صمم المعماري الأسطوري ديدالوس وابنه إيكاروس متاهة وجعلا مخرجها في الوسط حيث يعيش المينوتور، وحش دموي مخيف يفتك بكل من يقترب منه. بعد موت ابنه، قام ملك كريت، مينوس، بمهاجمة أثينا وفرض أتاوة بسبعة شبان وسبع عذارى ليأكلهم المينوتور. انتهت مذلّة أثينا على يد ثيسيوس، ابن ملك اثينا، بمساعدة اريادني، ابنة مينوس، بعد أن أعطاها ديدالوس حبلاً استعمله حبيبها ثيسيوس للخروج به من المتاهة بعد قتل المينوتور. قام ملك كريت بحجز ديدالوس وايكاروس في المتاهة، فصنع دايدالوس أجنحة من الريش وشمع العسل وأوصى ابنه ألا يقترب من الشمس. تجاهل إيكاروس التحذيرات وطار نحو الشمس، التي أذابت حرارتها الشمع فسقط ومات غرقاً في البحر.
في لوحته عن سقوط إيكاروس، يصغر بيتر برويغل حدث السقوط بإبعاده عن المركز إلى زاوية اللوحة، بحيث بالكاد نلحظ ساقي إيكاروس الطافيتين على سطح الماء، فيما سفينة تبحر دون أن تعبأ به، وفلّاح يحرث الأرض ولا يلتفت لسقوطه، وراعي أغنام يسير بالاتّجاه المعاكس، وصياد رغم قربه لا يبدي أي اهتمام، حتى أن الأب ديدالوس لا يظهر في اللوحة. هذا التصوير القاسي للسقوط هو أيضاً موضوع قصيدة للشاعر ويستن هيو أودن يرثي فيها الحداثة حيث اللامبالاة باتت صفة أساسية في حياة الإنسان نتاج إحساسه بالتوجس والضآلة والعجز أمام مآسي الحياة الموشحة بالظلم والمعاناة. كان الفيلسوف ديوجين يحمل مصباحاً في وضح النهار ليبحث عن إنسان أفلاطون الفاضل، فلم يقابل إلا أشقياء فيهم حزن وخيبة من آلام يقظة الحياة. فهل حقاً كما تقول غادة السمان: "اللامبالاة هي آخر فصول الوجع" في حبكة الألم الذي يوصلنا درجة اليقين أن الأمل ليس سوى وهم خالص؟ وهل الأمل قيمية سلبية مبنية على الأسبقية الأنطولوجية للألم؟
نعود إلى لوحة برويغل. في مقابل قسوة مشهد السقوط، هناك الطبيعة المستمرة في حركتها رغم الأهوال على الأرض؛ البحر يموج برتابة والشمس تسري لغروبها وستشرق حتماً. كون لامتناهي يدور ولا يتوقف للحظة ألم أو حزن، محكوم بالأمل ومريض بالحياة وفي لامبالاته فلسفة ـ فلسفة أدركها فاوست بعد أن سخرت روح الأرض منه واضطربت نفسه وزج به في اليأس حد الانتحار. رفع فاوست السم وإذ به يسمع قرع أجراس وإنشاد جوقات العيد، فأبعد السم عن شفتيه ونظر إلى الشمس وهي تغيب. رأى نفسه يركض لا توقفه الجبال، والبحر يفتح أمامه خلجانه الدافئة، فقال: "ما أجمل الحلم والشمس تنحدر للمغيب!".
اليوم، نعيش لحظة فاوست المصيرية؛ لحظة تفترض حجب شمس فلسطين بظل تصفية القرن في قانون القومية اليهودية، وقرار ترامب بحق القدس، ومشروع الضم، وخيانات التطبيع من أوسلو إلى الإمارات، وانقسام البيت الفلسطيني. وفي موعده جاء الاجتماع الفلسطيني على مستوى الأُمناء العامين للفصائل وبالتوازي بين بيروت ورام الله. فهل خرجت علينا القيادة بالجديد؟ ما زال رهان السلطة على المفاوضات والتأرجح بين الحلول والمقاومة السلمية، في ظل كيان ممزق وسلطة منقسمة وحكومة شبه موازية في غزة. وفيما أجمع المتحدثون على ضرورة الوحدة والنهوض بمنظمة التحرير على أرضية برنامج يسحب الاعتراف بـ "إسرائيل" ويلغي اتفاق أوسلو، لم يرد أي ذكر لآنية وآليات التنفيذ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية للتخلص من ثقافة ومؤسسات أوسلو والتحلل من كل الاتفاقات مع "إسرائيل"، والكل في عمى البصر والبصيرة عن تحديات الشتات ومآسي اللجوء في مخيمات لبنان وحق العودة. والأهم، لم ترد أي مراجعة للمسار السياسي الذي أفضى إلى واقع السلطة ودورها الوظيفي في خدمة الاحتلال، أو نقاش لكيفية تجديد المشروع التحرري بكل مرتكزاته الوطنية وأدواته النضالية، وآليات خلق منظومة تشاركية وحداثية وديمقراطية تنظم الاختلاف وتدير التناقضات في ظل مرحلة التحرر الوطني، في ظل أزمة بنيوية للمنظومة القيادية وتحولها إلى طبقة سياسية يتحكم فيها رموز الفساد والأجهزة الأمنية ومن خلفهم قطاع واسع من رجال الأعمال والمال لا يهمهم إلا السيطرة على القرار السياسي وتأمين الخلافة والثروات والامتيازات والمعاشات، فيما شيوخ النفط يلوحون بالمليارات في بازار البحث عن قيادة بديلة جاهزة للبصم على صفقة ترامب.
اليوم، نعيش التطابق المخيف لأسطورة المينوتور في خوار الثور الأمريكي وشرور بني صهيون وأباطرة الخليج، فيما تنهب الأرض، وتحاصر المدن والقرى بالمستوطنات، وتهود القدس، ويستشري الفساد، وتشتد قبضة السلطة على الشرفاء في قفص شطري السلطة، وتفتك المآزق الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية بالجسد الفلسطيني، حتى ساده الاغتراب ومشاعر الضعة والهوان حد اللامبالاة، وأضحى السقوط علامة كل مكونات المجتمع وأركان نظامه. في خضم هذه المعركة المركبة من نكبة على نكسة متجددة، المطلوب منا كفلسطينيين هو أن نحمل صخرة سيزيف العبثية مرة تلو أخرى ونهيم بها في أرض الله الواسعة قهراً وقسراً ولفظاً من جغرافيا فلسطين وتاريخها، وعراة إلا من حيوات ملطخة بألوان النفي والغربة، وذاكرة تنزف ألمًا ووجعاً وتشرذماً وتشظياً، ومستقبلاً يرشح حمماً ودموعاً ونحيباً مكبوتاً مخنوقاً. فهل عرتنا الحياة من كل أسباب حبها؟ وهل بات كل ما نستطيع إلى سبيلها هو بيانات الشجب والاستنكار، والتصريحات المنبرية والنضالات الدبلوماسية، والرهان على مؤتمرات القمة العربية والمبادرات الخليجية، والتحالفات الخجولة والانقسامات، والبراغماتية والسلمية؟ أليست كثرة الحديث عن المصالحة والوحدة ومنظمة التحرير، دون تحديد المرتكزات والأدوات والآليات، هي ورقة التوت التي تستر مدى العقم الإبداعي للقيادات وتخفيهم عن المساءلة عن دورهم ومسؤوليتهم عما نحن فيه؟
في هذه اللحظة المصيرية، المواجهة تستلزم الثقة بالجماهير والجرأة في تعبئتها واستعادة روحها الكفاحية وقدراتها الثورية الخلاقة، وألا نقف مكتوفي الأيدي وهي تغرق في اللامبالاة حد الانجذاب إلى الهلاك. السؤال أمامنا: هو كيف نحول هذا السقوط السياسي إلى مطرقة نيتشه تحطم بها الجماهير آلهة أوسلو وأصنامها؟ كيف نمكن هذا الاحساس باللامبالاة أن يكون هو ذاته رهان الأمل الفلسطيني كما في القصيدة الدرويشية؟ "يحتاج الإنسان جرعات من القبح أحيانا. كي يعود، ولو حبواً، ويستل الأمل من غيابة الخيال". وما أقبح المشهد فينا ومن حولنا؛ لهذا، وليس على الرغم، بل من الرغم منه، علينا اقتناص الأمل والقفز فوق الصدمات والصفعات في عود أبدي لجدوز صراعنا وموضوعاتنا الجوهرية وثوابتنا التحررية الجامعة، وفي تكرار خلاق يفتح المجال لزوبعة الإبداع والتنوع والانتعاش والتجديد والبعث. علينا أن ننسج ثقافة الأمل من أوجاع ودم المخاض الفلسطيني العسير. علينا جبر القلوب الكسيرة والانتصار لها بالحكايات والذكريات والسرديات في كرونوتوبية من التوثيق والنقد والتحليل والخيال، تدشن حق روايتنا وتفتح آفاقاً لتجديد روحها وتوسع مسالكها في تفكيك المنظومة الإحلالية الصهيونية. علينا تشبيب الكوادر وتمكين ولادة قيادة أكثر بلوغاً ومسؤولية والتزاماً وتمثيلاً للكل الفلسطيني، مدعمة باستراتيجية مقاومة موحدة، واشتغالها بديناميكيات مفتوحة، بما فيها الكفاح المسلح، في ائتلاف حضاري وحداثي وتشاركي وديموقراطي، وتفعيلها في كل ساحات الشتات كما على كل أرض فلسطين.
في زمن ابراهام، علينا أن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا.. أن نعيشها كما نعرف فقط أن نعيش: كفلسطينيين. لا ننحني. نقف نداً لند. نجوب أزقة العالم وشوارعه في حركة دائمة وسعي ثوري وراء ثمرة سعادة في كرم جليلي دون أن نتوه تماماً في صحراء العرب، ووحشة الغربة، ومخيمات العدم والفناء والسأم والجوع. ننقب في متاهات ذاكرتنا عن تناقضاتنا وعثراتنا. نستيقظ من الرماد والركام والحطام. نحلق مع الحكاية والحلم. نندفع إلى قاع البحور وجزر الحياة. نجتاز الحدود والأبواب والجدران والأسلاك. نعبد طرق التضحية والفداء. ونختار فلسطين، كل فلسطين، حباً وطواعية.