أسعى في هذه المحاولة لفهم بعض أصداء المقاومة الفلسطينية ومآلاتها في مصر من خلال مسارات وسيَر شخصية تنتمي إلى لحظات تاريخية مختلفة، وتحديدًا، من خلال قراءة سيرتين لناشطين مصريين-فلسطينيين، تجمعهما خلفية متشابهة إلى جانب مصير الاعتقال السياسي في السجون المصرية، كنتيجةٍ لفعل المقاومة والعمل السياسي، ويفصلهما ما يزيد عن قرن من الزمن. تهدف إذًا هذه القراءة المزدوجة لقصتي السجينين إلى تبين مستويات التفاعل والتداخل بين "المصري" و"الفلسطيني"، وإلى فكّ التعقيد بين القضايا المصرية المتعلقة بالاستقلال والحرية والتحول الديمقراطي من ناحية، وبين قضية التحرر الفلسطيني من ناحية أخرى، وذلك من خلال تحليل الشهادات والسيَر الذاتية والحكاية الشخصية والعائلية، والتي تفتح آفاقًا مختلفة لفهم طبيعة الصراع مع السلطة من واقع قصص المعتقلين وخبراتهم الذاتية ومن داخل فضاء السجن السياسي كنافذة على العالم الخارجي، بعيدًا عن التاريخ الرسمي للدولة والأحزاب والتنظيمات والسياسة بالمعنى العام. كما تفجر هذه القراءات المزيد من الأسئلة حول القصص الشبيهة التي قد لا نعرف عنها الكثير، قصصٌ لأشخاص أقلّ شهرة، ربما ضاعت في الذاكرة وطواها النسيان، قصصُ المعتقلين والمقموعين ممن هزمهم التاريخ فضاعت أسماءهم بين الأسماء الأكثر شهرة. ربما يتوجب علينا هنا "تمشيط التاريخ في الاتجاه المعاكس"، على حد قول فالتر بنيامين في أطروحاته حول مفهوم التاريخ، لفهم لحظاتٍ تاريخيةٍ بعينها بشكلٍ مكثف من خلال التنقيب في تاريخ السجون والاعتقال. وفي إطار هذا الفهم البنياميني للتاريخ، لا يمكن الرجوع إلى الماضي لإضاءة لحظةٍ تاريخيةٍ بعينها إلا من خلال لحظة الحاضر الحرجة والمحفوفة بالمخاطر، فهي التي تُحدِث الوميض الخاطف والكاشف الذي يضيء لنا لحظةً ما في الماضي تنكشف لنا ولمرة واحدة فقط. فقصة السجينين المصريين-الفلسطينيين هي أيضًا جزء من الذاكرة السجنية المصرية والعربية، ذاكرة السجن السياسي التي تتحدى بتعقيدها الفهم السائد للعلاقة بين السلطة والفرد المقاوم والرافض، تلك العلاقة الجدلية بين الضحية والسجان، كما أنها جزء من تاريخ العلاقة المعقدة بين أنظمة الحكم المتتالية في مصر، أو بمعنى أكثر دقة، بين القوى السياسية والقطاعات المجتمعية المختلفة وبين النازحين من فلسطين، وعلى الأخص من مارس منهم الفعل السياسي المقاوم. وهنالك وجهٌ آخر مضادّ لهذا التركيب المصري-الفلسطيني نجده في النموذج العكسي لشخصية الـ "فلسطيني من مصر"، والمقصود بها هو جزء من ذاكرة المقاومة الفلسطينية يختزن صور شخصيات مصرية بعينها كانت قد لعبت أدوارًا هامة في التنظيمات الفلسطينية، لتخترق الحدود مرة أخرى بين ما هو فلسطيني وما هو مصري وتحطم عتبات ما يعرف بالهوية. يتقدم هذه القافلة التي تضم "فلسطينيين من مصر" على سبيل المثال الطبيب رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك باسمه الحركي (محجوب عمر)، والصحفي والسياسي مصطفى الحسيني، بالإضافة إلى فاروق القاضي، مدير مكتب ياسر عرفات، واسمه الحركي (أحمد الأزهري)، ويجمع هذه الشخصيات المثيرة تاريخٌ نضاليٌّ واحدٌ في اليسار المصري، انتهى بهم إلى معتقلات عبد الناصر، ومنها إلى قلب الثورة الفلسطينية والعمل السياسي. ينتمي أيضًا إلى هذه المجموعة سمير غطاس باسمه الحركي (محمد حمزة)، والصحفي الرسام عبد المنعم القصاص، ومن هنا، تحكي لنا ذاكرة السجن السياسي في مصر مساراتٍ معاكسة لتلك الانتماءات المصرية-الفلسطينية العابرة للحدود والانتماءات، ولكنني لن أتطرق هنا إلى هذا الاتجاه الثاني بشخصياته المذكورة، والذي يستحق التحليل في سياق أكثر اتساعًا، بل سأكتفي بقراءةٍ أوليةٍ لسيرتي المعتقلين المعنيين.
المعتقل الأول هو الصحفي والسياسي الفلسطيني محمد علي الطاهر (١٨٩٦-١٩٧٤)، رئيس اللجنة الفلسطينية في مصر، ولد في نابلس ونزح إلى القاهرة في (١٩١٢)، اعتُقل للمرة الأولى لمدة سنتين (١٩١٥-١٩١٧) في سجن الجيزة من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، وبمساعدة السلطات المصرية بعد بداية الحرب العالمية الأولى، واعتقل للمرة الثانية (١٩٤٠- ١٩٤١) بعد إعلان الأحكام العرفية إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية من قبل "قلم البوليس السياسي" المصري تنفيذًا لأوامر القيادة البريطانية، كما اعتقلته السلطات المصرية للمرة الثالثة منتصف (١٩٤٩) لأسابيع قليلة في معسكر الهاكستب، بعد أن وجه نقدًا لاذعًا للأنظمة العربية التي تسبب أداؤها في ضياع فلسطين عام (١٩٤٨)، ومع صعود حكم الضباط في مصر في بداية الخمسينات، استحال على الطاهر أن يتابع حياته ونشاطه السياسي في مصر، وخاصة بعد سحب ترخيص مجلة "الشورى" التي كان قد أسسها في (١٩٢٤) من قبل حكومة محمد نجيب، وبعد تضييق الخناق حوله وحول أصدقائه ودوائره مع بداية العهد الناصري وإغلاق مجال العمل العام والسياسي، ليضطر الطاهر إلى الرحيل إلى سوريا ومنها إلى لبنان، فيجسد شخصية "العربي التائه" التي كان يعرف نفسه بها أحيانًا، ويستخدمها للتوقيع على بعض مقالاته، وهكذا، فقد فشل مشروع الطاهر الطموح في أن يكون "مصريًا من فلسطين"، وبقي عربيًا تائهًا، مثله مثل مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى أحد البلدان العربية المجاورة ليُلقى بهم في مخيمات اللجوء بلا حقوق ولا كرامة ولا جواز سفر، وليحيوا حياة عارية (بحسب مفهوم جورجيو أجامبن) على حافة المجتمع وفي حالة ربما لا تختلف كثيرًا عن حالة المعتقل السياسي. وسأسلط الضوء هنا فقط على سنوات الاعتقال الثاني للطاهر في سجن الأجانب، وهروبه وتنكره واختفائه لمدة سنة، ثم لجوئِه للنحاس باشا وإطلاق سراحه (١٩٤٠-١٩٤٢).
أما المصري-الفلسطيني الثاني، والمنتمي إلى سياق مختلف تمامًا، فهو رامي نبيل شعث، ناشط في مجال حقوق الإنسان، ومنسّق عام للحملة الشعبية المصرية لمقاطعة إسرائيل (BDS مصر)، والمعتقل منذ ما يزيد عن العام من قبل السّلطات المصريّة في مجمع سجون طرة دون تهمة أو محاكمة، هذا بالإضافة إلى إدراجه على قائمة الإرهاب، ومحاولة تجريده من الجنسية المصرية. إذًا، فلحظة رامي شعث، المعتقل حتى لحظة كتابة هذه السطور، هي تلك اللحظة الآنية التي ستقفز بنا إلى سجن الطاهر في الماضي في محاولة لقراءة لحظته واستحضار تجربته، ثم ترتد بنا ثانية للحاضر لتخلق فيما بينهما مساحة ثالثة من التوتر الجدلي. يعدّ رامي نفسه، مثله مثل سلفه محمد علي الطاهر، مصريًا وطنيًا بشكل غير منقوص، كما يرى نفسه أيضًا فلسطينيًا بكل معنى الكلمة، ملتزمًا بالقضية الفلسطينية التي يعتبرها مكونًا أساسيًّا من مكونات قضية التحرر الوطني والتحول إلى الديمقراطية. غير أننا لا نستطيع فهم المسار السياسي والموقف الملتزم الذي أدى لاعتقال رامي دون إدراك خلفيته العائلية وعلاقتها بقضايا التحرر والعمل السياسي، فهو ابن لسيدةٍ مصريةٍ أبًا عن جد، هي السيدة صفاء حسين زيتون، والتي رحلت في صباه. أما الأب فهو المصري الفلسطيني نبيل شعث، الذي منحه عبد الناصر الجنسية المصرية عام (١٩٥٨) تقديرًا لجهوده في مصر كأستاذٍ في علم الإدارة، وكُرّست الجنسية المصرية فيما بعد بمرسوم جمهوري أعتمده عبد الناصر عام (١٩٦٥)، كما أنه صاحب المبادرة لتأسيس دار الفتى العربي في السبعينات، والتي قد تكون أهم مؤسسة ثقافية مستقلة لكتب الأطفال والشباب في تاريخ الثقافة العربية، وعمل الأب فيما بعد كوزير لخارجية فلسطين. أما الأخ الأكبر، فهو الراحل علي شعث، أول من أسس مبادراتٍ مستقلةً لدعم الشباب الفلسطيني والعربي وتمكينه من خلال تكنولوجيا المعلومات والميديا الجديدة، وتجسّد هذا العمل في مؤسسة "أضف" ونشاطها الواسع في عدد من البلدان العربية. كانت الأسرة قد رحلت إلى بيروت في بداية السبعينات بسبب عمل الأب، حيث ولد رامي في (١٩٧١)، وعادت إلى القاهرة مع اندلاع الحرب الأهلية في (١٩٧٥) كما تروي أخته المصورة الصحفية والكاتبة رندا شعث في سيرتها الذاتية "جبل الرمل"، لتعبر بحساسية بالغة عن الأجواء التي أحاطت بالأسرة على خلفية التزام الأب بالقضية وتطورات الأحداث في بيروت:
أقلتنا سفينة من الإسكندرية إلى بيروت في عام ١٩٦٩ ... التحق أبي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وصار أستاذًا في الجامعة الأمريكية في بيروت – حيث تعلم أبوه – لأنه رفض أن يتلقى راتبًا مقابل عمله الوطني ... عاد معنا إلى البيت، ومن يومها أصبح لدينا شخص غريب يشاركنا في المنزل، حارس ضخم ينام والكلاشنيكوف على ذراعه، اسمه سليمان. كنت أخاف منه أكثر من خوفي من المجهول الذي يهددنا. منذ ذلك اليوم وحتى اليوم، لم ننم في بيت مع أبي من دون حارس ... طيارات إسرائيلية خرقت جدار الصوت. مش بعيد بكره يوصلوا لقلب بيروت ... تركنا كل شيء على حاله: البيت واللعب والكتب والصور والدفاتر ... فجر يوم خريفي غائم عام ١٩٧٥. (جبل الرمل ٧-٣٠)
تشكلت إذًا شخصية رامي شعث داخل هذه الفضاءات المشحونة بالمقاومة والعمل السياسي والشعور بالمسؤولية تجاه قضايا التحرر، درس بجامعة القاهرة، ثم حصل على ماجستير من كينجز كوليدج في المملكة المتحدة عام (١٩٩٥)، وعمل فيما بعد كمستشارٍ للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مشاركًا في مفاوضات أوسلو وما بعدها، ثم عاد إلى مصر بعد فشل المفاوضات ليصبح في قلب الحراك الشعبي الذي انتهى بسقوط النظام المصري في (٢٠١١)، ثم تولى منصب المنسق العام لحركة المقاطعة في (٢٠١٥) حتى اعتقاله في (٢٠١٩).
أما الطاهر، فهو فلسطيني المولد والأصول، لكنه نزح وهو فتىً إلى المحروسة كواحدٍ من رعايا الدولة العثمانية، ليستقر في مصر ويعمل كصحفي في عددٍ من الصحف، موجّهًا كتاباته بشكلٍ أساسي لمناهضة المشروع الصهيوني الوليد والتحذير من مخاطره الممكنة، وكان ذلك قبل إعلان بلفور في (١٩١٧) بسنوات، لينخرط بعد ذلك في دوائر المثقفين المناهضين للاستعمار والصهيونية من كل المشارب والاتجاهات، ويؤسس فيما بعد جريدته التي التزمت بنفس الأهداف. يعرّف الطاهر نفسه بصفته "مصري من فلسطين"، كما تكشف لنا مذكرات السجن والهروب (١٩٤٠-١٩٤٢)، التي نشرها في القاهرة عام (١٩٥١) تحت عنوان "ظلام السجن، مذكرات ومفكرات سجين هارب"، عندما يحكي عن رسالة تهنئة كتبها إلى حسن صبري باشا إثر توليه رئاسة الوزراء، واكتفى فيها بتوقيع "مصري من فلسطين" بدلًا من اسمه، خوفًا من أن تقع في أيدي الإنجليز أو أعوانهم، ثم وضع نفس التوقيع بجانب اسمه عندما كتب إلى صبري مرة أخرى ليستغيث به من السجن:
ناديت السجان وطلبت منه أن يأتي بورقة وقلم وغلاف فبادر إلى ذلك [...] فكتبت إلى رئيس الوزراء أقص عليه ما صنعه معنا البوليس من تنكيل وحبس وطلبت التحقيق معي إن كان هناك تهمة ثم أمضيت هكذا "محمد علي الطاهر، مصري من فلسطين" وقد أعجبني هذا الإمضاء. (ظلام السجن ٤٦)
عاش الطاهر أكثر من أربعة عقود في مصر (١٩١٢-١٩٥٥)، ورغم كونه مقربًا من أهمّ رجال السياسة والأحزاب وقادة الفكر والدين، إلا أنه بقي بلا جنسية حتى أمر النحاس باشا بالاعتراف له بالجنسية المصرية في (١٩٥٠)، ليتحول فعليًا، أو على الأقل ورقيًا من "العربي التائه" إلى "مصري من فلسطين"، ومع هذا نجده يُرغَم فيما بعد، بشكلٍ أو بآخر، على المنفى الاختياري، بعد صعود الضباط إلى الحكم، وسحب ترخيص جريدته، وتضييق مجال العمل السياسي والثقافي إلى أقصى الحدود، ناهيك عن حملات الاعتقال المتتالية في عهد عبد الناصر، والتي ربما أفلت منها مع رحيله إلى سوريا. ويَذكُر الطاهر أنّ أول من أطلق عليه لقب "العربي التائه" هو النقراشي باشا "في سنة ١٩٣٠ حين كان في صفوف المجاهدين" إلى جانب الطاهر وفي سياق المقاومة ضد الاستعمار البريطاني، إلا أنه عندما أصبح في مركز السلطة كرئيسٍ للوزراء، وكما يقول الطاهر في مذكراته، "صار هو يطاردني ويتولى عملية 'تتويهي' وكاد يطردني من مصر كلها". (ظلام السجن ٩٤) وعندما حاول أصدقاء الطاهر الوساطة لدى الشيخ مصطفى عبد الرازق، وزير الأوقاف في ذلك الوقت، بغية الإفراج عنه، زعم الشيخ أن اعتقال الطاهر كان أفضل له من خيارٍ آخر، وهو تسليمه إلى سلطات الاحتلال لتحاكمه في فلسطين، مما كان ليؤدي إلى إعدامه، أمّا الطاهر، فيردّ على موقف الشيخ في مذكراته بكل استياء بأن
حكومة فلسطين لا علاقة لها بي ولا علاقة لي بها فلا أنا من رعاياها ولا ارتكبت ذنبًا في أرضها، وإنما أراد الشيخ مصطفى أن يستر تقصيره شخصيًا مع صديق قديم له [...] لأني على كل حال لا أعدو أن أكون فلسطينيًا فلا يجوز تسليم اللاجئ ولا حبسه لحساب الأجانب أو أكون مصريًا فلا يجوز لأجنبي أيًا كان أن يطالب حكومة مصر باعتقال المصريين. (ظلام السجن ٥٥)
وأمام هذه الخلفية، نستطيع فهم شخصية الطاهر كعربي، فلسطيني، مصري، عابر للحدود والانتماءات القومية، مناهض للاستعمار والصهيونية، وبالتالي مناهض لأي سياساتٍ عربيةٍ تُستخدم كأداةٍ لرعاية المصالح البريطانية. لم تتغير مواقفه منذ صباه وقدومه إلى مصر وحتى وفاته في لبنان (١٩٧٤). لا يختلف موقفه كثيرًا عن موقف رامي شعث، المناهض بطبيعة الحال للتحالفات البخسة بين الأنظمة العربية وإسرائيل أو داعميها الدوليين على حساب حقوق الفلسطينيين. ومن الواضح أنّ الطاهر كان قد رغب في الاستقرار في مصر، فبدأ حياته فيها بالعمل الصحفي، إلى جانب تأسيس متجر في حي الحسين لتجارة زيت الزيتون الذي كان يجلبه من نابلس، مما كان يدعم استقراره المادي إلى جانب عمله الصحفي والسياسي. تحول هذا المتجر، كما سيتحول مقر إدارة جريدة "الشورى" فيما بعد، إلى ملتقى لرجال السياسة والفكر. فإلى جانب قربه الشديد من حزب الوفد المصري وزعمائه، تمكّن الطاهر ببراعة من خلق شبكة واسعة وقوية من العلاقات والصداقات الشخصية ربطته بأبرز الشخصيات المناهضة للاستعمار في الفضاء العربي والإسلامي، وكان من بينهم الأمير شكيب أرسلان، والشيخ أمين الحسيني، وسلطان باشا الأطرش، وأحمد حسين، رئيس حزب مصر الفتاة، وحسن البنا، وعلي أحمد باكثير، وعبد الوهاب عزام، وإلياس أنطون إلياس ويعقوب خوري ونسيب شهاب وغيرهم. وبجانب دوره كرئيس للجنة الفلسطينية، التزم الطاهر بالعمل السياسي من أجل الاستقلال الوطني في مصر مع قادة الحركة الوطنية، أمثال مكرم عبيد والنحاس خلال ثورة (١٩١٩) وما بعدها، وكان رامي شعث جزءًا من الحراك المصري الداعم للتحول الديمقراطي بجانب دوره كمنسق لحركة المقاطعة، وهي حركة سلمية تعمل في عددٍ من الدول العربية وغير العربية. اعتُقل الطاهر مرّاتٍ عدّة بسبب نقده لأداء الأنظمة العربية الذي أدى لضياع فلسطين في (١٩٤٨)، وانتقد رامي المشاركة العربية والمصرية فيما عُرف بصفقة القرن، رافضًا مشاركة مصر في مؤتمر المنامة أو في أي صفقات قد يضيع معها ما تبقى من فلسطين.
بسبب هذه المواقف المعلنة أعتقل رامي من منزله في فجر الجمعة الموافق لـ ٥ يوليو/ تموز (٢٠١٩) دون اتهام محدد ودون محاكمة، وكان ذلك على ذمة القضية المعروفة بـ "خلية الأمل" التي تحمل رقم ٩٣٠ لسنة (٢٠١٩) وتضم ٣٥ متهمًا، بزعم التورط في مساعدة جماعة إرهابية، وتكدير السلم العام، وإلى آخر تلك الصيغة المكررة والمعهودة لتبرير اعتقال أي معارض في مصر منذ (٢٠١٣)، هذا بالإضافة إلى توقيف زوجته سيلين لوبران شعث وترحيلها إلى فرنسا دون أي سند قانوني، رغم أنها مقيمة في مصر منذ ٧ سنوات، حيث تعلمت العربية وعملت كأستاذة للغة الفرنسية، ورغم كونها زوجة لمواطن مصري. أعتقل الطاهر في ظل قانون الأحكام العرفية دون محاكمة ودون أن توجه له تهمة سوى مزاعم التورط في تحالف مع قوى المحور (ألمانيا وإيطاليا)، واعتقلت زكية البزري، زوجة الطاهر، أثناء هروبه في محاولة لإرغامه على تسليم نفسه، ثم استمر التنكيل بها حتى ترحيلها إلى فلسطين تحت الحراسة. وعلى هذه الواقعة يعلق أحمد حسين قائلًا:
حتى إذا ضاق ذرع رجال البوليس السياسي لم يسعهم إلا أن يلجؤوا إلى أفعال رجال العصابات، ليحملوا الأستاذ محمد علي الطاهر على الظهور من اختفائه بالضغط على زوجته، ففكروا في أن يخرجوها من مصر فيفقدوا زوجها بذلك سندًا قويًا، وقد يحملونه على الظهور، فإذا بهم يقدمون على اعتقالها في خسة ودناءة، ضاربين عرض الحائط بالتقاليد والرجولة والنخوة التي لا تسمح باضطهاد رجل في شخص زوجته. (ظلام السجن ٣٦٣- ٣٦٤)
جاء اعتقال رامي في ظل قانون الطوارئ الاستثنائي وتعليق الدستور، الذي سمح باعتقال عشرات الآلاف من المصريات والمصريين في السنوات الأخيرة، وفي نفس القضية والتوقيت اعتقل النظام أيضًا محمد المصري، زميل رامي في حملة المقاطعة، وفي إطار هذه الإجراءات التعسفية ضد رامي وعائلته، أدرج النظام في أبريل/ نيسان الماضي اسم رامي على قائمة الإرهاب، إلى جانب العديد من النشطاء الملتزمين بمطلب التغيير الديمقراطي، ومنهم المحامي زياد العليمي، وقد ترتب على ذلك منعه من السفر، وتجميد أمواله، وتجريده من الجنسية المصرية، وقد جاء هذا الإجراء استناداً إلى قضية جديدة (رقم ٥١٧ لسنة ٢٠٢٠، حصر أمن دولة)، لا يعرف أحد حتى الآن موضوعها. وبينما يحرم شعث من الدفاع عن نفسه ضد مزاعم التحالف مع الإرهاب، كان بإمكان الطاهر التوجه إلى الرأي العام والتوجه إلى رئيس الوزراء شخصيًا:
دولة الحاكم العسكري العام بالقاهرة: لست خائنًا لبلادي لأستحق من حكومتي المصرية إهانة الاعتقال والتنكيل، فأرجو صيانة لشرفي الوطني أن أحاكم أو أطلق شاكرًا عدالتكم. محمد علي الطاهر (أكتوبر ١٩٤٠، ظلام السجن ٥٦)
وعلى الرغم من كل المساعي الدبلوماسية والحملات الإعلامية التي تقوم بها عائلة رامي من الجانب الفرنسي والفلسطيني، يُصرّ النظام المصري على التمادي في اعتقال رامي ومنع زوجته من العودة، بل وعلى تشديد الإجراءات فيما يتصل بظروف السجن والسماح بالزيارة أو التواصل مع عائلته. هكذا كان أيضًا عناد وزارة حسين باشا سري المقربة لسلطة الاحتلال تجاه المحاولات الدبلوماسية والمطالبات العديدة من الداخل والخارج بالإفراج عن الطاهر. فهل تغيرت موازنات القوى السياسية وأسباب عنف الدولة والسجن السياسي منذ اعتقل الصحفي الشاب المهاجر من فلسطين عند بداية الحرب العالمية الأولى، ليلقى به في سجن الجيزة، حتى اعتقال رامي شعث في ٢٠١٩؟ ربما لا يعيد التاريخ نفسه ولا يشبه اليوم البارحة، ولكن هل يجسد الفلسطيني العربي التائه، سواء بقي بلا جنسية في مخيمات اللجوء، أو اكتسب الجنسية المصرية بالنسب أو شرفيًا؟ وهل ستبقى قضية التحرر الفلسطيني في السجون المصرية مثلها مثل كل قضايا التحرر؟ لا نعرف الكثير عمّا بين القصتين من أسماء وحكايات، ضاعت فيها سنوات طويلة من أعمار ضحايا السجون، وعانت فيها أسرهم. لربما بقيت في الذاكرة قصص قليلة، مثل اعتقال الشاعر الفلسطيني معين بسيسو (١٩٢٨-١٩٨٤) عدّة مراتٍ في مصر في الخمسينات وبداية الستينات، كما تشهد على وجود هذه الاعتقالات مطالباتُ الحركات الطلابية الاحتجاجية في مصر في الستينات والسبعينات بالأفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وتأسيسُ "جماعة أنصار الثورة الفلسطينية" الطلابية التي كانت سهام صبري من أبرز أعضاءها.
تخبرنا مذكرات الطاهر بأن إدارة السجن تحت الاحتلال البريطاني قد سمحت لزوجته بالزيارة كل ثلاثة أيام، وسمحت له بجلب الطعام من البيت بكل سهولة (ظلام السجن ٤٨)، أما السجون الحالية في مصر، فقد تحولت إلى أماكن للتعذيب والانتقام من المعتقلين وزوجاتهم وأبناءهم وذويهم، كما تحولت أجهزة العدالة إلى أدوات لممارسة هذا القمع والتعذيب، لنجد رجال القضاء ووكلاء النيابة يوقعون على إعادة تمديد فترات الاعتقال لمدة ٤٥ يومًا من دون أن يروا المتهم، وقبل أن يوجه إليه أي اتهام، وبينما كان يُسمح للطاهر بكتابة برقيّاتٍ لرجال السياسة يحتجّ فيها على اعتقاله، لا يُسمح اليوم لرامي أو لغيره من المعتقلين بإرسال رسالة إلى أهله ليطمئنوا على صحته، وذلك حتى تحت وطأة جائحة كوفيد ١٩، رغم الرعب الماثل في كل لحظة من إمكانية تناقل العدوى بين السجناء في ظل الظروف المتدنية للسجون المصرية، إذ يقبع رامي في زنزانة تضم ما يقارب الـ ٣٠ سجينًا، دون توفّر الحد الأدنى من الشروط الصحية لشخصٍ يعاني من مشاكل صحية جسمية.
كتب الطاهر تجربة اعتقاله وهروبه في كتاب "ظلام السجن" سابق الذكر واستلهم العنوان من أنشودة "يا ظلام السجن خيم" التي ألفها الشاعر السوري نجيب الريس عام (١٩٢٢)، وهو كتاب ضخم يكتظ بالتفاصيل والمغامرات والتأملات في السجن والسياسة والمجتمع، ويضم أكثر من ٩٠٠ صفحة. ومن المثير أن الطاهر قد استخدم نفس الطريقة التي سيلجأ إليها فيما بعد الكثير من معتقلي الرأي في الخمسينات والسبعينات، مثل صنع الله إبراهيم، الذي كان يكتب على أوراق لف التبغ ويهربها كما تخبرنا مذكراته السجنية "يوميات الواحات". هكذا يصور لنا الطاهر ظروف الكتابة والتدوين من داخل محبسه الانفرادي:
ممنوع وجود الورق والحبر والأقلام عند السجناء فكيف أدون ملاحظاتي؟ وأخيرًا استطعت الحصول على قطعة صغيرة من رصاص قلم الرصاص فحجمها الصغير يمكن الإنسان من إخفائها، ولكن الورق؟ لقد كنت أستفيد من الورق الداخلي لعلب السجائر الذي يوضع في داخل العلب فكانت الملحوظة التي أريد تدوينها لا تحتاج لأكثر من سطر أو سطرين، وبعد أن أجمع بضع ورقات مملوءة لا تفهم ولا تكاد تقرأ أهربها إلى خارج السجن لإخفائها عند أحد الأصدقاء، فمن هذه الأسطر أستمد الآن أسس الحوادث لهذا الكتاب. – عندما أخرج من السجن سأكتب في الصحف أقترح على الحكومات أن لا تعين ضابطًا أو قاضيًا أو وكيل نيابة في منصبه إلا بعد أن يوضع أولًا في السجن لمدة شهر أو شهرين ليجرب حياة السجون [...] ليذوق بعض ما يصنع بالناس. (ظلام السجن ١٣٠)
إلا أن هذه الفكرة التي يطرحها الطاهر، وإن كانت تبدو منطقية، لا تمثل بالضرورة مخرجًا إنسانيًا من واقع السجون والقمع التعذيب، كما أنها لم تتحقق تاريخيًا وفقًا لهذا التصور البسيط، إذ أن الكثير من الزعماء ورجال السلطة الذين عانوا من قمع السجون أو التعذيب لم يتخلوا عنها عندما أعتلوا عروش السلطة، بل اعتمدوا نفس الرؤية التي تصنع من أعمدة السجن السياسي دعاماتٍ لسلطة هشة وسيادة مهددة، فيضطرون إلى فرض حالة الطوارئ، حيث يتراجع القانون لتبقى الدولة، كما يقول كارل شميت المنظر السياسي المساند للنازية وصاحب "اللاهوت السياسي" و"الديكتاتورية"، يتراجع القانون ليفرض صاحب السيادة حالة الاستثناء لتصفية الحسابات بالقتل والاعتقال. بقيت إذًا أوضاع السجن السياسي الكارثية دون أن تتغير مع تغير الزمن، وإن تغيرت، فلم تتغير بالضرورة إلى الأفضل فيما بين القبض على الطاهر، والهجوم على منزل رامي شعث وزوجته في ساعات الليل بقوةٍ بوليسيةٍ مسلحةٍ اقتحمت منزل العائلة، واستولت على أوراقه وأجهزته الشخصية. لم تتغير كثيرًا طبيعة "قلم البوليس السياسي" الذي أنشأه الاحتلال البريطاني في العقد الثاني من القرن العشرين في مصر، للتجسس على المصريين، ولضرب محاولات المقاومة والثورة والحفاظ على وجوده. تغيرت الأسماء، ليصبح اسمه "مباحث أمن الدولة" أو "الأمن العام"، تغيرت الأشكال والتركيبات السياسية والمجتمعية دون أن تتغير منظومة السجن السياسي والتعذيب. لم ولن تتغير هذه المنظومة لأنها ببساطة تعكس طبيعة الدولة الأمنية الهشة وسلطتها الضعيفة التي تدفعها للجوء إلى العنف المفرط، إذ أنه "من الناحية السياسية لا يكفي أن نقول إن السلطة والعنف ليسا الشيء نفسه. فالسلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم [أحدهما] حكما مطلقًا يكون الأخر غائبًا. والعنف يظهر حين تكون السلطة مهددة"[1]، وإرهاب الدولة، الذي تترجمه وضعية السجن السياسي والتعذيب والإخفاء القسري، هو أحد تجليات غياب سلطة القانون وسيادته. هذه هي المعادلة الصعبة التي صاغتها حنة آرندت في مقالها الشهير "في العنف" بغرض التفرقة الصارمة بين السلطة والعنف، وهي المعادلة المرتبطة باستمرارية واقع السجون في الأنظمة القمعية، فهي قمعية لأنها هشة، تفرط في استخدام العنف الداخلي، ويقتضي وجودها السجن السياسي بسبب غياب سلطة حقيقية وسيادة قانونية وجهاز للعدالة، أنظمة تعتقل فلسطين في سجونها كما تعتقل كل من يمثل قضايا الحرية، وكما تشارك في اعتقال ملايين من فلسطيني غزة في أكبر سجون العالم المفتوحة. وهكذا عبر الناقد المصري إبراهيم فتحي عن هذه الاستمرارية في العنف المفرط للسجون المصرية وأجهزة الأمن السياسي رغم تغير الأسماء وتقلب تجلياتها عبر التاريخ:
للسجن والاعتقال السياسيين في بلادنا تاريخ طويل صاحب أزمان الخازوق والتوسيط والتعليق على باب زويلة، وكان سجن الأبرياء يحيطهم دائمًا بهالة من الاحترام منذ أن سجنت امرأة العزيز سيدنا يوسف، وسجن القصر والإنجليز محمد فريد، ثم أبطال ثورة ١٩١٩ وبعد ذلك المفكرين من أمثال العقاد ثم محمد مندور وزكي عبد القادر وسلامة موسى. وبعد يوليه ١٩٥٢ أحاطت الأسوار بحشد هائل من المثقفين، وأصحاب الرأي، ولم تنقطع حلقات السلسلة بعد ما يسمى بالتصحيح فقد فتحت السجون أبوابها لتطبق على أفواج بعد أفواج من الطلبة والشعراء والسياسيين والكتاب، فهناك منطق متصل يمتد من كبار البصاصين وصغارهم قديمًا إلى رجال القلم السياسي وورثتهم من رجال الأجهزة، بالإضافة لما سيجيء.[2]
لا شك أن لحظة اعتقال الطاهر قد ارتبطت بالوجود البريطاني والحالة القمعية بسبب احتدام الحرب العالمية الثانية في تلك الفترة، التي شهدت تقلبات سياسية عاصفة بين مختلف القوى والأحزاب السياسية والقصر وسلطة الاحتلال، كما عرفت العديد من الاغتيالات السياسية. فبينما أصدر رئيس الوزراء والحاكم العسكري حسن صبري أمر الأفراج عن الطاهر، عملت أجهزة الأمن المصرية على تعطيل الأمر، وأخبرت مكتب المندوب السامي البريطاني الذي طالب بالتحفّظ على الطاهر، ثم هرب السجين إلى حين سقوط وزارة حسين سري، ومجيء النحاس باشا، الذي سيفرج عن السجين الهارب بعد أن تسلل إلى مكتب النحاس ليطلب حمايته. إن قصة اعتقال وهروب الطاهر تعبّر تمامًا عن تلك التناقضات الموجودة داخل منظومة القوى السياسية وتشرذم السلطة في ذلك الوقت بين القصر والإنجليز وطبقات الأعيان والأحزاب بتوجهاتها وولاءاتها المتناقضة. أما حملات الاعتقال في ظل النظام السياسي الحالي عبر السنوات الأخيرة، والتي توسعت لتشمل عشرات الآلاف من المعتقلات والمعتقلين، فمن الصعب فهمها عقلانيًا من خلال التحليل السياسي، وخصوصًا بعد إحكام سيطرة المؤسسة العسكرية على السياسة والاقتصاد والإعلام، وإغلاق المجال العام بشكل نهائي واحتكار السلطة في حكم فردي عسكري. يدفعنا واقع الاعتقال السياسي الحالي إلى التنقيب في الذاكرة السجنية، والبحث في سير وقصص المعتقلين في السجون المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة، ومعها المنظومة القانونية والمؤسسة العقابية في العقد التاسع من القرن التاسع عشر. فهل نفهم الماضي من خلال اللحظة الآنية، أم نفهم لحظتنا من خلال الرجوع للماضي؟ هل تتيح لنا تلك التجارب السجنية فهم التوتر الدائم في علاقة الدولة المصرية بالقضية الفلسطينية وبقضية الديمقراطية في آن واحد؟ هل تكشف لنا تفاصيل تجربة المصري من فلسطين والفلسطيني من مصر عن خصوصية هذه العلاقة وهشاشة تلك الحدود والمساحات المتخيلة؟
هوامش