جدل المهرجانات : بين الدولة والسوق وتجار الأخلاق[1]
قبل أن تشغل أزمة فيروس الكورونا العالم بعدة أسابيع شغلت وسائل التواصل الاجتماعي المصرية نقاشات حادة حول أغاني المهرجانات إثر منع أحد المغنيين من الأداء في المطاعم والملاهي[2] في نفس الوقت التي أظهرت إحصائيات منصة ساوندكلاود أنه يحظي بمتابعة كبيرة عالمية[3]. ومن الممكن أن نتبين ثلاثة مداخل رئيسية دار حولها النقاش: الأول مدخل صراع الطبقات والصدام بين ذوق الفقراء وذوق الأغنياء. والمدخل الثاني يركز على العلاقة بين الفن والأخلاق أوالمهمة الاجتماعية للفن من حيث الجدل حول محتوى الأغاني موضوعا ولفظا وما قد تحتويه من تحريض على العنف أو التحرش في مقابل كونها تعبير عن ظواهر متفشية في المجتمع. وأخيرا المدخل الثالث يتطرق لعلاقة الدولة بالفن من ناحية جدوى وأحقية الرقابة والمنع من نقابة الفنانين وتدخل النظام السلطوي بمشروعه السياسي والاقتصادي في تنظيم الانتاج الفني والتحكم في الأذواق وهندسة المجتمع.
نرى أن قضية المهرجانات بمداخلها الثلاثة تكشف عن تحولات عميقة وتطرح اسئلة أساسية عن المجتمع والدولة في مصر. ويقدم هذا المقال طرحا عن المهرجانات يحاول فهم تطور علاقة الدولة والمجتمع في مصر وانعكاسها في تشكيل علاقات الطبقات الاجتماعية. وبالرغم من خفوت حدة النقاش في هذا الموضوع وانشغالنا بقضية أكثر آنية فمازال من المهم طرح هذه الاسئلة. بالعكس قد يكون هدوء الجدل سبباً للتفكير فيما وراء الموضوع مع بعض المسافة لنجد أن قضية المهرجانات وقضية الوباء وجهان لعملة واحدة.
ونتقرح أن ثنائية الصراع الطبقي بين أغنياء وفقراء، فن الهامش وفن المركز، شباب العشوائيات في مقابل الطبقة البرجوازية، والتي احتلت مكانا أساسيا في النقاش غير كافية للتعبير عن تطورالمهرجانات كنمط فني ونمط استهلاكي وما تثيره من جدل مجتمعي. فمن ناحية 1- المهرجانات ليست مجرد نمط فني بل حقلاً فنياً شاملاً له فاعلوه المختلفون ولهم أساليب متعددة تنعكس في شكل ومضمون منتجاتهم الفنية. لكن هذا الاختلاف يعكس تطوراً في تصويرصراعات فقراء المدن مع الحياة وفلسفة جديدة أكثر حدة في مواجهة الحياة من الأغنية الشعبية التقليدية. كما أن 2- حصر المهرجانات اليوم في فئة "فن الهامش" يخفي تعقيد مشهد إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية في العقود الاخيرة وتحول الأنماط الاستهلاكية والنظم القيمية المرتبطة بها. ينقلنا ذلك إلى 3- التفكير في علاقة الدولة بفن المهرجانات وتفكيك العوامل المتداخلة في المنع والتضييق: من رقابة مجتمعية بمرجعية أخلاقية وصراعات طبقية تنعكس في صدامات خطابية وأخيرا إدارة أحادية للدولة والمجتمع.
1- المهرجانات: تعبير جديد من فقراء المدن
لا شك أن المهرجانات نشأت لتعبر عن حياة وصراعات فئة اجتماعية مهمشة وهم فقراء المدن بالذات الذين يسكنون المناطق العشوائية. فالمهرجان في الأساس، هو المساحة أو المناسبة التي يحتفل فيها الشباب في مناطق مهمشة، سواء كان في فرح أو حفلة، وعادةً ما تكون في الشارع بمصاحبة نوع من الموسيقى الحماسية أطلق عليها إذا مصطلح «المهرجان.» طور لغة موسيقية جديدة، وهي مزيج من التيمات الشعبية على إيقاع واحدة ونص سريع،[4] مع استخدام تقنيات هندسة صوتية مثل الـ auto tune.
وتطورت لغة موحدة للمهرجان خارج نطاق المعرفة التقليدية فيما يعكس إبداعاً حقيقياً لمنتجيه في ظل التهميش المعرفي والاجتماعي الذي عانوا منه لمدة عقود. ورغم رداءة المعدات المستخدمة بسبب قلة الإمكانيات، إلا أن تناقل النغمات بشكل شبكي بين المنتجين أسفر عن إنتاج مبتكر من حيث الشكل والمضمون، اللذان يتسمان "بالحدة" مقارنةً بالموسيقى الشعبية الغارقة في الحزن، أو بموسيقى البوب التي توقفت عن التطور المبتكر.
وهناك تنوع ملحوظ في أشكال المهرجان ومضمونه. فمنها ما يعتمد بشكل أساسي على طاقة المغني مثل حمو بيكا، وغيرها يعتمد على التنوع الايقاعي وتيمات الموسيقى مثل إسلام شيبسي، أو من يعتمد على قوة الكلمات مثل السادات، أو جودة الإنتاج مثل اوكا وارتيجا. أما من حيث المضمون، فالمواضيع المطروحة عادةً ما تكون قصصاً أو أمثالاً تعبر عن واقع الفنان ورؤيته للعالم والبيئة المحيطه به. لذلك نلاحظ تنوعاً واضحاً، إبتداءً من إسقاطات السادات الإجتماعية، مروراً بفلسفات الحياة المطروحة من قبل حمو بيكا واوكا وأورتيجا، وحتى التعبير العاطفي عند حسن شاكوش. ففي معظم الحالات، ينقل الفنان رؤيته عن الظروف المادية والإجتماعية كما هو الحال في الموسيقى الشعبية التقليدية، لكن الإختلاف يكمن في موقف الفنان نفسه من تلك الظروف، وإصراره على عدم الوقوف مكتوف الأيدي، حيث ينتقل من خانة الضحية أو المفعول به، إلى خانة الشاب العصامي الفاعل والفعال.
بالتالي فإحدى أهم سمات المهرجانات هي الواقعية الصادمة. على عكس الموسيقي الشعبية ذات الطابع الذي يكاد أن يكون روحانياً، فموسيقى المهرجانات تعكس الواقع كما يراه كتابه ومستمعوه. ولا شك أن تلك الواقعية تعكس إحساس الفنانين بعدم الثقة في المجتمع وواقع السوق، لشباب طموح يصر على تحدي الظروف دون انتظار مساعدة من أحد. ولعل هذه الخصائص هي ما جعلها محل اهتمام العديد من الباحثين في علم الاجتماع والانثروبولوجيا ومحط أنظارالأوساط الثقافية الدولية لأنها كانت تعبيرا جديدا عن الفولكلور ورومانسية المقاومة خاصة مع ارتباطها بلحظة الثورة في 2011 وانتشارها على مدى واسع معها.
وتعتبر شخصية محمد رمضان أو"علامته التجارية"، كما يصفها هو، التشخيص الأمثل لهذه الواقعية فهي تعكس نموذج صارخاً للنقلة النوعية في وعي الفنان. فيمثل محمد رمضان في مساره الشخصي كما في الشخصيات التي يجسدها الشاب العصامي المهووس بهدفه ويرفض أن يقع ضحية للظروف أوأن يجلس مكتوف الأيدي كما تعودنا في تصوير الطبقات الشعبية. فيتحول المنطق من "احنا بنتشعبط في رضا ربنا" إلى "ثقة في الله نجاح" إنعكاساً لرغبة محمد رمضان الدائمة للامساك بزمام الظروف والتخطيط لتحقيق النجاح. وبالفعل مثلما تشير التحليلات إن مهاجمة محمد رمضان وغيره من فناني المهرجانات تعود إلى انتمائهم الطبقي وخروجهم عن الدور المرسوم اجتماعياً للمهمشين.[5] ولعل هذا المنطق هو مدخلنا إلى منظور أكثر تعقيدا للعلاقات الطبقات والدولة في مصر.
2- المهرجانات: فن المركز؟
ننطلق من منشور على موقع تويتر لرجل الأعمال نجيب ساويرس يرد فيه على متابعة له انتقدت حبه ودعمه لمحمد رمضان. يرد ساويرس قائلا إن رمضان" انسان بنى نفسه بنفسه ونجح نجاح مبهر وممثل هايل".[6] تظهرلنا واقعية المهرجانات في تماش تام مع المنطق النيوليبرالي الذي يضع مسئولية النجاح على الاجتهاد الفردي والقدرة على المنافسة. ويؤكد مقال عبده البرماوي على ذلك مشيرا إلى أن الاجتهاد الفردي الذي يمر بالعنف يتشابك مع غياب أي تحميل مسؤولية للدولة ويوجه العنف للمجتمع الأقرب لهذا الفرد.[7] لكن التقارب بين المهرجانات والنظام النيوليبرالي لا يقتصر على القيم المحورية فقط والابتعاد عن أي تحميل مسؤولية للدولة بل يمتد إلى تعاون وطيد بين المجال الفني في تشكيلته الحالية والسوق. فلم تعد المهرجانات هذه الأغاني المنتجة بشكل مستقل وإمكانيات ضعيفة بل بدخولها الشركات الكبرى للانتاج الفني والموسيقي أصبحت تمثل نمطا استهلاكيا متكاملا. وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الاكترونية مثل اليوتيوب مازلت المساحة الأساسية التي تنتشر فيها فالكثيرون ومنهم المدفعجية وأوكا وأورتيجا اتجهوا إلى العمل الخاص في شركات الانتاج السينمائية وإحياء الحفلات خارج مصر.[8]
كما أنه في السنوات الأخيرة تستقطب الحملات الإعلانية فناني المهرجانات لتوسع فئاتها الاستهلاكية وفتح أسواق جديدة بمخاطبة الفئات المهمشة بمن يشبهوها. كما أصبحت المهرجانات كنمط فني تشغل مكانا خاصا في ذوق الطبقات المتوسطة العليا والطبقات الثرية. فلا شك أنه لا يخلو حفل من حفلات الزفاف التي تعقد في الفنادق الفخمة من أحدث أغاني المهرجانات. وبالتالي فمنتجو المهرجانات الحاليين يخاطبون الطبقات الأعلي بتسويق فولكلور جديد راقص ومسل وغرائبي.
تناول فنانو المهرجانات دخولهم ثقافة المركز بطرق مختلفة حيث يحيي بعضهم حفلات الزفاف في الفنادق الراقية باعتبارها مجرد وظيفة لتأمين الدخل، في حين أن الحفلات في مناطقهم الشعبية تعتبر واجبا تجاه أبناء المنطقة وتظل مصدر الدخل والشعبية الأساسي. كما حاول عدد منهم الدخول في البوتقة القانونية من خلال الإدراج في قوائم النقابة[9] رغم اقصاؤهم منها و تصاعد الأزمات، وآخرها أزمة حمو بيكا.[10] تنوع فناني المهرجات يظهر أيضاً على مستوى إدارة الأعمال أو التمركز في السوق المصري. فبينما يؤكد السادات مثلاً على بقائه، على أقل رمزياً، في منشأه بمدينة السلام، تحرك اوكا واورتيجا إلى مركز السوق الغنائي المصري من خلال ظهورهم كمواهب شابة يقدمها السبكي. و قد لعب هذا المنتج دورا كبيرا في التدرج الاجتماعي للمغنيين الشعبيين كأحمد شيبه والليثي، وفرق المهرجانات مثل المدفعجية وانتقالهم للمركز من خلال انتاج أفلام مثل عبده موته من بطولة محمد رمضان. صاحب ذلك إفراغاً للأغنية من محتواها الحاد في سبيل التركيز على شكل موسيقى المهرجان وجودة الانتاج والحالة الحماسية والجاذبية. والهدف من ترويض الكلمات أو اختيار تعبيرات مألوفة أكثر في المركز مع الاحتفاظ بالنمط الموسيقي الأساسي هو الحفاظ على الجمهور الأصلي مع توسيع القاعدة الجماهرية. وانعكس ذلك في تغير في نبرة أوكا واورتيجا مؤخراً، حيث تخلى الثنائي عن الـ-autotune والصراخ في أغانيهم مع تركيز واضح على عدم استخدام كلمات أو مواضيع خادشة، في محاولة للتقرب من جمهور البوب. وقد نجح فيه الثنائي بشكل كبير، حيث أنهم انتقلوا إلى مركز الساحة الفنية إذ يعتبران الأكثر إنتشاراً لدى الجمهور الذي لا يستمع عادةً للمهرجانات.
وهنا لابد أن نفرق بين توسيع نطاق إنتاج المهرجانات واستهلاك المهرجانات التي شهدت رحلة من الهامش إلى المركز والحالة التي تعبر عنها من حياة الذكور في المناطق المهمشة وتحدياتهم ورغباتهم وصراعاتهم فمازالت المهرجانات تعبر عن هذه الحالة ووثيقة الصلة بحياة فنانيها. لكن يترتب على ذلك أنه في حالة المهرجانات يختلط تسليع المنتج (الأغنية ذات الألحان الراقصة) وتسليع الفنانين أنفسهم كمعبرين عن تجربة ومسارات حراك اجتماعي وأساليب أدائية (لبس- كلام- فلسفة). وهو ما حدث مع محمد رمضان، فهو في حد ذاته المنتَج أو الـ"علامة التجارية" وأيضا مع أوكا واورتيجا، مع تزايد ظهورهم الإعلامي والتجاري.[11] فالنجاح الجماهيري والتجاري الكبير يضع المهرجانات في مركز الاهتمام الإعلامي والمشاهدات على مواقع التواصل الإجتماعي، أو بمعنى آخر، في مركز الحقل الثقافي المصري.هنا نفهم نقد السيد حلمي بكر[12]، حيث أن طريقة تذوق تلك المنتجات، التي تضع الفنان نفسه وهيئته وعقليته للاستهلاك، تختلف عن تذوق الموسيقى لمجرد الموسيقى، فالمهرجانات بالفعل ليست منتجا هدفه التحليل الفني، بل للرقص ولمعرفة القصة وما وراء كلمات وحماسة فنان المهرجان نفسه.
ولا يتنافى استهلاك المهرجانات بشكل موسع كنمط فني أو أسلوب أدائي مع إعادة إنتاج خطاب يحقر من "إحداث" فنانيها ويستنكر صعود هؤلاء الشباب السلم الاجتماعي بسرعة شديدة. هذا الخطاب يؤكد أن الأغنياء ليسوا كيانا صلدا موحدا. فاستهلاك الطبقات العليا والمتوسطة العليا بوتقة من أذواق متعددة دون أن يشكل ذلك تناقضا بقدر ما يشكل تعايشا متوترا أحيانا بين نظم قيمية وأنماط استهلاكية وحياتية لأغنياء يرون أنهم قدماء وآخرون يرون أنهم جدد.
فالجدل حول المهرجانات يشكف لنا تعقيد العلاقات الطبقية في مصر في ظل تعدد أنماط الاستهلاك والمواجهة بين النظم القيمية. فإن كانت المهرجانات بدأت كفن الهامش وكصوت من لا صوت لهم ومن لا يعبر عنهم إلا خطابات الدولة والمركز، فهي الآن تحتل مكانا محوريا في هذا المركز. ولابد أن نتعامل معها فكريا كجزء من المشروع الاقتصادي النيوليبرالي الذي يتبناه النظام الحالي. وفي هذه الحالة لابد من مراجعة المداخل السائدة لتحليل علاقة الدولة مع المهرجانات و فنانيها ومعنى التعرض بالمنع لبعض الفنانين.
3- من يريد منع المهرجانات؟ نحو رؤية مركبة لموقع المهرجانات من الدولة والطبقات الاجتماعية
إن التركيز على منع المهرجانات أو نقدها لا يتم دون أن نضع هذه القضية في سياق أوسع من ناحية سيطرة الدولة على المجال العام ومن ناحية أخرى سياق تحول المجال الفني والموسيقي كمهنة (وليس فقط كسوق). كما أنه من المهم تفكيك تداخل الفاعلين المسئولين عن منع بعض فناني المهرجانات من الغناء أو حتى النقد الأعم لهذا الفن وما يمثله من "ثقافة" أو نظام قيمي. فمعظم التحليلات التي تتناول نقد المهرجانات تقتصر علي فئات كلية macro مثل الدولة أو البرجوازية وتغفل فئة أساسية وإن كانت غير كلية تشمل من يمكن أن نطلق عليهمMoral entrepreneurs : (ونترجم المصطلح: تجار الأخلاق). هم فاعلون أفرادأ أو مجموعات يتحدثون باسم الأخلاق وقيم الأسرة وأصالة الفن وأحيانا الوطنية. يسعي هؤلاء لاحتكار تعريف ما هو الشعب/الفن/المواطن المصري الأصيل مستخدمين المساحات المتعددة منها الإعلام، أو المؤسسية مثل النقابات، أو القانونية مثل تقديم بلاغات للنيابة العامة للتعبيرعن موقفهم بل والتحرك ضد من يرون أنهم يشكلون تهديدا للاخلاق أو الفن حسب تعريفهم.
وتبين التحليلات أنه في كثير من الأحيان يرتبط الموقف الناقد والتدخل الذي يترتب عليه بحسابات مهنية وتحديد مجالات هيمنة داخل المجال الفني.[13] فتمتزج مرجعية الأخلاق والاصالة الفنية في الصدام المتكرر بين مغنيي المهرجان وشخصيات مثل حلمي بكر[14] والذي كان شخصا محوريا تحليل الجدل الأخير حول المهرجانات[15]، الذي يضع نفسه في موضع السلطة المجتمعية ويتقمص دور المعلم الذي ينقذ "الفن" و "الغناء" من "الجهل" على حد تعبيره. كما يتضمن خطابه أيضا مرجعية الوطنية للحفاظ على "فن مصر". ولا يجب فصل هذا الصدام عن السباق المهني لمجاراة الواقع التكنولجي الحالي والمجالات فنية والأسواق الجديدة التي يتيحها. ففي أحد اللقاءات التي جمعته بأوكا واورتيجا، أكد الشابان على ارتفاع نسب المشاهدة التي حققوها محلياً وعالميا، بينما تساءل بكر عما إذا كان الشابان قد أعتمدا في الإذاعة. في مشهد يبين تفاوتا جيليا وصراعا مهنيا على المساحات والاحتفاظ بالأهمية.
وكما أشار العديد من المحللين أيضا فإن موقف تجار الأخلاق من المهرجانات بالنقد والمنع لا يمكن أن نقرأه دون وضعه في سياق صراع الطبقات بمعني أن تجار الاخلاق يتحدثون باسم منظومة قيمية مرتبطة بفئة اقتصادية من الممكن أن نسميها بالطبقة المتوسطة في مواجهة المهرجانات والتي تمثل المنظومة القيمية للفئات المهمشة كما فصلنا في الجزء الأول.
وبالرغم من وضوح البعد الطبقي في جدل المهرجانات لابد أن نقرأه في سياق أوسع تتعدد فيه حوادث استخدام هذه المرجعية الأخلاقية لتحقيق سلطة مجتمعية تحرك المساحات المؤسسية: مثل تقديم بلاغ في فنانة بسبب فستان ارتدته أو حبس كاتب لما في روايته من إيحاءات جنسية. فنجد إذا أن تجار الأخلاق وإن كانت مرجعيتهم نفس المنظومة القيمية لا يقتصرون على مهاجمة المهرجانات كتعبيرعن ثقافة المهمشين. وهذا وجه يدعو للبحث عن تصور أكثر تعقيدا وتركيبا للصراع الطبقي غير هيمنة أخلاق برجوازية ومقاومة مهمشين بقدر ما هو إعادة تشكيل مستمرة للبنية الاقتصادية تفتح وتغلق مسارات عديدة للحركة الصاعدة والهابطة يصاحبها صراع مرجعيات وخطابات تتداخل فيها النظام القيمية وأساليب الحياة لتتكامل تارة وتتنافرتارة مشكّلة المساحات متنوعة واهمها مساحة المجال الفني (الموسيقي و الدراما).
ومثلما نرى أهمية عبور المنظور الثنائي للطبقات نرى أيضا ضرورة تحليل علاقتهم بالدولة كعلاقة جدلية تفاعلية وليس صراع وجود بين منظومة برجوازية تدعمها أو تعبر عنها الدولة وبين مهمشين تقصيهم الدولة ولا تلتفت إليهم أو تقمعهم.
فمن ناحية لابد أن نأخذ في الاعتبار أن الدولة ليست بالضرورة كيانا موحدا بالرغم من تمثّلها في أذهاننا كذلك.[16] فالدولة تتكون من أجهزة ومؤسسات وشبكة فاعلين متعددين. كما أن هناك مساحات مؤسسية مجتمعية بالأساس مثل الإعلام والنقابات والمؤسسات الدينية التي بالرغم من امتداد الدولة تاريخيا فيها لا يمكن أن نعتبرها جزءا تلقائيا أصيلا من هذا الكيان المسمي بالدولة غير متمايز عنه[17]. كما أننا بصدد نظام يدير أجهزة الدولة بشكل أحادي في إطار تحقيق مشروع سياسي واقتصادي ويتغلغل في المساحات المجتمعية كافة معيدا تشكيلها بسياساته ووفقا لرؤيته. فإذا كان هذا الكيان المسمي بالدولة يتبنى أحيانا خطاب تجار الأخلاق ويدعم المواقف التي يتخذونها أو حتى يتصرف كتاجر أخلاق محركا المساحات التي يمتد فيها لمنع هذا أو تضيق على ذاك فهل المنع أو المضايقة التي يتعرض لها فنانو المهرجانات تهدف بالضرورة إلى تحجيم هذا الفن أو منعه كلية؟ وهل هناك انحياز من الدولة والنظام الذي يقودها لنظام قيمي دون آخر يمثل انحيازه لطبقة معينة بأسلوب حياتها وقيمها؟
لو اتبعنا الرؤية الماركسية فالإجابة تكون بالطبع نعم وهي أيضا الرؤية التي تتكرر في معظم التحليلات التي تضع المهرجانات في مواجهة تلقائية مع كل من الدولة والنظام بصفتها مرة أخرى فن المهمشين. لكن نرى أنه حتى الآن إذا قارننا النظام الحالي بسابقه نجد أنه لا يبدي انحيازا صريحا لنظم قيمية وأنماط استهلاكية دون غيرها. فحاليا لا تظهر طبقة واضحة حليفا وشريكا للنظام على المستوي الخطابي. أما على مستوي السياسات فمثلما يتوجه للعشوائيات بمشروعات نقل وإعادة تسكين يتوجه أيضا إلى مناطق الطبقة المستوطة العليا والمتوسطة (مصر الجديدة ومدينة نصر) بكباري ومشروعات إعادة هيكلة دون العبء بأصوات أهلها المعارضة.إذا فحتى الآن ستظل مواجهة بين الدولة والمهرجانات مشادات عرضية هدفها تأكيد اليد العليا للنظام وسيطرته باحكام على المجال العام والأهم على الأجزاء المربحة من هذا المجال.[18] فهي ليست معركة وجود أو تناقض أصيل في المشروعات طالما ظلت المهراجانات نمطا استهلاكيا يعبر عن فئات موجودة وإشكالية ويتيح قنوات للوصول والإحاطة بهذه الفئات كما أنها، وهذا الأهم، أنها منتج يفتح أسواقا.
بعيدا عن المهرجانات: مشهد التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر اليوم
يقف المجتمع المصري الآن على قمة تحول جذري بدأ مع سقوط مبارك في فبراير 2011. وتمثل الساحة الموسيقية والفنية موقعا استراتيجيا لرصد وتوثيق وتحليل هذه التحولات لاتخاذها مدخلا لفهم أعمق للمجتمع وخاصة عند عبوره أزمات مثل الجائحة العالمية التي مازلنا نعيشها الآن. نخلص إذا من التفكير في جدل المهرجانات إلى أن الثنائيات مثل هامش/مركز – مجتمع /دولة – أغنياء/فقراء قد تعطي رؤية أولية عن الظواهر المجتمعية ولكنها تخفي تعقيدات المشهد المجتمعي وتحولاته التي تنتج من حركة ديناميكية ومركبة للأفراد والمجموعات. كما أنه لابد من رصد الأدوات والمساحات القديمة والجديدة التي تنتجها تحولات النظام السياسي لإدارة المجتمع وإعادة تشكيله والسيطرة عليه. ينعكس كل ذلك في صراعات خطابية وقيمية تتبلور حول المنتجات الفنية والثقافية ولكنها تظهر أيضا في صراعات تشمل تحديد الأولويات السياسية وحتى مساحة المقبول وغير المقبول على مستوى أساليب الحياة اليومية.
هوامش
[1] ترجمة لمصطلح moral entrepreneurs لهوارد بيكر
[2] اعرف السبب الحقيقى وراء نشر إيلون ماسك تصدر أغنية حسن شاكوش على ساوند كلاود , اليوم السابع, 7 فبراير 2020
[3] بعد أزمة أغنية حسن شاكوش.. اعرف عقوبة معاكسة "بنت الجيران" , اليوم السابع, 20 فبراير 2020
[4] مي عامر، شرطة الأخلاق: لماذا تكره الدولة بنت الجيران, 20 فبراير2020 ,المنصة
[5] شرطة الأخلاق: لماذا تكره الدولة بنت الجيران و محمد نعيم، عن شاكوش و رفاقه : إيلون ماسك لن يعرف حلمي بكر , 10 فبراير 2020, المنصة
[6] محمد نحلة، محمد رمضان : أفتخر بصداقة نجيب ساويرس ,19 أبريل 2020
[7] عبده البرماوي، عن شاكوش و رفاقه : هل نري أنفسنا قبل أن يرانا إيلون ماسك, 11 فبراير 2020, المنصة
[8] يوسف الحريري، حرب الذوق العام أم الكاشات ,8 مارس 2020, مدي مصر
[10] سارة رمضان، يحيا الفن المنحط: الدولة العجوز في مواجهة أغاني المهرجانات, 20 مايو 2019, حرية الفكر و التعبير
[11] مع انهاء كتابة هذه السطور ترددت أنباء عن انفصال الثنائي وسنتابع نتائج هذا الانفصال على موقعهم في الساحة
[12] ونتحدث عنه أكثر في الجزء التالي
[13] يوسف الحريري، حرب الذوق العام أم الكاشات ,8 مارس 2020, مدى مصر
[14] محمد نعيم، عن شاكوش و رفاقه: إيلون ماسك لن يعرف حلمي بكر , 10 فبراير 2020، المنصة
[16] كما تشرح سلوى اسماعيل في تحليلها المفصل للدولة المصرية في كتابها Political life in Cairo's new quarters: Encountering the everyday state. U of Minnesota Press, 2006.
[17] لا نعني بذلك أنها بالضرورة مساحات "معارضة للنظام" فهذا أبعد ما يكون عن الواقع لكنها مساحات يستغلها فاعلون متعددون منهم الدولة
[18] اثناء الانتهاء من كتابة هذا المقال ظهرت أنباء بالحكم علي محمد رمضان بالسجن لمدة سنة في إطار قضية التصوير داخل الطائرة. تي الان الحكم غير واجب النفاذ ويقتضي دفع غرامات مالية. نري أن مواقف مثل هذا تؤكد طرحنا لكن مزيد من متابعة علاقة الدولة بالمهرجانات من هذا المنظور ستتيح لنا مزيد من التحقق من هذا الطرح وتدقيقه.