مصر بين سرديتين، والثالثة منبوذة

مصر بين سرديتين، والثالثة منبوذة

مصر بين سرديتين، والثالثة منبوذة

By : Ahmed Abdel Halim أحمد عبد الحليم

وسط ملايين من المصريين. مازال يثار في أذهانهم سؤال الهويّة، هل مصر مصرية تجمع الأديان تحت مظلّة الوطنية، أم أن الدين، أي الإسلام، أشمل من مفهوم الوطنية؟ فهو يأتي أولا ثم تأتي تحت رايته الهويّات الأُخرى، وتلك الأخيرة لا تنحصر في اتجاهٍ واحد، فبالنسبة للدين هناك فئات كثيرة تعتبر نفسها هي الحاضنة الصادقة له، كالجماعات الدينية التنظيمية غير الرسمية (الإخوان المسلمون مثالا)، وهي بذلك تنازع الوجود المؤسسي الرسمي لمؤسساتٍ أُخرى كالأزهر الشريف ودار الإفتاء. ومع ظهور إشكاليات الحريات والجنسانية مؤخرًا التي يرفض الدين الكثير من قضاياها وتحاول الدولة تحجيمها، بالرغم من ذلك بدأت تدخل في ساحة العراك مع السرديتين الأساسيتين للدولة المصرية والتي يعتنقهما غالبية الشعب وهما السردية الوطنية والسردية الدينية، فما هما؟، وكيف تسعى كل منهما لفرض خطابها، وما موقفهما من السردية الثالثة؟

بدأت بالتحرير وانتهت بالاستقرار

 

[كاريكاتير ثورة ١٩١٩ - المركز الثقافي الألماني.]   

لاشك أن مقاومة الاحتلال في مصر اتخذت الدين والوطنية كهويّتين دافعتين للاستقلال، ولكن مَن تكون له الكلمة العليا في النهاية هو الذي يرسم هويّة ما بعدية يُلبّسها للشعوب كذاكرة هوياتيّة تكون مرجعية دائمة لديه. كان مطلع القرن العشرين مثالاً على ذلك، فثورةمارس عام 1919 اتخذت شكلًا وطنيًا لا دينيًا إسلاميًا، بل وطنية ترسم على رايتها الهلال والصليب وينادى في الشوارع «مصر مصرية»، وبما أن الحركة الوطنية عهدئذٍ تصدرها حزب الوفد بقيادة سعد زغلول وعدد من الشخصيات الوطنية، إذًا كانت ملامح الصراع بعد ذلك كما يصفها المفكر المصري طارق البشري بين الوفد الذي يمثل الهوية المصرية وحقوق المصريين وبين القصر والاحتلال. رمزية القصر هنا تعني الرجوع إلى السلطنة العثمانية التي تمثل الدين، حتى وإن كانت السلطنة على وشك الأفول. وعلى مرّ ثلاثة عقود استمر صراع التحرير متمثلًا في الأحزاب الوطنية والليبرالية واليسارية من جهة وتساعدها من أُخرى جهة دينية متمثلةً في الإخوان المسلمين كدعوة حركية والأزهر الشريف كمؤسسة رسمية. يجمعهم نضال التحرير حتى وإن كانت مرجعية التحرير ذاتها تختلف عندهم بين الاستقلال من أجل الوطن والاستقلال من أجل الدين وإن كان الدافعين مُتقاطعين، حتى جاءت حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 وقامت بعزل الملك ومن ثمَّ نهاية الملكية وقيام الجمهورية المصرية العربية [1].

 

[مجلس قيادة الثورة - أسفل من اليمين.  محمد أنور السادات - عبد الحكيم عامر - محمد نجيب - جمال عبد الناصر]

فرض الضباط الأحرار خطابًا وطنيًا خالصًا، كان ومازال هذا الخطاب وقتها يستكمل العمل من أجل التحرير وإجلاء المستعمر، فضلًا عن قضايا داخلية مثل تحقيق المساواة والقضاء على الإقطاعية والمُلاك وتأميم الشركات ومجانية التعليم وغيرها. ومع ضيق أفق الوطنية المتمثلة في قيادة عبد الناصر باستيعاب الهوية الإسلامية الحركية متمثلةً في الإخوان المسلمين أحد شركاء الضباط في حركة يوليو، بل ومع تحول ضيق الأفق إلى عداء أدى إلى استئصال حركة الإخوان من العمل الدعوي والسياسي وعزلهم في معتقلات النظام الناصري لما يقرب من عقدين من الزمن، ناهيك عن مرجعية القيادة ذاتها وهى مرجعية وطنية ذات طابع اشتراكي، نتج عن ذلك علوّ خطاب التحرير من أجل القومية وعلو مجد العروبة المتمثلة في الجمهوريات العربية كافة، لا من أجل شيءٍ أيديولوجي آخر، ولكن فككت نكسة يونيو عام 1967 خطاب العروبة والمشروع الناصري بأكمله الذي وضحت ملامح قمعه وفساد إدارته للجيش والحكم في مصر. لتأتي بعد ذلك مرحلة جديدة يقودها ضابط آخر.

شهدت هوية الشعب المصري منذ تولي السادات الحكم في مصر وعلى مرّ أربعة عقود حتى أجبرت الثورة مبارك على التنحي من السلطة في مصر (1970 -2011) انكماشاً وامتدادًا. فبمجرد انتهاء الحرب مع إسرائيل وتوقيع اتفاقية السلام وبزوغ نيوليبرالية الشركات الأجنبية في مصر، انخفض صدى الهوية الوطنية في مصر بالتوازي مع علو صيت الهوية الإسلامية التي تبنتها الحركات الإسلامية بعد عصر الانفراجة في الدعوة أكثر منها في السياسة. تمثلت تلك الهوية في حركات دعوية خالصة مثل جماعة التبليغ والدعوة والتيار السلفي والجماعات الصوفية، وفي دعوة حركية تمثلت في الإخوان المسلمين، فضلًا عن وجود المؤسسة الدينية التعليمية متمثلةً في الأزهر الشريف، مع صعود نجم شيوخ ومُفكرين وكتاب إسلاميين مستقلين كالشيخ الشعراوي ومحمد الغزالي ومحمد عمارة. انجلت تلك الخطابات في أشياء كثيرة ظاهرية وجوّانية للكيان المصري سواء في لباس المرأة وإطلاق اللحيّ للرجال وبناء المساجد وغير ذلك من أشكال دينية شعائريّة. ومن ناحيةٍ أُخرى تأملات لخلافة إسلامية وطموحات لكتابة دستور إسلامي يوحد الأمة الإسلامية من جديد تبنّته دعوة كالإخوان المسلمين. رغم ذلك التجلّي اعتمد القائمون على السلطة في مصر على سردية رسمية وهى تقديس الدولة المصرية بل والحفاظ عليها من أي زعزعة تمس بها سواء من عدوٍ خارجي أو داخليّ، واستطاعت بذلك الاحتفاظ على أجيال كاملة من الخمسينات إلى السبعينات في أقل تقدير يمتلك سردية الدولة في الحفاظ على أمن واستقرار مصر في المقام الأول، ثم تأتي أو لا  تأتي بعد ذلك هوية إسلامية أو يسارية أو حتى ليبرالية.

التصادم مرّةً أُخرى

  

[طوني خليفة يهدئ مشاجرة بين الشيخ محمود شعبان والتنويري إسلام البحيري. (رمضان 2012 - برنامج أجرأ كلام)]

شغل الإسلاميون الحيز الأكبر من المجال العام والخاص في أغلب المجالات في مصر بعد الثورة (فبراير 2011 - يونيو 2013) حيث اكتسحوا بتحالفاتهم مع بعضهم البعض المجالس النيابية متمثلةً في مجلس الشعب والشورى، وصولًا إلى رئاسة الجمهورية بقيادة قياديّ الإخوان محمد مرسي. بثّت أيضًا عدة قنوات إسلامية تصدرها شيوخ سلفيون تتحدث عن إقامة الشريعة والحكم الإسلامي في مصر. تحدث الإخوان عن تأسيسهم لجنة الدراماوالفن في جماعة الإخوان، وتأسيسهم شركة الرحاب الخاصة للإنتاج واستعدادهم لتقديم فنّ مصري يعبر عن الهوية الإسلامية وقيم الأسرة المصرية المحافظة بعيدًا عن الخلاعة التي كانت تُقدم برأيهم. في تلك المجالات وغيرها، وحتى في الأناشيد التي قدمت بعد ذلك، كان الشعار هنا أن مصر إسلامية، وأن الإسلام أشمل من الوطنية والأيديولوجيات الأُخرى فالإسلام دين ودولة اقتداءً بإرث ورسائل المؤسس الراحل حسن البنا.

كانت تلك الفترة بمثابة الانتعاش الحقيقي للتيار الإسلامي في مصر سواء الدعوي منه أو السياسي. قابلت تلك الانتعاشة تخوفات كثيرة من تيارات عدة إعلامية وفنيّة تعمل في مجالاتها منذ عشرات السنوات. كان على رأسها النخبة الفنية، حيث دارت الأحاديث والجدالات بين المخرج الشهير خالد يوسف وبين قيادات من الإخوان عن العمل الفني وصراع الهوية في السينما، وأجرى إعلاميون كُثر مثل وائل الإبراشي ومنى الشاذلي وطوني خليفة وغيرهم عشرات الحوارات مع قيادات إسلامية كَحازم أبو إسماعيل وعصام العريان وحسام أبو البخاري ومحمود شعبان. كانت تلك اللقاءات تتمحور حول هاجس إقامة الشريعة الإسلامية في مصر، شكل المجتمع بعد ذلك، هويّة المصريين والدولة إلى أين تتجه في ظل طموحات الإسلاميين اللامنتهية في إقامة نظام إسلامي عالمي.

الم تصطدم سردية الإسلاميين بهويّات وأحاديث من قِبل أطراف ترفضها فحسب، بل ببيانٍ ألقاه وزير الدفاع والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي يوم 3 يوليو عام 2013 يعلن فيه انقلاباً عسكرياً صريحاً أطاح بالإخوان ورفقائهم ليس من السلطة فقط، بل من الحياة الاجتماعية إجمالًا. من وقتها وإلى الآن أعاد النظام الجديد بقيادة عبد الفتاح السيسي سردية الوطنية المصرية، ولكن بفرض حالة استثناء تحمي مؤسسات الدولة ولاسيما الأمنية من الإرهاب المُحتمل كما قال [2]. اعتمد النظام الحالي أيضًا في سرديته على تمجيد جيش وشرطة مصر في حماية الدولة ومؤسساتها من أي زعزعة داخلية أو خارجية. تعطي هذهالسردية غطاءً من خلال المؤسسات الإعلامية للانتهاكات الحقوقية الفجّة التي ارتكبها نظام السيسي في حق المعارضة بكل أطيافها، ولاسيما الإسلاميين وفي قلبهم الإخوان. لتدخل مصر منذ سبع سنوات في هويّة مصرية تمجد الاستقرار، وتُقيّد الحياة السياسية والمجتمعية، وتبث الرعب في وجدان المصريين عند الاحتجاج أو التفكير في التغيير. عكس الهوية التي بدأها الضباط الأحرار في التحرير وجلاء المُحتل، ولكنّه تشابه كوّنه نظامًا يترأسه عسكري تابع للجيش المصري، بالتوازي مع الحفاظ بل والاندماج مع الانفتاح الاقتصادي ووجود الشركات الأجنبية المستثمرة، واستعاد أيضًا العداء للإسلاميين وبالأخص الإخوان المسلمين وسردياتهم بشأن الهوية والسياسة كما فعله سلفه جمال عبد الناصر.

يقسم أستاذ التاريخ المصري خالد فهمي السردياتالمصرية منذ نشأة دولة الضباط عام 1952 لسرديتيّن أساسيتيّن وهما السردية الوطنية وسمّاها الأبوية التي يتّبعها النظام المصري الحالي، والسردية الدينية والتي يمثلها التيار الإسلامي. يقول إنهما طاغيتان على أي سردية أو هويةٍ أُخرى وخصوصًا إذا كانت سردية أكثر انفتاحًا وفردانية. وبالنسبة للإخوان فإن الجماعة تستخدم ما يسمى بسردية المحنة وهى التي تطغى عليهم عند استئصال أي نظام مصري لهم كما يُفعل بهم الآن. منذ الانقلاب اعتمد الخطاب الإعلامي التابع للجماعة استعادة ذكرى المحنة التي دائمًا تتعرض لها الجماعة منذ نظام عبد الناصر إلى الآن. ولكن تحاول الجماعة أيضًا ربط السردية التاريخية للمحن بالأيديولوجيا الدينية، حيث تخرج من السياق السياسي لما يحدث، لما هو يخاطب وجدان أفرادها وليس عقولهم. فتجد الجماعة تتبنى أحاديث وخطابات أن ما يحدث لهم من قبل نظام السيسي هو حرب على الإسلام في المقام الأول وتنفيذ لأجندات صهيونية حتى يصل الخطاب إلى أن والدة الرئيس المصري الحالي يهودية مغربية دون الاستناد إلى معلومات حقيقية والتفكير في الخروج بهم من أزمتهم السياسية الواقعة مع النظام المصري.

السردية الثالثة

 

[رئيس جامعة القاهرة عثمان الخشت والشيخ أحمد الطيب]

يريد النظام المصري الحالي أن يضع حدًا للسردية الدينية أو يضع سردية دينية تتناسب مع حالة الاستثناء الذي فرضها في مصر، وخصوصًا مع معاناة الدولة سواء في قمع السردية الدينية الحركية للإخوان وحلفائهم عن طريق التظاهرات والاحتجاج أو حتى في حربها على الجماعات المتمردة في سيناء ذات التوجه الديني الجهادي. ولذلك كانت تودّ من الأزهر الشريف، وهو المؤسسة الدينية الرسمية، أن يكون تابعًا لها في كل قراراتها ممّا يعطي للدولة غطاءً دينيًا خاصًا بها يخاطب بها وجدان المصريين. إلا أن الأزهر الشريف ومع تأييده للدولة المصرية إلا أنّه وقف حائلًا بينه وبينتكفير تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش، ويقف أيضًا مانعًا ما يتبنّاه مثقفون وأكاديميون محسوبون على الدولة ما يعرف بتجديد التراث وتجديد الخطاب الديني وتجفيف منابع الفكر السلفي الأصولي.

أدى ذلك إلى تلميحات مباشرة من الرئيس المصري بعدم رضاه عن أداء شيخ الأزهر أحمد الطيب، تبع ذلك تسلّط إعلامي من أفواه النظام وهى تُهاجم المؤسسة الأزهرية في تخاذلها الفكري لمواجهة الأفكار المتشددة وتطالب الطيب بالتنحي. جماعة الإخوان أيضًا لا تتفق مع الأزهر كمؤسسة دينية وذلك بسبب وجودها في بيان انقلاب يوليو عام 2013. أعلن شيخ الأزهر يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة أن المشيخة لم تكن تعلم بالفض، وأنه يأسف بسبب دماء الأبرياء وينوي الاعتكاف في بيته احتجاجًا على فض الاعتصام بتلك الطريقة. إلا أنه غض البصر أيضًا عن الانتهاكات الذي تحدث للمصريين على المستوى السياسي والحقوقي. ربما تكون تكتيكات المشيخة الآن هي الحفاظ على وجودها من الأساس وتدخلها في السياسة بشكلٍ مباشر قد يعفي رموزها كليا من الوجود، فهي تعرف أن النظام الحالي لا يتردد في إقصاء من يخالفه، مع ذلك توجد محاولات من النظام المصري في استمالة الأزهر لتأييدها على طول الخط وعلى الجانب الآخر تأييد من الخطاب الإعلامي للجماعة للأزهر وشيخها فيما يخالف به نظام السيسي.

مع كل التشابكات وبين تلك السرديات الثلاث (الدولة - الأزهر - التيار الديني الحركي) ولكنهم اتفقوا جميعا في معاداة فردانية الحقوق الشخصية التي تنادي بها التيارات اليسارية والأكثر انفتاحًا واندماجًا مع المجتمع المدني سواء بمؤسساته المحلية أو الدولية، يقف الأزهر والتيار الديني الحركي ضدهم لما يتفقون عليه من مرجعية نصيّة في الدين تحرم تلك الحريات. وتقف الدولة أيضًا كوّنها دولة محافظة دينيًا، لا تعادي الدين بشكلٍ تعبدي ونصيّ، بل تعادي الجماعات الحركية التي تأخذ الديني مرجعاً فيما يسمى بتيار الإسلام السياسي. ومن ناحية أُخرى تريد الدولة حوكمة الأخلاق ورأس المال الصاعد من العمل الحر عن طريق الإنترنت، فيتم ملاحقة ذوات الهويات الجنسية المغايرة، ويتم القبض على فتيات التيك توك، وتصدر الدولة الإدانة لهم وراء قيم المجتمع والأسرة المصرية. ولكن هي حوكمة نظامية لأخلاق النظام ذاته المحافظة، وحوكمة أيضًا لرأس المال لهؤلاء الشباب. ويعد الخطاب الأكثر تحررًا من النص الديني ومن حوكمة النظام المصري سردية ثالثة يستعيد المثقف منها ذكريات طلائع الفردانية وحقوق المرأة مسترجعًا كتابات هدى الشعراوي ونبوية موسى وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم من التيار الليبرالي واليساري المصري مطلع القرن العشرين، ولكنها إلى الآن تعدُ سردية ضعيفة بالنسبة إلى السرديتين الطاغيتين

المصادر

1- طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952- 1970، مؤسسة الأبحاث العربية.

2-  تعريف حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي، وقد ناقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ الإنسان الحرام. أنظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬