العراق. وزارة الصحة أم “وزارة الموت”؟

[في المستشفى المؤقت الذي يعد 525 سريرا والذي أنشئ في مركز المعارض الدولية ببغداد للحد من انتشار جائحة كوفيد-19. Ahmad Al-Rubaye/AFP] [في المستشفى المؤقت الذي يعد 525 سريرا والذي أنشئ في مركز المعارض الدولية ببغداد للحد من انتشار جائحة كوفيد-19. Ahmad Al-Rubaye/AFP]

العراق. وزارة الصحة أم “وزارة الموت”؟

By : Arabic Editors

كانتان مولر

النظام الصحي العراقي على شفا حفرة من الانهيار، بعد أن باتت المستشفيات العمومية التي كانت قديما تحتضن أفضل أطباء العالم العربي مرتعا للرشاوي والسرقة ولزبونية قاتلة. وبينما تواصل جائحة كورونا الانتشار، تبقى محاولات إصلاح “وزارة الموت” مجرد حبر على ورق.

تجلس امرأة في عبايتها السوداء في رواق مظلم، تترنح ألما وتقول باكية: “لقد كانت في قسم العناية المركزة عندما قال لي الأطباء إنهم يفتقرون إلى الأكسجين وإنها ستموت إن لم أعثر لها عليه. بحثنا في كل مكان لكن دون جدوى...”. انتشر هذا الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو يروي قصة عائلة أصيبت فيها الأم بوباء كوفيد-19. وقد دخلت قسم العناية المركزة في مستشفى الناصرية لكنها توفيت لعدم وجود قوارير أكسجين.

يقول هاردي ميدي، وهو دكتور في العلوم السياسية وباحث في المركز الأوروبي للعلوم الاجتماعية والسياسية (CESSP، جامعة باريس 1-بانتيون السربون): “لقد تخلت الدولة تماما عن المستشفيات، خاصة في الناصرية ولكن كذلك في مدن أخرى”. وهو ما يؤكده طبيب من محافظة ذي قار يعمل بمستشفى الحسين قائلا: “توفي 31 مريضا كانوا في قسم العناية المركزة جراء نقص في الأكسجين لمدة أربع ساعات”. ورغم أن جائحة كورونا لم تنتشر بسرعة في الفترة الأولى، ما لبث العراق أن التحق ببقية البلدان، إذ ارتفع عدد الحالات في يونيو/حزيران بنسبة 600%، ما فاق بكثير قدرة المرافق العمومية المحدودة. وحتى تاريخ 19 أغسطس/آب، يعد العراق 709 184 حالات -من بينها 4576 في الأربع وعشرين ساعة الأخيرة، وهو رقم قياسي منذ بداية الوباء- بينما بلغ عدد الوفيات 6036.

حتى الباراسيتامول غير موجود

في 2015، كانت ميزانية الدولة المخصصة للصحة أقل من 1% من الميزانية العامة، مقابل 3,6% في الأردن و3,8% في لبنان و4,6% في إيران. وقد كانت الحكومات تبرر دائما نقص التمويل بالحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن الأمر لم يتغير في 2019 رغم السلام النسبي. فحتى في تلك السنة، لم تخصص الدولة سوى 4,8 مليار دولار من مجموع 106,5 مليار دولار لوزارة الصحة، في حين حظيت قوات الأمن ووزارة النفط على التوالي بـ19 و14 مليار دولار.

علاوة على نقص الموارد، تعاني المستشفيات العمومية من فساد عارم كان موجودا منذ زمن نظام صدام حسين لكنه استفحل منذ سقوطه سنة 2003. يفسر النائب عن كتلة المستقبل سركوت شمس الدين هذا الوضع بعدد الوسطاء وعدد عقود الطلب الضخم الذي يجعل تتبع مصاريف وزارة الصحة أمرا صعبا، وهي “أكثر الوزارات فسادا” وفقا للنائب.

تختار الدولة كل سنة أدوية المستشفيات وتستوردها بواسطة شركة “كيماديا” العمومية، والتي أضعفها الحصار ثم الحرب. كما تعاني الشركة من الديون ومن ضعف التمويل، حتى أنها باتت لا تغطي سوى 25% من احتياجات البلاد. في 2018، كانت 85% من الأدوية الحيوية التي تحتاجها المستشفيات إما غير متوفرة بالكميات الضرورية أو غير موجودة بتاتا، رغم مبلغ 800 مليون دولار الذي حظيت به الشركة. إفلاسها جعل الحكومة تلجأ إلى أطراف أخرى لاستيراد الأدوية، من بينهم مهنيون لا يتمتعون بالخبرة اللازمة في مجال تجارة الصحة ولا بالنزاهة المنشودة، كما أنهم لا يكترثون بالمصلحة العامة والوطنية.

يقول هاردي ميدي: “هناك تجارة غير مشروعة للأدوية في العراق والمسؤولون عن استيرادها لفائدة الوزارة هم عادة أشخاص يتبعون أحزابا سياسية أو مقرّبون من الطبقة الحاكمة. وقد تكون الأدوية المستوردة بأثمان باهظة مزيفة أو ذات جودة سيئة”. الزيادة في أسعار الفواتير وسرقة مخازن الأدوية واستيراد الأدوية المزيفة ينهك البلاد، حيث أصبح أمل الحياة عند الولادة يبلغ بالكاد 70 سنة، مقابل 72 سنة بالنسبة للمعدل العالمي و82 سنة بالنسبة للمعدل الفرنسي.

يقول كرم محمود، وهو صيدلي منذ 11 سنة: “تعداد الأدوية التي نتمتع بها أسهل من تعداد الأدوية التي تنقصنا. حتى الباراسيتامول غير موجود أحيانا”. وهو ما تؤكده الطبيبة رؤى الأمين من مستشفى الناصرية قائلة: “لقد أنشأ طاقم المستشفى شبكة خيرية بمساهمة الأطباء والصيدليين لاشتراء الأدوية غير الموجودة في المستشفى أو غير المتاحة، حتى لا يترك المرضى الفقراء لمصيرهم”.

وحده تضامن المواطنين يسمح بوجود صحة عمومية: “نستهدف علاجا معينا والمريض الذي يحتاجه، ثم نجمع المال من عند العاملين بالمستشفى المتطوعين للمساعدة. نعطي بعد ذلك المال الذي جمعناه إلى صيدلية تذهب إليها عائلة المريض وتقدم إليها الوصل الذي أعطيناها إياه وهكذا تحصل على الدواء مجانا. عادة ما نفعل ذلك للعلاج الكيميائي، لكننا نفتقر للعديد من الأدوية. حتى أن العائلات قد تضطر لاشتراء الحقن والإبر بنفسها... هذا أمر غير معقول، من المفروض ألا يحتاج السكان إلى هذه المساعدات! وقد يرفض بعض المرضى التداوي تجنبا لما يرونه نوعا من الذل...”

نعال طبية من علامة غوتشي

نقص الأدوية ليس المعضلة الوحيدة، إذ يعاني الأطباء كذلك من قدم الأجهزة والبنى التحتية التي تعود إلى عهد صدام حسين، إذ لم يتم بناء أي مستشفى عمومي تقريبا منذ انتهاء فترة حكمه. وهنا أيضا، يعود السبب لتفشي الفساد، وفق سركوت شمس الدين: “عشرات مشاريع البناء أجهضت بسبب الفساد”. ولا يكاد معدل عدد الأسرة بالنسبة لعدد السكان -2,1 سرير لألف ساكن- يرتقي لمعدل المنطقة.

نقص الموارد يزيد من الضغط على المستشفيات، إذ أصبح الحصول على موعد مع طبيب متخصص أو لإجراء عملية جراحية يحتاج لكثير من الوقت. وطبعا، يزيد هذا الازدحام من الفساد. خلال سنوات -وحتى اليوم رغم احتواء هذه الظاهرة أمام نمو القطاع الخاص-، كان مديرو المستشفيات العمومية يأخذون الرشاوي مقابل موعد عملية جراحية أو غرفة خاصة أكثر نظافة أو اهتمام الممرضات بالمريض. وهي ممارسات شهدت عليها رؤى الأمين، وتشجع عليها الرواتب الشهرية الضعيفة (بين 830 و950 دولار بالنسبة للطبيب).

تقول رؤى الأمين: “كثيرا ما نروي هذه النكتة عندما يشتكي أحدهم من ظروف العمل فنقول: ’لا تشتم وزارتنا، فقد زودتنا بنعال طبية من علامة غوتشي’”. تعود هذه النكتة إلى سنة 2017 حيث أبرمت وزارة الصحة عقدا بقيمة مئات آلاف الدولارات مع علامة تجارية تنتج نعالا طبية ذات الاستعمال المؤقت التي يستعملها الطاقم الطبي يوميا. تقول الطبيبة التي لم يتجاوز عمرها 25 سنة وقد أنهكها هذا النظام: “نفتقر للعلاج ضد السرطان أو حتى لأدوات بسيطة أحيانا، ووزارتنا تبرم صفقة مربحة من أجل اقتناء نعال طبية. لسنا حمقى، نعلم جيدا أن ما فعلوه كان لإخفاء تضخيم سعر الفواتير”.

فساد حتى في مطعم المستشفى

طناز (اسم مستعار) طبيبة بمستشفى الكندي في بغداد. عندما أبرمت عقدها الأول مع وزارة الصحة، تمعنت في قسيمة راتبها فاكتشفت أنه سيتم خصم مبلغ 330 ألف دينار (280 دولار) من راتبها الشهري -أي ثلثه- مقابل الأكلات التي ستتناولها في مطعم المستشفى. لم تحرك طناز ساكنا، وهي اليوم تحصل على راتب شهري دون حتى أن تعرف تفاصيل الدفع. وعندما سألناها عن المرة الأولى التي وجدت نفسها فيها في مواجهة الفساد قالت: “الوجبات التي تقدم إلينا في مطعم المستشفى لا تصلح حتى لأكل كلبك”.

أكد العديد من الأطباء وجود مصاريف الأكل هذه وأنها طريقة للزيادة في الفواتير وسرقة المال العام. وقد اقترح بعضهم أن تحذف هذه المادة من العقد وأن تكون لأفراد الطاقم حرية اختيار مكان أكلهم، حتى لا يخصم كل هذا المبلغ من أجورهم. لكن وفق طناز، “كلما أعرب أحدهم عن امتعاضه من هذه الممارسة تم تهديده بالقتل”.

كان هذا السبب الذي جعل علي أهيلالي البالغ من العمر 36 سنة يرحل من العراق. ففي 2016، تم انتخابه ممثلا عن الطاقم من طرف 345 طبيبا يعملون بمستشفى اليرموك. وما لبث أن دخل مطبخ المستشفى: “عشرات كيلوغرامات اللحم والغذاء كانت غير موجودة رغم كون الوزارة دفعت ثمنها. أصريت على أن يتم العثور على هذه الكميات وأن يتم إطعام الموظفين كما يجب، حتى قال لي المتصرف أنني إن لم أسكت فسيقتلني أحدهم. سألت من هو الذي سيقتلني لكنه لم يجبني. إن القضايا المالية مهمة جدا بالنسبة لهذه العصابة!”. خوفا من أن يتم قتله، استقال علي ورحل إلى الدانمارك.

هجرة الشباب تعمق الأزمة

 

فعلا، فإن ظروفا كهذه تحمل الأطباء الشباب على الهجرة. تقول طناز: “منذ شهر، زار وزير الصحة المستشفى الذي أعمل به وفجأة، ظهرت جميع الأدوية التي كانت تنقصنا”. أما رؤى الأمين، فهي تتذكر سيارات الإسعاف التي طلبها المستشفى: “كانت السيارات جديدة لكن فارغة، حتى الوسادات سرقت”.

يعيش الأطباء العراقيون أحداثا كهذه يوميا. لكن الشباب الذي تحصل للتو على شهادته مطلوب في الأردن وفي مصر ولبنان. فمعدل الطبيب والممرض الواحد بالنسبة لعدد السكان ضعيف جدا في العراق، إذ لا يتجاوز 1,2 ممرضة وقابلة لألف ساكن، مقابل 3,2 في الأردن و3,7 في لبنان. بل لا يتجاوز معدل الأطباء 0,83 لألف ساكن وهو معدل ضعيف جدا مقارنة بباقي دول الشرق الأوسط. يشرح هاردي ميدي ذلك قائلا: “بعد الاجتياح الأمريكي لسنة 2003، رحل الكثير من الأطباء العراقيين المعروفين دوليا. أغلبهم كان من السنة فهم كانوا يتمتعون بامتياز أيام صدام حسين لمواصلة دراساتهم والحصول على منح للدراسة في الدول الأجنبية”.

علاوة على نقص الموارد، تعاني المستشفيات العمومية من فساد عارم كان موجودا منذ زمن نظام صدام حسين لكنه استفحل منذ سقوطه سنة 2003. يفسر النائب عن كتلة المستقبل سركوت شمس الدين هذا الوضع بعدد الوسطاء وعدد عقود الطلب الضخم الذي يجعل تتبع مصاريف وزارة الصحة أمرا صعبا، وهي “أكثر الوزارات فسادا” وفقا للنائب.

زبونية التوظيف

ما زاد الطين بلة هي سياسة إدارية زبونية. يقول رائد فهمي، وهو وزير سابق وعضو في الحزب الشيوعي العراقي: “سبب فساد الصحة هي سياسة الحصص التي وضعت منذ 2003 والتي تطال جميع المستويات الإدارية وحتى رؤساء الأقسام”. ولا يتردد بعضهم في استعمال وفائهم للحزب الحاكم كوسيلة للالتحاق بكلية الطب أو حتى للحصول على الشهادة. يقول سركوت شمس الدين: “جميع الأحزاب العراقية ترغب في الحصول على”خدمات الوزارات“لا سيما وزارة الصحة، لإرضاء ناشطيهم، لا ليكونوا في خدمة الشعب. حتى ونحن نعيش جائحة، فإن الحزب الذي يسيطر على وزارة الصحة يخدم أولا ناشطيه”. ويؤكد هاردي ميدي قائلا: “التمتع بالرعاية الصحية أمر شخصي ومسيس. يمكنني الحصول على موعد مع ذلك الطبيب أو على سرير لزوجتي أو على أدوية غير متاحة إن كنت ناشطا في الحزب المناسب. فالانخراط في الحزب الذي يسيطر على وزارة الصحة يمكن المواطن العراقي من التداوي”.

ووفق طناز، فإن ظرف الجائحة زاد من حدة هذه الظاهرة: “أشتغل حاليا في قسم مخصص للفيروس. يحتاج مرضى هذا القسم إلى دواء يدعى أكتمرا، وهو دواء باهظ جدا في السوق السوداء، وقد يصل مبلغ القنينة الواحدة مئات الدولارات. انتهى هذا الدواء لدينا أكثر من مرة، وكنا نطلب من الوزارة إعادة مدنا به فتفعل، لكن عندما كنا نطلب الأمر ذاته من إدارتنا كانت تفرض بحجة أن الدواء غير موجود، فالحركة الصدرية التي تسيطر على الوزارة تسرق الأدوية النادرة. كما رأيت أسرة في قسم العناية التنفسية المركزة محجوزة لشخصيات مهمة من عناصر الميليشيات أو أقرباء نواب، إلخ. وقد توفي العديد من المرضى الذين كنت أعتني بهم لأن هؤلاء أخذوا مكانهم”.

السرطان الذي تم علاجه في الهند

ليست جائحة كورونا فقط هي التي فضحت فساد نظام الصحة العراقي، بل هناك كذلك مرض السرطان الذي يعالج بطريقة سيئة جدا. ففي 2018، لم تستورد وزارة الصحة العراقية سوى أربع علاجات من مجموع 59 توصي بهم منظمة الصحة العالمية بصفتهم ضروريين لمعالجة مرض السرطان. تقول رؤى الأمين: “إن لم يكن لدى المريض ما يكفي من المال للتداوي في بلد أجنبي أو لاقتناء العلاج بنفسه، فأغلب الظن أنه سيموت”. أما من لديه الموارد المالية الكافية، فيذهب إلى الهند أو إلى لبنان أو إيران. فبحسب أرقام وزارة الصحة الإيرانية لسنة 2017، يأتي معدل 374 ألف عراقي سنويا من أجل السياحة الطبية. أما الحكومة الهندية، فقد منحت في 2018 للعراقيين 50 ألف تأشيرة طبية، وقد صرف هؤلاء 500 مليون دولار للتداوي في الهند.

يقول سركوت شمس الدين: “المهمة الأساسية للمستشفى العمومي منذ 17 سنة هي جمع المال من خلال الرشاوي والعقود الضخمة. وقد فاقت قيمة الفساد في وزارة الصحة 10 مليار دولار منذ 2003”. اتصلنا بالعديد من وزراء الصحة العراقيين السابقين لكنهم رفضوا الإجابة عن اسئلتنا. لكن علاء عبد الصاحب العلوان الذي استقال سنة 2019 بسبب “فساد لا يمكن التغلب عليه” أجاب عن أسئلتنا.

تسارع الفساد أدى إلى تفاقم تدهور نظام الصحة

شغل علاء عبد الصاحب العلوان منصب وزير الصحة من أكتوبر/تشرين الأول 2018 حتى سبتمبر/أيلول 2019. وقد حاول هذا الطبيب الذي سبق واشتغل مع منظمة الصحة العالمية أن يحتوي الفساد قبل أن يستقيل.

كانتان مولر. — ما هو السبب الذي يجعل وزارة الصحة أكثر الوزارات فسادا في العراق؟

علاء عبد الصاحب العلوان. — علاء عبد الصاحب العلوان: يطال الفساد تقريبا جميع المؤسسات الحكومية العراقية، إذ تم اختيار أغلب الموظفين الموجودين في مناصب مهمة على أساس انتمائهم السياسي أو لمصالح سياسية، لا لكفاءتهم. ويستعمل جزء كبير من ميزانية وزارة الصحة لاقتناء الأدوية والتجهيزات الطبية. لكن في غياب تصرف عقلاني وتتبع حقيقي، يساء عادة استعمال الأموال العمومية ويتم اتخاذ قرارات غير عقلانية واشتراء أجهزة لا تتناسب مع المطلوب. كما أن سوء التصرف والفساد يطالان مشاريع البنى التحتية وعقود البناء وإدارة مهن طاقم الصحة. كما هناك نقائص فادحة خلال التكوين، فنحن في العراق نفتقر إلى الأطباء والممرضين، لكن لدينا أطباء أسنان وصيادلة أكثر مما نحتاج.

ك. م. — لمَ تفتقر المستشفيات العمومية إلى الأدوية؟

ع. ع. — إن مجال الصحة في العراق لا يتمتع بالتمويل الكافي، فالنفقات العمومية في مجال الصحة هنا أقل مما يصرف في البلدان المجاورة، بما فيها البلدان التي لا تتمتع بنفس الموارد التي يتمتع بها العراق. فالميزانية ضئيلة والفساد وسوء التصرف يزيدان الطين بلة.

تكون النتيجة إذن نقصا فادحا في أدوية ذات أولوية. وهو ما كان عليه الأمر عندما أصبحت وزيرا أواخر سنة 2018. تغيير الإدارة والموظفين السامين الذي قمت به جعل هذه الأدوية متاحة أكثر بين 2019 و2020. ولولا ذلك، ما كان العراق قادرا على معالجة آلاف الجرحى الذين خلفتهم احتجاجات 2019 والحالات المستعجلة الأخرى.

ك. م. — كيف تدهور أحد أفضل الأنظمة الصحية في العالم العربي إلى هذا الحد؟

ع. ع. — إن العقوبات التي فرضت لمدة 13 سنة قوّضت النظام الصحي. وبعدها، تفاقم الأمر بسبب سوء تصرف معظم الحكومات منذ 2003 ثم بتسارع الفساد.

لم تخضع المستشفيات لأي صيانة أو تجديد حقيقي خلال العقود الأربعة الأخيرة. وقد أبرمت عقود من أجل بناء مستشفيات جديدة في 2008، لكن شبهات على المستوى المركزي وعلى مستوى المحافظات جعلت الأمر يتعقد وفتحت تحقيقات. وهكذا انقطعت الأشغال سنة 2014. عندما استلمت حقيبة الصحة، كانت الأشغال قد توقفت تماما لمدة أربع سنوات. نجحنا أخيرا في حل بعض المشاكل وقد تم إنهاء بناء أحد هذه المستشفيات في كربلاء، كما سيتم إنهاء أشغال أربعة مستشفيات أخرى في غضون بضعة أشهر.

ك. م. — لماذا استقلت؟

ع. ع. — في رسالة استقالتي، قلت إن سببها هو استمرار تصدي المجموعات السياسية للإصلاحات والمحاولات العدوانية لصد إجراءات منع الفساد ومكافحته. طبعا، فإعادة البناء والتصرف العقلاني الشفاف لا يصب في مصلحة أولئك الذين يتمتعون بسلطة سياسية قوية في العراق.

 

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬