتهم على حساب الطبقة العاملة والمهمشة، إذ كانت البنوك تُقرض العمّال والموظفين الصغار قروضاً بفوائد عالية جداً، وتقوم بدورها بتمويل أصحاب رؤوس الأموال لإنشاء مصانع جديدة واستيراد بضائع من المستعمرات، وكان ذلك في كثير من الأحيان لا يعتمد على المكانة المالية للرأسمالي فحسب، بل على الطبقة الاجتماعية والقُرب من مراكز صنع القرار وإبداء الولاء للسلطات الحاكمة.
استمر أصحاب رؤوس الأموال في استغلال العمّال لعقود دون حسيب أو رقيب، فقد مارسوا سلطاتهم المطلقة دون أي رادع، فمات آلاف من العمّال في ظروف صحية وبيئية صعبة، ووصل متوسط الأعمار بينهم في العصر الفكتوري إلى 26 عاماً فقط!، كل ذلك كان يأتي في ظل أفق مسدود بالنسبة لهم، لعدم توفر أي بديل لهؤلاء العمّال خاصةً بعد سياسات تقسيم العمل التي أفقدت الكثير منهم المهارة الكافية التي تمكّنه من التخلي عن وظيفته، والقبضة المُحكمة لكبار الرأسماليين على مفاصل الاقتصاد، ولولا ظهور الحركات العمالية والنقابات نتيجة انتشار الأفكار الماركسية بين أوساطهم في أوروبا ومن ثم العالم؛ لما تحسنت ظروف العمل، مثل: ساعات عمل محددة، أجور الساعات الإضافية، الحق بتشكيل النقابات، دفع مكافآت نهاية الخدمة وصناديق الضمان الاجتماعي، الحدّ الأدنى للأجور، منع توظيف الأطفال، الإجازات المرضية والسنوية المدفوعة الأجر، وغيرها من الحقوق التي حسّنت من ظروف العمل ولو بشكل جزئي.
إنّ هذا الإرث من الاستغلال قد رسّخ في أذهان اليسار -بمختلف اتجاهاته- عداءً لفكرة المشاريع التي تتشكل من رأسمال وعمّال تُستغل قوة عملهم مقابل أجور زهيدة، أو في أحسن الأحوال جيدة لكنها لا تتناسب مع المردود الحقيقي منها. أي ما يصطلح عليه الماركسيّون بـ "فائض القيمة".
ولكنّ اليوم، وفي ظل تطور ديناميكيات العمل الاقتصادي، قد اختلفت المضامين والمسميات، فأصبحت المشاريع تُقسّم لمشاريع متفاوتة الحجم، والأنظمة التي تُدار من خلالها أضحت مختلفة ومتنوعة وقابلة لأن تغيّر الهيكلية الرأسمالية التقليدية، وهنا يقوم النظام الرأسمالي بإمبراطورياته الإعلامية والتعليمية بمحاولة خلق نموذج اقتصادي وحيد للنجاح، هو النظام النيوليبرالي بمؤسساته المتعددة.
النموذج الأوحد: كيف يُوهم الرأسماليون العالم بوجود نمط اقتصادي وحيد؟
في البداية، كان لا بد من الهيمنة على مصنع الأفكار والنظريات، أعني بها كليات إدارة الأعمال والاقتصاد، وتغوّل المناهج الأمريكية وتصديرها على أنها النظريات الوحيدة، من خلال تعميم مناهجها في أغلب جامعات العالم، وتصنيف أية مؤسسة تعليمية بناءً على اتباعها لنادي النظريات الرأسمالية، فقد تخرجتُ أنا من كلية العلوم الإدارية وعلى مدى أربع سنوات اجتزت 126 وحدة دراسية، لم أقرأ فيها حرفاً واحداً عن كارل ماركس أو نظريات الفكر اليساري المختلفة، هنالك فقط لمحات بسيطة ومختزلة جداً عن النظام المختلط أو النظام الإسلامي، هذا فيما يخص الاقتصاد والتمويل كتخصصات ذات صبغة رياضية وعلمية - على حد زعمهم - ولكن الأنكى هو أن مواد الموارد البشرية والإدارة وتقييم الموظفين وتحديد الرواتب وغيرها، كانت نسخاً كربونية من نظام الشركات العالمية الكُبرى دون أيّ ذكر لنماذج مختلفة، وهنا يتخرج الطالب وهو موهوم بفردانية النموذج الرأسمالي وفعاليته المطلقة في الاقتصاد والتسويق والإدارة وغيرها من العلوم الإدارية، وهذا ما انعكس -للأسف الشديد- على غالبية خريجي كليات الاقتصاد والإدارة المرموقة في العالم، ولنا في خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مثال واضح للنماذج التي نعنيها، وهي في أحسن الأحوال نسخ مطوّرة ومُهذّبة من زبانية الإقطاعيين في العصور الوسطى، مستبدلين السياط والشتائم بربطات عنق ومصطلحات اقتصادية ولغات متعددة. ولنا أيضاً في "الهندسات" الاقتصادية وخطط الإفقار التي رسمتها هذه المؤسسات لعدة دول من العالم الثالث، نماذجُ حيّة عن العقلية النيوليبرالية.
وبالإضافة إلى السيطرة على المؤسسات التعليمية ومراكز البحوث، فقد كان لتركيز الرأسماليين على الإعلام بوسائله المختلفة الأثر الكبير في تعزيز الصورة السائدة بأنه لا اقتصاد حديث من دون الرأسمالية، وقد شكّل كل ذلك ردة فعل سلبية لدى طيف واسع من الاشتراكيين تجاه عالم الأعمال والسياقات الاقتصادية الجديدة، وهو ما فسح المجال للرأسماليين -وهم المتطفلون على مفهوم العمل والإنتاج الحقيقي- من تسيّد المشهد.
رؤية جديدة للمفاهيم ومضامينها: كيف نؤسس مشاريع اشتراكية في عالم رأسمالي؟
حالياً، وفي كُبرى الاقتصادات العالمية، تبلغ نسبة العاملين في المشاريع الصغيرة والمتوسطة أكثر من 60% من مجموع القوى العاملة، ويُشكّل ما يُقارب من 50% من الناتج الإجمالي، بُنية هذه المشاريع مختلفة في الدورة الاقتصادية والمالية عن المشاريع التجارية الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل هي مُغايرة حتى عن بُنيتها قبل 30 سنة من الآن.
إذ تعتمد هذه المشروعات الصغيرة والمتوسطة -غالباً- على تعاون طاقم العمل مع ربّ العمل جنباً إلى جنب، بحيث يُساهم الأخير بقوة عمله إضافةً إلى شغفه أو خبرته في مجال العمل، وفي ذلك كسر لصورة نمطية حول هيكليّة المشاريع في الأزمنة السابقة، بل إن هذه الديناميكية الجديدة أدّت - في السويد على سبيل المثال - لتقليل عدد ساعات العمل في الكثير من الشركات الكُبرى إلى ستّ ساعات، بعد أن غادر الكثير من الشباب الذين يمتلكون أفكاراً إبداعية، هذه الشركات إلى مشاريع صغيرة ومتوسطة، نتيجة عدد ساعات العمل الأقل فيها، مما أدى إلى شروط عمل أفضل ورواتب تنافسية تعوّض الموظفين عن جهورهم المبذولة في مؤسساتهم.
أمّا في ما يخصّ الشركات والمصانع الكُبرى الخاصة، فعلى الرغم من التغيّرات التي طرأت عليها، إلّا أن دورتها المالية والاقتصادية ما زالت متشابكة بشكل كبير مع المنظومة الرأسمالية، وتحتاج إلى أُطر مختلفة حتى تتمكن من تحرير نفسها من القيم الرأسمالية، وقد يكون الحل المثالي هو نقل ملكية هذه المشاريع إلى القطاع العام.
بناءً على ما تقدّم، كيف يمكن لنا أن نؤسس مشروعاً صغيراً أو متوسطاً -بقيمٍ اشتراكيةٍ- في عالم ونظام رأسمالي؟
أولاً: المساهمة في قوة العمل، يجب على صاحب العمل أن يكون جزءاً حقيقياً من المشروع، ومساهماً في تأسيسه وإدارته بشكل جديّ كتفاً بكتف مع بقية طاقم العمل، حيث يتمتع بالمهارات الكافية لإدارته والشغف في تطويره، وأن لا تكون مساهمته في رأس المال هي المساهمة الوحيدة في المؤسسة.
ثانياً: العمّال شركاء في الربح لا الخسارة، في حال عدم تملّك العمّال جزءاً من أصول المشروع لأي سببٍ كان، فإن صاحب العمل مُجبر على إشراكهم في ما يتمّ تحقيقه من أرباح بالإضافة إلى رواتبهم ومستحقاتهم، دون تحميلهم عبء الخسارة المُحتملة، وإنّ المشاركة في الربح يجب أن تتناسب مع مقدار الجهد والعمل والتميز الذي يبذله كل واحد من العمّال أو الموظفين، وأن لا يستأثر المالك بالأرباح فقط لكونه صاحب رأس المال، والابتعاد عن السياسيات الرأسمالية في الموارد البشرية وأنظمة الإدارة التي تمتنع عن توزيع المكافآت والـ "بونص" إلّا في حال تحقيق أرباح كبرى، والمُفترض أن تتم مكافأتهم على ما قدموه من جهد حتى في حال تحقيق المؤسسة أرباحاً ضئيلة أو خساراتٍ دفترية متباينة مع التدفقات النقدية.
ثالثاً: المشاركة في القرار، العمّال أو الموظفون في أي قطاع هم الأكثر احتكاكاً وخبرةً في مجال عملهم، وانطلاقاً من هذه النقطة يجب إشراك من يتمتع بالكفاءة الكافية منهم في صنع القرار واتخاذه.
رابعاً: الأولوية مصلحة العامل، كون صاحب العمل يحمل امتيازات تتعلق بالملكية ونمو رأس المال، فيجب في المقابل أن تكون مصلحة العامل - اللبنة الأساسية في المشروع - أولويةً عند اتخاذ القرارات، فلا تُعرّض صحته أو أمنه للخطر بأي شكلٍ من الأشكال بحجة المصلحة العامة للشركة.
خامساً: أن يحصل العامل على كامل حقوقه الوظيفية؛ الإجازات السنوية، الإجازات المرضية، البدلات، الأجر المضاعف مقابل الوقت الإضافي وغيرها من الحقوق الأساسية والمُلحقة.
سادساً: حرص صاحب العمل على تطوير الموظفين، وتحمّل تكاليف أية دورات تدريبية لهم، انطلاقاً من مبدأ الاستثمار في الفرد وانعكاسه على الناتج العام، مع السماح للموظف بحقه في الانتقال لوظائف أفضل في حال توفرها له، دون ممارسة أي تضييق أو وضع عقبات لذلك.
أن تبدأ بنفسك: نحو عالم أكثر عدالةً
شهدت البشرية قفزة هائلة في الخمسين عاماً الأخيرة في مجالات التكنولوجيا والصناعة والزراعة، والتي أدّت إلى زيادة معدلات عُمر الإنسان، وتحسن الظروف الصحية له، وإلى نقلة نوعية في مجال النقل والاتصالات، وتوافر كميات غذاء بنسب فلكية في حال مقارنتها بالقرون التي مضت. إن هذا التطور جاء نتيجة آلاف السنين من المعاناة والجوع والتشرد والأمراض، والتي من خلالها كوّنت البشرية عبر حضاراتها ودولها واستكشافاتها تراكماً معرفياً جوهرياً أدّى إلى تطور سريع ومطّرد منذ نهاية القرن التاسع عشر واستمر إلى يومنا هذا، إلّا أن هذا التطور سُرِق من قِبل ثُلّة صغيرة من كبار أصحاب رؤوس الأموال وأندية النخبة التي تُسيطر على مُقدّرات العالم، وبدلاً من أن يكون هذا التطور في صالح الجميع وخطوة نحو عالم أقل جحيميةً، فقد بات العالم اليوم في اختلال اقتصادي وطبقي كبيرين، إذ يواجه العالم في كل عقدين تقريباً أزمة اقتصادية خانقة تكون نتيجتها زيادةً في الفوارق الطبقية وذوبان للطبقات الوسطى، ممّا له من نتائج ثقافية واجتماعية وفكرية وخيمة على الأمم.
إننا نعيش اليوم في عالم يمتلك فيه الـ 2% الأغنى ثروة، أكثر من 50% من مقدار الثروة في العالم، بينما يمتلك الـ 50% الأفقر، أقل من 1% من هذه الثروة، وإن حوالي 20% من البشر يعيشون في فقر مدقع، ورغم الإنتاج الغذائي الضخم في العالم إلّا أننا نشهد موت 25 ألف شخص يومياً جرّاء الجوع، وسط صمت عالميّ مطبق عن هذه المذبحة العلنيّة اليومية.
نتساءل أحياناً: كيف لنا أن نُشكّل فارقاً ضمن هذه المنظومة صعبة الاختراق، من تجّار الحروب والزعامات والرأسماليين الكبار وغيرهم ممن يشكلون المنظومة العالمية للقوة والسيطرة؟ وكيف لنا أن نكون فاعلين في تغيير واقع يحتاج إلى نضال ومقاومة وتنظيم قد لا تتوفّر فرصُه الآن، وإن توفرت فستحتاج لسنوات وسنوات؟
الإجابة قد تكون بسيطة، لكنها بالتأكيد ليست ساذجة كما تُحاول الدعاية المضادة للتغيير تصويرها، الإجابة تكمن في أن يبدأ كل واحدٍ منّا بنفسه، أن يتذكر - إذا ما كان محظوظاً وامتلك مشروعاً - معاناة الآخرين، وأن يُطبق في عالمه الصغير نظاماً أكثرَ عدالةً مما هو في الخارج، نظاماً يُراعي توزيعاً عادلاً للثروة والملكية، وأن يكون هذا الجهد متوازياً مع العمل على تغيير أكبر وأكثر جذريةً للعالم، لعالم أكثر عدالة وأقل توحشاً وجشعاً.