الدبلوماسية الدينية للمملكة العربية السعودية في جيبوتي

[جيبوتي (العاصمة).] [جيبوتي (العاصمة).]

الدبلوماسية الدينية للمملكة العربية السعودية في جيبوتي

By : Arabic Editors

هوغو لاكومب

أصبحت جيبوتي إحدى أولويات المملكة العربية السعودية في القرن الأفريقي، لكونها نقطة تقاطع تحالفات معقدة وتواجدها وسط رهانات لا تقل تعقيدا. حرصا منها على المحافظة على تأثيرها، تستخدم المملكة الدبلوماسية الدينية كوسيلة نفوذ من خلال بناء المساجد وفتح المدارس القرآنية وتكوين الأئمة والأعمال الخيرية.

كثيرة هي القوات الإقليمية التي تنظر باهتمام إلى منطقة القرن الأفريقي، وخاصة إلى جيبوتي التي تحظى بموقع استراتيجي حيث تلتقي القارة الأفريقية بشبه الجزيرة العربية، وهي بذلك تمنح القوات الأجنبية مكانا مميزا لتسهر على الأمن البحري لمضيق باب المندب، وهو نقطة العبور البحرية الرابعة عالميا في مجال نقل المحروقات.

كانت جيبوتي قبل استقلالها سنة 1977 تسمى إقليم العفر والعيسى الفرنسي وكانت آخر قاعدة فرنسية على القارة الأفريقية والمنطقة الوحيدة الناطقة بالفرنسية في شرق أفريقيا. ويبلغ عدد سكانها مليون نسمة، أغلبهم يعيشون في العاصمة جيبوتي. وقد حافظت البلاد على علاقة وطيدة بفرنسا التي تعد 1450 جنديا هناك وهي أكبر فرقة عسكرية لها بالخارج. كما تبقى فرنسا البلد الوحيد الذي أمضى مع جيبوتي اتفاقية تعاون في مجال الدفاع، ما يجعل من القوات الفرنسية مسؤولة عن حماية كامل تراب البلاد.

تمثل جيبوتي كذلك أرض استقرار في منطقة تنهشها الحروب وتعاني من انعدام الأمن منذ عقود، ما جعلها تتخذ من موقعها مصدر قوة من خلال استقبال قواعد عسكرية تابعة لعديد البلدان، من بينها أكبر فرقة أمريكية على الأراضي الأفريقية التي استقرت هناك بعد الهجمات التي طالت السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا سنة 1998. وقد أصبح مخيم ليمونيي (le camp Lemonnier) -وهي القاعدة العسكرية السابقة للفيلق الأجنبي الفرنسي التي ابتاعها الأمريكيون- نقطة انطلاق الطيارات بدون طيار التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية لاستهداف تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية المتواجد في اليمن وحركة الشباب في الصومال. كما أسست الصين في جيبوتي قاعدتها العسكرية الأفريقية الأولى سنة 2017، نظرا لموقع البلاد المتميز من أجل تأمين طريق الحرير الجديد.

حضور بلدان الخليج يتفاقم بدوره. فقد جعلت انتفاضات الربيع العربي وخشية صعود حركة الإخوان المسلمين هذه الدول تهتم بالقرن الأفريقي. وعليه فإن ضرورة تأمين منطقة غير مستقرة البتة يضاف إلى الرغبة في الحصول على حصص في سوق تشهد تطورا اقتصاديا يعد من الأسرع في العالم.

التخلص من قطر ومن الإمارات العربية المتحدة

تعرض انفتاح جيبوتي على استثمارات دول الخليج لعدة عراقيل. فحتى سنة 2017، كانت قطر تحظى بعلاقة جيدة مع حكومة إسماعيل عمر جيلي -رئيس جيبوتي منذ عام 1999-، حتى أنها لعبت دور الوسيط بين جيبوتي وإريتريا خلال النزاع الحدودي لسنة 2008، ما أدى إلى اتفاق وقف نار في يونيو/حزيران 2010 تزامن مع وصول فرق جنود قطرية لحفظ السلام في رأس دوميرا، وهي النقطة الحدودية المتنازع عليها بين البلدين. وبعد اشتباكات أودت بحياة 44 جيبوتيا وأكثر من مائة إريتري، احتفلت قطر بوساطتها على أنها نجاح ديبلوماسي سيديم تأثيرها في القرن الأفريقي.

لكن الاستقطاب الذي أدى سنة 2017 إلى مقاطعة قطر من طرف الدول الأربع (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر) أجبر جيبوتي على وقف علاقتها مع الدوحة. فما كان من قطر إلا أن سحبت جنودها -وكان عددهم 450- المتمركزة في المنطقة الحدودية بين جيبوتي وإريتريا. وهو قرار قد يقرأ كعقاب للبلدين بسبب انحيازهما إلى المملكة العربية السعودية، لكن أنصار قطر يرجعونه للتكلفة الباهظة للحفاظ على وحدة عسكرية في قرن أفريقيا، وهو أمر لم يعد أولوية بالنسبة للدوحة، علاوة على عدم التزام إرتريا جديا بالمساهمة في مفاوضات سياسية مهمة بهدف إيجاد حل ديبلوماسي للصراع.

أدى انسحاب قطر إلى إعادة نشوب توترات بين الطرفين، بيد أن المملكة العربية السعودية استغلت هذا الفراغ بنجاح ونظمت في جدة لقاء بين رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلي ورئيس إريتريا أسياس أفورقي. ويشهد تطبيع العلاقات بين الدولتين الذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة بأنه تاريخي على تنامي ثقل الدبلوماسية السعودية في المنطقة.

على جبهة أخرى، تدهورت علاقة جيبوتي مع الإمارات العربية المتحدة منذ 2018. فرغم أن شركة دي بي وورلد (DP World) التابعة لدبي أمضت عقدا مع دولة جيبوتي لاستغلال ميناء دوراله حتى سنة 2036، قررت حكومة جيبوتي إنهاء هذا الامتياز من جانب واحد في 22 فبراير/شباط 2018. وقد نتجت عن ذلك سلسلة إجراءات طويلة أمام محكمة التحكيم الدولية بلندن التي أصدرت قرارها السادس في يناير/كانون الثاني 2020 لفائدة شركة دبي. لكن جيبوتي نددت بما وصفته “إدانات اعتباطية” ولا تبدو مستعدة لقبول حكم تراه غير عادل، ما يشير إلى أن النزاع سيتواصل في المستقبل القريب.

أمام التأثير المتزايد لتركيا في القرن الأفريقي سيما من خلال تواجدها العميق في الصومال، جعلت الملكة العربية السعودية من جيبوتي إحدى أولوياتها. ففي هذه المنطقة التي باتت حلبة صراع نفوذ متزايد، يبقى الاستثمار الاقتصادي الوسيلة الرئيسية التي تتمتع بها الرياض. لكن أدوات السياسة الخارجية السعودية في تزايد وقد أصبحت أكثر نجاعة، ومن بينها الدبلوماسية الدينية التي واكبت إعادة هيكلة عمل الدولة وتنوع فاعليها من مؤسسات ومنظمات غير حكومية وجمعيات ومجموعات تأثير وشخصيات دينية.

كثيرة هي القوات الإقليمية التي تنظر باهتمام إلى منطقة القرن الأفريقي، وخاصة إلى جيبوتي التي تحظى بموقع استراتيجي حيث تلتقي القارة الأفريقية بشبه الجزيرة العربية، وهي بذلك تمنح القوات الأجنبية مكانا مميزا لتسهر على الأمن البحري لمضيق باب المندب، وهو نقطة العبور البحرية الرابعة عالميا في مجال نقل المحروقات.

إسلام المؤسسات

بحسب الإحصائيات الرسمية، فإن 98% من سكان جيبوتي مسلمون. وبعيدا عن الممارسات الدينية للإسلام السني في شبه الجزيرة العربية، فإن المسألة الدينية لم تكن ذا ثقل في علاقة السكان المحليين بالهيمنة الفرنسية. وعلى ذلك، فإن وقع الاستقلال على الممارسات الدينية كان أقل وطأ من وقع الامتداد الحضري السريع. إذ بعد الحرب الأهلية (1991-1994) التي تعود بالأساس لأسباب عرقية، أصبح الإسلام رمز الوحدة الوطنية. وقد ساهم إصلاح الدستور كثيرا في التأسيس لذلك، في قطيعة تامة مع المؤسسات والممارسات الموروثة عن الفترة الاستعمارية.

سمح استعمال الإسلام كقضية سياسية من طرف الحكومة بتجاوز الصراعات القبلية للحرب الأهلية، ولكنه سهل كذلك على الدول الأجنبية إمكانية استثمار الحقل الديني. فقد أصبحت المملكة العربية السعودية على غرار تركيا والكويت تحظى بتواصل مباشر مع السلطات الدينية لجيبوتي. كما شجع على ذلك إنشاء وزارة للشؤون الدينية والأوقاف سنة 1999 -بعد أن كانت مجرد إدارة تابعة لوزارة العدل-، والتي باتت نقطة ارتكاز الدول الأجنبية التي تطمح إلى استثمار البعد السياسي والاجتماعي والثقافي والخيري للإسلام في جيبوتي.

اتفاقية مع الرياض

بما أن النص القرآني هو بمثابة دستور المملكة العربية السعودية، فإن الإسلام يمثل جوهر استراتيجيتها في التأثير الخارجي، وقاعدة للعلاقات الثنائية التي تربطها المملكة مع البلدان ذات الأغلبية المسلمة.

في 2017، أمضى وزير الشون الإسلامية والثقافة والأوقاف الجيبوتي مؤمن حسن بري مذكرة تفاهم في الرياض مع نظيره السعودي. وبهذه المناسبة، جدد الوزيران “التزامهما بتوطيد علاقات الأخوة والتعاون في المجال الديني”. كما اغتنم الوفد الجيبوتي هذه الفرصة لزيارة مفتي المملكة، بينما التزمت السعودية بمد جيبوتي بـ“بنسخ من المصحف الشريف وترجمة معانيه، وإصدارات الوزارة من المطبوعات والكتب، وتبادل الدعوات لحضور الندوات والمؤتمرات الإسلامية”.

غطت صحيفة “لا ناسيون” (La Nation) الجيبوتية والمقربة من الحكومة بطريقة مفصلة التعاون مع المملكة العربية السعودية، خاصة في المجال الديني. ذلك أن اقتصاد جيبوتي لا يزال يعتمد على بنى تحتية في مجال السكك الحديدية والموانئ، ويحتاج إذن إلى استثمارات خارجية مهمة وإلى ما يجنيه من وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضي البلاد. ما يجعل الحفاظ على علاقة وطيدة مع السعودية إحدى الأولويات الاستراتيجية لحكومة جيبوتي.

تتمتع جيبوتي بمناخ ملائم للتجارة ما يمكنها من تنويع شركائها الاقتصاديين، لكنها تبقى رغم ذلك مدينة بشكل خاص للصين. تطوير علاقتها مع السعودية سيسمح لها إذن في نهاية المطاف بالتمتع باستثمارات سعودية كي تنأى بنفسها عن الوصاية الصينية، كما يشهد على ذلك اتفاق التعاون في مجال التجارة والاستثمارات الذي أبرمته مع المملكة في فبراير/شباط 2020.

الدبلوماسية الدينية وسيلة تأثير قيمة بالنسبة للسعودية، خاصة في منطقة يتدافع فيها المستثمرون، ويتم ذلك خاصة من خلال بناء المساجد، وهي إحدى الوسائل المميزة لاستراتيجية تأثير المملكة في أفريقيا. وعلى عكس تركيا التي ركزت مجهوداتها على بنايات ضخمة مثل مسجد عبد الحميد الثاني الذي افتتح في جيبوتي سنة 2019، تفضل السعودية بناء عدة مساجد صغيرة على كامل تراب البلاد. ويقترن ذلك في معظم الأحيان ببناء مركز إسلامي وتدريب الأئمة من قبل المملكة.

ففي المناطق المهمشة، مثل حي بلبالا الشعبي في العاصمة، تعتمد العائلات عادة على المدارس القرآنية لتعليم أبنائها. وقد ازداد حجم التمويلات التي تخصصها السعودية لهذه المنشآت في شرق أفريقيا عموما وفي جيبوتي على وجه الخصوص. وباحتكاكهم أكثر فأكثر بالهوية الثقافية والدينية للمملكة، يترعرع التلاميذ في جيبوتي بحس أكبر تجاه ممارسة وهابية للإسلام. ويعد “المسجد القنصلي السعودي” الذي افتتح في جيبوتي سنة 2016 والذي يسع لألف مصلّ من أبرز مظاهر هذا الاستثمار، إذ يقع تحت مسؤولية الملحق الديني لسفارة المملكة وقد تم تدشينه بحضور عدد من وزراء جيبوتي.

دعم خيري لليمنيين المغتربين

على غرار عدد من الدول الأخرى، تلجأ السعودية إلى فاعلين غير حكوميين لتوسيع تأثيرها، أبرزهم على الإطلاق الندوة العالمية للشباب الإسلامي التي تأسست في جدة سنة 1972. وتسعى هذه المنظمة التي تتمتع بمكاتب رسمية في أكثر من 40 بلدا إلى الحفاظ على هوية الشباب المسلمة مع مدهم بالحلول لمواجهة تحديات العصر الحديث. أما أنشطتها، فتتراوح بين تنظيم مخيمات كشفية وندوات ودورات تدريبية. كما تقوم بالموازاة بأعمال خيرية اجتماعية في العديد من البلدان النامية، خاصة ذات الأغلبية المسلمة. وقد اتهمت الندوة العالمية للشباب الإسلامي في سنواتها الأولى بنشر إسلام متطرف يحث على الجهاد المسلح، لكنها شهدت في الأثناء إصلاحات من طرف السلطات السعودية حتى باتت تدعو إلى سلفية تقليدية مطابقة لسياسة البلد الدينية.

في جيبوتي، تموّل هذه المنظمة تجهيزات صحية وتدفع أجور العاملين في هذا المجال. كما تنظم حملات لمكافحة الفقر في مناطق خطرة حيث تقوم بتوزيع احتياجات أساسية. ومؤخرا، أهدت المنظمة الإدارة العامة للشرطة الوطنية دفعة من خمسين حاوية جاهزة للاستعمال لمساندة المجهودات الحكومية في مكافحة وباء كورونا. ولكنها تركز خاصة منذ خمس سنوات على مساندة الجالية اليمنية في المهجر.

فعلا، باتت جيبوتي التي تعتبر نقطة تقاطع طرق الهجرة أرض لجوء للعديد من اليمنيين. وقد قدرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين سنة 2018 عددهم بحوالي خمسة آلاف. وقد يكون عددهم الحقيقي أهم بكثير نظرا للحضور التاريخي للتجار اليمنيين في البلد ومصاهرتهم للأسر الجيبوتية. ويعيش قرابة 1500 يمني في قرية قرب أوبوك يمولها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية والتي افتتحت في أكتوبر/تشرين الأول 2018. وقد بلغ حجم التمويل 6.39 مليون دولار، كما تتمتع القرية بمسجد ومدرسة ومركزين صحيين. ويحظى هذا الدعم الذي تقدمه المملكة لليمنيين في جيبوتي وغيرها من البلدان بتغطية إعلامية مهمة ويسمح لها بتحسين صورتها بعد خمس سنوات من حرب أودت بحياة عشرات الآلاف.

ويبدو أن العلاقة بين جيبوتي والمملكة تشهد تطورا بعد أن أمضى رئيس الجمهورية سنة 2019 على قرار يسمح للندوة العالمية للشباب الإسلامي بفتح “مؤسسة خاصة للتعليم الجامعي في مجال العلوم والتقنيات الصناعية”.

لا شك أن المملكة العربية مضت شوطا في صراع النفوذ الذي تشهده بلدان الخليج في جيبوتي. لكن الحكومة الجيبوتية تتمتع بعلاقات وطيدة مع تركيا، أكدتها الزيارة الرسمية لرجب طيب أردوغان سنة 2015. صحيح أن جيبوتي نجحت إلى حد الآن في الحفاظ على توازنها بين جميع هذه الدول، لكن قد يجبرها تطور العلاقات الاستراتيجية الإقليمية مستقبلا على الانحياز إلى طرف ما.

[ترجمت هذا المقال من الفرنسية سارة قريرة.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬