يصف الشاعر الفرنسي بودلير شعب بلاده بأنه "بلد التفكير" والحق معه، فبلاده، تحتل العالم بكثرة فلاسفتها وكتّابها، وما من وصف دقيق يمكن أن نقلده للشعب العراقي غير "بلاد الأمل" الأمة التي تغفو على مصائبها، منتظرة من الصباح الجديد أن يمحو عناء الأمس. وأيضاً هو شعب النسيان الأول، فما من شعب ينسى حتى كرامته! كرامته المسحولة والممزقة. كرامته المهانة في كل يوم، الشعب الذي أصبح مثل دجاج ستالين الجائع لفتات السلطة، رغم أنها سلخت جلوداً من جلده، وهذه نتائج وتمثلات "الأمل والانتظار". ولا أبالغ لو قلت إن "الأمل أفيون الشعوب" وهو أكثر فتكاً من كل دكتاتوريات العالم. فنحن الأجيال الجديدة، خبرنا، عشنا وذقنا كل مصائب هذا الانتظار المزيف، أما نقيض ذلك، فهو اليأس. باليأس ستكون في لبة الواقع الموبوء المرير. أن تكون واقعياً فذلك يحتاج تجربة قاسية بقساوة واقعها، فباليأس تتعلم السخط وتتبنى التمرد والهدم، هدم عقيدة الانتظار وكشف بطلانها، باليأس لن تغفو على خيبتك، بل على صفيح يستعر. باليأس ستقول لا، أمام فوهة القناص وخير تمثلٍ تمظهرَ لليأس، هو "تشرين" شمس الثورات العراقية، ومن نتائجها، حكومة مصطفى الكاظمي. إلا أننا نتساءل، هل هذه هي الحكومة التي سالت من أجلها أزكى الدماء؟ هل هذه الحكومة تلبي وترتقي لطموح تشرين، أم ما زالت نفس مثيلاتها السابقة؟ أو نقول، هل تشرين هي من اختارت الوجوه الجديدة للسلطة؟ والجدير بالتنويه، أن سلطة الكاظمي بين فترة وأخرى تبعث بغراميات تغازل بها "شعب تشرين" إلا أنها ما زالت ترواح بمكانها.
مع ملء كراسي السلطة بالكاظمي ووزارئه، تغيرت وجوه الحكم، إلا أن حكمتها، صوتها ونفاذه، سلطتها المهنية، لم تتغير بالمطلق. وهذه ليست نظرة سلبية أو مثالية من زاوية أخرى، إنما، رؤية لن ترتضي باليسير، وذلك ما تعودت وتثقفت عليه الأمة العراقية. فالمثل الشعبي "منهوب النِّص ما منهوب" هو الدستور الشامل لكافة عمليات السلطة وأدواتها، والشعب يقول: شنسوي؟ هذا الموجود! إلا أن موارده تكفي للمساحة العربية بحدودها المترامية الأطراف، وهذه القناعة الرجعية لها أسبابها الدينية والقبلية والاجتماعية، وذلك ما تعمل على ترسيخه السلطة وأدواتها. ومنذ صعود الكاظمي سدة الحكم وإلى اليوم، عاد غول الأمل ليملأ نفوس "شعب الحكومة" ويخامر أحاسيسها- "شعب الحكومة" يختلف عن "شعب تشرين" فليس من المنصف وضع شموس الحياة بخانة واحدة مع نفوس الظلام، والفرق بينهما شاسع وطويل. فنشّط الشعب أمله بصورة السلطة الجديدة، ذلك أن الفات مات، أيضاً، عقيدة اجتماعية تنال من كرامة وكرم الإنسان بحياته مهما بدت النتائج المعيشية دموية ومفزعة.
"حكومة شبعت فتستقيل وأخرى تفتح فمها التمساحيي"
ما بين المتمثل بالسلطة والمساحة المفترضة لتمثيل سلطته، ينبغي أن يتلمس الفرد، تمظهر ذلك التمثيل، بل يتحتم أن يشعر الشعب بوجود سلطة مَهمتها فرض روح الدولة حتى تكتمل صورة واشتراطات المفردات الأمنية والاقتصادية وغيرها من تشكيلات، تساهم بخلق صورة واقعية، غير طوباوية، للدولة.
إلا أن حكومة عبد المهدي المستقيلة، كانت مستقيلة حتى في وقت شغلها للمناصب وتمتعها بالقرارات واحتكارها للمكاسب، فمصطلح الدولة لم تتوفر شروطه على كافة الأصعدة، بالتالي هي تشخر بسابع نومة عن تمثيل دورها. وما صورة الحكومة الجديدة، إلا طبق الأصل لأختها المعزولة عن الحكم.
في اللقاء المنعقد بتاريخ 10/5/2020 ما بين حكومة عبد المهدي المستقيلة وحكومة الكاظمي الجديدة. في هذا اللقاء وحسب كلمة عبد المهدي كشف الكثير عن مَهمَّة حكومة الكاظمي المرتقبة بتقديم صورة أخرى تختلف عن سابقتها. وصف عبد المهدي تولي الكاظمي للسلطة ب "العهد الجديد" وذلك يدعو للتساؤل عما إذا كان الوصف قد استوفى كواليس السلطة أم السلطة المرئية المستوفية للشروط، والتي من شأنها أن تستعيد نفسها بعد غيابها الطويل. وأضاف "أن العراق قد أنجز تداولاً سلمياً للسلطة بدون عنف وأحداث كبرى ... بعد تظاهرات شعبية عارمة سقط فيها الكثير من الضحايا... واستقالة الحكومة جاءت بعد إرادة المرجعية الدينية العليا والإرادة الشعبية... وأن كون العراق يشهد مثل هذه المظاهر الديموقراطية هو شيء عظيم طالما تمنيناه طوال سنوات وعقود طويلة من الزمن، حيث كان التداول يتم بالسحل والقتل أو بالانقلابات العسكرية، لكن اليوم رغم كل هذه التعقيدات، نجد أن هناك تداولاً سلمياً للسلطة."
يرسم عبد المهدي صورة حكومته التي يريد ترسيخها وتثبيت منهجها على أكتاف الحكومة الجديدة، فالتداول السلمي للسلطة حسب كلامه، هو أن تبقى السلطة خارج حدود عين القضاء، مهما كانت نتائجها الوخيمة والتي تسببت بخراب لن نزيحه إلا بعقود. يقول "سلمياً" بمعنى أن الحكومة الجديدة لن تضع نقطة على ورقة في استجواب ومحاكمة الحكومة المستقيلة، وحتى إذا كان بمقدورها محاسبة المستقيلة، فهذا المنهج غير متوفر في الحكومات السابقة، إنما لص يأتي مكان لص ليس إلا، وإني لأتساءل ، ما هي صورة الشعب داخل مخ عبد المهدي، إذا كانت كل دماء تشرين هو مجرد ضحايا؟ أي أنه استكثر عليهم قول الشهيد، وإذا قال ذلك سيضع نفسه في قفص الاتهام. وفي يوم استقالته وتحوله لحكومة تصريف أعمال، حين وضع رضا ورغبة المرجعية الدينية فوق كل الأصوات، الورقة التي قرأها آنذاك، كانت كافية لإسقاط اللثام عن كثير من زيف السلطات وارتباطها الأول والمباشر بالمرجعية، فالشعب غائب ومغيب في رأس الحكومة والمنظومة الدينية المتمثلة بالمرجعية العليا. يذكر المظاهر الديموقراطية وتلمسها ومُنيته طوال سنين، وهذا يعود على مسيرته المتقلبة بين الشيوعية، البعث والدعوة، أي أن كل الحكومات التي تولت السلطة بكافة تمثيلاتها-وهو خير أنموذج، كان في خاطرها أن تصنع العراق الخرب، وقد تم ذلك لهم، فليس بجعبة جميع السلطات الحاكمة، شيء يذكر للديموقراط، إنما يتعاطونه فيما بينهم ولتذهب الأمة نحو الجحيم.
وهو محق لو تأملنا كلامه "التداول السلمي للسلطة" ولم يذكر التداول الدموي بين السلطة والشعب، وذلك ما يفرز أن السلطة الجديدة شبيهة بأختها المطلّقة، بل أن السلطة الجديدة، ستعمل على نهج وتثبيت روح الحكومة المستقيلة، أي أن المسلسل لن ينتهي، إنما، أجزاء تمثله وجوه جديدة بنهج قديم ورث.
وفي حديثه عبارة تنفح برائحة الاستهانة والطغيان وعدم المبالاة فيقول بكل وقاحة "رغم كل هذه التعقيدات" يختصر البلد المنهار، المنفتح على الموت والاندثار بالتعقيدات! وذلك ليس بغريب فهو ديدن ونظام السلطات الملموس في الواقع الراهن.
ذكر عبد المهدي نقطتين في غاية الأهمية فيما يخص ماضي وحاضر ومستقبل سير البلاد نحو شاطئ الأمان والاستقرار، فحاول بشيء من المكيجة أن يضع الحكومات السابقة وحكومته في خانة الصواب والمهنية بواسطة النتائج الملموسة المعمول بها.
حتّم عبد المهدي السير بمراكمة الإيجابيات والانقطاع عن السلبيات وبذا، تبني الأمم نفسها وتتقدم، نبذ سياسة هدم ما بناه حاكم الأمس ومواصلة العمل. أجد عبد المهدي صائباً في قوله، فصورة السلطات تواصلت واستمرت ولم تنقطع عن إيجابياتها هي لا إيجابيات تخدم الشعب، وانقطعوا عن معالجة سلبيات الشعب وترك سلبياتهم تسبح وتسمن في دم وموارد الشعب العراقي. هذه المغالطات والخطاب الأعرج ليس لضعف حنكة عبد المهدي، إنما، نظام الاستهانة الذي أتقنته كل الحكومات في أن تفصح بالانجازات والإيجابية في ظل سير البلاد نحو الانحدار. وبرؤية فاشلة، وضع عبد المهدي على أكتاف حكومة الكاظمي كل مثالب فترة توليه منصب رئاسة الحكومة، قائلاً، نعم أن حكومتنا لديها أخطاء وسلبيات، لكنه رجّح ولمّع دوره ومن سبقوه من الإيجابيين، واضعاً، صورته السيئة في هامش الخطاب، وذلك يفرز مستوى ومهنية الحكومة المستقيلة وكيف وبأي أسلوب تسلم المّهمة للحكومة الجديدة. النقطة الأخرى والأهم، إذ تم تناول ملف داعش في لقائيهما والتعليق عليه، أو بالأحرى مواصلة ذلك المشروع المحمي بمعية كواليس السلطة والذي نخر روح البلاد. ملف داعش وبدون مبالغة هو حشد آخر وثانوي يعمل عند السلطة متى ما أرادت أن تفعله أو توقفه، ملف لاستنزاف جميع مقدرات الشعب والضحك على الذقون والأمة بتلك الفرّارة التي لا تريد أن توقفها السلطة، فبمعية مشروع داعش، تغلغلت وتجذرت المليشيات بجميع مفاصل المؤسسات الحكومية، وحكومة عبد المهدي المحاصصاتية الموالية لولاية الفقيه أيضاً من نتائج مشروع داعش، وغير ذلك من تمظهرات الاحتلال الإسلاموي للعراق. فما ذكره عبد المهدي بخصوص داعش، ما هو إلا استمرار ذلك الملف والمحافظة عليه، فبانتفائه، تسقط وجوه ولثامات كثيرة، وقد تلمسنا من ذلك في احتجاجات تشرين، كيف أنهم فعّلوا داعش بقوة، وكيف قتلت واختطفت فصائل المقاومة شبان تشرين، ولم يأت الحديث بالمطلق عن مسببات داعش ومجازره واختطافه وتغييبه لآلاف من الآيزيديين وقضية سبايكر وهروب العسكر وتفجير وتفليش تاريخ الموصل وتراثها، فذلك ليس من مهام حكومته، إنما يمن على الشعب بنصف كيلو من العدس.
ما إن تحولت دفة الحوار بين الحكومتين حتى بدأ الخطاب المضحك والسفيه والخالي تماماً من الدقة، ذلك ونحن ننأى عن لسان وأسلوب الكاظمي الخاليين من الانضباط في الحديث، فبدأ بشكره وثنائه على ما قاله عبد المهدي ولا أعرف لم! قال الكاظمي: كنت دائماً أقول إن حكومة عبد المهدي حققت الكثير من الانجازات لكنها ظّلمت، مرة بنقص في التسويق وأخرى بتجاهل الأخرين عن رؤية الحقائق. وهذا التزويق ومكيجة عبد المهدي وشلة وزرائه، ليس إلا عدم الاكتراث لدماء وحقوق وحياة الناس، فما هو غير معقول أن تجالس القاتل وتشاركه الحوار وتمدحه على أفعاله الدموية! وأضاف: سنحافظ على الجهود الجبارة الطيبة من الأخوة الوزراء السابقين وسيتم حمايتها، مشيراً إلى أنه: سيكون هناك تكريماً للوزراء.. وهناك تقييمات فوق الممتازة فيما يخص انجازاتهم وكل أعمالهم.. وبتلك الأقوال العارية عن الصحة والمفتقدة للصواب، تكتمل الصورة الناصعة لحكومة عبد المهدي المستقيلة معززاً ذلك أنه قال: للتاريخ يجب أن نعترف ونقول دائماً إن عبد المهدي أسس مفهوماً في العمل الإداري وهو الشراكة في القرار، ليتبين أن طيلة الفترات السابقة كانت الحكومة تعمل بما يقتضي مزاجها المرهون بالراهن اليومي الاقتصادي والسياسي، وليس استجابة لما تقتضيه المصلحة العامة.
وأشار لما بين الوزراء السابقين والجدد: أن يكون العمل بحسن الظن! فليس بخلدهم المعيار أو المؤهل العلمي لنيل ثقة الحكومة أو المجتمع، إنما، بحسن الظن!!
"صورة الكاظمي البهلوانية"
أول لقمة وضعها الكاظمي في فم الشارع، هي تكليف الساعدي عبد الوهاب بمنصب رئيس جهاز مكافحة الإرهاب وهو أعلى جهاز أمني في العراق، ولا أبالغ إن وصفت ذلك بجهاز ممارسة الإرهاب. ذلك الفعل رطّب نفوس العراقيين، فصورة الساعدي ناصعة في ذهن الفرد العراقي، فهو كان له اليد الطولى بتكبيد داعش أكبر الخسائر. تلك الصورة التي رسختها ماكينة الإعلام ونجحت في ذلك، فبعزله، انطلقت شرارة تشرين، فتذاكى الكاظمي وعاد به من رئاسة الاتحادية إلى منصب مدير مكافحة الإرهاب. ونحن نذكر كيف وُصف الساعدي بكلمات سعدي يوسف-التي كانت أقرب صورة من الصواب، وكيف مُزِّق يوسف بعدها، فالشعب العراقي لا يريد إدراك أن جهاز مكافحة الإرهاب والأجهزة المنضوية تحته، ما هي إلا حشد خارجي أمريكي، بدليل أن كل ما يتعلق بتلكم التنظيمات تأتي من أميركا وليس حكومة العراق، والأمر الآخر المشين هو ترسيخ صورة إعلاء تلكم الأجهزة فوق وزارتي الدفاع والداخلية.
منذ تسلمه منصب الرئاسة وإلى اليوم-وستستمر، لم تنقطع أو تعالج الخروقات الأمنية والقتل والاغتيالات والاعتداءات على الشعب، بل لم تؤخذ بعين الاعتبار وتقدير الموقف، إنما تشابهت أذن الكاظمي بأذن عبد المهدي عن سماع صوت الناس أو بالأحرى الاستجابة له.
ما إن يلتهب الرأي العام بحدث ما، إلا وكانت يد الكاظمي فيه، فهو يدرك شاعرية وعاطفة الشعب العراقي المتضخمتين، واللتان ترتضيان بأي مغازلة لهما، فأجاد لعب دور "رجل الرأي العام، أو عرّاب التريندات".
ومن أفعاله التي لا تمت بأية صلة بمهام أو شخصية رئيس البلاد، مشاركته في عزاءات محرم وحضوره مجالسها، هذا الفعل يُرسخ طائفية الحكومة ولن يضعها بجادة الصواب وآخر ما تم تسريبه، من تدوين طائفة العسكر ضمن الضوابط والاشتراطات، هو خير دليل على ذلك، بل حتى وزارة الثقافة-التي يقول عنها حسن ناظم، أنها تسير ضمن نيل المؤهل والمعيار-تعمل بتلك السياسة-أي تطييف الأمة والحكومة ومؤسساتها.
التقى الكاظمي بذوي قتلى تشرين المغتالون، وما خرج منه إلا الوعد المزيف والكاذب، وهذه واحدة من أبشع صور الكاظمي التي لم يسلط عليها الضوء، وهي تفرز مدى استهانة الكاظمي بالقتلى وذويهم، هشام الهاشمي وعائلته وملفه الذي أغلق بحسب التسريبات، رهام يعقوب وتحسين أسامة.. وغير ذلك الكثير.
كل خطوات الكاظمي-ولن يسعنا الحديث لذكرها-ليست من مهام حكومته الطارئة، والتي تسلمت سدة الحكم، لتعمل على محاسبة ومحاكمة قتلة المتظاهرين، ملاحقة العصابات والمليشيات، محاربة الفساد والقيام بتعديل قانون الانتخابات، فحينما يجالس الكاظمي ويخاطب قتلة تشرين، سينتفي دور حكومته، وكل المهام الموكلة إليها. ومن الأخطاء التي مارسها الشعب مع الكاظمي، احتجاجات الطلبة المنادية بتعيينها، فذلك ليس من مهامه ولا يفترض أن يقوم به، وبفعله واستجابته لها، سيتم ترسيخ حكومة مقبولة وراضٍ عنها وليست حكومة طوارئ انتقالية.
صَمْتُ الكاظمي عن مجمل الهنّات والخروقات وغياب دور السلطة في جميع مفاصل ومؤسسات الحكومة أو في المجتمع، ليس خوفاً ولا قلة تدبير أو قلة معرفة، ولا تهدئة الشارع أو الابتعاد عن زعزعة أمنها ولا تؤرقه دماء وحياة الناس، إنما السير بمنهج مخطط له ومدروس، نحو تكوين صورة حميدة داخل الشارع العراقي وإيهام الناس، بحلاوة بجدر مزروف، واستعداده للفوز بالانتخابات. الدلائل كثيرة على ما قلناه، إنما، تحتاج فقط الرؤية المبصرة.