كنتُ دائماً أظن، يا صديقي العزيز، أنّ عشقك للإقليم الذي تنتمي إليه يدفعك للذهاب إليه كي تتمرن على الانفصال، والازدراء، والصمت. وكم فوجئتُ حين سمعتك تقول إنك تستعد لتأليف كتاب هناك! رأيتُ، على الفور، صورة شبح مستقبليّ ترتسم فيك: صورة الكاتب الذي سوف تَصِيْرَه. وكان رأيي أنّ (هذه خسارة أخرى). لقد منعك الحياء من سؤالي عن أسباب خيبتي، كذلك لم أجرؤ أنا على أن أقولها لك جهاراً. فتمتمتُ في سرّي دون توقف (خسارة أخرى. ها هو ذا إنسان آخر تدمّره موهبته).
حين تغوص في الجحيم الأدبي، ستتعرف فيه على الخُدع والسموم؛ وإذ تتملص من الواقع، لتغدو صورة كاريكاتورية لذاتك، لن تنجز غير تجارب شكليةٍ مداوِرة؛ وستتلاشى في الكلمة. ستصير الكتب محور محادثاتك الوحيد. أما الأدباء، فلن تجني منهم أية فائدة، ولكنك ستستنج هذا متأخراً، بعد ان تهدر أفضل سنوات عمرك في وسطٍ خالٍ من الكثافة والجوهر. الأديب؟ مفشي أسرارٍ يهين شقاءاته، يفضحها، يجترّها: منهجه: الوقاحة- التباهي بالخلفية الفكرية- والاستعراض. يتنطح بلا حياء لأي شكل من أشكال الموهبة. لا يتميز إلا بالعقم، يمحي مع امحاء سرّه، لأنه ينشره باستخفاف: الأحاسيس التي يعبّر عنها هي عذاب على سبيل السخرية، صفعة لإثارة الدعابة. فما من عمل مثمر أكثر من الاحتفاظ بالسر. لأنه يشتغل فيك، ينهشك، ويهددك. حتى لو كان الاعتراف موجَّهاً إلى الرب، فهو اعتداء على الذات، اعتداء على محركات وجودنا. إن الاضطرابات والفضائح والمخاوف، التي تود المعالجات الدينية أو الدنيوية تخليصنا منها، تشكّل ميراثاً ينبغي ألا نتنازل عنه بأي ثمن. علينا أن نحمي أنفسنا من مطبِّبينا، وأن نثابر على الهلاك، مدّخرين آلامنا وخطايانا. كرسيّ الاعتراف: انتهاكٌ لحُرمات وعيِنا يُقترف باسم الرب. وثمة انتهاك آخر هو التحليل النفسي! وعمّا قريب سيُنصب كرسي الاعتراف علمانياً وداعراً في زوايا الشوارع. فباستثناء بعض المجرمين، يأمل كل الناس في أن تكون لهم روح عمومية، روح كالملصق الإعلاني.
إن الأديب الذي جوَّفتْه غزارتُه، شبحٌ استهلك ظلَّه، ومع كل كلمة يكتبها يتضاءل. ولكن خيلاءه هو الميزة الوحيدة التي لا تنضب. لو كان هذا الخيلاء نفسياً، لكان له حدود: هي حدود الأنا. ولكنه خيلاء كوني أو شيطاني: يغمر الأديب. فيتسلط عليه عمله كوسواس: فلا يكف عن اختلاق الأوهام عنه، كأن ليس على كوكبنا ما يستحق الانتباه والفضول سواه. والويلُ لمن تبلغ به الصفاقة أو قلة اللباقة حدَّ محاورته في شيء آخر غير نتاجاته! ولعلّك تذكر أنني ألمحتُ ذات يوم، فور خروجنا من غَداءٍ أدبي، إلى الحاجة الملحّة لمجزرة سان بارتيلمي خاصة بالأدباء.
كان فولتير أول أديب يرفع فشلَه إلى مرتبة النهج والطريقة. قبله، كان الكاتب متواضعاً، سعيداً بوجوده على هامش الأحداث: يشق طريقه ويسير فيه، منجزاً مهمته ضمن نطاق ضيق. وما كان لأي صحفي أن يزعجه، لأن اهتمامه كان منصبّاً على الجانب الحكائي من هذه العزلات: لهذا كان تطفله غير مؤثّر.
لكن مع متشدّقنا تغيرت الأحوال. لم ينجُ أيٌّ من المواضيع التي كانت تثير اهتمام عصره من سخريته، ومعرفته السطحية، وميله إلى الصخب، وفظاظته الشاملة. كان يرى كل شيء دنساً، ما عدا أسلوبه... سطحي بعمق، معدوم الحساسية تجاه الباطني، تجاه الفائدة التي يقدمها واقعٌ ما من تلقاء نفسه، لقد دشَّن في الأدب عهد الثرثرة الإيديولوجية. وتوجّب عليه أن يحوّل هوسَه بالهذر وبالمذاهب، وحكمته الثرثارة، نموذجاً للأدب ومثالاً يُحتذى. لقد باح بكل مكنوناته، واستثمر ذاته إلى أن نفدت موارد طبيعته، لهذا لم يعد يزعجنا: فنحن نقرأه ثم نصرف النظر.
ليس تأليف الكتب مبتوتَ الصلة عن الخطيئة الأصلية. إذْ ما هو الكتاب إن لم يكن فقداناً للبراءة، اعتداءً، وتكراراً لسقطتنا؟ ينشر المرء عاهاتِه ليتسلّى أو ليستغفر! بربرية تجاه حميميَّتِنا، تدنيسٌ، ورجسٌ، وغواية. إنّ حديثي عن الكتب صادر عن خبرة. ويشفع لي على الأقل أني أكره أعمالي، أنني أنجزتها من دون أن أؤمن بها. أما أنت فأكثر نزاهةً: تكتب الكتب وتصدّقها، تؤمن بواقعية الكلمات، بهذه الخيالات الصبيانية أو السفيهة. وإذ يبدو لي القرف العميق قصاصاً من كل ما هو أدبٌ، سأحاول أن أنسى حياتي بالخوف من الإسهاب في الحديث عنها، أو أن أحكم على نفسي- لعجزي عن التبصر المطلَق- بالعبث الكئيب. لكنّ بقايا الغريزة ترغمني على التشبث بالكلمات. فالصمت لا يطاق: وما من قوة إلا ونستعين بها كي نتمكن من الإيجاز البليغ! وأهون علينا أن تستغني عن الخبز من أن نتخلى عن الكلمة. لكن المؤسف أن الكلمة تنحدر نحو الكلام الفارغ، نحو الأدب. حتى لو وتَّرَتْها الفكرةُ، فهي دائماً متأهبة للتدفق والتضخّم. أما إيقافها بنقطةٍ، وتقليصها إلى حكمةٍ أو طرفة، فهو اعتراض لانسيابِها، لحركتها الطبيعية، لاندفاعها نحو الإفاضة والنموّ.
إن الضجَر يُذلُّ الفكر، يجعله سطحياً متهافتاً، يتأكّله من الداخل ويصدّعه. فإذا استحوذ عليك مرةً، فسيلازمك في كل بادرة، مثلما لازمني منذ زمن أبعد مما أذكر. بل إني لا أعرف لحظةً بارحني فيها، فهو بجانبي، في الهواء، في كلماتي وفي كلمات الآخرين، على وجهي وعلى كل الوجوه. إنه قناع وجوهر، خدعةٌ وواقع. لولاه ما استطعتُ أن أتخيل نفسي حياً أو ميتاً. لقد جعل مني خطيباً خجِلا من الفصاحة، منظِّراً للبلهاء والمراهقين، لضعفاء الإرادة، وللإياسات الميتافيزيقية، بقيّةً من مخلوق، دميةً مهلوِسة. إن العدم الذي اضطررت للانفصال عنه، ينخر على الدوام كياني، ويبقي لي منه نُتفاً تلزمها مادةٌ ما كي تقوى على الحركة... الضجر: عدمٌ فعّال، يخرّب العقول ويحيلها ركاماً من مفاهيم مهشَّمة. يمنع أية فكرة من الارتباط بفكرة أخرى، فيعزلها ويسحقها، إلى أن تتردى فعالية الفكر إلى سلسلة لحظاتٍ متقطعة. أما آثار خطاه فهي مِزَقٌ من المفاهيم والعواطف والأحاسيس. سيخلق من قدّيس غاوياً، ومن هرقلٍ خرقةً. إنه مرضٌ يمتد إلى ما هو أبعد من المدى، ولا بدّ لك من أن تفرّ منه، إلا إذا كنت عازماً على ألّا تنتج إلا مشاريع تافهة، كتلك التي أنجزتُها أنا حين دفعني الضجر للنقمة. فحلمتُ آنذاك بفكرة كالحمض تتسرب إلى الأشياء فتفسدها وتثقبها وتخترقها، حلمت بكتابٍ ستلغي مقاطعُه، حين تنقضّ على الورق، الأدبَ والقرّاءَ، بكتابٍ هو للحروف مهرجانٌ ويومُ قيامة، إنذارٌ نهائي للكلمة الفاسدة.
لم أتبيّن معنى طموحك للشهرة في عصر التبعيّة القسرية. ثمة مقارنة تفرض نفسها: لقد كان لنابليون أندادٌ يضاهونه على المستوى الفلسفي والأدبي: هيغل بصرامةِ مذهبه، بايرون ببذاءته، وغوته بسخافته غير المسبوقة. أما في أيامنا هذه، فمن العبث أن نبحث عن نظائر أدبية لمغامري القرن وطغاته. ولئن كنا قد أظهرنا، في الميدان السياسي، في ميدان الفكر المختلج الذي يسوده مَن قُدِّرَتْ عليهم الخِسّة، عَتَهاً غريباً لم نعهده؛ فليس ثمة فاتحٌ في الأدب: بل مجرد مسوخٍ، ومُهَسْتِرِين، وحالات مرضيّة. لم نكتب، وأخشى من أننا لن نكتب، عملاً بمستوى سقوطنا، عملاً عن دون كيشوت في الجحيم. كلما اتّسع الزمن، ضاق الأدب. وسنتبارى كأقزام في اجتراح المعجزة.
جليٌّ تماماً أنه سيتوجب علينا، لإنعاشِ أوهامنا الجمالية، أن نتقشف عدة قرون، أن نجرّب الخرَس، أن نحيا حقبةً من اللا-أدب. أما الآن فليس لنا إلا أن نُفسد كل الأنواع، أن ندفعها نحو الأقاصي التي تلغيها، وأن نُهلك كلَّ ما تمّ خلقُهُ بشكل مدهش. لو وضعنا نصب أعيننا هاجسَ اكتمال هذا المشروع، فلربما سننجح في ابتكار نمطٍ جديد من هدم النفائس.
لأننا موضَّعون خارج الأسلوب، عاجزون عن تنغيم هزائمنا، انقطعت صلتنا باليونان: كفّت عن ان تَكون نقطةَ استدلالِنا، أو حنيننا، أو نداماتِنا؛ لقد انطفأت فينا، مثلما انطفأ عصر النهضة. كان القرن التاسع عشر، بدءاً من هولدرلين وكيتس وانتهاءً بوالتر باتر، يتقن النضال ضد عتماته ويقاومها بصورة عن عصرٍ قديم مدهش، ويعالجها بالضوء، بالفردوس. إنه فردوس مختلَق، طبعاً. لكن المهم أن المرء كان يصبو إليه، ويتخذه وسيلةً لمكافحة الحداثة وشراستها. كان في مقدوره أن ينذر نفسه لعصر آخر، وأن يَرسخ فيه بأسىً عنيف. كان الماضي لا يزال شغَّالاً.
أما نحن فلم يعد لنا ماضٍ، او بالأحرى لم يعد شيءٌ من الماضي يخصّنا، لم يعد لنا وطن مفضَّل، أو سلامٌ كاذب، أو ملجأٌ في الكمال. آفاقُنا؟ من المستحيل كشفُها. نحن برابرة بلا مستقبل. نرسم، بتعبيرٍ لا يرقى إلى مستوى الأحداث، واحداً من أكثر المَشاهد إيلاماً، نفبرك الكتب ونتفاخر بها: أية ضرورة تدفع كاتباً ألَّف خمسين مجلّداً لكتابة مجلد آخر؟ ما جدوى هذه الوفرة؟ هذا الخوف من النسيان، هذا الغنج القبيح؟ ما أجدره بالشفقة هذا الأديب المثابر، عبْدُ القلم وسجينُه المحكوم بالأشغال الشاقة. وعلى أية حال، لم يتبقّ شيء يمكن بناؤه، لا بالأدب ولا بالفلسفة. وحدهم الذين يعتاشون منهما، مادياً بالطبع، ملزَمون بالتفرغ لهما. إننا ندخل عصر الأشكال المحطَّمة، والإبداعات المتمردة. وبإمكان أيٍّ كان أن يحقق فيه النجاح. ومن العسير عليَّ أن أتوقع. فالبربرية سهلة المنال لأي شخص: يكفي أن يستطيبها. وها نحن نحث الخطى لنقضِ بُنيانِ القرون.
أما كيف سيكون كتابُك، فلا أخاله إلا إفراطاً. إنك تحيا في إقليم: تجهل، لعجزك عن الفساد، ولصفاء سريرتك، ما أصاب كلَّ" العواطف" من اهتراء. إن الدراما الباطنية تُلامس نهايتَها. فكيف تجازف إذن بكتابة عملٍ انطلاقاً من " الروح"، من لانهايةٍ سابقةٍ للتاريخ؟
ثم إنه لا بدّ من نبرة. وأخشى أن تكون نبرتك من النوع" النبيل"، " المطمئنّ"، الملوَّث بالرهافة أو الدقة أو الأناقة. بفصيح العبارة إنّ على الكتاب أن يخاطب لا وطنيَّتنا، وفرديّتنا، ودناءاتنا السامية، وإن الكاتب" الإنساني" الذي ينذر نفسه للأفكار المتّفَق عليها، يوقّع بنفسه شهادة وفاته الأدبية.
تمعَّنْ في العقول التي نجحت في إثارة اهتمامنا: فهي من دون أن تبالي بشيء، دافعتْ عن مواقف يتعذر الدفاع عنها. ولئن كانت هذه العقول حية، فبفضل قصر نظرها، وشغفها بالسفسطات: إن استسلامها" للمنطق" يخيّب أملَنا ويغيظنا. فالحكمة شؤمٌ على العبقرية، قاتلة للموهبة. ولسوف تتفهم، يا صديقي، سبب خشيتي من أن تتورط في الصنف" النبيل" من الأدب.
لكي تضفي على نفسك مَظهراً بنّاءً، كانت تختبئ فيه نبرةٌ من التعالي، لمتَني مراراً على ما تسمّيه" شهوة الهدم". اعلمْ أنني لا أهدم شيئاً: إنني أدوّن، أدوّن الوشيكَ، اللهفةَ إلى عالمٍ يتفسخ، ويجري فوق أنقاض بداهاتِه نحو الغرابة والاتساع اللانهائي، نحو أسلوبٍ تشنُّجيّ. أعرفُ عجوزاً مجنونة، تُمضي أيامها ولياليها وهي ترتقب بين لحظة وأخرى انهيارَ بيتِها، حائمة في غرفتها، مستحمّةً في جَرَيْن، مترصدةً الفرقعاتِ، مغتاظة من أنّ" الحادث" تأخَّر عن الاكتمال. على نطاقٍ أوسع، يبدو سلوكنا مماثلاً لسلوك هذه العجوز. إننا نتَّكلُ على انهيارٍ ما، حتى لو لم يخطر ببالنا. إن الخوف من أنفسنا، الناتج عن خوفٍ جماعيّ، سيشكل أساسَ التربية، ومبدأ الإيديولوجيات المستقبلية. إنني أؤمن بمستقبل مرعب، أما أنت يا صديقي العزيز فلست مؤهلاً لهذا باعتبارك تتهيأ لاقتحام عالم الأدب. ولا يعنيني أبداً أن أثنيك عن هذا المسعى؛ بيد أني أحب على الأقل أن تنجزه متحرراً من الوهم. هدّئ الكاتبَ المتلهف في داخلك، وسِّعْ ملاحظة القديس جان كليماك واجعلها ملاحظتَك:" لا ينال الراهبُ تيجانَ المجد إلّا بفتور الهمّة". صحيح أنني، بعدما فكرتُ في هذه الملاحظة مليّاً، قوّضتُ بعض قناعاتي، ولكن هذا الأمر تمَّ، بعكس ما تظنّ، على حسابي دائماً. إنني لا أهدم، بل أنهدم. كرهتُ نفسي في كل ما أكره، تخيلت معجزات عن الفناء، زعزعت أوقاتي، وبلَوْتُ مَواتَ الذهن. وسواءٌ أكانت الشكوكية في البداية أداةً أم طريقة، فقد انتهى الأمر بها إلى أن تقيم في داخلي، وتغدو فيزيولوجيتي، وقدَرَ جسدي، ومبدأي الحشويّ، والألمَ الذي لم أعد أعرف كيف يشفى أو يَبيد. والحقُّ أنني أجنح إلى قضايا ليس لها حظٌّ في النجاح أو النجاة. ولعلّك تتفهم الآن سبب انشغالي الدائم بالغرب. كان يبدو لك هذا الاهتمام سخيفاً أو مجانياً، وكنت تلفت انتباهي بقولك:" الغرب، إنك حتى لم تتخذه خصماً". أهو ذنبي أنّ نَهَمي إلى الحزن لم يَجد موضوعاً آخر؟ وهل سأعثر في مكان آخر على ما يماثل عناده في العزم على الانكفاء؟ إني أحسده على مهارته في إتقان الموت. وحين أرغب في تنشيط خيباتي، أوجِّهُ فكري إلى هذه المسألة الزاخرة بغنىً سلبيٍّ لا ينفد. حين أتصفح تاريخ فرنسا أو إنجلترا أو إسبانيا أو ألمانيا، يمنحني التباينُ بين ما كانت عليه وما صارت إليه الزهوَ، إلى حد الدّوار، بكوني اكتشفت أخيراً حقائق الغروب.
لست راغباً في أن أُفسد آمالك: ستتولى الحياةُ هذه المهمّة. وستمضي أنت، مثل كل الناس، من سقوط إلى سقوط. حين كنتُ في مثل عمرك، حظيت بميزة التعرف على أناسٍ أفقدوني البراءة، وجعلوني أتضرج خجلاً من أوهامي، فهذّبوني. ولولاهم، أكانت لي الشجاعة على مواجهة السنين أو مكابدتها؟ حين التزمتُ مراراتِهم، هيأتُ نفسي لمراراتي. كانوا ينطلقون، مزوَّدين بطموحٍ عظيم، للفوز بمجدٍ أجهله. وكان الفشل لهم بالمرصاد. أهي الرهافة، أم النباهة، أم التَنْبَلة؟ ليس في مقدوري أن احدد بدقةٍ الفضيلةَ التي أعاقت مشاريعهم. إنهم ينتمون إلى ذلك الصنف من الأشخاص الذي نصادفه في العواصم، يعيشون بالتحايل، يسعون دائماً إلى مكانة ثم يرفضونها حالَما يحظون بها. وقد استقيتُ من أحاديثهم إرشاداتٍ لم أجد مثلها في بقية مخالطاتي. كلهم تقريباً كانوا يضمرون كتاباً، كتابَ عثراتهم؛ إذ يغويهم شيطان الأدب، ولكنهم لا يستجيبون له، وبقدر ما تقهرهم إخفاقاتهم، تُفعم حياتَهم. وهم يسمَّون عموماً بـ" الفاشلين". إنهم يشكلون نمطاً إنسانياً مستقلاً سأحاول أن أصفه لك مجازفاً بالتبسيط. هو شهوانيُّ الخيبة، يبحث في كل مسعى عن نقصانه الخاص، لا يتخطى أبداً مقدّماتِ نجاحه، ولا ينعتق من عتبة أي مشروع. منافساً بالخمول الملائكةَ، يمعن التفكير في خفايا العمل، ثم لا يقوم إلا بمبادرة واحدة: أن يتخلى عنه. إيمانه، إنْ كان له إيمان، يمدّه بذريعة لاستسلام جديد، لتقهقرٍ مأمول ومشتهى: أن يسترخي في كنف الربّ... أتراه يتأمل في" السر المكنون"؟ إذا فعَلَ فلكي يتطلع إلى أسرار أخرى حتى يجد ما يلقي عليه فشله. إنه يَسكن في طمأنيناته سَكَنَ الدودةِ في الثمرة؛ يسقط معها، ولا يعاود الوقوف إلا ليؤلّبَ على ذاته ما تبقّى له من أحزان. ولئن خَنَقَ مواهبَه، فلأنه يعشق كسلَه بكل ما أوتي من قوة؛ إنه يتقدم نحو ماضيه مدفوعاً بمواهبه.
سيفاجئك أن تعلم أن سبب سلوكه هذا هو أنه اتخذ موقفاً يبدو لأعدائه شديد الغرابة. ولأوضِحْ قولي. حين نتمتع بالقدرة على التأثير، فإننا نعلم أن أعداءنا لا يستطيعون منع أنفسهم من إحلالنا في مركز اهتمامهم وانشغالهم. يؤْثِروننا على أنفسهم ويولوننا عناية خاصة. ونحن بدورنا ننشغل بهم، بالسهر على عافيتهم، وعلى حقدهم، فهو الوحيد الذي يتيح لنا الاحتفاظَ ببعض الأوهام عن أنفسنا. إنهم ينقذوننا، ينتمون إلينا، إنهم لنا. أما الأقرباء، فإن الفاشل يقاومهم بطريقة مختلفة. ولأنه لا يعرف كيف يحافظ عليهم، ينتهي به الأمر إلى صرف النظر والتقليل من شأنهم، والكفّ عن الاهتمام بهم جديّاً. وهذا انفصالٌ وخيم العواقب. عبثاً سيحاول بعد فوات الأوان أن يطاردهم بإلحاح، أن يوقظ فيهم أدنى فضولٍ تجاهه، أن يثير تطفّلَهم أو غيظهم. وبلا طائل أيضاً سيكون سعيه لاستدرار شفقتهم، او تأجيج حقدهم. ولكي لا يناقض ما رضيَ به، سينزوي منعزلاً وعقيماً. العزلة والعقم هما ما أقدّره عالياً في هؤلاء المهزومين، المسؤولين– وها أنا أكررها لك– عن تهذيبي. فمن بين الآخرين، هم الذين كشفوا لي الترّهات الملازمة لعبادة الحقيقة... ولن أنسى أبداً الراحة التي أحسستُ بها منذ أن كفّت الحقيقة عن أن تكون قضيتي. بارعاً في كل الضلالات، استطعت أخيراً أن أستكشف عالَماً من المظاهر، من ألغازٍ خفيفة. لم يبق لي شيء أتّبعه، حسبي اتّباعُ العدم. الحقيقة؟ هوس المراهقين، او أحد أعراض الشيخوخة. لكنني، ببقيةٍ من الحنين أو بنزوع إلى العبودية، ما زلت أبحث عنها بانعدام وعيٍ، بغباء. وتكفي لحظة انتباهٍ واحدة كي أعاود الخضوع لسلطان الأحكام المسبَقة الأقدم والأرخص.
إني أدمّر نفسي، وهذا مرادي؛ مرتقباً في هذا المناخ الرَّبْويّ الذي تبثّه الطمأنينات، في عالمٍ خانق، أن أتنفس، أن أتنفس على طريقتي. ومن يدري؟ قد تعرف أنت يوماً ما، هذه المتعةَ الناشئة من الطموح إلى فكرة واجتذابها، ورؤيتها راقدةً قربك، ثم الشروع في فحصها من جديد بمقياس فكرة أخرى، بمقياس كل الأفكار؛ هذه الرغبةَ في أن تنكبّ على كائنٍ، فتَحرفه عن شهواته العتيقة، وخطاياه القديمة، لتَعرض عليه شهواتٍ وخطايا جديدة، أدهى وأمَرَّ، إلى أن يَهلك فيها؛ متعةَ هياجِك ضد عصرٍ ما أو حضارة ما، متعةَ ارتمائك فوق الزمن لتَسُوْمَ لحظاتِه أشدَّ العذاب؛ متعةَ أن ترتدَّ فوراً ضد ذاتك، لتنكّلَ بذكرياتك ومطامحك، وتُنْتِنَ الهواءَ، مبيداً أنفاسك، كيما يكون اختناقك كاملاً...، ربما ستعرف يوماً ما هذا الشكل من الحرية، هذا النمط من التنفس الذي هو خلاص من الذات ومن كل شيء. حينها ستَقدر على الالتزام بأي شيء من دون أن تلتصق به.
كان غرضي أن أحذّرك من الرصانة، من هذه الخطيئة التي لا تُغتفر. وكنت أودّ أن أقترح عليك، بدلاً منها، العبثَ. – لكن لماذا نتحدث عنه؟ - العبث هو أصعب شيء في العالم، وأرى أن العبث واعٍ، خبير، عنيد. وكنت آمل منه ان يوصلني إلى ممارسة الشكوكية. ولكن هذه الأخيرة تتكيف مع حالتنا، تتّبع عثراتِنا وأهواءنا، بل وحماقاتنا؛ تتشَخْصَن.( لكل مزاجٍ شكوكيّتُه الخاصة). وهي تنمو من كل ما يؤكدها أو يقاومها؛ إنها شرٌّ يستبطن شرّاً آخر، وسواسٌ ضِمن الوسواس. إذا صلّيتَ، ترقى الشكوكية إلى مستوى صَلاتك، أما هذيانك فستراقبه لتتقن تقليده، وأثناء نوبة الدُّوار سينتابك الشكّ بصورة مدوِّخة. هكذا فإن إلغاء الرصانة هدفٌ لن تحققه حتى الشكوكية، بل، وأسفاه!، ولا الشعر. كلما تقدَّم بي العمر، تنبّهت إلى أنني بالغت في تقدير الشعر. لقد عشقتُه على حساب عافيتي؛ وعبدته راجياً أن أموت به. الشعر: هذه الكلمة التي بها وحدها كنت منذ عهد قريب أتخيل ألفَ دنيا، لم تعد توقظ فيَّ إلا رؤيا عن المُواء والهباء، عن الأسرار العفنة والفذلكات. ولا بد من أن أضيف أنني جنيت على نفسي حين عاشرت عدداً كبيراً من الشعراء. فقد كانوا، باستثناء قلّة منهم، وقورين بلا جدوى، متبجحين أو ممقوتين، أما المتخصصون منهم فمسوخ، وكلهم في آن واحد جلّادو التشبيهِ وشهداؤه، ولقد بالغت في امتداح انفعاليتهم وبصيرتهم وحساسيتهم تجاه المغامرة العقلية. تُرى هل سيؤوْل العبث إلى مجرَّدِ" مثلٍ أعلى"؟ هذا ما ينبغي أن أخشى منه، وهذا ما لن أستسلم له. كلما اكتشفتُ فجأة أنني أُوْلي الأمور أهميّةً، جَرّمتُ عقلي وحذرت منه واتهمته بالعجز والانحلال. أحاول أن أنفصل عن كل شيء، وأن أعتاد على التمزق؛ لأن شرط العبث أن نجتثّ جذورنا، وأن نغترب ميتافيزيقياً.
بغية تبرير ارتباطاتك، ومتلهفاً لحمل أعبائها، حاججتني ذات يوم بأنه كان يسيراً عليَّ أن أَحوم وأجول في المبهَم، إذ أنني متحرر من الأثقال لأني متحدّر من بلدٍ لا تاريخ له. الواقع ياصديقي أني أُدرك ميزة الانتماء إلى بلد ضئيل الشأن، والعيش من دون خلفية، بطلاقةِ مهرج أو معتوه أو قديس، أو كما تنسلخ هذه الأفعى، ملتفّةً على نفسها، ممتنعة عن الغذاء سنين عديدة كأنها إله الجوع، مضمِرةً طيَّ بَلادتِها الناعمة ناراً مستعرة.
حين لم يُثقل علي أي موروث، حرصتُ على العناية بهذا الانسلاخ الغريب عن الوطن الذي سيصير عمّا قريب مصيرَ الجميع. سنخضع، طوعاً أو قسراً، لتجربة كسوف تاريخي، ولمشيئة الفوضى. آنذاك سنَبلغ قمة ابتعادنا عن أنفسنا فنفنى. لكي ننكر أنفسنا مراراً وتكراراً، أضاع فكرنا محوره، ليتبدّد في هيئات، في تحولات باطلة وقاهرة. ولهذا اتسم سلوكنا بالفحش والطيش. وبهما ينطبع جحودنا وإيماننا.
إن التطاول على الإله، والرغبة في عصيانه، والحلول محلَّه، هو عمل ينمّ عن انحراف، صنيعة حسودٍ يطيب له التباهي بالمشاجرات مع خصمٍ وحيد غامض. أيّاً كان شكل الإلحاد، فهو يدل على قلة اللياقة، شأنه شان التعصب الديني وإن كانت الأسباب متعاكسة؛ ألا تتساوى في هذه النقطة الفظاظةُ مع الرحمة المخادعة، والزندقةُ مع الاستماتة في الدفاع عن الإله وتأكيد خلوده بأي ثمن؟ غالباً ما يكون حبّنا للإله أو كرهنا له برهاناً على فظاظة وقاحتنا لا على رقيِّ اضطراباتنا.
تلك طبيعة الأمور، ولسنا مسؤولين عنها إلا جزئياً. من تيرتوليان إلى كيركيغارد، وبسبب التضخيم السخيف للإيمان، نشأ في المسيحية تيار فرعي أثبت بوضوح أنه قد تفوق على الكنيسة. هل ثمة مؤمن لا يحسب نفسه، في نوبات الصحو، عبداً أحمق؟ ولا بد أن الربّ عانى من جراء هذا. ففي الماضي عزونا إليه فضائلنا؛ ولم نجرؤ على أن ننسب له رذائلنا. وبعد أن أنْسَنّاه، ها هو الآن يشبهنا: فلا يستغرب أي عيب من عيوبنا. ولم يستطع تحرير اللاهوت و الرغبة في تجسيم الإله أن يندفعا بعيداً. لأن هذا التحديث للسماء أعلن نهايتها. وأنى لنا أن نجلَّ ربّاً مطَوَّراً، على الموضة؟ سيشق عليه، للأسف، أن يسترد عما قريب عظمته اللامتناهية.
يمكنك أن تعارضني قائلاً:" حذار من قلة اللياقة. فأنت لا تشَهِّرُ بالإلحاد إلا لتتقرب منه بشكل أفضل". إنني أحمل على كياني ندوباً من عصري: لا أستطيع أن أدع الإله وشأنه؛ فتراني حين أصحب الأدعياء، أتسلى بالهذْر أن الإله مات، كما لو كان لهذا القول معنى. ذلك أننا نظن أننا بالسفاهة نتخلص من عزلاتنا، ومن الطيف الأسمى الذي يَسكنها. والواقع أنها تتضاعف، فيصير عملها الوحيد أن تقرّبنا ممن يقيم فيها أبداً.
حين يغزوني العدم، وأُصابُ، وفق تعبيرٍ شرقيّ، بـ" خواءِ الفراغ"، أُنيب إلى الله ذاهلاً، ولا مراد لي غير أن أطأ شكوكي، وأنقُضَ نفسي، وأضاعف قشعريراتي، ملتمساً منه ما يقويني. إن تجربة الفراغ هي الإغواء الصوفي للجاحد، استعدادُه للصلاة، ولحظةُ فيضِه. حين نبلغ أقصانا، يبزغ إله، أو يحل محله شيء ما.
لقد ابتعدنا عن الأدب: ابتعاداً ظاهرياً فقط. فما هو إلا كلمات، إلا خطايا لفظية. وها أنا بعد أن أسهبتُ في نصحك عن مزايا الشكوكية: أحوْم حول المطلَق. أهي تقنية التناقض؟ تذَكّرْ كلمة فلوبير:" أنا متصوف ولا أؤمن بشيء"، إني أرى فيها حكمة عن زماننا، هذا الزمان الكثيف بشكل لامتناهٍ، والخالي من الجوهر.
ليس معاصراً إلا محترِف الهرطقة، طريد القدر، قَيْءُ السُّنَنِ( الأرتوذكسيات) وهَلَعُها في آن واحد. كنا، منذ عهد قريب، نُعرَّف بالقيم التي نوافق على الالتزام بها، أما اليوم فبالقيم التي ننبذها. لأن الإنسان، من دون أبَّهةِ الإنكار،" مخلوق" بائس مثير للشفقة، عاجز عن إتمام قدَرِه كرأسماليّ متدهور، كعاشق للانهيار. الحكمة؟ ما من عصر أفلت من أسرها أكثر من عصرنا، أي أن الإنسان لم يكن أبداً ذاتَه كما هو حاله الآن: كائناً متمرداً على الحكمة. وحين أبِقَ من علم الحيوان، صار حيواناً ضالّاً، يثور ضد الطبيعة كما يثور الهرطقي ضد التقليد. صار إذن إنساناً من الدرجة الثانية. كل بدعةٍ هي حقيقته. شغفُه: أن يعثر على نفسه في أصلِ ومنطلَقِ أي شيء. بل إنه وضيعٌ يأمل في أن يعرّف الآخرين بآثارِ ذلِّه، ويعتقد أن ثمة نظاماً دينياً او فلسفياً أو سياسياً يستحق عناءَ أن يحطَّم أو يجدَّد: والواقع أن كل ما يرجوه هو أن يكون في مركزِ تمزُّقٍ ما. ومن شدة مقتِه اتّزانَ المؤسسات وفتورَها، يدفعها بقوة كي يعجِّل في نهايتها.
أما الحكيم فمُعادٍ للجديد. وهذه هي طريقته في الاحتجاج: أن يعتزل متقززاً. وإذ يتفاخر بأن انعزاله ثباتٌ على السراط، يتّضح له أنه تقهقُر. فما حيلته؟ أن يقهر اعتراضاته أو يُضْعفها. فإذا نجح في هذا، أثبت أنها كانت تفتقر إلى الصلابة، وأنه كان قد تغلب عليها من قبل أن يجابهها. صحيح أن الغريزة تضعفه، ولكن أيسر عليه ان يكون سيّدَ نفسه من أن يطوَّب قديساً ذا رصانة فقيرة الدم.
في اللحظات القليلة التي ننقم فيها على أنفسنا، نكتشف أن ليس لنا طاقة على كبح تناقضاتنا أو إخمادها أو إخفائها. فهي تقودنا، وتحرضنا، وتقتلنا. أما الحكيم، فبتساميه فوق هذه التناقضات، يَقنع بها ولا يعاني منها، ولا يجني فائدة من الموت: إنه، وهو حيٌّ، نصف ميت. لقد كان، في عصور أخرى، قدوة. ولكننا لا نراه إلا فضالةَ البيولوجيا، وشذوذاً خالياً من المفاتن.
قد يخطر ببالك، بل الأكيد أنه خطر ببالك، أن تقول لي: إنك تشنّع على الحكمة، لأنك عاجز عن بلوغها، لأنها «محرَّمة» عليك. ما جدوى ان أجيبك بأنه فات أوانُ أنْ يكون المرء حكيماً، وأن لا فائدة من هذا بأية حال، إذا لم نفطن إلى أننا جميعاً، حكماءَ كنا أو مجانين، ستلتهمنا الهاوية ذاتها. فضلاً عن ذلك، أُقرّ أنّ من الحكمة ألّا أصير حكيماً البتّة... كل صيغة للسلام تفعل فيَّ فِعلَ السمّ: تقهرني، تُضاعِفُ مشقّاتي، تُفاقِمّ صِلاتي بالآخرين، تنكأ جراحي، وبدَلَ أن تمارس على أيامي البائسة فضيلةً شافية، تلعب فيها دوراً مشؤوماً. نعم، كل حكمة تفعل فيَّ فِعلَ السمّ. لا ريب أنك تظن أنني سايرت هذا العصر طويلاً، وأنني أفرطت في الوعي به. إن القول الحقّ هو أنني هلًّلتُ له ورفضته بكل ما يمكن ان يحدثه فيّ من شغفٍ أو تشوُّش. لقد منحني هذا العصر الإحساسَ بالدفقة الأخيرة لدمٍ راكد. هل ينبغي أن نستنتج من هذا أن عصرنا لن يفضي إلى شيء، وأنه سيثابر على فشله إلى أبد الآبدين؟ ليس الأمر كذلك. إني أتكهن بما سيحدث، ولكي أتيقن منه يكفيني أن أقرأ مراراً رسالة القديس جيروم بعدما نهَبَ آلريك( القائد القوطيّ) مدينة روما. إنها تعبّر عن الذهول والوهن اللذين أصابا شخصاً من رعايا الإمبراطورية، وهو يشهد الانحلال والخمول. تأمَّلْ هذه الرسالة: كأنها شاهدةُ قبرِنا المعدَّة سلفاً. لا أدري إن كان يجوز لي أن أتحدث عن نهاية الإنسان؛ لكنني موقن من سقوط كل الأوهام التي عشنا فيها إلى يومنا هذا. فلنقل إنّ آخِر ما يفعله التاريخ أن يسفر عن وجهه المظلم، ولكي يظل هذا الوجه غامضاً، ثمة عالَمٌ ينهار. حسناً! لو افترضنا أن هذا الحدث لن يصيب أحداً غيري فكأنه لم يحدث، ولن تبدر مني أية نأمة، ولن أحرك ساكناً. ولكن الإنسان هو ما يستهويني ويرعبني، أحبُّه وأكرهه، بعنفٍ يجبرني على الانفعال. ولا أحسب أننا قادرون على الكفاح من أجل إبعاده عن قدره المحتوم. ومن السذاجة معاداة القدر أو مقاومته. ما أسعد الذين رضوا به: سيكون هلاكهم نجاةً لهم.
سأبوح لك، على استحياء، أنه مرّ علي زمن كنت أنتمي فيه إلى هذا الصنف من السعداء. أنني عنيت بمصير الإنسان عناية خاصة، لكن بشكل مختلف عنهم. كنت آنذاك ابن عشرين عاماً، بعمرك. كنتُ" إنسانوياً" مضاداً، وتصورت- بخيلائي الذي لمّا يُصَب بعدُ بأذى- أن تحوّلي إلى عدوٍّ للبشر هو أعلى مرتبة يمكن أن أطمح إليها. ورغبت، تائقاً في أن أُجلَّل بالخزي، بكل ما يعرّض للسخرية، ولمسبّات الآخرين، فلا يدع لي، وقد راكمَ عاراً فوق عار، أية فرصة للعزلة. ومضيت إلى أبعد من هذا حين اتخذت يوضاس مثالاً، لأنه حين رفضَ البقاء نكرةً فترة أطول جزاءَ إخلاصه، أراد أن تكون الخيانة وسيلة لتفرده. وأعجبني أن دافعه لم يكن الرشوة، بل الطموح الذي أمدّه به المسيح. حَلمَ بأن يضاهيه، بأن يساويه لكن بالشر؛ إذ ما من وسيلة تجعله يتميز عن منافس كهذا بالخير. ولمّا كان شرف الصلب محرَّماً عليه، فقد جعل من شجرة التين ردّاً على الصليب. تابعته بكل خواطري وهو يمضي إلى الانتحار شنقاً، ومع أنني أنا أيضاً كنت أتهيأ لبيعِ معبوديَّ، فقد شعرت بالغيرة من فضائحه، ومن الشجاعة التي جعلته يقدم عليها. أيُّ عذاب أن تكون مجرد شخص ما، إنساناً من جملة الناس! حين أفكر في الرهبان، متأملاً ليلَ نهار في انزوائهم، أتخيلهم يمضغون آثاماً وجرائم نالها حظ قليل أو كثير من الإخفاق. كنت أقول لنفسي إنه لوحيد تماماً: كائن نقيٌّ لم ينعزل. لكي يتمنى المرء حميميّةَ صومعةٍ، فلا بد أنّ وعيه يثقل عليه؛ لا بد أنه يخاف من وعيه... كنت آسفُ لأن تاريخ الرهبنة تحكمت فيه أرواح عفيفة، وعاجزة عن التوق إلى ما يجلب عليها مقتَ الذات لتختبر هذا الحزن الذي يصدِّع الجبال... وكضبعٍ هائج، كنت آمل أن يمقتني كل الخلائق، لأجبرهم على التحالف ضدي، فإما أسحقهم أو يسحقوني. كنت، بالمختصر، طموحاً... منذئذٍ، لتحقيق التميز، فقدت أوهامي شراستَها ومضت باتزانٍ نحو النفور والغموض والذهول.
في ختام هذه الجدالات المملّة، لا أستطيع ان أمنع نفسي من أعيد عليك أنني لم أفهم ما هو الموقع الذي ترغب في أن تتبوأه في زماننا هذا؛ ألديك ما يكفي من المرونة أو الرغبة في المياعة لكي تصل إليه؟ إن شعورك بالتوازن لا ينذر بشيء من هذا. وما دامت حالتك هكذا، أمامك طريق لتجتازه. تحتاج، لكي تتخلص من ماضيك وبراءاتك، إلى أن تتمرن على الدوار. وهذا أمر هيّنٌ على من يدرك أن الخوف، حين يُطَعِّم المادةَ، يطيح بها لتقفز ونصير نحن صدى ارتطامها الأخير. إذ لا وجود للزمن، لا وجود إلا لهذا الخوف الذي ينتشر ويتقنّع باللحظات...، وهو ماثل هنا، فينا وخارجنا، كليَّ الوجود وخفيّاً، سِرّ سكتاتِنا وصرخاتِنا، سرّ صلواتنا وتجديفاتنا. بل إنه لم يزدهر إلا في القرن العشرين، فخوراً بفتوحاته ونجاحاته، مقترباً من ذروته. وهذا أكثر مما كان يأمله هياجنا ووقاحتنا. ولن يدهَش المرء من كوننا أبعد ما نكون عن غوته، آخِرِ مواطن كونيّ، آخِرِ ساذجٍ عظيم. والذي تحالفت" سخافته" مع سخافة الطبيعة. فهو أقل الأرواح انقطاعاً عن جذورها: صديق العناصر. أما نحن فمن الضروري، وأكاد أقول من الواجب، أن نعارض كل العناصر، ألّا نُنْصِفَها، أن نحطمها فينا، ونحطمنا...
إذا لم تمتلك أبداً القوة لتقنط من هذا العصر، للمضيِّ إلى ما هو دونه وأبعدُ منه، فلا تتشكَّ من الغبن فيه. والأهمَّ ألّا تؤمن بوجود بشارة: فلن يوجد ضوء في هذا القرن. وإذا شئتَ أن تحمل له بعض التجديد، عَمِّقْ لياليَك، وايأَسْ من مهنتك.
على أية حال، لا تتهمْني بأنني كنت مثبِّطاً لهمّتك. إن قناعاتي ذرائع: فبأيِّ حقٍّ سأفرضها عليك؟ وأنا لم أخترعها، بل أصدّقها، أصدقها رغماً عني. وبحسن نيّة، وعلى مضض، وجّهتُ لك هذا الدرس المربك.
[ترجمة د. أحمد حافظ.]
[المصدر: Cioran- Œuvres- Quarto Gallimard- Paris 1995: La tentation d'exister- p 880- 893]