صدر العدد (26، 2020) من مجلة ”بدايات“ التي يرأس تحريرها المفكر اليساري اللبناني فواز طرابلسي، وضم العدد ملفاً كبيراً حول الأوضاع التي شهدها لبنان في الفترة الأخيرة، وكان أبرزها الاحتجاجات الشعبية والتي بدأت في السابع عشر من تشرين الأول في جو اتسم بوضع اقتصادي كارثي ترافق مع انتشار فيروس كورونا المستجد، والتهديد الذي يمثله، كما ضم مقالات أخرى حول وباء كوفيد 19 وتداعياته في لبنان بالإضافة إلى حوارات وقصيدة للشاعر اللبناني عباس بيضون وشهادات.
يقدم العدد قراءات متعمقة ومن زوايا مختلفة للحراك اللبناني، وجاءت افتتاحية العدد في شكل مقالة لفواز طرابلسي بعنوان ”ماذا يستطيع الحراك؟ جدل المتخيل والضروري“، يرى فيها أن الحراك تجاوز الحواجز في لبنان وضم فئات واسعة من الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود وفقراء الأرياف والمدن التي التفت حول العلم اللبناني. ويطرح طرابلسي نقطة مهمة في مقالته وهي أنه ليس من الضروري أن يكون المرء من أنصار مقولة ”لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية“ ليدرك أن الحركات الشعبية الهادفة إلي التغيير والإصلاح لا تعمل بلا مضمرات فكرية تتحكم بسلوكها سلباً أو إيجاباً وتؤثر في الوجهة التي تبذل فيها جهودها، ويضيف أن الحراك عاش مفارقة عميقة بين ما أطلقه الانفجار الشعبي من طموحات وآمال في التغيير الجذري والإطاحة بطبقة حاكمة فاسدة وواقع حال بلد في حال إفلاس، مشيراً إلى أن جدل الخيال\الضرورة وضع سقفاً لإمكانيات التغيير دون أن يجلب بالضرورة أكثر الآمال والتصورات جذرية.
ويرى محمد زبيب في مقالته ”الفقر إلى ازدياد ومهمة الهبة ما زالت قائمة“ أن ما حصل في لبنان اعتباراً من 17 تشرين الأول 2019 لم يكن متوقعاً بالشكل الذي حصل فيه، إذ هذه هي المرة الأولى التي يشهد أو يختبر فيها لبنان هذه ”الهبة“ الشعبية العابرة للطوائف والمناطق. ولا يمكن اختزال هذه الهبة بالاقتصاد ولكن سيكون من الصعب البحث عن أسبابها بعيداً عن تطور أزمة نموذج تراكم رأس المال وانهيار سعر صرف الليرة والركود طويل الأمد وارتفاع البطالة والهجرة واتساع الفقر وتزايد اللامساواة في توزيع الثروة والدخل وإفلاس النظام المصرفي.
وكانت مجلة بدايات قد أعدت لندوات حول انتفاضة 17 تشرين، لكن الحجر الصحي حال دون انعقادها فاستعاضت المجلة عن الندوات بتوجيه أسئلة إلى عينة معبرة من المشاركات والمشاركين، وكانت الأسئلة المطروحة تتعلق بتوقع الحراك وأسباب قيامه وأسباب اكتسابه لعمقه الشعبي، وأبرز شعارين رُفعا فيه وأبرز إنجازاته والمطالب المعيشية.
يقول الروائي الياس خوري في أجوبته على الأسئلة المطروحة أن الانتفاضة كانت تعبيراً عن أزمة نظام سياسي واقتصادي أوصل لبنان إلى حائط مسدود، وهي تعبير عن مجتمع أفقِد جميع وسائل التعبير عن نفسه، فالنقابات منهارة والأحزاب مرتهنة والبنى الطائفية الزبائنية لم تعد قادرة على حجب الأزمة.
ويرى الخوري أن إنجاز الانتفاضة أنها أثبتت أن لبنان ليس استثناء وأن الثورة ممكنة وبناء نظام ديمقراطي يرفع شعار العدالة الاجتماعية والحق في التعليم والطبابة والسكن هو المخرج الوحيد.
وأضاف أن الانتفاضة مدرسة كبرى وتمرين على الثورة، ومن المرجح بعد نهاية الوباء أن تعود الثورة من جديد.
الباحث جلبير الأشقر قال إن أبرز إنجازات الحراك اللبناني هو تخطي الانشطار العمودي وتوحيد الصفوف الشعبية في انتفاضة اجتماعية شملت كل البلاد. الإنجاز الآخر الذي يستحق الذكر هو رفع وعي الشعب السياسي.
يضيف جلبير الأشفر أن الدرس الرئيسي الذي يجب استخلاصه من انتفاضة 17 تشرين هو ما تم استخلاصه من سائر الانتفاضات العربية الأخرى وهو أن الزخم العفوي للانتفاضات الشعبية يكفي في بعض الظروف لإسقاط أرباب النظام لكنه لا يكفي في أي ظرف لتغيير النظام بالعمق. كما أن شبكات التواصل الاجتماعي رغم أهميتها في إتاحة نسج ”شبكة من الشبكات“ تسمح بتنظم حراكات جماهيرية واسعة لكنها لا تستطيع أن تنوب عن إطار منظم يوحد قرار الحراك ويضاعف فاعليته في تحديد غايات ما بعد إسقاط النظام والعمل على بلوغها.
محمد قانصو رأى أن الحراك لم يكن متوقعاً لكنه تأخر، وأن من أهم إنجازات الحراك توسيع قاعدة اللبنانيين المهتمين بالشأن العام.
ويرى إيليا الخازن أنه من أهم إنجازات الانتفاضة أنها شهدت مشاركة عمالية وازنة وخاصة العمال غير اللبنانيين: عمال وعاملات مهاجرين ولاجئين. مما خلق مساحة تفاعلية نقدية بين مختلف شرائح العمال من جهة والجمهور اللبناني من جهة أخرى.
ورأى غسان عيسى أن الانتفاضة كانت إيذاناً بتجاوز انقسام 8 و4 آذار العمودي الذي كان متحكما بالبلد نحو بلورة انقسام أفقي عبّر من خلاله المنتفضون عن مصالحهم الاجتماعية في وجه نظام الهيمنة والاستغلال الطبقي.
ويقول أحمد بهجت السراج إن المنتفضين بالغوا في الكثير من الأحيان في طرح الأمور ومقاربتها، إذ بدوا متيقنين أن الحراك سيسقط الحكومة وجزموا أن هذا سيحدث. أما عصام عيتاني فيرى أن الإنجاز الأكبر للحراك كان اقتراب الانتفاضة من إسقاط شرعية الائتلاف الحاكم ونوعاً من فرض رقابة شعبية على عمل المؤسسات الرسمية، لكنه انجاز تآكل بسرعة واستعاد النظام سيطرته على الشارع.
عصام أبو شقرا يرى أن أبرز إنجازات الحراك هو اكتشاف وتثبيب اللامركزية في مواجهة النظام والتي أثبتت جدواها وأنها تربك النظام واستعادة المساحة العامة، وإسقاط أسطورة المصارف وهالتها الوهمية والبطولات الخرافية للقطاع المصرفي في لبنان.
وترى يارا السمراني أن الحراك خلق حالة من التفكك في صفوف الأحزاب الطائفية وأدى إلى زعزعة مفهوم القائد الطائفي وتعرضه إلى النقد الجارج إلى حد الشتيمة.
وتعتقد ريما ماجد أن الانتفاضة أنجزت الكثير وكثفت تبلور الوعي السياسي عند شرائح واسعة من المجتمع وأدخلت التحليل الاقتصادي والاجتماعي إلى كل منزل. أما الدرس الرئيسي الذي يُستخلص من حراك 17 تشرين فهو أهمية التنظيم ونشوء حركات سياسية ونقابية بديلة تعمل على استقطاب شرائح واسعة من المجتمع.
ضم العدد أيضاً حواراً مع المفكر والخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي جورج قرم أجرته سعدى علوة، التي تقول في تقديم الحوار إن قرم يحمل مسؤولية الأزمة في لبنان إلى الحريرية السياسية التي يرى أنها تنسجم تماماً مع الحريرية الاقتصادية. ويسمي قرم لبنان ”الجمهورية المصرفية والعقارية اللبنانية“، ويرى أن نظام ما بعد الطائف بُني على ثنائية النقد في لبنان: ليرة لبنانية ضعيفة مقابل دولار قوي، ومن الأخطاء الكبيرة والمقصودة التي تم ارتكابها في لبنان إجراء مقاصة الشيكات بالدولار، أي أن الدولار أصبح عملة داخلية على قدم المساواة مع الليرة اللبنانية. ويشير قرم إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن اتفاقات التبادل الحر بين لبنان وكل من الدول العربية والاتحاد الأوربي تتعارض مع مصالح القطاعين الصناعي والزراعي في لبنان.
ويعرج قرم على تأثير الأزمة السورية على لبنان مشيراً إلى العدد الكبير من العمال السوريين وما استجد بعد 2011 من انضمام عائلاتهم إليهم وهذا نتج من إخلاء العنصر اللبناني مساحة كبيرة في سوق العمل لصالح العامل السوري.
وفي باب آخر كتب أسامة غنم تحت عنوان ”عن المسرح والفيروسات“ متذكراً كاتبي مسرح هما الإنكليزي إدوارد بوند والألماني هاينر موللر، وتأتي مناسبة ذكرهما في حقبة الوباء الحالية في كون مسرحهما يعج بصور وكوابيس النهاية ويوم القيامة، ورأى كلاهما في الرأسمالية تدميراً لمستقبل الإنسان. ويرى الكاتب أن جائحة كورونا تعري كذبة الرأسمالية المتمثلة في المفهوم المعاصر للحرية، أي الوقت الحر.
ضم العدد أيضاً مقالات عن وباء كوفيد 19 وتداعياته دولياً وعلى الساحة اللبنانية.