فلسطين في السجون المصرية: محمد علي الطاهر (١٩٤٠-١٩٤١) - رامي نبيل شعث (٢٠١٩-٢٠٢٠)

فلسطين في السجون المصرية: محمد علي الطاهر (١٩٤٠-١٩٤١) - رامي نبيل شعث (٢٠١٩-٢٠٢٠)

فلسطين في السجون المصرية: محمد علي الطاهر (١٩٤٠-١٩٤١) - رامي نبيل شعث (٢٠١٩-٢٠٢٠)

By : Atef Botros al-Attar عاطف بطرس العطار

أسعى في هذه المحاولة لفهم بعض أصداء المقاومة الفلسطينية ومآلاتها في مصر من خلال مسارات وسيَر شخصية تنتمي إلى لحظات تاريخية مختلفة، وتحديدًا، من خلال قراءة سيرتين لناشطين مصريين-فلسطينيين، تجمعهما خلفية متشابهة إلى جانب مصير الاعتقال السياسي في السجون المصرية، كنتيجةٍ لفعل المقاومة والعمل السياسي، ويفصلهما ما يزيد عن قرن من الزمن. تهدف إذًا هذه القراءة المزدوجة لقصتي السجينين إلى تبين مستويات التفاعل والتداخل بين "المصري" و"الفلسطيني"، وإلى فكّ التعقيد بين القضايا المصرية المتعلقة بالاستقلال والحرية والتحول الديمقراطي من ناحية، وبين قضية التحرر الفلسطيني من ناحية أخرى، وذلك من خلال تحليل الشهادات والسيَر الذاتية والحكاية الشخصية والعائلية، والتي تفتح آفاقًا مختلفة لفهم طبيعة الصراع مع السلطة من واقع قصص المعتقلين وخبراتهم الذاتية ومن داخل فضاء السجن السياسي كنافذة على العالم الخارجي، بعيدًا عن التاريخ الرسمي للدولة والأحزاب والتنظيمات والسياسة بالمعنى العام. كما تفجر هذه القراءات المزيد من الأسئلة حول القصص الشبيهة التي قد لا نعرف عنها الكثير، قصصٌ لأشخاص أقلّ شهرة، ربما ضاعت في الذاكرة وطواها النسيان، قصصُ المعتقلين والمقموعين ممن هزمهم التاريخ فضاعت أسماءهم بين الأسماء الأكثر شهرة. ربما يتوجب علينا هنا "تمشيط التاريخ في الاتجاه المعاكس"، على حد قول فالتر بنيامين في أطروحاته حول مفهوم التاريخ، لفهم لحظاتٍ تاريخيةٍ بعينها بشكلٍ مكثف من خلال التنقيب في تاريخ السجون والاعتقال. وفي إطار هذا الفهم البنياميني للتاريخ، لا يمكن الرجوع إلى الماضي لإضاءة لحظةٍ تاريخيةٍ بعينها إلا من خلال لحظة الحاضر الحرجة والمحفوفة بالمخاطر، فهي التي تُحدِث الوميض الخاطف والكاشف الذي يضيء لنا لحظةً ما في الماضي تنكشف لنا ولمرة واحدة فقط. فقصة السجينين المصريين-الفلسطينيين هي أيضًا جزء من الذاكرة السجنية المصرية والعربية، ذاكرة السجن السياسي التي تتحدى بتعقيدها الفهم السائد للعلاقة بين السلطة والفرد المقاوم والرافض، تلك العلاقة الجدلية بين الضحية والسجان، كما أنها جزء من تاريخ العلاقة المعقدة بين أنظمة الحكم المتتالية في مصر، أو بمعنى أكثر دقة، بين القوى السياسية والقطاعات المجتمعية المختلفة وبين النازحين من فلسطين، وعلى الأخص من مارس منهم الفعل السياسي المقاوم. وهنالك وجهٌ آخر مضادّ لهذا التركيب المصري-الفلسطيني نجده في النموذج العكسي لشخصية الـ "فلسطيني من مصر"، والمقصود بها هو جزء من ذاكرة المقاومة الفلسطينية يختزن صور شخصيات مصرية بعينها كانت قد لعبت أدوارًا هامة في التنظيمات الفلسطينية، لتخترق الحدود مرة أخرى بين ما هو فلسطيني وما هو مصري وتحطم عتبات ما يعرف بالهوية. يتقدم هذه القافلة التي تضم "فلسطينيين من مصر" على سبيل المثال الطبيب رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك باسمه الحركي (محجوب عمر)، والصحفي والسياسي مصطفى الحسيني، بالإضافة إلى فاروق القاضي، مدير مكتب ياسر عرفات، واسمه الحركي (أحمد الأزهري)، ويجمع هذه الشخصيات المثيرة تاريخٌ نضاليٌّ واحدٌ في اليسار المصري، انتهى بهم إلى معتقلات عبد الناصر، ومنها إلى قلب الثورة الفلسطينية والعمل السياسي. ينتمي أيضًا إلى هذه المجموعة سمير غطاس باسمه الحركي (محمد حمزة)، والصحفي الرسام عبد المنعم القصاص، ومن هنا، تحكي لنا ذاكرة السجن السياسي في مصر مساراتٍ معاكسة لتلك الانتماءات المصرية-الفلسطينية العابرة للحدود والانتماءات، ولكنني لن أتطرق هنا إلى هذا الاتجاه الثاني بشخصياته المذكورة، والذي يستحق التحليل في سياق أكثر اتساعًا، بل سأكتفي بقراءةٍ أوليةٍ لسيرتي المعتقلين المعنيين.

المعتقل الأول هو الصحفي والسياسي الفلسطيني محمد علي الطاهر (١٨٩٦-١٩٧٤)، رئيس اللجنة الفلسطينية في مصر، ولد في نابلس ونزح إلى القاهرة في (١٩١٢)، اعتُقل للمرة الأولى لمدة سنتين (١٩١٥-١٩١٧) في سجن الجيزة من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، وبمساعدة السلطات المصرية بعد بداية الحرب العالمية الأولى، واعتقل للمرة الثانية (١٩٤٠- ١٩٤١) بعد إعلان الأحكام العرفية إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية من قبل "قلم البوليس السياسي" المصري تنفيذًا لأوامر القيادة البريطانية، كما اعتقلته السلطات المصرية للمرة الثالثة منتصف (١٩٤٩) لأسابيع قليلة في معسكر الهاكستب، بعد أن وجه نقدًا لاذعًا للأنظمة العربية التي تسبب أداؤها في ضياع فلسطين عام (١٩٤٨)، ومع صعود حكم الضباط في مصر في بداية الخمسينات، استحال على الطاهر أن يتابع حياته ونشاطه السياسي في مصر، وخاصة بعد سحب ترخيص مجلة "الشورى" التي كان قد أسسها في (١٩٢٤) من قبل حكومة محمد نجيب، وبعد تضييق الخناق حوله وحول أصدقائه ودوائره مع بداية العهد الناصري وإغلاق مجال العمل العام والسياسي، ليضطر الطاهر إلى الرحيل إلى سوريا ومنها إلى لبنان، فيجسد شخصية "العربي التائه" التي كان يعرف نفسه بها أحيانًا، ويستخدمها للتوقيع على بعض مقالاته، وهكذا، فقد فشل مشروع الطاهر الطموح في أن يكون "مصريًا من فلسطين"، وبقي عربيًا تائهًا، مثله مثل مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى أحد البلدان العربية المجاورة ليُلقى بهم في مخيمات اللجوء بلا حقوق ولا كرامة ولا جواز سفر، وليحيوا حياة عارية (بحسب مفهوم جورجيو أجامبن) على حافة المجتمع وفي حالة ربما لا تختلف كثيرًا عن حالة المعتقل السياسي. وسأسلط الضوء هنا فقط على سنوات الاعتقال الثاني للطاهر في سجن الأجانب، وهروبه وتنكره واختفائه لمدة سنة، ثم لجوئِه للنحاس باشا وإطلاق سراحه (١٩٤٠-١٩٤٢). 

أما المصري-الفلسطيني الثاني، والمنتمي إلى سياق مختلف تمامًا، فهو رامي نبيل شعث، ناشط في مجال حقوق الإنسان، ومنسّق عام للحملة الشعبية المصرية لمقاطعة إسرائيل (BDS مصر)، والمعتقل منذ ما يزيد عن العام من قبل السّلطات المصريّة في مجمع سجون طرة دون تهمة أو محاكمة، هذا بالإضافة إلى إدراجه على قائمة الإرهاب، ومحاولة تجريده من الجنسية المصرية. إذًا، فلحظة رامي شعث، المعتقل حتى لحظة كتابة هذه السطور، هي تلك اللحظة الآنية التي ستقفز بنا إلى سجن الطاهر في الماضي في محاولة لقراءة لحظته واستحضار تجربته، ثم ترتد بنا ثانية للحاضر لتخلق فيما بينهما مساحة ثالثة من التوتر الجدلي. يعدّ رامي نفسه، مثله مثل سلفه محمد علي الطاهر، مصريًا وطنيًا بشكل غير منقوص، كما يرى نفسه أيضًا فلسطينيًا بكل معنى الكلمة، ملتزمًا بالقضية الفلسطينية التي يعتبرها مكونًا أساسيًّا من مكونات قضية التحرر الوطني والتحول إلى الديمقراطية. غير أننا لا نستطيع فهم المسار السياسي والموقف الملتزم الذي أدى لاعتقال رامي دون إدراك خلفيته العائلية وعلاقتها بقضايا التحرر والعمل السياسي، فهو ابن لسيدةٍ مصريةٍ أبًا عن جد، هي السيدة صفاء حسين زيتون، والتي رحلت في صباه. أما الأب فهو المصري الفلسطيني نبيل شعث، الذي منحه عبد الناصر الجنسية المصرية عام (١٩٥٨) تقديرًا لجهوده في مصر كأستاذٍ في علم الإدارة، وكُرّست الجنسية المصرية فيما بعد بمرسوم جمهوري أعتمده عبد الناصر عام (١٩٦٥)، كما أنه صاحب المبادرة لتأسيس دار الفتى العربي في السبعينات، والتي قد تكون أهم مؤسسة ثقافية مستقلة لكتب الأطفال والشباب في تاريخ الثقافة العربية، وعمل الأب فيما بعد كوزير لخارجية فلسطين. أما الأخ الأكبر، فهو الراحل علي شعث، أول من أسس مبادراتٍ مستقلةً لدعم الشباب الفلسطيني والعربي وتمكينه من خلال تكنولوجيا المعلومات والميديا الجديدة، وتجسّد هذا العمل في مؤسسة "أضف" ونشاطها الواسع في عدد من البلدان العربية. كانت الأسرة قد رحلت إلى بيروت في بداية السبعينات بسبب عمل الأب، حيث ولد رامي في (١٩٧١)، وعادت إلى القاهرة مع اندلاع الحرب الأهلية في (١٩٧٥) كما تروي أخته المصورة الصحفية والكاتبة رندا شعث في سيرتها الذاتية "جبل الرمل"، لتعبر بحساسية بالغة عن الأجواء التي أحاطت بالأسرة على خلفية التزام الأب بالقضية وتطورات الأحداث في بيروت:

أقلتنا سفينة من الإسكندرية إلى بيروت في عام ١٩٦٩ ... التحق أبي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وصار أستاذًا في الجامعة الأمريكية في بيروت – حيث تعلم أبوه – لأنه رفض أن يتلقى راتبًا مقابل عمله الوطني ... عاد معنا إلى البيت، ومن يومها أصبح لدينا شخص غريب يشاركنا في المنزل، حارس ضخم ينام والكلاشنيكوف على ذراعه، اسمه سليمان. كنت أخاف منه أكثر من خوفي من المجهول الذي يهددنا. منذ ذلك اليوم وحتى اليوم، لم ننم في بيت مع أبي من دون حارس ... طيارات إسرائيلية خرقت جدار الصوت. مش بعيد بكره يوصلوا لقلب بيروت ... تركنا كل شيء على حاله: البيت واللعب والكتب والصور والدفاتر ... فجر يوم خريفي غائم عام ١٩٧٥. (جبل الرمل ٧-٣٠)

تشكلت إذًا شخصية رامي شعث داخل هذه الفضاءات المشحونة بالمقاومة والعمل السياسي والشعور بالمسؤولية تجاه قضايا التحرر، درس بجامعة القاهرة، ثم حصل على ماجستير من كينجز كوليدج في المملكة المتحدة عام (١٩٩٥)، وعمل فيما بعد كمستشارٍ للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مشاركًا في مفاوضات أوسلو وما بعدها، ثم عاد إلى مصر بعد فشل المفاوضات ليصبح في قلب الحراك الشعبي الذي انتهى بسقوط النظام المصري في (٢٠١١)، ثم تولى منصب المنسق العام لحركة المقاطعة في (٢٠١٥) حتى اعتقاله في (٢٠١٩).

أما الطاهر، فهو فلسطيني المولد والأصول، لكنه نزح وهو فتىً إلى المحروسة كواحدٍ من رعايا الدولة العثمانية، ليستقر في مصر ويعمل كصحفي في عددٍ من الصحف، موجّهًا كتاباته بشكلٍ أساسي لمناهضة المشروع الصهيوني الوليد والتحذير من مخاطره الممكنة، وكان ذلك قبل إعلان بلفور في (١٩١٧) بسنوات، لينخرط بعد ذلك في دوائر المثقفين المناهضين للاستعمار والصهيونية من كل المشارب والاتجاهات، ويؤسس فيما بعد جريدته التي التزمت بنفس الأهداف. يعرّف الطاهر نفسه بصفته "مصري من فلسطين"، كما تكشف لنا مذكرات السجن والهروب (١٩٤٠-١٩٤٢)، التي نشرها في القاهرة عام (١٩٥١) تحت عنوان "ظلام السجن، مذكرات ومفكرات سجين هارب"، عندما يحكي عن رسالة تهنئة كتبها إلى حسن صبري باشا إثر توليه رئاسة الوزراء، واكتفى فيها بتوقيع "مصري من فلسطين" بدلًا من اسمه، خوفًا من أن تقع في أيدي الإنجليز أو أعوانهم، ثم وضع نفس التوقيع بجانب اسمه عندما كتب إلى صبري مرة أخرى ليستغيث به من السجن:

ناديت السجان وطلبت منه أن يأتي بورقة وقلم وغلاف فبادر إلى ذلك [...] فكتبت إلى رئيس الوزراء أقص عليه ما صنعه معنا البوليس من تنكيل وحبس وطلبت التحقيق معي إن كان هناك تهمة ثم أمضيت هكذا "محمد علي الطاهر، مصري من فلسطين" وقد أعجبني هذا الإمضاء. (ظلام السجن ٤٦)

عاش الطاهر أكثر من أربعة عقود في مصر (١٩١٢-١٩٥٥)، ورغم كونه مقربًا من أهمّ رجال السياسة والأحزاب وقادة الفكر والدين، إلا أنه بقي بلا جنسية حتى أمر النحاس باشا بالاعتراف له بالجنسية المصرية في (١٩٥٠)، ليتحول فعليًا، أو على الأقل ورقيًا من "العربي التائه" إلى "مصري من فلسطين"، ومع هذا نجده يُرغَم فيما بعد، بشكلٍ أو بآخر، على المنفى الاختياري، بعد صعود الضباط إلى الحكم، وسحب ترخيص جريدته، وتضييق مجال العمل السياسي والثقافي إلى أقصى الحدود، ناهيك عن حملات الاعتقال المتتالية في عهد عبد الناصر، والتي ربما أفلت منها مع رحيله إلى سوريا. ويَذكُر الطاهر أنّ أول من أطلق عليه لقب "العربي التائه" هو النقراشي باشا "في سنة ١٩٣٠ حين كان في صفوف المجاهدين" إلى جانب الطاهر وفي سياق المقاومة ضد الاستعمار البريطاني، إلا أنه عندما أصبح في مركز السلطة كرئيسٍ للوزراء، وكما يقول الطاهر في مذكراته، "صار هو يطاردني ويتولى عملية 'تتويهي' وكاد يطردني من مصر كلها". (ظلام السجن ٩٤) وعندما حاول أصدقاء الطاهر الوساطة لدى الشيخ مصطفى عبد الرازق، وزير الأوقاف في ذلك الوقت، بغية الإفراج عنه، زعم الشيخ أن اعتقال الطاهر كان أفضل له من خيارٍ آخر، وهو تسليمه إلى سلطات الاحتلال لتحاكمه في فلسطين، مما كان ليؤدي إلى إعدامه، أمّا الطاهر، فيردّ على موقف الشيخ في مذكراته بكل استياء بأن

حكومة فلسطين لا علاقة لها بي ولا علاقة لي بها فلا أنا من رعاياها ولا ارتكبت ذنبًا في أرضها، وإنما أراد الشيخ مصطفى أن يستر تقصيره شخصيًا مع صديق قديم له [...] لأني على كل حال لا أعدو أن أكون فلسطينيًا فلا يجوز تسليم اللاجئ ولا حبسه لحساب الأجانب أو أكون مصريًا فلا يجوز لأجنبي أيًا كان أن يطالب حكومة مصر باعتقال المصريين. (ظلام السجن ٥٥)

وأمام هذه الخلفية، نستطيع فهم شخصية الطاهر كعربي، فلسطيني، مصري، عابر للحدود والانتماءات القومية، مناهض للاستعمار والصهيونية، وبالتالي مناهض لأي سياساتٍ عربيةٍ تُستخدم كأداةٍ لرعاية المصالح البريطانية. لم تتغير مواقفه منذ صباه وقدومه إلى مصر وحتى وفاته في لبنان (١٩٧٤). لا يختلف موقفه كثيرًا عن موقف رامي شعث، المناهض بطبيعة الحال للتحالفات البخسة بين الأنظمة العربية وإسرائيل أو داعميها الدوليين على حساب حقوق الفلسطينيين. ومن الواضح أنّ الطاهر كان قد رغب في الاستقرار في مصر، فبدأ حياته فيها بالعمل الصحفي، إلى جانب تأسيس متجر في حي الحسين لتجارة زيت الزيتون الذي كان يجلبه من نابلس، مما كان يدعم استقراره المادي إلى جانب عمله الصحفي والسياسي. تحول هذا المتجر، كما سيتحول مقر إدارة جريدة "الشورى" فيما بعد، إلى ملتقى لرجال السياسة والفكر. فإلى جانب قربه الشديد من حزب الوفد المصري وزعمائه، تمكّن الطاهر ببراعة من خلق شبكة واسعة وقوية من العلاقات والصداقات الشخصية ربطته بأبرز الشخصيات المناهضة للاستعمار في الفضاء العربي والإسلامي، وكان من بينهم الأمير شكيب أرسلان، والشيخ أمين الحسيني، وسلطان باشا الأطرش، وأحمد حسين، رئيس حزب مصر الفتاة، وحسن البنا، وعلي أحمد باكثير، وعبد الوهاب عزام، وإلياس أنطون إلياس ويعقوب خوري ونسيب شهاب وغيرهم. وبجانب دوره كرئيس للجنة الفلسطينية، التزم الطاهر بالعمل السياسي من أجل الاستقلال الوطني في مصر مع قادة الحركة الوطنية، أمثال مكرم عبيد والنحاس خلال ثورة (١٩١٩) وما بعدها، وكان رامي شعث جزءًا من الحراك المصري الداعم للتحول الديمقراطي بجانب دوره كمنسق لحركة المقاطعة، وهي حركة سلمية تعمل في عددٍ من الدول العربية وغير العربية. اعتُقل الطاهر مرّاتٍ عدّة بسبب نقده لأداء الأنظمة العربية الذي أدى لضياع فلسطين في (١٩٤٨)، وانتقد رامي المشاركة العربية والمصرية فيما عُرف بصفقة القرن، رافضًا مشاركة مصر في مؤتمر المنامة أو في أي صفقات قد يضيع معها ما تبقى من فلسطين.

بسبب هذه المواقف المعلنة أعتقل رامي من منزله في فجر الجمعة الموافق لـ ٥ يوليو/ تموز (٢٠١٩) دون اتهام محدد ودون محاكمة، وكان ذلك على ذمة القضية المعروفة بـ "خلية الأمل" التي تحمل رقم ٩٣٠ لسنة (٢٠١٩) وتضم ٣٥ متهمًا، بزعم التورط في مساعدة جماعة إرهابية، وتكدير السلم العام، وإلى آخر تلك الصيغة المكررة والمعهودة لتبرير اعتقال أي معارض في مصر منذ (٢٠١٣)، هذا بالإضافة إلى توقيف زوجته سيلين لوبران شعث وترحيلها إلى فرنسا دون أي سند قانوني، رغم أنها مقيمة في مصر منذ ٧ سنوات، حيث تعلمت العربية وعملت كأستاذة للغة الفرنسية، ورغم كونها زوجة لمواطن مصري. أعتقل الطاهر في ظل قانون الأحكام العرفية دون محاكمة ودون أن توجه له تهمة سوى مزاعم التورط في تحالف مع قوى المحور (ألمانيا وإيطاليا)، واعتقلت زكية البزري، زوجة الطاهر، أثناء هروبه في محاولة لإرغامه على تسليم نفسه، ثم استمر التنكيل بها حتى ترحيلها إلى فلسطين تحت الحراسة. وعلى هذه الواقعة يعلق أحمد حسين قائلًا:

حتى إذا ضاق ذرع رجال البوليس السياسي لم يسعهم إلا أن يلجؤوا إلى أفعال رجال العصابات، ليحملوا الأستاذ محمد علي الطاهر على الظهور من اختفائه بالضغط على زوجته، ففكروا في أن يخرجوها من مصر فيفقدوا زوجها بذلك سندًا قويًا، وقد يحملونه على الظهور، فإذا بهم يقدمون على اعتقالها في خسة ودناءة، ضاربين عرض الحائط بالتقاليد والرجولة والنخوة التي لا تسمح باضطهاد رجل في شخص زوجته. (ظلام السجن ٣٦٣- ٣٦٤)

جاء اعتقال رامي في ظل قانون الطوارئ الاستثنائي وتعليق الدستور، الذي سمح باعتقال عشرات الآلاف من المصريات والمصريين في السنوات الأخيرة، وفي نفس القضية والتوقيت اعتقل النظام أيضًا محمد المصري، زميل رامي في حملة المقاطعة، وفي إطار هذه الإجراءات التعسفية ضد رامي وعائلته، أدرج النظام في أبريل/ نيسان الماضي اسم رامي على قائمة الإرهاب، إلى جانب العديد من النشطاء الملتزمين بمطلب التغيير الديمقراطي، ومنهم المحامي زياد العليمي، وقد ترتب على ذلك منعه من السفر، وتجميد أمواله، وتجريده من الجنسية المصرية، وقد جاء هذا الإجراء استناداً إلى قضية جديدة (رقم ٥١٧ لسنة ٢٠٢٠، حصر أمن دولة)، لا يعرف أحد حتى الآن موضوعها. وبينما يحرم شعث من الدفاع عن نفسه ضد مزاعم التحالف مع الإرهاب، كان بإمكان الطاهر التوجه إلى الرأي العام والتوجه إلى رئيس الوزراء شخصيًا:

دولة الحاكم العسكري العام بالقاهرة: لست خائنًا لبلادي لأستحق من حكومتي المصرية إهانة الاعتقال والتنكيل، فأرجو صيانة لشرفي الوطني أن أحاكم أو أطلق شاكرًا عدالتكم. محمد علي الطاهر (أكتوبر ١٩٤٠، ظلام السجن ٥٦)

وعلى الرغم من كل المساعي الدبلوماسية والحملات الإعلامية التي تقوم بها عائلة رامي من الجانب الفرنسي والفلسطيني، يُصرّ النظام المصري على التمادي في اعتقال رامي ومنع زوجته من العودة، بل وعلى تشديد الإجراءات فيما يتصل بظروف السجن والسماح بالزيارة أو التواصل مع عائلته. هكذا كان أيضًا عناد وزارة حسين باشا سري المقربة لسلطة الاحتلال تجاه المحاولات الدبلوماسية والمطالبات العديدة من الداخل والخارج بالإفراج عن الطاهر. فهل تغيرت موازنات القوى السياسية وأسباب عنف الدولة والسجن السياسي منذ اعتقل الصحفي الشاب المهاجر من فلسطين عند بداية الحرب العالمية الأولى، ليلقى به في سجن الجيزة، حتى اعتقال رامي شعث في ٢٠١٩؟ ربما لا يعيد التاريخ نفسه ولا يشبه اليوم البارحة، ولكن هل يجسد الفلسطيني العربي التائه، سواء بقي بلا جنسية في مخيمات اللجوء، أو اكتسب الجنسية المصرية بالنسب أو شرفيًا؟ وهل ستبقى قضية التحرر الفلسطيني في السجون المصرية مثلها مثل كل قضايا التحرر؟ لا نعرف الكثير عمّا بين القصتين من أسماء وحكايات، ضاعت فيها سنوات طويلة من أعمار ضحايا السجون، وعانت فيها أسرهم. لربما بقيت في الذاكرة قصص قليلة، مثل اعتقال الشاعر الفلسطيني معين بسيسو (١٩٢٨-١٩٨٤) عدّة مراتٍ في مصر في الخمسينات وبداية الستينات، كما تشهد على وجود هذه الاعتقالات مطالباتُ الحركات الطلابية الاحتجاجية في مصر في الستينات والسبعينات بالأفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وتأسيسُ "جماعة أنصار الثورة الفلسطينية" الطلابية التي كانت سهام صبري من أبرز أعضاءها.

تخبرنا مذكرات الطاهر بأن إدارة السجن تحت الاحتلال البريطاني قد سمحت لزوجته بالزيارة كل ثلاثة أيام، وسمحت له بجلب الطعام من البيت بكل سهولة (ظلام السجن ٤٨)، أما السجون الحالية في مصر، فقد تحولت إلى أماكن للتعذيب والانتقام من المعتقلين وزوجاتهم وأبناءهم وذويهم، كما تحولت أجهزة العدالة إلى أدوات لممارسة هذا القمع والتعذيب، لنجد رجال القضاء ووكلاء النيابة يوقعون على إعادة تمديد فترات الاعتقال لمدة ٤٥ يومًا من دون أن يروا المتهم، وقبل أن يوجه إليه أي اتهام، وبينما كان يُسمح للطاهر بكتابة برقيّاتٍ لرجال السياسة يحتجّ فيها على اعتقاله، لا يُسمح اليوم لرامي أو لغيره من المعتقلين بإرسال رسالة إلى أهله ليطمئنوا على صحته، وذلك حتى تحت وطأة جائحة كوفيد ١٩، رغم الرعب الماثل في كل لحظة من إمكانية تناقل العدوى بين السجناء في ظل الظروف المتدنية للسجون المصرية، إذ يقبع رامي في زنزانة تضم ما يقارب الـ ٣٠ سجينًا، دون توفّر الحد الأدنى من الشروط الصحية لشخصٍ يعاني من مشاكل صحية جسمية.

كتب الطاهر تجربة اعتقاله وهروبه في كتاب "ظلام السجن" سابق الذكر واستلهم العنوان من أنشودة "يا ظلام السجن خيم" التي ألفها الشاعر السوري نجيب الريس عام (١٩٢٢)، وهو كتاب ضخم يكتظ بالتفاصيل والمغامرات والتأملات في السجن والسياسة والمجتمع، ويضم أكثر من ٩٠٠ صفحة. ومن المثير أن الطاهر قد استخدم نفس الطريقة التي سيلجأ إليها فيما بعد الكثير من معتقلي الرأي في الخمسينات والسبعينات، مثل صنع الله إبراهيم، الذي كان يكتب على أوراق لف التبغ ويهربها كما تخبرنا مذكراته السجنية "يوميات الواحات". هكذا يصور لنا الطاهر ظروف الكتابة والتدوين من داخل محبسه الانفرادي:

ممنوع وجود الورق والحبر والأقلام عند السجناء فكيف أدون ملاحظاتي؟ وأخيرًا استطعت الحصول على قطعة صغيرة من رصاص قلم الرصاص فحجمها الصغير يمكن الإنسان من إخفائها، ولكن الورق؟ لقد كنت أستفيد من الورق الداخلي لعلب السجائر الذي يوضع في داخل العلب فكانت الملحوظة التي أريد تدوينها لا تحتاج لأكثر من سطر أو سطرين، وبعد أن أجمع بضع ورقات مملوءة لا تفهم ولا تكاد تقرأ أهربها إلى خارج السجن لإخفائها عند أحد الأصدقاء، فمن هذه الأسطر أستمد الآن أسس الحوادث لهذا الكتاب. – عندما أخرج من السجن سأكتب في الصحف أقترح على الحكومات أن لا تعين ضابطًا أو قاضيًا أو وكيل نيابة في منصبه إلا بعد أن يوضع أولًا في السجن لمدة شهر أو شهرين ليجرب حياة السجون [...] ليذوق بعض ما يصنع بالناس. (ظلام السجن ١٣٠)

إلا أن هذه الفكرة التي يطرحها الطاهر، وإن كانت تبدو منطقية، لا تمثل بالضرورة مخرجًا إنسانيًا من واقع السجون والقمع التعذيب، كما أنها لم تتحقق تاريخيًا وفقًا لهذا التصور البسيط، إذ أن الكثير من الزعماء ورجال السلطة الذين عانوا من قمع السجون أو التعذيب لم يتخلوا عنها عندما أعتلوا عروش السلطة، بل اعتمدوا نفس الرؤية التي تصنع من أعمدة السجن السياسي دعاماتٍ لسلطة هشة وسيادة مهددة، فيضطرون إلى فرض حالة الطوارئ، حيث يتراجع القانون لتبقى الدولة، كما يقول كارل شميت المنظر السياسي المساند للنازية وصاحب "اللاهوت السياسي" و"الديكتاتورية"، يتراجع القانون ليفرض صاحب السيادة حالة الاستثناء لتصفية الحسابات بالقتل والاعتقال. بقيت إذًا أوضاع السجن السياسي الكارثية دون أن تتغير مع تغير الزمن، وإن تغيرت، فلم تتغير بالضرورة إلى الأفضل فيما بين القبض على الطاهر، والهجوم على منزل رامي شعث وزوجته في ساعات الليل بقوةٍ بوليسيةٍ مسلحةٍ اقتحمت منزل العائلة، واستولت على أوراقه وأجهزته الشخصية. لم تتغير كثيرًا طبيعة "قلم البوليس السياسي" الذي أنشأه الاحتلال البريطاني في العقد الثاني من القرن العشرين في مصر، للتجسس على المصريين، ولضرب محاولات المقاومة والثورة والحفاظ على وجوده. تغيرت الأسماء، ليصبح اسمه "مباحث أمن الدولة" أو "الأمن العام"، تغيرت الأشكال والتركيبات السياسية والمجتمعية دون أن تتغير منظومة السجن السياسي والتعذيب. لم ولن تتغير هذه المنظومة لأنها ببساطة تعكس طبيعة الدولة الأمنية الهشة وسلطتها الضعيفة التي تدفعها للجوء إلى العنف المفرط، إذ أنه "من الناحية السياسية لا يكفي أن نقول إن السلطة والعنف ليسا الشيء نفسه. فالسلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم [أحدهما] حكما مطلقًا يكون الأخر غائبًا. والعنف يظهر حين تكون السلطة مهددة"[1]، وإرهاب الدولة، الذي تترجمه وضعية السجن السياسي والتعذيب والإخفاء القسري، هو أحد تجليات غياب سلطة القانون وسيادته. هذه هي المعادلة الصعبة التي صاغتها حنة آرندت في مقالها الشهير "في العنف" بغرض التفرقة الصارمة بين السلطة والعنف، وهي المعادلة المرتبطة باستمرارية واقع السجون في الأنظمة القمعية، فهي قمعية لأنها هشة، تفرط في استخدام العنف الداخلي، ويقتضي وجودها السجن السياسي بسبب غياب سلطة حقيقية وسيادة قانونية وجهاز للعدالة، أنظمة تعتقل فلسطين في سجونها كما تعتقل كل من يمثل قضايا الحرية، وكما تشارك في اعتقال ملايين من فلسطيني غزة في أكبر سجون العالم المفتوحة. وهكذا عبر الناقد المصري إبراهيم فتحي عن هذه الاستمرارية في العنف المفرط للسجون المصرية وأجهزة الأمن السياسي رغم تغير الأسماء وتقلب تجلياتها عبر التاريخ:

للسجن والاعتقال السياسيين في بلادنا تاريخ طويل صاحب أزمان الخازوق والتوسيط والتعليق على باب زويلة، وكان سجن الأبرياء يحيطهم دائمًا بهالة من الاحترام منذ أن سجنت امرأة العزيز سيدنا يوسف، وسجن القصر والإنجليز محمد فريد، ثم أبطال ثورة ١٩١٩ وبعد ذلك المفكرين من أمثال العقاد ثم محمد مندور وزكي عبد القادر وسلامة موسى. وبعد يوليه ١٩٥٢ أحاطت الأسوار بحشد هائل من المثقفين، وأصحاب الرأي، ولم تنقطع حلقات السلسلة بعد ما يسمى بالتصحيح فقد فتحت السجون أبوابها لتطبق على أفواج بعد أفواج من الطلبة والشعراء والسياسيين والكتاب، فهناك منطق متصل يمتد من كبار البصاصين وصغارهم قديمًا إلى رجال القلم السياسي وورثتهم من رجال الأجهزة، بالإضافة لما سيجيء.[2]

لا شك أن لحظة اعتقال الطاهر قد ارتبطت بالوجود البريطاني والحالة القمعية بسبب احتدام الحرب العالمية الثانية في تلك الفترة، التي شهدت تقلبات سياسية عاصفة بين مختلف القوى والأحزاب السياسية والقصر وسلطة الاحتلال، كما عرفت العديد من الاغتيالات السياسية. فبينما أصدر رئيس الوزراء والحاكم العسكري حسن صبري أمر الأفراج عن الطاهر، عملت أجهزة الأمن المصرية على تعطيل الأمر، وأخبرت مكتب المندوب السامي البريطاني الذي طالب بالتحفّظ على الطاهر، ثم هرب السجين إلى حين سقوط وزارة حسين سري، ومجيء النحاس باشا، الذي سيفرج عن السجين الهارب بعد أن تسلل إلى مكتب النحاس ليطلب حمايته. إن قصة اعتقال وهروب الطاهر تعبّر تمامًا عن تلك التناقضات الموجودة داخل منظومة القوى السياسية وتشرذم السلطة في ذلك الوقت بين القصر والإنجليز وطبقات الأعيان والأحزاب بتوجهاتها وولاءاتها المتناقضة. أما حملات الاعتقال في ظل النظام السياسي الحالي عبر السنوات الأخيرة، والتي توسعت لتشمل عشرات الآلاف من المعتقلات والمعتقلين، فمن الصعب فهمها عقلانيًا من خلال التحليل السياسي، وخصوصًا بعد إحكام سيطرة المؤسسة العسكرية على السياسة والاقتصاد والإعلام، وإغلاق المجال العام بشكل نهائي واحتكار السلطة في حكم فردي عسكري. يدفعنا واقع الاعتقال السياسي الحالي إلى التنقيب في الذاكرة السجنية، والبحث في سير وقصص المعتقلين في السجون المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة، ومعها المنظومة القانونية والمؤسسة العقابية في العقد التاسع من القرن التاسع عشر. فهل نفهم الماضي من خلال اللحظة الآنية، أم نفهم لحظتنا من خلال الرجوع للماضي؟ هل تتيح لنا تلك التجارب السجنية فهم التوتر الدائم في علاقة الدولة المصرية بالقضية الفلسطينية وبقضية الديمقراطية في آن واحد؟ هل تكشف لنا تفاصيل تجربة المصري من فلسطين والفلسطيني من مصر عن خصوصية هذه العلاقة وهشاشة تلك الحدود والمساحات المتخيلة؟

 هوامش

[1] حنة آرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت ١٩٩٢، ٥٠.

[2] إبراهيم فتحي، السجن في الخيال القصصي، مجلة الهلال، عدد ٣، مارس ١٩٩٧ القاهرة، ١٠٠-١٠٩، هنا ١٠٠.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬