حين وصلتْ الأنباء من صديقٍ في أبو ظبي أن صديقنا المشترك شمعون بلاص (1930- 2019) وافتْه المنية، تدفقت الإيميلات والاتصالات من بيروت والقاهرة والخليج وتل أبيب وباريس ولندن والولايات المتحدة الأميركية. إلا أن بلاص صاحب الأعمال الأدبية العظيمة لم يكن معروفاً جيداً، وكذلك روابط الصداقة الواسعة والإعجاب التي جمعته مع آخرين.
ولد شمعون بلاص في بغداد سنة 1930 وهاجر إلى إسرائيل في 1951 هجرة قسرية. كان قد انخرط سابقاً من سن السادسة عشرة في الحزب الشيوعي العراقي ووصلتْهُ في ذلك الوقت أنباء حول حصوله على منحة دراسية في السوربون في فرنسا ولكن، حين بدأ العراق بالتمزق، كان الوقت متأخراً جداً، ولم يكن أمامه خيار سوى المغادرة إلى إسرائيل.
التحق في النهاية بالسوربون بعد أكثر من عشرين عاماً، حيث كتب أطروحة الدكتوراه تحت إشراف المستشرق اليهودي الكبير المعادي للصهيونية مكسيم رودنسون، هذا الباحث الذي يحظى بمكانة هائلة. وكان عنوان الأطروحة ”الأدب العربي في ظل الحرب،“ وهي من بين أكثر من ٢٠ كتاباً، معظمها روايات ودراسات أكاديمية وترجمات من العربية إلى العبرية. وبينما ظهرت باريس بشكل واضح في عدد من رواياته يشعر المرء (بشكل غير مباشر) بندم كبير من ضخامة الخسارة التاريخية المتضمنة، فقط في تلك الفترة وحدها. ذلك أن علاقة شمعون مع رودنسون مثلاً، وجماعة المغتربين المنحدرين من أصل شرق أوسطي في باريس في ذلك الوقت، تشكل فصلاً جوهرياً في التاريخ السياسي والثقافي في القرن العشرين لكننا لا نكاد نعثر على ذكر مدون لكل هذا.
أعتقد أن هذا النوع من الذاكرة التاريخية الفردية هو الذي يسكنني باستمرار حين أفكر بصديقي العزيز شمعون، كما يشغلني كم فقدنا كثيراً من الماضي وأننا ما نزال في سيرورة فقْد متواصلة. وفيما يزداد اعتمادنا على المنابر الرقمية، كما لو كي نمنع هذا الأمر الجلل، تقلّ قدرتنا على أداء المهمة الجوهرية للبث الإنساني، وأعني نقل الذاكرة والتجربة من شخص إلى آخر من أجل أن نبني عوالم جديدة مبنية على القديمة. ولا يستطيع المرء أن يتجنب التفكير ببث ثقافي رئيسي بهذه الطريقة: إن شخصيات مثل أرسطو والحريري وتشوسر وسرفانتس وباوند وآخرين كثيرين، فهمت أنها عاشت في تمزقات تاريخية راديكالية وأن واجبها هو أن تجمع شظايا الماضي وتقدمها بطرق يمكن أن تعيش في أشكال جديدة.
أنا محظوظ لأنني حصلت على فرصة كي أمضي الوقت مع شمعون كزميل كاتب، وكناشط سياسي واع، وعلى نحو أكثر أهمية، كصديق. لكنني أريد أن أشدّد (لمن هم أصغر في السن، خاصة أن عملي في العقود الماضية العديدة تضمن الكثير من العمل الأرشيفي مع بعض كبارنا العظام المتقدمين في السن في الولايات المتحدة) أنني أمضيت وقتاً مع شمعون وفي قراءة كتبه وفهم عالمه. لم أفعل هذا لأننا شعرنا بقرابة مع بعضنا كبشر فحسب، بل لأنني اكتشفت مدى أهميته وكم كان يحمل من التاريخ الخاص. هذه هي الخيوط التي تربط عالمينا معاً، وهي تنحل إذا لم يفعل كل منا شيئاً للعثور على طرق لإعادة وصلها.
انتقل بلاص إلى العبرية كلغة أدبية له ونشر رواية ”مخيم العبور“ في 1964، وكانت الرواية الأولى التي عّبرت بوضوح عن صدمة اللاجئين اليهود العرب الذين فُرض عليهم النزوح إلى إسرائيل. كانت هذه بداية حياته في الكتابة وإما تم تجاهله فيها أو تم تصنيفه وتهميشه ككاتب ”احتجاج“ أو انتُقد بشدة لاعتقاده أنه كان ”عربياً.“ رغم أنه قال مرة :“بالطبع أنا عربي، أين يعتقدون أن العراق يقع، على القمر؟“ كان هذا رده على كلام ذُكر في تاريخ رسمي للأدب الإسرائيلي أشار إليه كشخص قضيته الأساسية في الكتابة هي ”المعاملة السيئة“ التي من المفترض أنه تلقاها على يد الدولة، ونتج عن ذلك نص قصير بعنوان ”إعادة تأهيل أم قذف؟“. وأعتبر هذا النص أحد أعظم الردود على العنصرية الذي سبق أن كتب، لأنه يدخل في صلب المشكلة. بالإضافة إلى السياسات والممارسات التمييزية المدمرة للحياة فإن العنصرية تنطوي على غرور التفكير بأن الناس الذين ليسوا مثلنا لا يمتلكون إرادة وبالتالي عاجزون عن العمل بمفردهم .
التقيت بشمعون إما في أواخر السبعينات أو في أوائل الثمانينات وربطتنا صداقة حميمة، فكنا نلتقي حين نستطيع ونتراسل حين يتعذر ذلك. وفي مكان ما أحتفظ بجميع الرسائل التي كتبها لي وآمل أن الجهود قائمة لأرشفة أوراقه، ويمكن في النهاية أن يُعثر على رسائلي له هناك. هذا أيضاً جزء من القصة. عاش بين تل أبيب وباريس حيث كتب معظم كتابته. لكنني وجدته أكثر سعادة في القاهرة، بين ناس يتحدثون لغته. ووجدنا أنفسنا منخرطين في حركات سياسية وأنشطة مختلفة مع مرور الأعوام، من مبادرات جماهيرية شعبية إلى اجتماعات دولية في الثمانينيات مع منظمة التحرير التي كانت تُعتبر خارجة عن القانون. في أثناء ذلك، كان تهذيب شمعون يسحرني وكذلك قدرته على امتصاص الأحداث والمواقف بمزيج من التواضع والحكمة الذين زادا من قيمته وموقعه كمفكر وكاتب.
في 1998 وفي مبادرة شجاعة جداً قام بها صديق حميم هو الروائى الكبير الياس خوري، دُعيتُ أنا وشمعون مع مجموعة للاحتفاء بالذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية في بيروت وكي نناقش بشكل محدد تأثير تهجير اليهود خارج العالم العربي ومعناه المعاصر. وبعد تهديدات مختلفة من بلد مجاور كان يتدخل في شؤون لبنان الداخلية كثيراً قيل لنا إن أماننا غير مضمون ونصحونا بعدم الحضور. ولكن التهديدات أدت إلى نتائج عكسية: أُلقيت كلماتنا وعُرضت صورنا بمقاعد فارغة تمثلنا، وما كان يمكن أن يمر كحدث عادي انقلب إلى مناسبة غصّت بالبشر، بفلسطينيين قدموا من المخيمات المحلية من أجل أن ”يسمعوا“ غيابنا. وعلى الرغم من أنني لم أتمكن من الذهاب إلى بيروت فلم تشرفني دعوة أكثر من هذه من قبل. وكنوع من رد الجميل، بعد وقت قصير من هجمات الحادي عشر من أيلول في 2002 وقبل غزو العراق، نظمتُ ندوة تاريخية في جامعة نيويورك ضمت شمعون والروائي الأسباني الكبير خوان غويتيويلو (الذي كان يعيش في المغرب آنذاك) وإلياس خوري. كانت هذه الندوة نسختنا عن الأندلس، إسفيناً ضد قرع طبول الحرب. واجتذبنا أيضاً حشداً كبيراً، وقد كانت المناسبة تستحق ذلك.
أخرج شمعون بلاص الرواية العبرية المعاصرة من دائرتها القومية النرجسية الضيقة، ولقد حدث هذا على المستوى السياسي والتاريخي والاجتماعي الخارجي وعلى مستوى المخيال السيكولوجي للحيوات الداخلية لشخصياته. يمكن أن نشاهد إضاءة وجيزة لمخيال بلاص الفائق للعادة ووضوحه السياسي في الفيلم الذي أدعو الجميع لمشاهدته ”انْس بغداد“، والذي أخرجه المخرج العراقي السويسري المتميز سمير جمال، ويصور حيوات عدد من الكتاب والناشطين السياسيين اليهود العراقيين.
جوبهت ترجمة أعمال بلاص إلى الإنجليزية والفرنسية بمقاومة شرسة ومنظمة وكان الاستثناء الوحيد هو رواية ”المنبوذ“ التي شاركتُ في ترجمتها ونشرتْها دار سيتي لايتس في 2005، بالإضافة إلى نصوص ضمنتها في الأنطولوجيا التي أعددتها بعنوان ”مفاتيح الحديقة“ التي صدرت عن دار النشر ذاتها في 1996. واشتملت هذه الأنطولوجيا على القصة الطويلة الفريدة ”إيا“، التي تُعد رائعة فنية، والتي قلب فيها بلاص حكاية المنفى، راوياً قصة امرأة عجوز مسلمة بقيت في بغداد تندب رحيل عائلة يهودية تبنتها عملياً.
في مرحلة ما سيُنظر إلى شمعون بلاص كأحد روائيي الشرق الأوسط المعاصرين الأكثر أهمية وإبداعاً ليس لأنه أبدع شكلاً جديداً فحسب بل لأنه صور أيضاً حيوات لم يتخيل أحد أنها يمكن أن توجد وتعيش في عوالم لن يفكر أحد أنها ممكنة. لا أستطيع أن أبالغ في التشديد على هذه النقطة الأخيرة لأنها تتعلق كثيراً برحابة إنسانية شمعون. وحين أقول إن الحيوات والشخصيات المحبوكة في رواياته غير قابلة للتصور فإن هذا صحيح أدبياً، بسبب المواقف العنصرية وضيق الرؤية والافتقار إلى الخيال أو التجربة، كما أن المجتمع الذي تم تلقي كتبه فيه مر في وقت كان صعباً إن لم يكن مستحيلاً فيه قبول وجود الأشخاص الذين كتب عنهم.
إن العمل الأكثر صعوبة الذي يواجهه الروائي دوماً هو خلق عالم يفترض وجود الناس فيه، ولا شك أن هذا النوع من العمل يغيّر للعالم. ومن المهم هنا أن نورد بشكل كامل ما قاله إلياس خوري :“إن قراءة شمعون بلاص هي رحلة في الجزء المجهول من الصورة. ذلك أن الكاتب العراقي الذي هاجر إلى إسرائيل في شبابه يصور في كتابته اللامُقال في الأدب العبري المعاصر. بالنسبة للضحية الفلسطيني الذي صار أقلية في وطنه، هو واحد منهم، وهو الصوت غير المنطوق للضمير بالنسبة لليهود الإسرائيليين، إن هذا المزج جعل صوت شمعون بلاص فريداً في الكتابة الشرق الأوسطية وبشكل كامل خارج إطار الحياة الإبداعية السياسية والسيرة الرسمية لإسرائيل المعاصرة. كانت قراءة هذا الأدب طريقة لي لاكتشاف مرآتي واستعادة النصف الآخر من روحي“.
إذا توقّفْنا ضمن حدود منطق خوري أكثر سنكون على المسار الخطأ ونفكر بعمل شمعون في تجليه المحلي فحسب، ذلك أن مقاومة قبول هذا العالم تمتلك جذوراً محلية (في الثقافة الأدبية الإسرائيلية) وأثرت أيضاً بشكل كبير في تلقي أعمال بلاص خارج هذا الجو. وبينما يجب علينا أن نبدأ دوماً من المحلي، إلا أنني أقترح أنه حالما تتأسس مكانة شمعون في المجال الإقليمي بشكل أكثر رسوخاً، فإن أهميته في حقل المخيال العالمي ستصبح جلية. أقترح أيضاً أن نبدأ بالتفكير بإنجازاته الأدبية كجزء من العالم الذي أبدعه، ثم نواصل التفكير بهذا العالم عبر علاقته مع العوالم التي أبدعها روائيون عظام آخرون. يستطيع المرء أن يأمل فحسب أن عملاً كهذا ناجماً عن الحب يمكن أن يبدأ به طالب في مكان ما ويعد دراسة مطولة تلم بجميع تفاصيل عالم بلاص الأدبي وهناك حاجة ماسة لدراسة كهذه من أجل جعل العالم الذي أبدعه شمعون مرئياً أكثر. دون دليل كهذا، سنتخلى عن الكثير من القوة وعن حقوقنا المشروعة في الوراثة. وبينما يُعد هذا اللقاء إشارة أمل ينبغي علينا أن نعثر على طرق كي نواصل العمل للكشف عن مدى أهمية الكنز الذي تركه لنا صديقنا العزيز شمعون بلاص.
تشرين الأول ٢٠١٩- تموز ٢٠٢٠
[ترجمة: أسامة إسبر]