ربّما كان هنريك إبسن أكثر الكتّاب تفرُّدًا في العالم. لعلّي لا أضيف جديدًا هنا، ولا نحتاج إلى مقالة لإثبات ما لا يحتاج إلى إثبات. ولكنّ التفرّد الذي أعنيه لا يتّصل بنتاج إبسن في ذاته، بل في كيفيّة قراءته وتصنيفه. لا يرد اسم إبسن إلا ونجد إعصارات من الآراء المتصادمة حياله، بحيث يبدو الأمر وكأنّنا أمام إبسنين لا إبسن واحد، بينما باقي الكتّاب العباقرة مميَّزون ومُحدَّدون شخصًا ونتاجًا من دون خلافات حيال أعظم نتاجاتهم. قد نختلف حيال الأعظم بين هاملت ولير والعاصفة مثلًا، ولكنّنا لن نجد قارئًا – عاديًا أو باحثًا – يصرّ بكامل قواه العقليّة على أنّ رتشرد الثالث أو روميو وجوليت أعظم ما كتب شيكسپير. آنا كاريننا أم الحرب والسِّلم؟ لا بأس، ولكن ليس البعث. أوديپوس أو إلكترا، ولكن ليس إياس بكل تأكيد. ليس الأمر مرتبطًا برداءة تلك الأعمال، بل بجملة مقارنة صارمة تجعل الكلاسيكيات كلاسيكيات، وتجعل الأعمال الأخرى أعمالًا أخرى. لا أتحدّث عن ذائقة هنا، تميل إلى هذا العمل أو ذاك؛ فالذائقة غير مرتبطة بمعيار تقييم صارم. لديّ ضعف أمام رتشرد الثاني، بل وحتّى كوميديا الأخطاء، مع أنّهما ليستا من عشرة أعماله المبشَّرة بجنّة القوائم، وليستا من أفضل أعماله. كذا الأمر بالنّسبة إلى حاجي مراد مثلًا، أو فُرس أسخولوس. تلك ذائقة شخصيّة لا تُعميني عن حقيقة أنّ تلك المفضّلات ليست الأعظم ولا الأجمل. وهذا أمر طبيعيّ حيال جميع أعمال العباقرة. ما مشكلة إبسن إذن؟ وما قصة هذين الإبسنين؟
مسرحيّات إبسن عصيّة على التصنيف، ولعلّ أفضل وأبسط تصنيف لها هو التصنيف الأعم: دراما. بدأ إبسن شاعرًا ومسرحيًا شاعرًا وانتهى مسرحيًا ناثرًا. بدأ برأي حاد يرى بأنّ المسرح لا يكون إلا شعرًا، وانتهى برأي حاد يرى بأنّ المسرح لا يكون إلا نثرًا. وبين هذا وذاك، كتب مسرحيّات يُشار إليها بكونها «مسرحيات النقد الاجتماعيّ» التي يُختزَل بها إبسن لدى معظم قرّائه. من هنا تنقسم صورة إبسن ليصبحا اثنين: إبسن الناثر الناقد الاجتماعيّ الحاد؛ وإبسن الشاعر الرؤيويّ الأبوكالپتيّ النائي عن «الواقع». لا سبيل إلى التوفيق بين الاثنين لو التزمنا بالمدارس النقديّة وحدودها. ولا سبيل – كذلك – إلى محو أحدهما وتكريس الآخر كما يحاول النّقد الثقافيّ فعله من جهة، والنّقد الأدبيّ الصّرف (الجماليّ) من الجهة المقابلة والمناقضة. غير أنّ الوضع يشي بانتصار الناقد الاجتماعيّ في ظل استشراء نظريّات النقد الثقافيّ، ولكنْ لن يموت النقد الجماليّ ومريدوه الديناصورات الذين أنتمي إليهم بكل عناد. ولكنّ انتمائي ليس صارمًا إلى هذه الدرجة، إذ أرفض فصل إبسن إلى إبسنين، وأرفض في الآن ذاته تسليط ضوء أكبر على هذه المسرحيّة أو تلك. يحزنني أنّ ناقدًا ديناصورًا عزيزًا مثل هارلد بلوم يُقصي مسرحيّة عذبة مثل مسرحيّة أشباح (أو عائدون، لو ملنا إلى الترجمة الأدق) أو حتّى مسرحيّة بيت دمية، من قائمته الشهيرة التي تنصَّل منها لاحقًا وإنْ أبقاها خفيّة في كتاباته اللاحقة كلّها؛ ويغضبني أنّ المدارس النقديّة السائدة اليوم تُعلي من شأن مسرحيّة متواضعة مثل عدوّ الشعب على حساب ملاحم هائلة مثل براند وپير گنت. ولولا سطوة هيدا گابلر في مسرحيّتها التي بدت طوق نجاة للنّاقدات النسويّات لأقصاها نقّادنا الثقافيّون اليوم من جنّتهم. أنتبه الآن إلى أنّني لا أسعى إلى منزلة بين المنزلتين كما كنتُ أظنّ بقدر ما أنشقّ انشقاقًا لاواعيًا عن كلتا المدرستين، ولو موقّتًا؛ إذ لا أطيق فراق الديناصورات ولا أحبّذ قُرب النقد الثقافيّ ومتاهاته. ولكنّنا أمام إبسن العصيّ على التصنيف في نهاية المطاف، حتّى في عدوّ الشعب، أشدّ مسرحيّاته غضبًا. أسعى – باختصار – إلى إعادة قراءة مسرحيّاته تباعًا، وسأركّز اليوم على بيت دمية محاولًا تقريبها أكثر إلى خندقي المفضّل.
بيت دمية أشهر مسرحيّات إبسن، وإنْ لم تكن أفضلها. قُرئت المسرحيّة، وما تزال، من نهايتها، أي من اللحظة التي نسمع فيها صوت انصفاق الباب بعد أن خرجت نورا هلمر من البيت وتركت زوجها وأطفالها وحياتها القديمة إلى حياة جديدة لن نعرف عنها شيئًا. وبسبب هذا التركيز الحصريّ على النهاية، سادت الترجمة الخاطئة لعنوان المسرحيّة لتصبح: بيت الدّمية في العربيّة، وA Doll's House في الإنگليزيّة، حيث تشير صيغة الملكيّة، وأل التعريف، إلى أنّ هذا البيت بيت دمية بعينها، ولكنّ العنوان في الأصل الدنماركيّ (وهي اللغة التي كتب بها إبسن مسرحيّاته، أو فلنقل هي الدنماركيّة-النروجيّة) لا يقدّم أدنى إشارة إلى وجود ملكيّة تحدّد صلة هذا البيت بتلك الدمية، بل هو Et dukkehjem «بيت دمية»، لو استخدمنا أقصى حالات التّنكير المتاحة في العربيّة؛ أي إنّ إبسن يتحدّث عن بيت غير محدَّد ودمية غير محدَّدة يُعرَّفان من خلال تنكيرهما بحيث يصبحان شديدي التّعريف: أيُّ بيت وأيّة دمية، كلُّ بيت وكلُّ دمية. ولو أضفنا التباس كلمة hjem (نلاحظ قُرب الكلمة الدنماركيّة من التباس كلمة home الإنگليزيّة، وكلمة «منزل» العربيّة)، التي تمزج بين البيت والوطن، سنكون أمام بلاد دمى، لا مجرّد بيت لأنثى مضطهدة كما سادت التأويلات النسويّة التي وشمتْ جميع التأويلات الأخرى للمسرحيّة بطابعها الاختزاليّ. صُوِّرت المسرحيّة دومًا بكونها مانفستو، يبدأ بلحظة انصفاق الباب التي بدت مثل «طيف بنتاب أوروبا» آنذاك، كما تخيَّل ماركس وإنگلس في البيان الشيوعيّ حيال الپروليتاريا التي ستصفق باب التاريخ لتنهي مرحلة وتبدأ أخرى. تلك هي نقطة التشابه الوحيدة بين اللحظتين، ولن نجد أدنى تقاطع بين إبسن وماركس، إلا عبر إليانور ماركس، ابنة كارل، التي ترجمت عدة مسرحيّات لإبسن إلى الإنگليزيّة. ولكنّ مفارقات التاريخ لا تنتهي، لأنّ روح تمرّد نورا هلمر لم تنتقل – كما افترضتْ التأويلات النسويّة التفاؤليّة – إلى إليانور التي لعبت دور نورا في المسرحيّة إلى جانب عشيقها الاشتراكيّ إدورد إيڨلنغ والمسرحيّ جورج برنرد شو؛ إذ أنهت إليانور حياتها بالسّم إثر اكتشافها لخيانة عشيقها لها. أما رصاصة الرحمة التي كان ينبغي لها أن تنسف هذا التأويل القاصر لصالح تأويل أشمل، فقد كانت بيد إبسن ذاته في كلمته أمام الجمعيّة النروجيّة لحقوق المرأة عام 1897، حيث كُرِّم لكونه «مُبدع نورا»، إذ نفى أيّة صلة تنظيميّة بالجمعيّة، ونفى أدنى ملمح پروپاگنديّ في مسرحيّاته، «فأنا الشاعر أكثر من كوني الفيلسوف الاجتماعيّ الذي يميل الناس عمومًا إلى مماهاتي به. ... فواجبي كان توصيف البشريّة». لم يظفر تأويل إبسن الشامل برواج كبير مع أنّه مفتاح مهم لقراءة الأعمال. فلنتذكّر أنّ لحظة انصفاق الباب كانت في الكواليس، خارج الخشبة، خارج مستوى النّظر، بينما الحدث ما زال محتدمًا على الخشبة وإنْ بدا غارقًا في الصمت. يصوِّر لنا التأويل النسويّ أنّ نورا قد تحرّرت من مصير الدّمى التي تعجّ بها نروج إبسن، بل وعالم إبسن كلّه. ولكن هل تحرّرت حقًا؟ ربما، وربما لا. ولكنّنا ندرك أنّ المسرحيّة أكبر من اختزالها في شخصيّة واحدة حتّى لو كانت نورا. نورا ليست هيدا گابلر، والمسرحيّة هنا ليست مسرحيّة شخصيّة بل مسرحيّة دمى. هل كانت المسرحيّة ستتأثّر لو بقيت نورا في بيتها، أو لو أنهت حياتها بالسّم كما فعلت إليانور ماركس؟ ستختلف إجاباتنا باختلاف مرجعيّاتنا النقديّة. ولكنْ لن تبقى نورا أسيرة البطولة النسويّة التي تحتفي بها النّاقدات، بل باتت (وبقيت) بطلة إبسنيّة في عالمه الخانق الذي يكاد يجفّ فيه كلّ أمل. لدينا إشارات عديدة إلى أنّ إبسن غيَّر نهاية مسرحيّته في العرض الألمانيّ لها بعد أن ثارت ضده الممثلة الألمانيّة هدفش نيمن-رابه التي أبت تمثيل دور نورا إلا بعد تغيير نهايتها، فهي (أي الممثّلة) لم تكن لتتخلّى عن أطفالها أبدًا! صحيح أنّ إبسن غضب وثار، ولكنّه وافق في النهاية على إيقاف نورا عند باب غرفة الأطفال فتردّدت ولم تغادر البيت. تومئ موافقة إبسن بدرجة كبيرة إلى أنّ القراءة الاختزاليّة للمسرحيّة ستتلاشى بتلاشي القناع الزائف الذي تخيّلته رابه وسواها؛ نورا ليست أمًا، وليست زوجة، وليست باحثة عن حريّة جنسيّة حتّى، بل هي إنسانة اكتشفت غرقها في حياة ليست حياتها فقرّرت الرحيل للبدء بحياة أخرى قد تكون لها وحدها. ليس المهم هنا لحظة انصفاق الباب، بل الإيقاعات الخافتة التي كانت تصوغ مصائر الدّمى منذ بداية المسرحيّة حتّى ما بعد نهايتها، أو نهاياتها. ليست النهايات مصدر هوس إبسن، بل إيقاع الخشبة وأبطالها، كلّ أبطالها، كَبُر دورهم أم صغر، سُمِّيت بهم المسرحيّة أم لا.
إنْ كانت بيت دمية ليست مسرحيّة نورا، أيمكن لنا إقصاؤها منها، أو – على الأقل – تسليط ضوء موازٍ على باقي الشّخوص كالضوء الدائم المُسلَّط عليها؟ أظنّ أنّ بإمكاننا هذا، بل سنغنم قراءةً أفضل لو نظرنا نظرةً شاملةً إلى المسرحيّة ككلّ. تبدأ المسرحيّة ببيت هلمر، وتنتهي به؛ تبدأ بنورا وزوجها تورڨلد وتنتهي بهما أيضًا؛ ولكنّ الفصول الثلاثة ليست عنهما حصرًا، إذ هما قطرتان في طوفان بلاد الدّمى التي يشرّحها إبسن. فحتّى الأولاد والخادمة يعمّقون الجوّ الكالح الذي تغرق فيه المسرحيّة مع أنّهم أصحاب الأدوار الأقصر والأسرع والأكثر خفاءً على الخشبة. تسعى نورا إلى هدف أوحد، وهي أن تكون «خفيفة وسعيدة»، وهو الهدف غير المعلن للشّخوص كلّهم بلا استثناء. ولكنّ هذا الهدف، على بساطته، مستحيل حتّى في أيّام الأعياد المجيدة والفرح، لأنّ ثمّة ما هو أكبر من البيت المطوَّق برتابة خانقة. ليست الدّمى فتيات مبرمجات لأدوار محدَّدة، كما تفترض القراءة الظاهريّة للمسرحيّة، بل هي – في واقع الأمر – بشر جامدون أقرب إلى روبوتات تتضاعف مأساتها حين تظنّ أنّها تمتلك حريّة إرادة تتيح لها الخفّة والسعادة العبثيَّتَيْن. تبدو حياة نورا للوهلة الأولى وكأنّها ستنتقل إلى مرحلة أجمل مع نهاية ذلك العام، ولكنّ الأيام القليلة الفاصلة ستقلب حياة الجميع. فالشّعور المخيّم الدائم هو الغربة، غير أنّ نورا لا تدرك هذا الشّعور إلا في الفصل الأخير، لا حين ينكشف زوجها أمامها، بل حين تنكشف حيوات الجميع. فالخادمة لا تحسّ بهذا الشّعور بل تعيشه حتّى لو لم تنطق به، وكذا الأطفال المبرمجون في حياة مقسَّمة بصرامة بين الأم والخادمة والأب. أما المكاسب الماديّة من هدايا ومال ومناصب فلن تُفيد إلا في تأخير لحظة اكتشاف الغربة تلك. إذ يبدو كروگستاد بمثابة صورة مسبقة لما سيصبح عليه تورڨلد بعد أن يكبر الأولاد ويشحّ المال وفرص العمل. لا منقذ إلا الحب ربّما، ولكنّه لا يظهر في المسرحيّة إلا في ثلاث صور: حب زائف يعيشه آل هلمر؛ وحب مسحوق عاشه كروگستاد وكرستينه؛ وحب موؤود يعيشه الدكتور رانك. وإنْ كان لا بدّ من اختزال المسرحيّة في شخصيّة أو اثنتين، سنجد أنّ نورا وتورڨلد ليسا الشّخصين المؤهّلين حقًا ليكونا النموذج المصغّر للمجتمع الأكبر الذي يتوق إبسن إلى تصويره، بل هما كرستينه والدكتور رانك.
تلخّص كرستينه حياتها (وحيوات الجميع) حين تلحّ نورا في سؤالها عمّا تركه لها زوجها بعد موته، وتكاد لا تصدّق أنّه لم يترك لكرستينه شيئًا. تتضاعف أهميّة السؤال والرد لأنّ كلًا منهما ينطلق من دنيا مختلفة: سؤال نورا ماديّ: «لا شيء على الإطلاق، إذن؟» بينما يتّسع ردّ كرستينه ليشمل ما هو أسمى وأقسى من الماديّ: «ولا حتّى شعورًا بالفقد لأعيش عليه». لا نسمع صوت انصفاق باب حين تنطق كرستينه بهذا الرد كي يتهافت عليه النقّاد وتأويلاتهم، بل لعلّ كرستينه نطقته بأهدأ نبرة ممكنة. ولكنّ هذا الخفوت يُبْطِنُ صرخات نورا التي سنسمعها لاحقًا، ويخفي انصفاق الباب الذي سيُجْفلنا لاحقًا. ينتهي دور كرستينه فعليًا بعد خروجها من دوّامة حياة نورا لتعلق في دوّامة ماضيها الخاص الذي يتكشّف شيئًا فشيئًا. كان دورها مزدوجًا: فهي – أولًا – الأذن التي ستصغي لبوح نورا، وهي – ثانيًا – الدمية التي تحرّرت من ماضٍ وانطلقت لتؤسّس حاضرًا ولد من ماضيها الثاني الذي كاد يتلاشى. ليس لنورا ماضٍ آخر تلجأ إليه كما فعلت كرستينه، لأنّ ماضي نورا الوحيد كان أباها، ولم يكن ماضيًا مشرقًا إلى هذا الحد، إذ هو ماضٍ يشبه حاضرها. تنوس المسرحيّة بين ماضٍ يوشك على التلاشي، وبين مستقبل مجهول بالنّسبة إلى الجميع، حتّى بالنّسبة إلى كرستينه التي تبدو المرشَّح الأكبر للخفّة والسعادة اللتين تسعى إليهما نورا؛ أما الحاضر فخواء كالح لن يبدّده أيّ بصيص؛ حياة خواء مطبق لأنّ الدمى لا تدرك شعور الفقد ولا شعور الغربة ولا شعور الخواء حتّى، بينما البشر يدركون هذا الشّعور ويعيشونه؛ أو هذا ما يُفترَض أن يكون.
كرستينه نطقت ولكنّ الدكتور رانك لم يفعل مع أنّنا نكتشف في ما بعد أنّه يعيش هذا الشّعور (أو اللاشعور بالأحرى) كل يوم وكل لحظة. يختار رانك دور الصديق كي يحظى بقرب نورا التي يحبّها بصمت، ويبقى على صمته لا خوفًا من القيود وحسب بل لأنّه يدرك أنّ الاعتراف يعني نسف هذا القرب وهذا الحب. بل نحدس عبر القراءات المتلاحقة للمسرحيّة أنّه خُلق ليكون صلة وصل بين عالم نورا وعالم زوجها، أكثر حتّى من الأطفال الذين يبدون عالقين في برزخ الخادمات. صحيح أنّ تورڨلد يبدو ألطف من الدكتور، ولكنّه ذلك اللطف الممجوج الذي يُغنّج نورا من دون أن يتعامل معها بوصفها ندًا؛ أما الدكتور فيتعامل مع نورا تعامل الصديق، تعامل الند للند، ولذا تميل إليه نورا إذ تشعر أنّه مصدر طمأنينة في دنيا الغربة تلك. العلاقة التي تستحق الدراسة هي علاقة رانك ونورا التي يمتزج فيها الحب واللطف والطمأنينة والدفء. تبرهن نورا على ميلها للدكتور حين تتعامل معه بكل عفويّة، على الأخص حين تلتهم الحلوى أمامه، بينما تُخفيها عن تورڨلد. اختلاس لحظات الدفء الصغيرة تلك هو ما يجعل من علاقتهما علاقة مختلفة تقترب من العشق وتحذر منه في آن، من جانب رانك على الأقل. لا نعلم ما إذا كانت نورا ستبادله العشق لأنّ إبسن كان قاسيًا في رسم مصيرهما، وحكم عليهما بفراقٍ دائم. ولكنّ رانك سيبقى مصدر الدفء الوحيد لنورا وللمسرحيّة ككل حين يبرهن على عشقه بأجمل طريقة ممكنة. هو ليس تورڨلد ولذا سعى إلى أن يكون نقيضه في كل شيء، فلم يفرض عشقه على نورا كيلا يخنقها. ولعلّ أجمل مشهد في المسرحيّة كان مشهد البرهان على ذلك العشق حين باح رانك لها هي – قبل زوجها، وهو صديقه المفترض – بمرضه القاتل. بوح مزدوج يتزامن فيه إعلان الحب والموت من شخصيّة مدهشة تسلّلت لاحقًا إلى مسرحيّات تشيخوف الذي يدرك برهافة معنى الصمت والخفوت والقرب والحياة غير المعيشة التي تُبْطن في أعماقها حياة أخرى هي الحياة المعيشة حقًا: حياة الظلال والهمس والأصداء التي لا معنى للحب فيها إلا بالموت، أو بحياة تشبه الموت. يَهِبُ الدكتور رانك نورا أبهى هديّة حب في عالم إبسن الخانق حين يمنحها الشّعور بالفقد الذي قد تعيشه أو تحسّ به على الأقل بعد موته؛ يمنحها ما لم يُمنَح لأيّة شخصيّة أخرى في المسرحيّة: بطاقة خلاص صامتة من صخب القيود الصارمة التي تطأ الجميع، جميع الدمى. ليست بيت دمية مسرحيّة عظيمة ربّما، ولكنّها بوّابة مهمة إلى عالم إبسن الذي لا يركّز على الدمى بقدر تركيزه على بيت، على منزل، على وطن، على بلاد انتقل إليها عفن دنمارك هاملت كما انتقلت اللغة الدنماركيّة لتتحول إلى النروجيّة. فالخواء يُورَّث أيضًا، كما تُورَّث اللغة.