وسط ملايين من المصريين. مازال يثار في أذهانهم سؤال الهويّة، هل مصر مصرية تجمع الأديان تحت مظلّة الوطنية، أم أن الدين، أي الإسلام، أشمل من مفهوم الوطنية؟ فهو يأتي أولا ثم تأتي تحت رايته الهويّات الأُخرى، وتلك الأخيرة لا تنحصر في اتجاهٍ واحد، فبالنسبة للدين هناك فئات كثيرة تعتبر نفسها هي الحاضنة الصادقة له، كالجماعات الدينية التنظيمية غير الرسمية (الإخوان المسلمون مثالا)، وهي بذلك تنازع الوجود المؤسسي الرسمي لمؤسساتٍ أُخرى كالأزهر الشريف ودار الإفتاء. ومع ظهور إشكاليات الحريات والجنسانية مؤخرًا التي يرفض الدين الكثير من قضاياها وتحاول الدولة تحجيمها، بالرغم من ذلك بدأت تدخل في ساحة العراك مع السرديتين الأساسيتين للدولة المصرية والتي يعتنقهما غالبية الشعب وهما السردية الوطنية والسردية الدينية، فما هما؟، وكيف تسعى كل منهما لفرض خطابها، وما موقفهما من السردية الثالثة؟
بدأت بالتحرير وانتهت بالاستقرار
[كاريكاتير ثورة ١٩١٩ - المركز الثقافي الألماني.]
لاشك أن مقاومة الاحتلال في مصر اتخذت الدين والوطنية كهويّتين دافعتين للاستقلال، ولكن مَن تكون له الكلمة العليا في النهاية هو الذي يرسم هويّة ما بعدية يُلبّسها للشعوب كذاكرة هوياتيّة تكون مرجعية دائمة لديه. كان مطلع القرن العشرين مثالاً على ذلك، فثورةمارس عام 1919 اتخذت شكلًا وطنيًا لا دينيًا إسلاميًا، بل وطنية ترسم على رايتها الهلال والصليب وينادى في الشوارع «مصر مصرية»، وبما أن الحركة الوطنية عهدئذٍ تصدرها حزب الوفد بقيادة سعد زغلول وعدد من الشخصيات الوطنية، إذًا كانت ملامح الصراع بعد ذلك كما يصفها المفكر المصري طارق البشري بين الوفد الذي يمثل الهوية المصرية وحقوق المصريين وبين القصر والاحتلال. رمزية القصر هنا تعني الرجوع إلى السلطنة العثمانية التي تمثل الدين، حتى وإن كانت السلطنة على وشك الأفول. وعلى مرّ ثلاثة عقود استمر صراع التحرير متمثلًا في الأحزاب الوطنية والليبرالية واليسارية من جهة وتساعدها من أُخرى جهة دينية متمثلةً في الإخوان المسلمين كدعوة حركية والأزهر الشريف كمؤسسة رسمية. يجمعهم نضال التحرير حتى وإن كانت مرجعية التحرير ذاتها تختلف عندهم بين الاستقلال من أجل الوطن والاستقلال من أجل الدين وإن كان الدافعين مُتقاطعين، حتى جاءت حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 وقامت بعزل الملك ومن ثمَّ نهاية الملكية وقيام الجمهورية المصرية العربية [1].
[مجلس قيادة الثورة - أسفل من اليمين. محمد أنور السادات - عبد الحكيم عامر - محمد نجيب - جمال عبد الناصر]
فرض الضباط الأحرار خطابًا وطنيًا خالصًا، كان ومازال هذا الخطاب وقتها يستكمل العمل من أجل التحرير وإجلاء المستعمر، فضلًا عن قضايا داخلية مثل تحقيق المساواة والقضاء على الإقطاعية والمُلاك وتأميم الشركات ومجانية التعليم وغيرها. ومع ضيق أفق الوطنية المتمثلة في قيادة عبد الناصر باستيعاب الهوية الإسلامية الحركية متمثلةً في الإخوان المسلمين أحد شركاء الضباط في حركة يوليو، بل ومع تحول ضيق الأفق إلى عداء أدى إلى استئصال حركة الإخوان من العمل الدعوي والسياسي وعزلهم في معتقلات النظام الناصري لما يقرب من عقدين من الزمن، ناهيك عن مرجعية القيادة ذاتها وهى مرجعية وطنية ذات طابع اشتراكي، نتج عن ذلك علوّ خطاب التحرير من أجل القومية وعلو مجد العروبة المتمثلة في الجمهوريات العربية كافة، لا من أجل شيءٍ أيديولوجي آخر، ولكن فككت نكسة يونيو عام 1967 خطاب العروبة والمشروع الناصري بأكمله الذي وضحت ملامح قمعه وفساد إدارته للجيش والحكم في مصر. لتأتي بعد ذلك مرحلة جديدة يقودها ضابط آخر.
شهدت هوية الشعب المصري منذ تولي السادات الحكم في مصر وعلى مرّ أربعة عقود حتى أجبرت الثورة مبارك على التنحي من السلطة في مصر (1970 -2011) انكماشاً وامتدادًا. فبمجرد انتهاء الحرب مع إسرائيل وتوقيع اتفاقية السلام وبزوغ نيوليبرالية الشركات الأجنبية في مصر، انخفض صدى الهوية الوطنية في مصر بالتوازي مع علو صيت الهوية الإسلامية التي تبنتها الحركات الإسلامية بعد عصر الانفراجة في الدعوة أكثر منها في السياسة. تمثلت تلك الهوية في حركات دعوية خالصة مثل جماعة التبليغ والدعوة والتيار السلفي والجماعات الصوفية، وفي دعوة حركية تمثلت في الإخوان المسلمين، فضلًا عن وجود المؤسسة الدينية التعليمية متمثلةً في الأزهر الشريف، مع صعود نجم شيوخ ومُفكرين وكتاب إسلاميين مستقلين كالشيخ الشعراوي ومحمد الغزالي ومحمد عمارة. انجلت تلك الخطابات في أشياء كثيرة ظاهرية وجوّانية للكيان المصري سواء في لباس المرأة وإطلاق اللحيّ للرجال وبناء المساجد وغير ذلك من أشكال دينية شعائريّة. ومن ناحيةٍ أُخرى تأملات لخلافة إسلامية وطموحات لكتابة دستور إسلامي يوحد الأمة الإسلامية من جديد تبنّته دعوة كالإخوان المسلمين. رغم ذلك التجلّي اعتمد القائمون على السلطة في مصر على سردية رسمية وهى تقديس الدولة المصرية بل والحفاظ عليها من أي زعزعة تمس بها سواء من عدوٍ خارجي أو داخليّ، واستطاعت بذلك الاحتفاظ على أجيال كاملة من الخمسينات إلى السبعينات في أقل تقدير يمتلك سردية الدولة في الحفاظ على أمن واستقرار مصر في المقام الأول، ثم تأتي أو لا تأتي بعد ذلك هوية إسلامية أو يسارية أو حتى ليبرالية.
التصادم مرّةً أُخرى
[طوني خليفة يهدئ مشاجرة بين الشيخ محمود شعبان والتنويري إسلام البحيري. (رمضان 2012 - برنامج أجرأ كلام)]
شغل الإسلاميون الحيز الأكبر من المجال العام والخاص في أغلب المجالات في مصر بعد الثورة (فبراير 2011 - يونيو 2013) حيث اكتسحوا بتحالفاتهم مع بعضهم البعض المجالس النيابية متمثلةً في مجلس الشعب والشورى، وصولًا إلى رئاسة الجمهورية بقيادة قياديّ الإخوان محمد مرسي. بثّت أيضًا عدة قنوات إسلامية تصدرها شيوخ سلفيون تتحدث عن إقامة الشريعة والحكم الإسلامي في مصر. تحدث الإخوان عن تأسيسهم لجنة الدراماوالفن في جماعة الإخوان، وتأسيسهم شركة الرحاب الخاصة للإنتاج واستعدادهم لتقديم فنّ مصري يعبر عن الهوية الإسلامية وقيم الأسرة المصرية المحافظة بعيدًا عن الخلاعة التي كانت تُقدم برأيهم. في تلك المجالات وغيرها، وحتى في الأناشيد التي قدمت بعد ذلك، كان الشعار هنا أن مصر إسلامية، وأن الإسلام أشمل من الوطنية والأيديولوجيات الأُخرى فالإسلام دين ودولة اقتداءً بإرث ورسائل المؤسس الراحل حسن البنا.
كانت تلك الفترة بمثابة الانتعاش الحقيقي للتيار الإسلامي في مصر سواء الدعوي منه أو السياسي. قابلت تلك الانتعاشة تخوفات كثيرة من تيارات عدة إعلامية وفنيّة تعمل في مجالاتها منذ عشرات السنوات. كان على رأسها النخبة الفنية، حيث دارت الأحاديث والجدالات بين المخرج الشهير خالد يوسف وبين قيادات من الإخوان عن العمل الفني وصراع الهوية في السينما، وأجرى إعلاميون كُثر مثل وائل الإبراشي ومنى الشاذلي وطوني خليفة وغيرهم عشرات الحوارات مع قيادات إسلامية كَحازم أبو إسماعيل وعصام العريان وحسام أبو البخاري ومحمود شعبان. كانت تلك اللقاءات تتمحور حول هاجس إقامة الشريعة الإسلامية في مصر، شكل المجتمع بعد ذلك، هويّة المصريين والدولة إلى أين تتجه في ظل طموحات الإسلاميين اللامنتهية في إقامة نظام إسلامي عالمي.
الم تصطدم سردية الإسلاميين بهويّات وأحاديث من قِبل أطراف ترفضها فحسب، بل ببيانٍ ألقاه وزير الدفاع والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي يوم 3 يوليو عام 2013 يعلن فيه انقلاباً عسكرياً صريحاً أطاح بالإخوان ورفقائهم ليس من السلطة فقط، بل من الحياة الاجتماعية إجمالًا. من وقتها وإلى الآن أعاد النظام الجديد بقيادة عبد الفتاح السيسي سردية الوطنية المصرية، ولكن بفرض حالة استثناء تحمي مؤسسات الدولة ولاسيما الأمنية من الإرهاب المُحتمل كما قال [2]. اعتمد النظام الحالي أيضًا في سرديته على تمجيد جيش وشرطة مصر في حماية الدولة ومؤسساتها من أي زعزعة داخلية أو خارجية. تعطي هذهالسردية غطاءً من خلال المؤسسات الإعلامية للانتهاكات الحقوقية الفجّة التي ارتكبها نظام السيسي في حق المعارضة بكل أطيافها، ولاسيما الإسلاميين وفي قلبهم الإخوان. لتدخل مصر منذ سبع سنوات في هويّة مصرية تمجد الاستقرار، وتُقيّد الحياة السياسية والمجتمعية، وتبث الرعب في وجدان المصريين عند الاحتجاج أو التفكير في التغيير. عكس الهوية التي بدأها الضباط الأحرار في التحرير وجلاء المُحتل، ولكنّه تشابه كوّنه نظامًا يترأسه عسكري تابع للجيش المصري، بالتوازي مع الحفاظ بل والاندماج مع الانفتاح الاقتصادي ووجود الشركات الأجنبية المستثمرة، واستعاد أيضًا العداء للإسلاميين وبالأخص الإخوان المسلمين وسردياتهم بشأن الهوية والسياسة كما فعله سلفه جمال عبد الناصر.
يقسم أستاذ التاريخ المصري خالد فهمي السردياتالمصرية منذ نشأة دولة الضباط عام 1952 لسرديتيّن أساسيتيّن وهما السردية الوطنية وسمّاها الأبوية التي يتّبعها النظام المصري الحالي، والسردية الدينية والتي يمثلها التيار الإسلامي. يقول إنهما طاغيتان على أي سردية أو هويةٍ أُخرى وخصوصًا إذا كانت سردية أكثر انفتاحًا وفردانية. وبالنسبة للإخوان فإن الجماعة تستخدم ما يسمى بسردية المحنة وهى التي تطغى عليهم عند استئصال أي نظام مصري لهم كما يُفعل بهم الآن. منذ الانقلاب اعتمد الخطاب الإعلامي التابع للجماعة استعادة ذكرى المحنة التي دائمًا تتعرض لها الجماعة منذ نظام عبد الناصر إلى الآن. ولكن تحاول الجماعة أيضًا ربط السردية التاريخية للمحن بالأيديولوجيا الدينية، حيث تخرج من السياق السياسي لما يحدث، لما هو يخاطب وجدان أفرادها وليس عقولهم. فتجد الجماعة تتبنى أحاديث وخطابات أن ما يحدث لهم من قبل نظام السيسي هو حرب على الإسلام في المقام الأول وتنفيذ لأجندات صهيونية حتى يصل الخطاب إلى أن والدة الرئيس المصري الحالي يهودية مغربية دون الاستناد إلى معلومات حقيقية والتفكير في الخروج بهم من أزمتهم السياسية الواقعة مع النظام المصري.
السردية الثالثة
[رئيس جامعة القاهرة عثمان الخشت والشيخ أحمد الطيب]
يريد النظام المصري الحالي أن يضع حدًا للسردية الدينية أو يضع سردية دينية تتناسب مع حالة الاستثناء الذي فرضها في مصر، وخصوصًا مع معاناة الدولة سواء في قمع السردية الدينية الحركية للإخوان وحلفائهم عن طريق التظاهرات والاحتجاج أو حتى في حربها على الجماعات المتمردة في سيناء ذات التوجه الديني الجهادي. ولذلك كانت تودّ من الأزهر الشريف، وهو المؤسسة الدينية الرسمية، أن يكون تابعًا لها في كل قراراتها ممّا يعطي للدولة غطاءً دينيًا خاصًا بها يخاطب بها وجدان المصريين. إلا أن الأزهر الشريف ومع تأييده للدولة المصرية إلا أنّه وقف حائلًا بينه وبينتكفير تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش، ويقف أيضًا مانعًا ما يتبنّاه مثقفون وأكاديميون محسوبون على الدولة ما يعرف بتجديد التراث وتجديد الخطاب الديني وتجفيف منابع الفكر السلفي الأصولي.
أدى ذلك إلى تلميحات مباشرة من الرئيس المصري بعدم رضاه عن أداء شيخ الأزهر أحمد الطيب، تبع ذلك تسلّط إعلامي من أفواه النظام وهى تُهاجم المؤسسة الأزهرية في تخاذلها الفكري لمواجهة الأفكار المتشددة وتطالب الطيب بالتنحي. جماعة الإخوان أيضًا لا تتفق مع الأزهر كمؤسسة دينية وذلك بسبب وجودها في بيان انقلاب يوليو عام 2013. أعلن شيخ الأزهر يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة أن المشيخة لم تكن تعلم بالفض، وأنه يأسف بسبب دماء الأبرياء وينوي الاعتكاف في بيته احتجاجًا على فض الاعتصام بتلك الطريقة. إلا أنه غض البصر أيضًا عن الانتهاكات الذي تحدث للمصريين على المستوى السياسي والحقوقي. ربما تكون تكتيكات المشيخة الآن هي الحفاظ على وجودها من الأساس وتدخلها في السياسة بشكلٍ مباشر قد يعفي رموزها كليا من الوجود، فهي تعرف أن النظام الحالي لا يتردد في إقصاء من يخالفه، مع ذلك توجد محاولات من النظام المصري في استمالة الأزهر لتأييدها على طول الخط وعلى الجانب الآخر تأييد من الخطاب الإعلامي للجماعة للأزهر وشيخها فيما يخالف به نظام السيسي.
مع كل التشابكات وبين تلك السرديات الثلاث (الدولة - الأزهر - التيار الديني الحركي) ولكنهم اتفقوا جميعا في معاداة فردانية الحقوق الشخصية التي تنادي بها التيارات اليسارية والأكثر انفتاحًا واندماجًا مع المجتمع المدني سواء بمؤسساته المحلية أو الدولية، يقف الأزهر والتيار الديني الحركي ضدهم لما يتفقون عليه من مرجعية نصيّة في الدين تحرم تلك الحريات. وتقف الدولة أيضًا كوّنها دولة محافظة دينيًا، لا تعادي الدين بشكلٍ تعبدي ونصيّ، بل تعادي الجماعات الحركية التي تأخذ الديني مرجعاً فيما يسمى بتيار الإسلام السياسي. ومن ناحية أُخرى تريد الدولة حوكمة الأخلاق ورأس المال الصاعد من العمل الحر عن طريق الإنترنت، فيتم ملاحقة ذوات الهويات الجنسية المغايرة، ويتم القبض على فتيات التيك توك، وتصدر الدولة الإدانة لهم وراء قيم المجتمع والأسرة المصرية. ولكن هي حوكمة نظامية لأخلاق النظام ذاته المحافظة، وحوكمة أيضًا لرأس المال لهؤلاء الشباب. ويعد الخطاب الأكثر تحررًا من النص الديني ومن حوكمة النظام المصري سردية ثالثة يستعيد المثقف منها ذكريات طلائع الفردانية وحقوق المرأة مسترجعًا كتابات هدى الشعراوي ونبوية موسى وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم من التيار الليبرالي واليساري المصري مطلع القرن العشرين، ولكنها إلى الآن تعدُ سردية ضعيفة بالنسبة إلى السرديتين الطاغيتين
المصادر
1- طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952- 1970، مؤسسة الأبحاث العربية.
2- تعريف حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي، وقد ناقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ الإنسان الحرام. أنظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.