بين طيات كل لغة، يوجد فكر، وكل لغة، هي طريقةٌ/فلسفةٌ في العيش. تعددت الألسن التي يلوكها الإنسان، فتوسعت سبل الحياة، وازدهرت معرفة الدروب الوعرة التي تقف بوجه مسيرة الإنسان في حياته. عرف الإنسان الترجمة، فازداد علماً ومعرفة، ذلك أنه جال أرجاء المعمورة وتشرب بأفكار أممها عبر الترجمة، فأمسك بجادة الصواب، فمن دونها-الترجمة-ستبقى الأمم صماءً في تداولها الإنساني في شتى صنوف الحوار، فما من شكٍّ إزاء مساهمة الترجمة، في تلاقح وبناء نسيج الشعوب، والتي مكنت البشري من فهم الآخر وتقبل الآخر له، وما لا نود الخوض فيه: الدور الأساس لفعل الترجمة في تطور الأمم عن أمسها، إنما ستقف كلمتنا هنا، في الإشارة إلى الترجمة العرجاء، التي بحاجة لتعديل مسارها، وأيضا، لا ننوي تعريض-أساليب وتقنيات الترجمة-للكشف والنقد، بل، الوقوف على علل المشاريع، نوع المتون المنقولة، والأهم: حاجة الأمة للكتب المنقولة إلى لغتها.
ربما في الألفية الثالثة، ازدهرت وتطورت حركة الترجمة في الساحة العربية، فتعددت دور النشر وفُتحت المؤسسات التي تُعنى بنقل الألسن الأخرى إلى لسانها، وارتفع دور المترجم ومكانته في تقديم تجارب إنسانية تغذي النشاط العلمي، وذلك من الطرق الصحية المساهمة بتعبيد التطور الإنساني.
اعتنت غاية العناية، الدور والمؤسسات والمترجمون بالترجمة، بدون الاكتراث بالنوع وجودة المحتوى والمضمون، وبالأحرى، الاهتمام بالنقص المعرفي للفرد العربي، سد الفجوة وردم الهُوّة واللحاق بركب الشعوب السباقة نحو الازدهار، فكان لدور النشر والمؤسسات، دوراً سلبياً، وإن كانت له شعبية وتداول كبيرين من قبل القارئ والمتلقي، ولا ننسَ سلبيات المترجم، فهو الرابط الأول بالتلاقح ما بين الألسن، فمارس مع المؤسسات، اغتصاب العقل الجمعي بكمية المتون المنقولة دون مراعاة لصواب نتائجها وإرغام القارئ على لوكها، وإلغاء شخصية العقل المتلقي وقمعه بأساليب ثقافية غير سليمة تماماً.
ربما سيرى المعني، قساوة في تناولنا لمشروعه، لكنه ليس بحجم تتفيه وتسطيح العقل وتجهيله، وجعله يمضغ ما يناسب مزاج المترجم، وما يسد جيب الناشر التاجر، فسعْينا هنا، لتعرية المشاريع الرجعية، والمهنية المتكاسلة عن تجديد أسلوبها، متخذين الطرق العقلانية بالكشف عن الصواب، مترفعين بلا شك، عن التجريح وشخصنة النقد.
عُميت عين المتقلي وبصريته عن رؤية شتى العلوم والمعارف وأفكار الأمم الأخرى، إلا عن الأدب: شعر، قصة ورواية وما يجاورهم، فمُلئت المكتبات وخاناتها بالأدب، أما تفاهة ما يجاور ذلك، حدث بلا حرج، فبمستوى عدد الروايات المنقولة، يُنقل إلينا، مئات الكتب التعليمية في الكتابة، أساليبها وطقوس التدوين والشخبطة، وما من داعٍ لذكر العنوانات السطحية المزوقة، والتي تجذب كل من سولت له نفسه تسويد الورق بالحبر، بالإضافة إلى النهج المتنامي الجديد: مسك المؤلف الأجنبي ونبشه جيداً، لتخرج لنا مذكراته ورسائله وخزعبلاته، بل حتى ذهابه للحمام، ستجدها مدونة في الكتب!
آثار ذلك تتضح في بساطة ثقافة المتلقي، بل سطحيته، تجده رومنسياً، متأثراً بشخصيات الرواية الفلانية، يلتقون ببعضهم البعض، متقمصين معاطف أبطالهم، فأصبح المتلقي عاطفياً زيادة عن اللزوم، لا يجول بخلجه غير هموم المرويات، تلازمه حالة التوهان والضبابية، والمزاج العكر المتقلب، والحق، له العذر بذلك، فأين يجد تنوع المتون لتشبع زوايا فكره؟
ومن النتائج السلبية الأخرى للترجمة المقتصرة على الأدب، هو شيوع استسهال الولوج لحقل الأدب والكتابة فيه، فكل من قرأ كذا كتاباً من أجناس الأدب، تحول بلحظة خاطفة إلى كاتب، تلكم العمليات بمجملها، صنعت مستوىً متدنٍ من الكُتَّاب، وهؤلاء باتوا هم المعلمون وآباءً للكتابة، ذلك يحدث ونتيجة طبيعية إذا ما تفحصنا كمية ونوع البضاعة الكُتبية المطروحة في أروقة المكتبات، بالإضافة إلى الوُرش المعنية بتعليم الكتابة، وهم نفسهم-أرباع المؤلفين-من يقيمها. والجدير بالتنويه: لم نر كُتّاباً في باقي الحقول الإنسانية غير الأدب إلا النزر اليسير.
الأثر الآخر، وهو الأهم برأيي على الأقل، إذ تم تجريف الوسط العلمي بمعية الناشر والمترجم السطحيين، وأعني، الدرس الأكاديمي، بكالوريوس، ماستر ودكتوراه، فلك أن تتصفح أرشيف بحوث التخرج، الرسائل، الأطاريح المقتصرة على السرد وما يشاكله من أجناس أدبية، فتخيل أن الدار بعبثيتها، والمترجم بمزاجيته، يخترقان الدرس العلمي!
ربما فئة قليلة من المتلقي العربي، يعرف أن نسبة كبيرة من جامعات العالم، لها ملحق وهو دار نشر، متخصصة برصد الأفكار الجديدة، حتى أن المؤلف هناك، يتحيّن الفرصة المناسبة في أن يحظى كتابه بدور النشر الجامعية،
لكننا هنا، نرفس كل ما له علاقة بالتخطيط الدقيق، المهنية الصائبة والعمل ضمن خط هرمي، نقفز جدران الأساس ونتبوأ المكانة التي نريد دون أي حسبانٍ!
جوائز الأدب وصنوفه وما أدراك من تلك الجوائز، فتلك النقطة، واحدة من المصائب التي صُبَّت-رغما- علفاً بإناء القارئ ورُسِّخت وأصبحت مضماراً للتهافت واللهث وراءها-كتابةً وقراءة، ولا يخفى أن تلكم الجوائز تظهر بين شهر وآخر، ليس بخلدها إلا تتويج الأدب مهما كان محتواه ورسالته...إلخ من تفاصيل تلكم العمليات وما سببته من ترهل في ميداني العقل والفكر العربيين.
سيجد القارئ الأدبي قسوة تجاه ضالّته ومائدة فكره، إلا أننا نقف بجانب الأدب وليس ضده، وأعترف، أن الأدب وقراءته، عضّدا شعوري بالإنسان، وإعلاء إنسانيتي فوق كل الفرعيات.
نقف هنا بذلك الكشف ضد شمولية وتشميل وترغيم المتلقي على الأدب فقط دون وجود وتداول معادل فكري ومعرفي آخر، ضد التداول المقتصر على الأدب، فما من أمةٍ مغتربة عن ماضيها العلمي مثل العرب، وهنا نكشف عن لثام ما نود إشاعته، تداوله وتعاطيه، وهو العلوم.
فالجدير بنا على الأقل، أن نحافظ على ديمومة علوم أسلافنا،
ولن نمني أنفسنا بالعلوم الحديثة، إلا أننا أعرضنا عن كل العلوم وأصبحت غير متداولة تماماً، باتت أشياء غريبة، بل إن كلمة "علم" غير مرحّب بها إن كانت فوق كتاب أو ضمن نقاش! ليعلو بغيابها، الخرافة والأعراف والتقاليد..إلخ
ربما، أن الفلسفة باتت في السنوات الأخيرة تشاطر الأدب، ولو بنسبة منحسرة في مستوى تعاطيها ورواجها، وهذا السبب وحده كافياً، في أن البصر والبصيرة، اتجها نحو علوم الفلسفة، لأنهما أتخِمَا بالأدب.
وسيمتعض المترجمون الذين أسمنوا دور النشر والمكتبات بالرواية ومخرجاتها، نعم، نحن ضد الترجمة السلبية، ضد الترجمة العميائية، ضد تسلط المترجم وما يفعله، إنما لن نقف بالضد من فعل الترجمة، ولا يخفى أننا ذكرنا في بداية الحديث، مدى أهمية فعل الترجمة، إضافةً إلى ذلك، فلو قُيِّض لي، لوضعت في كل مدينة مؤسسة للترجمة، بل ستكون الترجمة ضمن مراحل الدراسة الأولى، ولجعلت الترجمة من المَهام الأولى المعنية بتقدم وصحة فكر الإنسان، ذلك أن الفرد العربي ما زال مسجوناً بأغلال العصور الوسطى.
يقول مؤرخ العلوم المصري رشدي راشد "بعد احتلال الإنكليز لمصر، أصدرت قانونين، الأول: إيقاف جميع الأنشطة العلمية ولا أعرف كيف فلتت من سلطة هذا القانون كلية المعلمين العالية، والثاني: مساواة تسعيرة البضاعة الانكليزية مع البضاعة المحلية، فخبا توهج روح العلم، وتنامت لغة الأعراف والعادات والتقاليد بملحها".
وللإشارة فيما يخص مستوى الترجمة في العالم العربي، فهو يسير بروح سلحفاتية، إذ أن تعداد النسمة يقدر بثلاثمئة مليون عربي، ومعدل الترجمة في كل سنة لا يتجاوز عتبة خمسمئة كتاب، وأغلبها في الأدب! بينما بلاد الأندلس بثمان وثلاثين مليون نسمة، تنجز ترجمات في السنة الواحدة ما يقارب عشرة آلاف كتاب! ليتبين للقارئ مدى التفاوت الحضاري وروح العلم المتدنية هنا والمسرعة هناك.
ما قلناه، ليس كل ما نريد قوله، فلعل ما كتب هنا، يساهم ولو بدرجة بسيطة في التحول والاهتمام بالعلوم مناصفة مع الأدب، وما غايتنا إلا التنويه على المترجم بالدرجة الأساس باعتماد مشاريع علمية أخرى، ودور النشر في أن تمنهج عملها الترجمي باتجاه الصواب، والمؤسسات كذلك، المحافل التكريمية والجوائز، ينبغي أن تتوجه دفتا التفكير والنشر نحو العلوم، فالحياة ليست أدباً فقط، ولا القراءة كذلك.