تُختزَل ملحمة گلگامش بالقول إنّها السّعي العبثيّ للملك گلگامش إلى الخلود. ولكنّ الاختزال في الأدب ليس إلا قتلًا له، فالعمل القابل للاختزال قابلٌ للحذف حتمًا. ما جدوى قراءة أحد عشر لوحًا إنْ كان بوسعنا تلخيصه في جملة؟ وفي واقع الحال، لو قرأنا الملحمة قراءةً متمعّنة، سندرك أنّ جزئيّة الخلود هذه ليست إلا جزئيّة نافلة، بل لعلّها أدنى جزئيّات الملحمة أهميّة. هل يمكن أن نتحدث عن الملحمة ونقرأها من دون أن نضيع وقتنا في بحث مسألة الخلود؟ نعم، بإمكاننا هذا؛ بل لا بدّ دومًا من هذه القراءة «المهرطقة» لو أردنا إدراك أهميّة وجمال أعظم ملحمة رافديّة. كان كتّاب الملحمة ومدوّنوها يدركون هذا حقّ الإدراك، ولذا لم يصبّوا تركيزهم على مسألة الخلود، كما فعلت القراءات الخاطئة الحديثة، بل تشعّبوا في توصيف الرحلة في ذاتها. رحلة الإنسان والكون من الظلمة إلى النور، ومن النور إلى الظلمة، ومن ثمّ أخيرًا من ظُلمةٍ جديدة إلى نور جديد. نور المعرفة، نور السّعي، نور الإدراك، نور الاكتشاف، نور الحياة في ذاتها. ولذا أفردَ كتّاب الملحمة ثلاثة ألواح كاملة لرحلة گلگامش الأخيرة من الظلمة إلى النور. تبدأ الرحلة مع بداية اللوح التاسع وتنتهي بنهاية اللوح الحادي عشر، اللوح الأخير الذي يختم الملحمة. أما اللوح الثاني عشر فليس جزءًا أصيلًا من الملحمة. ينغلق اللوح الحادي عشر مع عودة گلگامش إلى أوروك، حيث يتأمّل سورها العظيم، ويستذكر حكماءها السبعة الذي شيّدوا المدينة التي سُوِّرتْ بالآجرّ وبالمعرفة في آن. كان الآجرّ مُخصّصًا حصريًا للمعابد ولقصور الملوك، وكذا كانت المعرفة. أما الشيء الوحيد الذي يجمع مجد البناء ومجد المعرفة فهي الألواح التي نقلت إلينا روح الآجرّ ذاك من ملاحم وحكايات وميثولوجيا وشرائع. ينغلق اللوح الحادي عشر بعودة گلگامش إلى أوروك بعد أن انتهت رحلته، رحلة حياته، فتكتمل الدائرة التي بدأ منها اللوح الأول بالسطور ذاتها. من أوروك إلى أوروك، تلك كانت رحلة گلگامش الفعليّة بصرف النّظر عن قناع الخلود الذي ألهانا به الشُّرّاح.
تبدو الرحلة للوهلة الأولى قريبةً من رحلة مراحل الأسى أو المصائب: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، التقبُّل. إذ انطلق گلگامش في رحلته الأخيرة بعد إنكاره موت إنكيدو، ومن ثمّ غضبه بعد تأكُّد الموت، تلاه مساومة سيكولوجيّة مدهشة بين گلگامش وبين نفسه في حواريّات صامتة تومئ إليها الملحمة إيماءً، تلاها اكتئاب تضاعفَ بعد بلوغ إدراك حتميّة الموت، كلٍّ موت، وصولًا إلى تقبُّل مصيره بكونه بشرًا آخر بالرغم من ثلثيه الإلهيّين. ولكنّ المقارنة ليست دقيقةً تمامًا، لا بالنّسبة إلى گلگامش ولا بالنّسبة إلى أيّ بشريّ آخر، لأنّ تلك المراحل الخمس محض تقسيمٍ نظريٍّ لا (ولن) ينطبق بالضرورة على الجميع. ما من رحلة تشبه رحلةً أخرى، ولذا فإنّ گلگامش ليس أوذيسيوس وليس سندباد، كما تحاول الدراسات المقارنة أن تُقْنعنا. ثمّة تشابهات حتمًا، ولكنّ فرادة التجربة نابعةٌ من فرادة البشر. ما من بشريٍّ يشبه بشريًا آخر، وما من تجربة تشبه تجربة أخرى، وما من رحلة تشبه رحلة أخرى. لم يكن لأوذيسيوس أو سندباد رفيقٌ في رحلتهما، بينما كانت رحلة گلگامش مرتبطةً دومًا بإنكيدو. بل إنّ الملحمة كلّها – لو مضينا أكثر في تتبُّع القراءة المهرطقة – مرتبطةٌ بإنكيدو قبل گلگامش. وليس هذا محلّ التّفصيل في هذه النقطة التي أظنّ أنّها ستُغيِّر فهمنا للملحمة كلّها، لو كان التأويل صحيحًا. ولنبق في الرحلة التي قسمها كتّابُ الملحمة إلى أقسام ثلاثة في ألواح ثلاثة: القسم الأول (اللوح التاسع): تماهي گلگامش مع إنكيدو في حجّه في القفار إلى قمّتَيْ ماشو حيث تشرق الشّمس وتغرب؛ القسم الثاني (اللوح العاشر): لقاء سدوري، ومن ثمّ قطع «مياه الموت» إلى خارج نطاق الأرض المعروفة في حجٍّ إلى أوتناپشته؛ القسم الثالث (اللوح الحادي عشر): قصة الطوفان ورحلة العودة إلى أوروك. نجد في الأقسام الثلاثة جدليّةً دائمةً بين صراع گلگامش الداخليّ وبين تصريحات كلِّ مَنْ لاقاه بوجوب عيش الحياة الوجيزة قبل أن تنتهي. الفكر مقابل العيش، الأسى مقابل البهجة، الغيبيّات مقابل المحسوسات.
بعد تأكُّد گلگامش من موت إنكيدو قرَّر التوجّه إلى أوتناپشته كي يقهر الموت. يلفتنا أنّ گلگامش قبل موت إنكيدو كان قد بلغ أقصى درجةٍ يمكن لأيّ ملك بلوغها، ولم يعد ثمة ما هو أعظم منه إلا الآلهة أنفسهم، وهو شبه إله أصلًا. ولكنّ الانقلاب التام كان بعد موت إنكيدو حين تخلّى گلگامش عن هذه المكاسب كلّها ليتماهى مع أعظم شخصيّة عرفها، مع رفيقه إنكيدو بحيث تبدو رحلة گلگامش وكأنّها تتمّة لحياة إنكيدو التي لم يعشها، أو كأنّها تعويض لإنكيدو عن اغترابه الذي قاساه حين حُكم عليه بالموت في أوروك التي لم تقبله. هجرَ گلگامش العزّ والجبروت والرفاهية ليتحوّل إلى كائن شبه بشريّ بعد أن كان شبه إلهيّ. صار يقطع القفار مرتديًا جلد أسد، بحيث يتماهى مع رفيقه الذي كان ومع حياته التي ستكون. ملحمة گلگامش لعبة مرايا ودوائر؛ تنعكس المرايا وتدور الدوائر وتنقلب على الدوام. گلگامش الذي ورَّط إنكيدو في حياة المدنيّة خلعَ مدنيّته ليتورّط في حياة بريّة. غير أنّ الهويّة لا تعني التّماهي، لأنّ إنكيدو ابنٌ أصيل للحياة البريّة بينما گلگامش وافدٌ عليها. وبالمقابل، إنكيدو وافدٌ مغتربٌ في الحياة المدنيّة، بينما گلگامش ابنٌ أصيلٌ للحياة المدنيّة، بل إنّه – بمعنى من المعاني – هو الحياة المدنيّة في ذاتها. وبذا فإنّ جلد الأسد ليس إلا قناعًا هشًا لا يمكن أن يخفي الجوهر. هذا ما غابَ عن گلگامش ولكنّه لم يكن ليغيب عن الناس-العقارب وهم المخلوقات التي أُوكِلَ إليها مهمّة حماية ممر ماشو حيث تُشرق الشمس وتغرب. لا يمكن لنا أن نفهم استغراب الرجل-العقرب لوجود گلگامش في تلك المنطقة القصيّة إلا بكونه قد أدرك ماهيّة گلگامش التي ظنَّ الملك-الإله أنّ بوسعه تعميتها خلف قناع البريّة. «هذا الذي جاء إلينا جسده لحم الآلهة»، يقول الرجل-العقرب، فتصحّح له زوجته: «ثلثاه إله، وثلثه بشر». العبارتان ليستا متناقضتين كما تحاول التأويلات أن تُقْنعنا. صحيحٌ أنّ ردّ الزوجة يحمل من السخرية الأنثويّة اللاذعة ما يحمل حين أرادت تصحيح خطأ الزوج، ولكنّ القصد هو هو؛ القصد هنا هو أنّ الجسد لا يمكن أن يخفى بقشور الثياب بالرغم من الثلث البشريّ الذي يحكم على گلگامش بالفناء. هذه المنطقة القصيّة ليست للبشر حتّى لو تماهوا مع البريّة، بل هي أرضٌ حرامٌ حصريّة للآلهة وأشباه الآلهة. نكاد نفهم أنّ الناس-العقارب أرادوا مهاجمة گلگامش ولكنّ حوهره شبه الإلهيّ قد كبحهم وأثار سخريتهم في آن.
كلُّ ما تبقّى الآن بعد انكشاف الهويّة هو محاولة فهم التّماهي. ليس منبع الاستغراب وجود گلگامش هنا، أو تخفّيه العبثيّ في هويّة تُناقض هويّته، بل حالته. نجد عبارةً تتكرّر في الألواح الثلاثة، في مراحل الرحلة الثّلاث: «كوجه مسافرٍ قطع دربًا بعيدًا». ليس البعد هنا بعدًا مكانيًا فقط، بل دلالة سيكولوجيّة بمعنى الاغتراب. يولّد الاغتراب أسًى يشبه إرهاق المسافر الذي قطع مسافةً طويلة. نجد العبارة ذاتها على لسان الصيّاد الذي رأى إنكيدو للمرة الأولى. جوهر معنى العبارة هو ذاته ولكنّ الاغترابين مختلفان. اغتراب گلگامش عابرٌ، اغتراب غير مكتمل، بينما اغتراب إنكيدو اغتراب تام، اغتراب هويّة منذ خلقه إلى موته. وبما أنّ گلگامش ابن آلهة، يسمح له الناس-العقارب بدخول ممر الشمس الذي يُفضي إلى نهاية الأرض المتعارف عليها. تُشرق الشمس وتغرب في طرفَيْ العالم، وكلُّ ما بعدهما ليس في متناول البشر. الشمس هي الحدُّ الفاصل بين ما هو دنيويّ وما هو غيبيّ. وبهذا فإنّ الممر هو المنفذ الوحيد إلى العالم الذي جعلته الآلهة حرامًا على البشر. ولولا ثلثاه الإلهيّان، كان گلگامش سيهلك في الممر، ولكنّه سبق الشمس بمقدار طفيف فنجا، أو ربّما أنجته الآلهة كي يواسوه ويخفّفوا مصابه.
نجد في المرويّات الإسلاميّة أنّ رحلة الإسراء والمعراج (أو الرحلتين؛ إذ تشير بعض الروايات إلى أنّهما رحلتان منفصلتان) حدثت بعد وفاة أبي طالب وخديجة، أي بعد انهيار جدران الحماية الدنيويّة التي كان يستند النبيّ محمّد إليها. وحينما انهار أو شارَفَ على الانهيار، أتت المؤاساة الإلهيّة في رحلة فنتازيّة مذهلة تعبر الزمان والمكان، وتصل الأرض بالسماء، إلى عالمٍ لا يطاله البشر. تختلف الروايات في ما إذا كانت تلك الرحلة جسديّة أم روحيّة. ليس هذا مهمًا هنا. فالمهم هنا هي الرحلة في ذاتها، وهدف الرحلة الجوهريّ في ذاته: التّخفيف عن الكائن البشريّ الذي اصطفاه الله لرحلةٍ بعينها. كلُّ ما سيراه المسافران في هاتين الرحلتين (أكانت رؤية عينيّة أم رؤيا قلبيّة) سيكون رحلةً حصريّة إلى مكان لن يراه أحد مرةً أخرى (في تلك الدنيا على الأقل)، ولا حتّى المسافران. رحلةٌ حصريّةٌ لمرة واحدة فقط لن تتكرر، ولكنّها سترسم مسار الحياة القادمة بأكملها. رحلة إلى عالم فوق-دنيويّ، عالم فنتازيّ، عالم خوارقيّ، عالم قد يشبه عالم الدنيا من حيث أشياؤها، ولكنّه عالم مجاز. الأشجار التي تثمر جواهر، والكائنات الغرائبيّة، والأمكنة العجيبة تشبه أشياء الدنيا من حيث الشّكل، ولكنّها مجازات لها لأنّ مَنْ يعيش التجربة والرحلة بشريّان بحواس بشريّة قاصرة. الحديث عن الإسراء والمعراج يطول، وليس هذا محلّه، ولكنّ المقارنة صاعقة.
رحلة گلگامش رحلة دهشة لا تخبو. دهشة من المسافر ودهشة من سكّان ذلك العالم على السواء. دهشة گلگامش من وجود سدوري وحانتها هنا تُماثل دهشة سدوري من وجود گلگامش في ذلك العالم. ستسم هذه الدهشة المتبادلة مرحلتَيْ الرحلة المتبقّيتَيْن. دهشتنا نحن أيضًا تُماثل دهشة گلگامش. لمن هذه الحانة؟ وما سر وجود سدوري هنا؟ نفهم على نحو غير مباشر بأنّ تلك الحانة خاصة بالآلهة حصرًا، ولذا كان ردّ فعل سدوري الطبيعيّ هو النّفور والرعب. ولذا هربت إلى سطح الحانة لأنّها ظنّت أنّ گلگامش وحش، ولا مفرّ من الوحوش إلا عبر الهروب إلى سطح مرتفع تعجز الكائنات البريّة عن تسلّقه. ولكنّ الدهشة ستتضاعف حين تدرك سدوري أنّ گلگامش ليس وحشًا لأنّه هدّدها بالكلام. والتّهديد بالكلام خاص بالآلهة وبالبشر لا بالكائنات البريّة العجماء التي لا تنطق. اللغة نجاة بمعنى من المعاني حتّى بين مخلوقين يستغرب أحدهما الآخر ويدهش من وجوده ويخشاه. حينما أدركت سدوري وجود قاسمٍ مشترك بينهما، أشقفت على گلگامش، كما فعلتْ زوجة الرجل-العقرب، وكما ستفعل زوجة أوتناپشته، وكما فعلت جميع الشخصيّات الأنثويّة في الملحمة. الأنثى في ملحمة گلگامش عنصر نجاة، وحضن حنان.
حنان سدوري متداخلٌ مع جوهر مهمّتها في ذلك العالم. إذ تقوم سدوري في ذلك العالم مقام استراحة من الاستراحات التي يتوقّف عندها گلگامش في رحلته المرهقة. استراحة تُخفّف وطأة إرهاقه من جهة، وتدلّه على المرحلة التالية من جهة أخرى. لا يكون التّخفيف بالتّطمين فقط، بل بتبادل الكلام. فالكلام الذي كان منبع نجاة گلگامش ونجاة سدوري في آن، سيكون منبع سلوان لگلگامش حين يبوح بكلّ ما في داخله ليخفّف وطأة الأسى الذي يُطوِّقه خارجيًا وداخليًا. ولذا نجده يكرّر قصّته بحذافيرها عند كلّ استراحة من الاستراحات. يُعيد القصة ذاتها ليتخفّف من حمولته. وتنتهي مهمّة سدوري مع انتهاء البوح، فتَكِلُه إلى المرحلة التالية عند أور-شَنَبِ، رسول أوتناپشته إلى الدنيا. مع انتهاء مرحلة سدوري ودنوّ گلگامش من البحر ندرك أنّ حدود الدنيا قد انتهت تمامًا. فالرافديّون كانوا يرون الأرض قرصًا تُطوّقه المياه من جهاته كلّها. وكلُّ ما وراء المياه يقع خارج نطاق الأرض وخارج نطاق التفكير البشريّ. فالمياه، بمعنى ما، تفصل بين البشر وبين الآلهة. وبذا انتهت رحلة «إسراء» گلگامش لتبدأ رحلة «معراجه». باتَ عليه الآن قطع المياه ليصل إلى عالم أوتناپشته الذي اصطفته الآلهة وزوجتَه ليكونا البشريَّيْن الخالدَيْن الوحيدَيْن.
لا بدّ لرحلة المياه من ملّاح هو أور-شَنَبِ الذي يعمل ملّاحًا ورسولًا في آن. ولكنّ اندفاع گلگامش وطيشه المعتادَيْن سيُنهي مهمّة أور-شَنَبِ كليًا، بحيث تكون رحلة گلگامش الأخيرة هي رحلة أور-شَنَبِ الأخيرة أيضًا. حين يهجم گلگامش ليضرب أور-شنب سيكسر بطيشه وسيلة عبور مياه الموت. ماهيّة تلك الوسيلة ليست واضحةً تمامًا، ولدينا تأويلات عديدة بشأنها، ولكنّ المهم هنا هو أنّ گلگامش أضاع فرصة ترقّيه إلى مصاف الآلهة بيده. ليس البشر مُسيَّرين بالمطلق إذن، بل يمتلكون حريّة إرادة تُتيح لهم الخيار واستغلال الفرص، أو الإطاحة بها وتضييعها. يدا گلگامش اللتان ضيّعتا فرصة العبور ستكونان بذاتهما مفتاح عبوره ولكنْ بجهد أشدّ. فالبناء أصعب بما لا يُقاس من الهدم، وكذا فإنّ رحلة گلگامش، ورحلة البشر كلّهم بطبيعة الحال، رحلة سعي دائم لا يتوقّف. ولن يتخفّف هذا السّعي إلا عبر أمرين لا ثالث لهما: إما تدخُّل إلهيّ إنقاذيّ (ديوس إكس ماكينا) يمنحنا نهاية سعيدة؛ أو عبر ابتكارٍ بشريّ يُغيّر كلّ ما سيأتي بعده. وهذا الابتكار البشريّ سيكون مفتاح التطوّر الدائم للفرد وللحضارة على السواء. تمنح الملحمة گلگامش شرف اختراع الشّراع حين تقطّعت السُّبُل به وبأور-شنب في عرض البحر، بعد أن قطعا مياه الموت، حين يفرد گلگامش رداءه ليصبح شراعًا ويقف ليكون بمثابة صاريةٍ لمركب النّجاة ولمركب العبور من عالم إلى عالم. دهشة الابتكار هذه تتداخل مع دهشة أوتناپشته الذي يُنكِر مركبه، إذ يستغرب وجود بشرٍ فيه. فالبشريُّ الوحيد الذي يُسمَح له بقطع تلك المياه هو الملّاح-الرسول فقط.
سيكون هذا الشراع المُرْتَجَل مفتاحًا لعالمين في آن: مفتاحًا لحضارة نهريّة سيدفع بها الشّراع إلى مستويات تطوّر هائلة؛ ومفتاحًا لحياة گلگامش الجديدة التي خلع فيها إنكيدو حين خلع رداءه الذي كان يريد أن يتماهى معه به. ولكنْ لن يخلع گلگامش صاحبه خلعًا كاملًا إلا بعد استيقاظه من اختبار النوم الذي أدخله فيه أوتناپشته بعد أن قصَّ عليه حكاية الطوفان (التي لا يتّسع المجال هنا للتّفصيل فيها، وتحتاج إلى وقفة مستقلة)، وقبل أن يُرسله إلى دنياه من جديد. آثار إنكيدو تلك التي التصقت بگلگامش حتّى بعد خلع الرداء ستكون دليله إلى التراتبيّة التي كان غافلًا عنها حين كان ملكًا. يُقرِّع أوتناپشته گلگامش لأنّه يرتدي أسمالًا لا تليق به وبملوكيّته، ويشبّهه بعبيط القرية الذي لا يُميّز رداءً من رداء، وطعامًا من طعام. وكأنّ أوتناپشته يومئ إلى أنّ العقل شكلٌ وجوهرٌ في آن. ولكنّ إدراك گلگامش الذي تفتَّح بفعل تأثير إنكيدو الذي لم يتلاش بعد سيدفعه إلى الإمعان في التّفكير في التّفاوت الذي يسم دنيا البشر. احتقار گلگامش ومدينته لإنكيدو بسبب مظهره سينقلب الآن على گلگامش حين أصبح ضحيّة لهذا التّفاوت. بات گلگامش الآن يدرك أنّ البشر متشابهون برغم وجود التّفاوت المفروض من الآلهة. فأوتناپشته يشبه گلگامش تمامًا ولكنّه يتفوّق عليه بسبب نعمة الخلود التي وهبتها الآلهة لأوتناپشته فقط. تفاوت النِّعَم يعني بالضرورة وجود تراتبيّة سُلطويّة تُتيح لأوتناپشته اختبار گلگامش الذي كان يظنّ أنّه أعظم ملك وبشريّ في العالم. يُخفق گلگامش في الاختبار ولكنّه ربح التّجربة والرحلة. لن يبلغ گلگامش الخلود، ولن يحظى حتّى بالنّبتة التي تُجدِّد الشباب حين أضاعها بغفلته المعتادة. ولكنّه لن يندم كثيرًا على إضاعتها، إذ نراه قد استعاد هيبته وأَنَفته حين وصل إلى أوروك. لم يعد خالي الوفاض إلا لو قرأنا الملحمة بكونها سعيًا إلى الخلود الإلهيّ. ولكنّ الخلود نافلٌ أمام الحياة القادمة التي ستبدأ بتأمّل سور أوروك. عاد گلگامش بصديقٍ جديد هو أور-شنب الذي حُرِمَ من عمله مع الخالدين، حين فرض عليه أوتناپشته أن يتوه عن الساحل المُفضي إلى عالم الآلهة. بات الفصل تامًا الآن بين دنيا البشر ودنيا الآلهة، وصارت الدنيا بيد مَنْ طُردوا من الفردوس.