مازيار غيابي، سياسات المخدرات: إدارة الاضطرابات في جمهورية إيران الإسلامية (دار نشر جامعة كامبريدج، 2019)
جدلية: ما الذي دفعك لتأليف هذا الكتاب؟
مازيار غيابي: أسباب عديدة. كان شاغلي الرئيسي إجراء دراسة عن تقاطعات السياسة والسلطة التي تذهب أبعد من المنظور الكلاسيكي الذي يعتبر الدولة كياناً مطلق السلطة ينفذ القوانين ويتدخل في حياة الناس. أردت تتبع كيفية ممارسة السلطة في السياق الإيراني، بدلاً من الاقتصار على الأبعاد الخطابية والبلاغية لسياسة النخبة التي كانت، ولا تزال، تحظى باهتمام كبير. تركز الدراسات حول إيران المعاصرة على دور الدولة و"النظام" بشكل مهووس، حيث تقصر ممارسة السلطة، على نحو شبه حصري، في الدولة والكيانات المرتبطة بها، سواء تعلق الأمر بالحرس الثوري أو الباسيج أو القوات الأمنية أو المواجهات الداخلية بين الفصائل المتنافسة: المواجهات السياسية المتواصلة بين "المتشددين" و "الإصلاحيين".
في المقابل، كان تصوري للدولة إثنوغرافياً، مستمداً من باحثين تبنوا في دراستهم للدولة أساليب العمل الميداني والملاحظة بالمشاركة. دراسة الدولة الإيرانية "عن بعد" أنتجت أبحاثاً تفتقر إلى الدقة - بسّطت هذه الأبحاث ممارسات الرقابة وعملية إعداد السياسات والتفاوضات حول تطبيقاتها العملية - وتصورت الدولة إما قوة ثنائية يحركها المتشددون والإصلاحيون، أو إرادة جبارة يقودها فرد واحد (مثل خامنئي أو رفسنجاني). بسبب هذه المنهجية، غابت عن الباحثين تلك التركيبة الأصيلة من الزخم التقدمي الثاوي في أجهزة الدولة الإيرانية والبواعث الخفية، الكامنة داخل النسيج الاجتماعي، التي لها ميول استبدادية؛ ما أسميته "الاستبداد الشعبي".
حدد هذا الإطار المفاهيمي معالم الدراسة التي توخيت إنجازها. في الواقع، لعل موضوع البحث الرئيسي - تعاطي المخدرات - هو ما يميز الكتاب عن معظم الأعمال التي تطرقت لإيران والشرق الأوسط. يلقي تعاطي المخدرات غير المشروعة بظلاله على المجتمع الإيراني، لدرجة أنه بات من الصعب زيارة إيران دون معاينة أشخاص يتعاطون المخدرات بمختلف أنواعها: تدخين الأفيون أو أكله من قبل العمال الريفيين والعائلات التقليدية؛ تدخين سجائر الحشيش في أحياء الطبقة العاملة ولفائف الماريجوانا بين أفراد الطبقة الوسطى؛ تدخين الميثامفيتامين في أنابيب زجاجية من قبل الطالبات والمشردين، متبوعاً بجرعة مسكنة من الهيروين. لكن ما أثار اهتمامي أكثر كان إطلاق المؤسسات الحكومية برامج طليعية تهدف إلى توفير الرعاية الصحية والاجتماعية لمتعاطي المخدرات، في الوقت نفسه الذي كنت فيه على وشك بدء بحثي. كان ثمة شيء ذو طابع سياسي في ظاهرة المخدرات، وقد رأيت أنها تستحق دراسة ميدانية، عوضاً عن دراسة عن بعد. لذلك، شرعت في إنجاز دراسة حول سياسات المخدرات في إيران.
جدلية: ما الموضوعات والقضايا والدراسات التي يتناولها الكتاب؟
غيابي: الأمر الذي طالما حيرني في الدراسات حول الجمهورية الإسلامية هو تكرار مقولة "التناقض". وصف الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية في إيران المعاصرة بأنها "متناقضة" بات قاعدة يتبعها كثير من الباحثين والصحفيين. مع ذلك، يبدو لي أن اللجوء إلى مقولة "التناقض" لوصف الأوضاع حل سهل، أفضى، في نهاية المطاف، إلى الانفصال عن حقائق الواقع، وإغفال الكيفية التي تشكلت بها الدولة والتغيرات الاجتماعية التي طرأت في إيران على مدى العقود الأربعة الماضية. الأصالة مقابل الحداثة؛ الثيوقراطية مقابل الجمهورية؛ تعايش القيم المحافظة مع التوجهات العلمانية؛ الدولة مقابل المجتمع... لسنوات عدة، كان يجري تحليل الأوضاع في إيران من خلال هذه التصنيفات.
بدلاً من ذلك، عرضت في الكتاب مقولة "التآلف"، التي فككت، بناءً عليها، آليات عمل السياسة الإيرانية المعاصرة والمجتمع الإيراني دون الاقتصار، فقط، على التناقضات الواضحة الكامنة فيهما أو على فكرة الاستثناء. لذلك جاء الكتاب ليبحث سياسات الأزمات في إيران - لا سيما سياسات المخدرات - باعتبارها تحتل بعداً تآلفياً، تتعايش فيه مجموعة من السمات المتناقضة بصورة تسمح للدولة ومؤسساتها الجذرية بإدارة الاضطرابات.
نظراً لأهمية المخدرات في حياة الإيرانيين والكيفية التي أثرت بها على العلاقة بين الدولة والمجتمع، يسعى هذا الكتاب لملء الفراغ في هذا المجال وتشجيع المزيد من المقاربات النقدية المستنيرة بموضوعات وظواهر ومنهجيات جديدة. لهذا السبب، استقيت من الإثنوغرافيا السياسية وأنثروبولوجيا السياسة التي أرى أنها قد تسمح بإجراء مزيد من الدراسات النظرية والمفاهيمية الرامية إلى فهم طرق ممارسة السلطة وكيفية التفاوض عليها في الشرق الأوسط خلال الأزمات.
بالنسبة للباحثين في مجال المخدرات غير المشروعة، يعد الكتاب الأول من نوعه الذي يقدم وصفاً مفصلاً لمسار تطور مشكلة المخدرات في إيران واستجابة الدولة لهذا التحدي من منظور أخلاقي وأمني وصحي.
جدلية: من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب؟ وما الأثر الذي تود أن يخلفه؟
غيابي: قدمت مؤسسة ويلكوم ترست، التي دعمت بحث الدكتوراه الذي أجريته في جامعة أكسفورد، التمويل لإتاحة الكتاب للعموم، بما في ذلك القراء داخل إيران، حيث تظل المنهجيات الكيفية مهمشة، إن لم نقل إنها غائبة.
يكشف الكتاب الآليات المؤسسية والشعبية التي غالباً ما تحجبها طبقة الضباب الكثيفة التي تحيط بدراسة الجمهورية الإسلامية بوصفها كيان سياسي حديث. لذلك فهو يلقي الضوء على مؤسسات لم تحظ بعد بقدر كاف من الدراسة، مثل مجلس تشخيص مصلحة النظام والآليات التي يتبعها لإدارة الأزمات و"المخيمات" الرسمية وغير الرسمية التي ترعى جهود مكافحة المخدرات ودور المفاوضات اللاسياسية في تغيير السياسات.
آمل أن تكون إحدى ثمرات الكتاب هي تبيان كيف أن العملية السياسية ومسوغات التدخل في ظروف "الأزمات" - على سبيل المثال وباء فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز وارتفاع نسبة الوفيات نتيجة تعاطي المخدرات - تسترشد بسياسات حكم علمانية؛ ما أسميته "سياسات دنسة بمآلات تآلفية". لذلك، في بلد مثل إيران، حيث "الأزمة" حالة شبه دائمة منذ ثورة 1979، ينبغي النظر إلى نتائج هذه الدراسة بوصفها نتائج لا تقتصر فقط على سياسات المخدرات، بل يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى.
هناك ارتفاع في عدد الدراسات المتمحورة حول المخدرات في جميع أنحاء العالم، لكن دول غرب آسيا وشمال أفريقيا تظل متخلفة عن الركب. مكانة المخدرات في هذا الجزء من العالم لم تحظ بعد بقدر كاف من الدراسة، لكنها من الأهمية بمكان لفهم التغيرات الثقافية وتأثير السياسات على حياة الناس. لذا يعتزم الكتاب إرساء الأسس لكل المهتمين بتاريخ المخدرات ومجال الإنسانيات الطبية.
جدلية: ما المشاريع الأخرى التي تعمل عليها؟
غيابي: أعمل على ثلاثة مشاريع رئيسية منذ نشر الكتاب.
أنا حالياً عضو في مشروع أبحاث مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن حول المخدرات والـ(لا)نظام. يبحث المشروع أثر اقتصادات المخدرات على المناطق الحدودية التي يتركز فيها المتمردون في كل من ميانمار وأفغانستان وكولومبيا، ودور هذه الاقتصادات في تحقيق السلم. الخروج من منطقة الراحة أمر مجز لأنه يثري خبراتي البحثية، ذلك أن المشروع يتضمن عملاً ميدانياً تدعمه الجهات المحلية المشتغلة بالمناطق الحدودية للدول الثلاث والتي تهيمن فيها جماعات المتمردين المسلحة، التي تلعب دوراً رئيسياً في مفاوضات السلام في هذه المناطق، على الاقتصاد السياسي للسلع غير القانونية. تخلق الميليشيات التي تشترك في تهريب المخدرات والفلاحون الذين ينتجون الأفيون والكوكا والجهات المحلية المسؤولة عن التفاوض والجماعات الشعبية بيئة تصبح فيها الحدود في صميم عملية تشكيل الدولة.
مشروعي الثاني هو ثمرة تعاون مع الباحثة بيلي جين براونلي من جامعة إكستر. منذ عام 2011 ونحن نشتغل على تفكيك الانتفاضات العابرة للأقاليم والحروب الأهلية وأزمات النزوح إبّان ما سمي "الربيع العربي" وما بعده - نفضل تسمية هذا الحدث "الانتفاضة العربية" (انظر دراستنا في دورية "نقد الشرق الأوسط" بعنوان "ساكن، صامت، ثوري: عودة إلى 'الربيع العربي'"). نعمل كذلك على صياغة أطر مفاهيمية خاصة بهذه الظواهر، لذلك فإننا نتناول بالدراسة المفاهيم المختلفة لـ الزمان/المكان في أثناء الثورات/الانتفاضات لكي نضع إطاراً يمكننا من دراسة إيكولوجيا الاحتجاجات التي تلت عام 2011 في العواصم العربية والغربية. لهذا الغرض، نعيد تفسير موقع الأساطير في السياسة الحديثة، محاججين أن صعود الخطابات الطائفية يندرج ضمن موجة "ثقافات اليمين" التي أعقبت فشل الانتفاضات الشعبية.
مع ذلك فأنا لم أتخلَ عن عملي المتعلق بالمخدرات، إذ يتركز اهتمامي حالياً على دراسة موقع "الإدمان" في ثقافة إيران والعالم العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الوقت الراهن. ألقي نظرة على تجربة استهلاك المخدرات وتقاطعاتها مع تغير قواعد السلوك العامة، وبالأساس الطرق المعتمدة للتعافي من "الإدمان". وقد قادني هذا إلى إجراء عمل ميداني إثنوغرافي حول أشكال جديدة من "الإدمان"، مثل تلك المرتبطة باستخدام الوسائط الرقمية، إذ أدمج بين تدوين الملاحظات الإثنوغرافية على الطريقة التقليدية والتصوير الفوتوغرافي والفيديو لأبرز أهمية الصور في خلق أداءات افتراضية بين أعضاء الجماعات الريفية. لا بد أن تروى هذه القصة، إذ إنها ستوضح كيف أن "الإدمان"، بوصفه أداة للتشخيص، يتشكل ثقافياً ويتحدد وفق عمليات تاريخية نادراً ما يتم ملاحظتها. برأيي، هذا من شأنه أن يكون فاتحة لأبحاث أخرى في مجال "دراسات الشرق الأوسط"، أبحاث تخوض في مواضيع جديدة وتعتمد منهجيات متعددة التخصصات وتقيم صلات مبتكرة مع الدراسات العالمية عن الصحة والمجتمع.
مقتطف من الكتاب:
من الفصل 6: الطفرة الأنثروبولوجية للميثامفيتامين
"أزمة" الشيشه وسردياتها
إذا جمع المرء بين انتشار استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب والارتفاع الهائل في تعاطي العقاقير ذات التأثيرات النفسانية والمواد المنشطة والمنبهة، وبالخصوص الشيشه، فإن الخلاصة التي سيخرج بها هي أن تحولاً عميقاً طرأ على النسيج المجتمعي والنظام الثقافي في إيران خلال حقبة ما بعد الإصلاح. أوائل عام 2006، بدأ المسؤولون الإيرانيون يتحدثون عن انتشار العقاقير الصناعية ذات التأثيرات النفسانية من خلال القنوات التلفزيونية والإنترنت، وقالوا حينها إنهم لا يتوفرون على ما يكفي من الأدلة لتحديد مصدرها أو كيف تم الحصول عليها. كان عقار الإكستاسي، والمنشطات الأمفيتامينية عموماً، متاحاً في إيران منذ نحو عقد من الزمن، لكن انتشاره اقتصر على بعض الحفلات المقامة في العاصمة الحضرية الغنية. ظهور الميثامفيتامين (بمختلف أسمائه، وبالأخص الشيشه، الكلمة التي تعني "الزجاج"، في إشارة إلى شكله الشبيه بالزجاج) أبان عن حدوث تغيرات استثنائية في نوعية المخدرات التي صار الإيرانيون يميلون إليها، تغيرات كان لها تبعات جسيمة على السياسات العامة.
الطريقة الأكثر شيوعاً لتعاطي الميثامفيتامين هي تدخينه عبر أنبوب زجاجي واستنشاقه على دفعات. دخانه بلا رائحة و بلا لون، ويمكن استهلاكه في ثوانٍ. في إحدى أولى المقالات المنشورة حول الشيشه، حذر مسؤول حكومي من الأشخاص الذين يقدمون الشيشه بوصفها دارو، أي علاج طبي، يشفي نقص الطاقة، والفتور، والاكتئاب، وللمفارقة الإدمان. تقدم الشيشه حلاً سريعاً وسهلاً للمشكلات النفسية التي يعاني منها مستهلكيها من خلال مدهم بدفعة هائلة من الطاقة والمشاعر الإيجابية. نظراً لأنه كان مخدراً جديداً، فقد حال هذا دون تعرضه للمصادرة بموجب القوانين القاسية ضد الاتجار بالمخدرات، ولذلك لم تدخل الشيشه قائمة المواد المحظورة إلا في عام 2010، لمّا جرى تحديث قوانين المخدرات. قبل هذا التاريخ، كانت الجرائم المرتبطة بإنتاج الشيشه وتوزيعها تحال إلى محكمة الجرائم الطبية، وكانت عقوباتها خفيفة. لم تكن الشيشه متاحة بوفرة في البداية، مما جعل ثمنها باهظاً على متعاطي المخدرات المعتادين، وقد ولّدت ندرتها إحساساً بالرغبة في استهلاك منتج كان حكراً على "الطبقة الراقية". لذلك، سرعان ما أصبحت الشيشه في بداية انتشارها المخدر المفضل بين المهنيين في طهران، واستخدمت "للعمل أكثر وكسب المزيد من المال،" على حد تعبير أحد متعاطيها السابقين. لكن بعد انخفاض سعرها بسرعة، أصبحت شائعة بين شتى الطبقات الاجتماعية، بما فيهم الطلاب والنساء، وكذلك بين سكان الأرياف. بحلول عام 2010، ظهرت مزاعم تقول إن 70% من متعاطي المخدرات كانوا يستهلكون الشيشه وأن سعرها قد انخفض بنحو 400% مقارنة مع بداية ظهورها في السوق المحلية. "تسونامي" تعاطي الشيشه هذا باغت المسؤولين الحكوميين والمجتمع الطبي، مما دفع بعض الخبراء للمطالبة بـ "خلق مقر وطني لأزمة الشيشه"، على غرار عقلية "إنشاء المقرات" التي ميزت فترة ما بعد الحرب.
كانت هذه الأزمة نتيجة تداخل تيارات عدة، تبلورت في الروايات الرسمية والشعبية عن الشيشه. استمر الحديث عن الأزمة بعد عام 2005 بالطريقة نفسها، إن لم يكن بطريقة أكثر حسماً. اختلفت هذه المادة كثيراً عن المخدرات السابقة المستعملة في إيران، فعلى عكس الأفيون والهيروين، اللذين يؤدي تعاطيهما إلى "فقدان الإحساس بالزمن"، وانحسار مشاعر القلق والتوتر والألم، ويدفع مستهلكيها إلى هز رؤوسهم أو الاستلقاء على السجاد، يعزز الميثامفيتامين نشاط متعاطيه، ويحفزهم على الحركة والعمل، بما يلغي الحاجة للنوم والطعام. إذا وضعنا تصنيفاً للمواد التي لها تأثيرات نفسانية، فسيكون الأفيون في جهة والميثامفيتامين في الجهة المقابلة. وقد سبق للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أن قال إن تعاطي المخدرات "له صلة بالسرعة وتعديل السرعة… والزمن الذي يصبح إما أبدياً أو بائداً". للشيشه علاقة بالوقت وإحساس الناس بمرور الوقت، ولهذا صار هذا المخدر أعجوبة القرن، إذ اعتبرت سرعة تأثيراته العقلية وإحساس النشوة المرافق لتعاطيه رموزاً مميزة لنمط الاستهلاك (ما بعد) الحديث. يستخرج الأفيون من نبات الخشخاش، بينما يصنّع الميثامفيتامين كيميائياً في المختبرات، أي أن إنتاجه لا يحتاج إلى أراضي زراعية. ما بين 2007 و2010، تصدرت إيران الجدول الدولي لواردات السودوإيفيدرين والإيفيدرين، بكميات أكبر بكثير من المستوى المتوقع، بحسب الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات. يعتبر السودوإيفيدرين والإيفيدرين عناصر أساسية في إنتاج الميثامفيتامين، أما باقي العناصر فهي متوفرة في المتاجر العادية ومحلات السوبر ماركت. مع مرور الوقت، بات بالإمكان إنتاج الشيشه "في الداخل" بسهولة، خاصة مع تركز استراتيجية إيران لمكافحة المخدرات على حدودها مع أفغانستان وباكستان. في الواقع، لم يمض وقت طويل قبل ظهور المختبرات الصغيرة - نسخ أقدم من مختبر والتر وايت في مسلسل Breaking Bad - داخل إيران، مما دفع رئيس شرطة مكافحة المخدرات إلى القول "إن أي طالب ماجستير في الكيمياء يمكنه اليوم تجهيز مختبر بسهولة، وباستخدام الصيغة الكيميائية وعدد من المنتجات الصيدلانية، يمكنه إنتاج الشيشه." في عام 2010، اكتشفت شرطة مكافحة المخدرات 166 مختبراً لتصنيع الشيشه، وارتفع العدد إلى 416 مختبر عام 2014. لم تمكن التدابير المتخذة لتقليل العرض على الميثامفيتامين من استهداف الإنتاج المحلي، لأن كيفية تنظيم هذه الصناعة الجديدة اختلف عن سابقاتها، زد على ذلك إمكانية تصنيعه في كل مكان.
وفر ارتفاع الطلب على الميثامفيتامين وكساد سوق العمل فرصاً للعمل في "صناعة الشيشه". وقد كشف مالك "مطبخ" يدير أربع وحدات إنتاج في جنوب طهران أن أسعار الشيشه انخفضت باطراد نتيجة زيادة القدرة على تصنيعها داخل إيران. ويعلق على هذا بقوله: "يعمل المهندسون الكيميائيون الشباب الذين لا يجدون وظيفة… عند مالك المطبخ بأسعار منخفضة،" ويضيف: "العناصر الكيميائية والمعدات متاحة بسهولة وبأسعار معقولة في سوق المستحضرات الصيدلية بالعاصمة". بعدها، تباع الشيشه إما محلياً أو في دول أخرى، مثل تايلاند، تحت اسمها المحلي «يابا»، أو في ماليزيا وإندونيسيا، حيث يرتفع الطلب على الميثامفيتامين. ويؤكد عدد الإيرانيين المعتقلين في المطارات الدولية في آسيا بوضوح هذه الظاهرة.
جذبت الشيشه وتجارتها الشباب بصورة خاصة، إذ استغلوا حالة الارتباك التي رافقت ظهورها وغياب معايير تُقننها. في الوقت نفسه، وبينما ظل الأفيون والهيروين بدرجة كبيرة "مخدرات موجهة للرجال" (على الرغم من ارتفاع عدد متعاطيه من النساء أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين)، شاع تعاطي الشيشه بين النساء. على سبيل المثال، كثيراً ما جرى الإبلاغ عن استخدام الشيشه في صالونات التجميل ومحلات تصفيف الشعر، لأنها، كما زعم، تساعد على "التخسيس". على المنوال نفسه، شاع استخدامها بين الرياضيين، المحترفين منهم، مثل لاعبي كرة القدم والمصارعين، والتقليديين / الشعبيين، مثل ممارسي الزورخانة. جذب استهلاكها فئات من الناس فتنتها فكرة الحياة بوصفها مغامرة لتحصيل اللذة، تحكمها في الغالب قوانين التنافس الاجتماعي، وهي فكرة تختلف أنطولوجيّاً وفينومينولوجيّاً عن المبادئ المؤسلِمة. ظهرت كذلك تقارير حول استخدام الشيشه بين الطلاب لتعزيز الأداء الأكاديمي. بتسهيلها قضاء ليالي كاملة في الدراسة، خاصة بين الطلاب الذين يحضرون لامتحان دخول الجامعة (كونكور)، اكتسبت الشيشه شعبية كبيرة في المدارس الثانوية والجامعات، ويشهد انخفاض سن تعاطي المخدرات على هذه الظاهرة. في افتتاحية نشرت في الجريدة التي تديرها الدولة، أعلن أحد الكتاب الساخرين أنه في إيران "أصبح الشعب الحداثي شعباً ما بعد حداثي، وهذا الأخير، كما يعلم الجميع، شعب مُصنِّع وشاعري،" وأضاف أنه قد اشتاق إلى "الأيام الخوالي، أيام البانجيس (مدخني الحشيش)". مثلت الشيشه بوابة الدخول إلى عالم ما بعد الحداثة، ولعلها طفرة أنثروبولوجية تاريخية لا رجعة بعدها.
مع تغير نمط تعاطي المخدرات، أدركت السلطات، ببطء وفتور، أن السياسات المتبعة في علاج متعاطي المخدرات بواسطة الحُقن - سياسة الحد من الأضرار المطبقة إلى ذلك الحين - لم يكن لها أثر يذكر على وقف ضرر الشيشة. فشلت سياسة الحد من الأضرار في مواجهة "أزمة" الشيشه التي تمظهرت بصورة علنية عابرة للأجيال، مختلفة كلياً عن أزمات المخدرات السابقة. علاوة على هذا، أدت هذه الأزمة، إلى جانب تغير السلوكيات الجنسية بين الشباب الإيراني، إلى تفاقم عجز الدولة.
[نشر الحوار على «جدلية». ترجمه ادريس امجيش. للنسخة باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا]