ينبغي في البداية أن ننوّه، أن مقالتنا هذه تتناول دَور ومهنية دُور النشر العراقية على وجه التحديد، مبتعدين تماماً عن توجيه النقد لدارٍ بعينها، أو للقائمين عليها، حتى لا نقع في سجالٍ وشخصنة ما نود طرحه وتبيانه وبالأخص: توثيق تلك المرحلة، وما هي مَهمّة الدار إزاء المنطقة التي تشغلها وتعمل بها، وظلال ذلك على المتلقي والمشهد المعرفي بعمومه، إضافة لذلك، لا نستثني أي دارٍ، إلا التي كانت تتحلى بالرصانة.
في السياق القانوني، والتجاري والاقتصادي، تعامل دار نشر الكتب على أنها شركة، نعم شركة، ذلك يتّضح بعملها، وهي مسؤولة عن صناعة سلعة، بمعزل عن نوعية المنتج، فالشركة، بطبيعة عملها، لها: فريق عمل بمختلف التخصصات المناطة بخلق آلية هدفها نجاح الشركة وديمومتها وتداول بضاعتها في السوق التي ترصدها تلك الشركة.
ما بعد عام 2010 تقريباً، بدأت سلعة الكتاب بالرواج والتعاطي في العراق، بدأ الشاب المتعطش للمعرفة، يقصد أسواق ومتاجر تلك البضاعة، وذلك بدأ يتصاعد تدريجياً، ومعه بدأت حركة إنشاء دور نشر، مَهمّتها، رفد القارئ بزاده وحاجته المعرفيتين. فكل من يعمل في بضاعة الكتب وكل من كان لديه بسطية مفترشة على رصيف، سعى وتبوّأ ليضع نفسه، مديراً وناشراً وصاحب دار نشر، من دون أي مهنيةٍ علمية وعملية تحتاجهما الدار الرصينة المعنية بخلق حوار يتداول الخطاب المعرفي بكل أصنافه، وإعلاء سلطة العقل على التقاليد والسُنن التي يصنعها المجتمع لترتقي ولتكون نظاماً وسياسة تتحكمان بمقدرات الشعب.
يفترض بشركة دار النشر، طالما أن عملها هو التداول المعرفي، أن يكون لديها فريق عمل، معنيٌّ بصناعة كتاب، يخدم ويغذي النقص العلمي والمعرفي، اللذين يحتاجهما الفرد العراقي. وذلك الفريق يبدأ بالخبير المتفحص لنقص الشارع من الخطاب العلمي والمعرفي، حتى تقوم الدار بمعية بضاعتها، بسد هذا النقص. ومن ثم المستشار ومَهمته إبداء رأيه المنطلق من علميته وسعة خبرته في ذلك المجال بما يخدم القارئ والدار، بشأن المشاريع المتقدمة من المؤلفين لطباعتها، بعد ذلك وظيفة التحرير، ولا أبالغ إن قلت بأن التحرير هو عمود دار النشر. تبقى مهمات أخرى مثل المدقق اللغوي والمخرج لهيئة الكتاب والمصمم، وسنقف عند ذلك، آملين أن نقول ولو نسبة من الصواب. لذا، ينبغي أن يكون للدار فريق كامل من الخبراء والمستشارين والمحررين، وليس نموذجاً واحداً لكل الحقول والتخصصات. إضافة لما ذكرناه، سنقف على تورط الدور وعلاقاتها مع أجندة سياسية وحزبية، وما عملت تلك العلاقة من تشويه وتخريب للنشاطات العلمية. فمن يدرك بعين مبصرة متفحصة، أننا لا نملك دار نشر حقيقية، ترقى إلى ما ذكرناه آنفا؟ إنما،هناك دكاكين تتراوح نسبة اقتصادياتها، بناء على ما ترصده وتتبناه، ولا تملك أي مقومات تؤهلها لتكون بمصاف دور النشر الرصينة. فكل من سوّلت نفسه له، خلع معطف الدور المتبضع منها-بعد أن كان صاحب بسطية-ليكون صاحب دار نشر، متجاوزاً كل الأعراف العلمية والقانونية، ذلك من أجل إرضاء الذات المجوّفة المتورّمة، وحتى تتخلص الدار وصاحبها من هوية البسطية، يسعى إلى ملء خاناته ببضاعة رديئة وسطحية ومتكررة، مثله مثل باقي الدكاكين المتحولة بلحظة خاطفة إلى دور نشر. وما يفترض أن تكون سياسة ونظام لكل دار تختلف عن باقي الدور، فهدفها، المنافسة العلمية لا ربحية، والأخيرة ستُقطف بما تنتجه الدار من تميز وتفرد، ولا أبالغ أو أتجنى إن قلت أن الدور هي نسخ مكررة لبعضها البعض في عملها وبضاعتها وذلك لمسناه عبر التجربة بتشابه المنتج الذي تطرحه تلك الدكاكين.
فريق عمل أي دار عراقية، هم أصدقاء صاحب الدار لا أكثر، وهؤلاء هم قرّاء لا أكثر، يتم انتخابهم فريقاً للدار بمعية الروابط الاجتماعية لا الرصانة العلمية. ما يعني أن البضاعة المطروحة، لم تأت نتيجة دراسة وتفحص لما ينقص النشاط العلمي، إنما ما تقترحه آراء الأصدقاء. وينبغي الانتباه أن نجاح المطروح بنفاده، ليس دليلاً على نجاح الدار، ولنقف هنا ونشرح بَصَرِية المنتج. إن ما يوجد من بضاعة في أغلب رفوف المكتبات والدور هو متشابه ومكرر، فذلك عمل على تثقيف وتلقين عين القارئ، فلا يجد غير تلك البضاعة المتشابهة، وذلك الفعل يحصل بالمعاودة والاستمرار، فانحصرت حاجة المتلقي وبضاعة الدكان بما هو موجود في السوق، فركود وتشابه البضاعة ثقّف المتلقي وعينه على تلك السلع فقط، لذا فإن نجاح المطروح، سببه أصحاب الدكاكين الذين رسخوا ونمّطوا العين والمتلقي، على بضاعتهم لا على ما يحتاجه النقص المعرفي. وأيضاً، أصبحت حاجة المتلقي ونقصه تعتمدان على ما هو موجود في السوق، بعد أن اعتاد على رؤية هذه البضائع، وربما هذا التبيان كافٍ لتوضيح نجاح الدار السلبي وظلاله الرجعي على العقل والعلم!.
إن مهنية الدار في استقبال المخطوطات المراد نشرها وترويجها تعتمد على حاشية صاحب الدار. فأصدقاء ناشر الكتب، يرفضون ما لا ينال استحسان مزاجيتهم، ويرحبون بما يستهوونه. فباتت بضاعة الدار، عمادها الصداقة لا المهنية في الكشف عن مضمون المخطوط، لذا، صارت أمزجة الجماعة تتحكم في عقول الآخر ومدى تطوره عبر قراءة الكتب. وهذه العملية أفرزت آلية تفكير مكررة وخلقت مستوى من التفكير لا يستطع المتلقي تخطيه، إنما مكبل بهضم وصرف ما هو متاح.
وطالما أننا أوضحنا هوية الدار بوصفها شركة، فهي مسؤولة بالدرجة الأساس عن توزيع بضاعتها، والعمل على توطيد وجودها في الأسواق والمكتبات، إما اتفاق أو وكالة أو عقد ينص على ما يتفقون عليه، ففي يافطة كل دار نشر، مكتوب: طباعة، نشر وتوزيع،إلا أن الدور العراقية، هي دكاكين للطباعة ومخازن لتكديس الكتب، ولا تملك أي دار خطة تسويقية ناجحة لرواج منتوجاتها إلا نادراً اًوالأخيرة، يحظى بها من تربطه علاقة حميدة بالناشر بطريقة أو بأخرى، فيعلو نجم كاتب ويهبط آخر بفضل الروابط الاجتماعية لا رصانة ما هو مكتوب، وتمظهرات ذلك، في أفول وانعزال الكاتب الجيد وانحساره مقابل سطوع وشعبية الكاتب السطحي، وهذه العملية وتراكماتها، أفسحت المجال لأشباه الكتّاب أن يتسيدون المشهد والتفرد بمكانة لا يستحقونها.
أما في الحديث عن جودة ومادة البضاعة، أي الورق ونوعيته وما إلى ذلك، فلا يخفى على المتلقي، أن كل الدور تدعي بخطابها محاربة الكتب، رديئة الجودة، المستنسخ وغير الشرعي والمسمى بمصطلح "الكوبي"، إلا أن كل من يعملون في هذا المجال، أصحاب طباعة الكتب المستنسخة، هم على علاقة جيدة مع كل دور النشر، بل أنهم يتبضعون منها بحجج واهية، وضيعة ولا تمت بصلة لأخلاق العمل المهني. فمن هو المسؤول الأول عن رواج البضاعة غير الشرعية والرديئة غير أصحاب الدكاكين؟ هم نفسهم من يحاربون رداءة المنتج والكوبي، يجنحون حتى في طباعة منشوراتهم إلى تلك الزوايا المظلمة، وغش واستغفال صاحب المخطوط والقارئ بمنتج وضيع، يتفكك من أول جلسة قراءة! فلا الخبز عرف طريق الخباز المحترف، ولا الخباز عرف الخبز الأجود.
"إنشاء دار نشر: تلك العبارة وما تحمله من خطاب، كافية أن تضع صاحب الدار في مقام علمي ومعرفي. إنما في الساحة العراقية أشك في جميع الدور في علاقاتها مع الأجندة السياسية والحزبية. وهذا شكي وكلامي ليس من فراغ، ويمكن لمن يريد تتبع ما نقوله، أن يبحث في مسيرة مدراء الدور وعلاقاتهم، بدءاً من تاريخ بعضهم المرتبط بحزب الدعوة، الحزب الذي نخر روح العراق العلمية والمعرفية، وارتباط بعضهم بالشخصيات السياسية، وتلك العلاقة فتحت المجال لحضور السياسي في قلب المشهد العلمي، وحتى كتّاب النظام المقبور، أقلام سلطة صدام الرخيصة، لم تتورع تلك الدكاكين عن استقبالهم. بل كما كانوا كتّابا للوحدة العربية الجوفاء، بدلوا جلودهم وأصبحوا المناضلين ضد النظام البائد! فأين موقفهم الحقيقي؟ ذاك أم هذا؟ وأكثر من ذلك، سعت الدور أن تكسب ود واستحسان المليشيات الشيعية، حتى تنأى بنفسها عن الخطر، بتقبيل يد الطاغية، وما من داعٍ أن نخوض بتلك التفصيلة، لنبين نتائجها. فبات من المتعارف والمتداول به، أن تجد الكاتب البعثي والدعوجي، يكتبان وينشران، بل لهم الحظوظ الأوفر في قلوب أصحاب الدكاكين، وما من انحطاط أخلاقي أكثر من ذلك، باستغفال المتلقي غير العارف بالأقلام وماضيها الرث.
ختاماً، ترفّعنا عن الكثير من تفاصيل وأساليب الدكاكين الرخيصة، وأخلاقياتها التي لا تمت بأي صلة لتلك المهنة الشريفة. وينبغي التنويه، أننا مع وجود دار نشر في كل مدينة وجامعة وكلية، ومع الدكاكين أيضاً إن توفّرت بها الرصانة والمهنية الحقة، والعمل النّزيه، والأخلاق العملية والعلمية، حتى لا تكون صورة كلمتنا هذه، هجمة ضد تواجد الأنشطة والمؤسسات المعرفية، متأملين أن تعمل تلك المؤسسات على ترميم نفسها، وخلق صورة علمية تساهم بالتقدم العلمي، ومحاربة التخلف، وإقصاء التبعية والأقلام المؤدلجة.