كلُّ ما يحيط بكتاب سداسيّة الأيام الستّة غريب. فالكتاب ليس مجموعة قصصيّة اعتياديّة، وليس مجموعة قصص متناثرة لا يربط بينها رابط، وليس رواية بطبيعة الحال. إنّها أول «متتالية قصصية» في الأدب العربيّ الحديث، ولكنّ إميل حبيبي لم يطلق هذه التسمية عليها، بل كان إدوار الخرّاط أوّل من قدّم المصطلح في العربيّة، وإنْ احتفظ إميل حبيبي بقصب سبق الكتابة. اكتفى حبيبي بمسمّى «كتاب» العموميّ والخصوصيّ في آن. وتمتدّ الغرابة إلى العنوان أيضًا وإلى جو القصص الستّ. إذ يشير العنوان بوضوح إلى هزيمة حزيران 1967، ولكنّ حبيبي فضّل التسمية الأخرى لها: حرب الأيام السّتة؛ لا لتفضيل شخصيّ وحسب، بل لأنّه لم ير فيها هزيمة بقدر ما كانت فرصة للعودة المنتظَرة: عودة الفلسطينيّين إلى فلسطين ولو بظروف قسريّة. ليس هذا هوسًا بالبقاء على حافّة المعاني، بل هو لعبٌ بارعٌ بالتباس المعنى؛ فالهزيمة المرّة لا تخلو من حلاوة لقاء. وسنرى أنّ هذا الالتباس واصلَ حضوره المؤلم في أعمال إميل حبيبي كلّها، لا سيما روايته الأشهر المتشائل التي أدخلت إلى العربيّة مفردة جديدة تُضاف إلى ولع اللغة العربيّة بالالتباس، وأدخلت – في الآن ذاته – فضاءً مغايرًا في الكتابة التي تضع إحدى قدميها على ساحل التراث وتضع الأخرى على ساحل الحداثة، فيما يتدفّق النّهر المتوازن بينهما بسلاسة مدهشة. مياه متوازنة، ولكنّها غريبة أيضًا، إذ أدرك حبيبي بحساسية عالية أنّ الغرابة لا تعني التعقيد بالضرورة، بل تعني تقديم كتابة مُعْجِزَةٍ في بساطتها مثل حكايات الجدّات. كان هذا البسيط هو الغريب في ستينيّات القرن العشرين التي غرقت في طوفان المدارس النقديّة والأدبيّة، بينما بقي إميل حبيبي وحيدًا في دنياه الغريبة، مكتفيًا بخبث الالتباس من جديد: أن تقدّم جديدًا غريبًا يولد من القديم السائد؛ من دون أن ننسى الالتباس الأعظم في اللعب على الحافة الأخطر في حياة إميل حبيبي السياسيّ نهارًا، والكاتب ليلًا؛ عضو الكنيست ظاهرًا، والمبدع باطنًا؛ أبو سلام الذي أعار اسمه الحركيّ إلى إميل الكاتب في محاولة عبثيّة لتكريس بقايا الوجه الظاهريّ، وإبقاء الكاتب خفيًا ولو إلى حين. ولكنْ كان غسّان كنفاني أول من التقط بعينيه الحادّتين ظهور كاتب بارع، وبشّر بهذه الموهبة القادمة في كتابه الأدب الفلسطينيّ المقاوم تحت الاحتلال (1968). لا نعلم ما كان سيتحوّل رأي غسّان كنفاني إليه لو علم أنّ «أبو سلام» ليس إلا إميل حبيبي الذي يحفر في تربةٍ مناقضةٍ لتربة غسان في السياسة. التقاطة غسّان مهمة وجميلة إذ عجز هو أيضًا عن إسباغ تصنيف واضح على السداسيّة، وإنْ كان قد أدرك برهافة أنّ هذا الكتاب مغاير لكل ما عرفه من أدب فلسطينيّ. الالتباس مرةً أخرى وقد تداخل هذه المرة مع مفارقة عظيمة: ليس الموقف السياسيّ هو الغريب في نهاية المطاف، بل الأدب الذي كان الوجه الخفيّ لاثنين من أكبر السياسيّين الفلسطينيّين في الستينيّات والسبعينيّات. ستوحّد الغرابة والالتباس هذين القطبين المتناقضين اللذين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.
غير أنّ إميل حبيبي لا يرضى بدرجةٍ معقولةٍ من الغرابة. إذ يُفرِد قصة من بين القصص الستّ لتكون الأغرب في السداسيّة: قصة «أم الروبابيكيا». في هذه القصة وحدها، من بين قصص السداسيّة، لا نجد حضورًا مباشرًا للعائدين الذين تعجّ بهم السداسيّة، بل نتلمّس حضورًا شفيفًا لهم وهم غائبون أو على وشك العودة. العائدون غائبون فيما أشياؤهم حاضرة لدى أم الروبابيكيا حارسة الأشياء وحارسة الذاكرة. فالبيوت لا تموت إذا غاب سكّانها كما تصوَّر محمود درويش مخطئًا بعد ثلاثين عامًا من الهزيمة/العودة، بل تبقى حاضرةً حضورَ أشياء أصحابها وحضور ذاكرتهم، وحضور حارسة ذاكرتهم. لعلّه الفارق بين العائد والباقي؛ فالعائد يظنّ (بل يوقن) أنّ المكان يموت بغيابه، بينما الباقي يُتقن القبض على الذاكرة التي لا تغيب لأنّ أشياءها حاضرة على الدوام. الغريب هنا أنّ حارسًا للذاكرة مثل إميل حبيبي لا يمنح حبه كاملًا لـ «زميلته» هند أم الروبابيكيا، بل يسبغ على حكايتها صفةً غريبةً، حين يُنهي القصة بمقطعٍ يخص ذاكرته هو وحده:
حين كنّا أطفالًا كنا لا ننام حتى تروي جدّتي لنا حكاية من حكاياتها.
وكانت قد تجاوزت التسعين. وكان قد اختلط الأمر عليها. فتبدأ حكاية الشاطر حسن من وسطها:
- وأخذ الشاطر حسن عصاه السحرية وضرب بها المارد.
- أيّة عصا سحريّة يا جدّتي؟
فلا تنتبه لصيحاتنا. وتستمر في حكاياتها. وما من مرة ظللنا فيها مستيقظين حتى نهاية الحكاية، وما من مرة نامت بعد أن تتم الحكاية. فما عرفنا لحكاية الشاطر حسن بداية، وما عرفنا لها نهاية.
وحين كبرنا صرنا نتذكّر جدّتي وحكايتها التي أسميناها البتراء، فنغرق في الضحك.
كأنّما الأمر المعقول هو أن تكون للقصة بداية، وأن تكون لها نهاية.
يماهي حبيبي بين جدّته وبين أم الروبابيكيا، شخصًا وحكايةً. تبدو المماهاة جميلة للوهلة الأولى، ولكنّ حبيبي يتركنا حائرين أمام تفصيلين صغيرين: الخَرَف، والحكاية البتراء. يُضْمِر حبيبي أنّ الدقّة المدهشة التي تروي فيها جدّته حكايتها، حين تبقي الحكاية بلا بداية وبلا نهاية، ليست إلا خَرَفًا «حين اختلط الأمر عليها»، ولذا أسمى حكايتها «البتراء»، وظنَّ غافلًا أنّ هذه الصفة تصلح أيضًا لحكاية أم الروبابيكيا التي أبقاها بلا نهاية أيضًا، وإنْ بدافع إشراك القارئ في كتابة النهاية. ولكنّ الجدّة وأم الروبابيكيا أذكى من إميل حبيبي. فالجدّة تدرك بوعي مرهف أنّ الحكايات تُخلَق هكذا من وسطها بلا بداية وبلا نهاية، حتّى حين نظنّ أنّنا وضعنا نقطة نهاية لها. فما غفلنا عنه سيبقى موجودًا، وما أغمضنا أعيننا عنه عمدًا سيبقى موجودًا، بالرغم من أوهامنا. أما انتقام أم الروبابيكيا فكان أقسى، حين فرضت نفسها على إميل حبيبي ولم ترض بأقل من عمل كامل هذه المرة سيكرّسه لها وحدها بعد ربع قرن. انتقمت البتراء إذن ممّن بتر حكايتها لتقول له ولنا إنّ حارسة الذاكرة لا تنتهي لأنّ الذاكرة لا تنتهي، عاد العائدون أم لم يعودوا.
على أنّ غفلة إميل حبيبي الصغيرة لا تعني انفلات الخيوط من بين بديه البارعتين، إذ قدّم لنا في «أم الروبابيكيا» صورةً مصغّرةً عن فلسطين كلّها. ليست هند حارسةً وحسب، بل هي منقّبة خبيرة عن الكنوز، كنوز الذاكرة. ما الذي يبقى في الذاكرة؟ يبقى – ببساطة – ما يهمّ؛ لأنّ أنقاض الذاكرة ستقتلنا مرتين وثلاثًا لو بقيت كاملة على حالها. نتذكّر الحب الأول الساذج بكل تفاصيله أكثر من آخر كلمة عشق لحبيبتنا الأخيرة؛ ونتذكّر رقم هاتف بيت صديق المراهقة أكثر من عدد «الأصدقاء» في فيسبوك. نتذكّر ما يمنحنا تفرّدنا، ولذا لا بدّ من الانتقاء، ولا بدّ من قتل جميع الذكريات النافلة. ولكنّ العائدين مشغولون بلملمة جراحهم، وبذا كانت أم الروبابيكيا ذاكرتنا التي تنقذ ذاكرتنا. لن تحافظ على الفِراش بل على لمسات اللذة؛ لن تُبقي الأثاث بل خدوش الزمن؛ لن تصون الأحاديث العابرة بل رسائل العشّاق. ولا مفرّ من سخرية إميل حبيبي اللاذعة المؤلمة الحنونة في آن، حينما يجعل الذاكرة، ذاكرة العائدين والباقين، ذاكرة الفلسطينيّين، ذاكرة فلسطين، ذاكرتنا عن فلسطين، محض روبابيكيا تحافظ على ألقها حين تحافظ على غبارها. فحتّى الغبار ذاكرةٌ لمن يتقن قراءة الأنقاض، ولكنّ الهوس بالغبار سيُلقي بحارسة الذاكرة على الحافّة: الحافة بين العقل والجنون؛ بين الحضور والغياب؛ بين العودة والبقاء. قد تتخلّى الحارسة عن عائلتها لتنقّب عن رسالة حبّ نسيها حتّى أصحابها، ولكنّها ستعلّمنا أنّ نسيانك لأشيائك لا يعني نسيان أشيائك لك؛ أنّك بشريٌّ تقيّد حياتك ببداية وبنهاية، فيما الذاكرة لا، لأنّ الذاكرة حكاية بلا بداية لها ولا نهاية، حتّى لو ظننّا (بمن فينا كاتب الحكاية) أنّها بتراء.
حين نتحدّث عن اللابداية واللانهاية في الحكايات، لن نجد أفضل من تشيخوف، معلّم الحكايات التي تبدو برقًا يشقّ السّماء وينيرها بلا مقدّمات. لا نملك إلا الذهول حيال كائنات تشيخوف التي يبدو وكأنّه يستخرجها من خزائنه بلا عناء، محافظًا على كونها كائنات من لحم ودم تشبهنا، بل لعلها أكثر حياة منا. ما من شخصيّة تشبه الأخرى بين آلاف الشخصيّات التي قدّمها تشيخوف مع أنّها تبدو متماثلة في نظرتنا الأولى بسعالها المشروخ ومعاطفها الكالحة وأعينها الدامعة وتبغها الحارق. لا نعرف كاتبًا يكتب بتلك الحساسية عن البشر كما يفعل تشيخوف (وشيكسپير الاستثناء الدائم)، إذ يكتب عنهم، بل يخلقهم، بصرامة لا تكسر الرهافة، وبحنان لا يلين الدقّة؛ يكتب عن البشر كما هم، فيُظهرهم بأجمل مما هم عليه. يرسم برق تلك الشخصيّات المولودة من العدم والذاهبة إلى المجهول، ولكنّه برقٌ مرعب من فرط تفاصيله. إعجاز تشيخوف في كونه يكتب بحيادية مدوّخة: لا نعرف تفضيلاته، ولا نعرف من يحب ومن يكره (إن كان هذا القدّيس يكره أحدًا)، فيجعلنا نحن أيضًا في حيرة أمام تلك الشخصيات فلا نملك موقفًا واضحًا منها، فنحبّهم لأنّنا نحب خالقهم. ندمن عليهم لأنّهم أكثر غموضًا من أن نلتقطهم في قراءة واحدة، وأوضح من أن يضيعوا من ذاكرتنا. ندمن عليهم لأنّنا لا نرى إلا ما يُظهره كاتبهم منهم، ويترك لنا بذكاء كلّ ما خفي لنرسمه بأنفسنا، كي يكونوا لنا بقدر ما هم له، وله بقدر ما هم لأنفسهم.
إنْ كان لإميل حبيبي هنده التي أرّقته أكثر من ربع قرن وبقيت حارسة الذاكرة، فقد أوجد تشيخوف حارسة أخرى لا تنشغل بالبقاء أو بالعودة، بل بالعطاء؛ فهي الواهبة الدائمة التي لا ينضب ينبوع سخائها المتدفّق حدّ النّفور. من يحبّ أولنكا؟ من يحبّ «الحبّوبة»؟ لا أحد، حتّى تشيخوف نفسه ربما. ولكنّها لا، ولن، تكترث لأنّها تحب الجميع بسذاجة مُرهِقةٍ ومرعبة ومغوية. هي الشخصيّة التشيخوفيّة الوحيدة التي أبكت تولستوي في مشهد جميل نقله لنا مكسيم غوركي، الذي يشارك تولستوي ولعه بأولنكا، إذ يراها غوركي «عبدةً مسكينةً» لن تردّ صفعتك لو صفعتها. ولعلّ هذا سرّ تعلّق تولستوي بها، إذ رآها النموذج المستحيل للكائن المسيحيّ الذي يُدير خدّه الثاني ويبقى على حبّه لك. رأى فيها تولستوي قدّيسة غفل عن كتابتها، فيما نجح تشيخوف. ولكنّ تشيخوف أمكر من كتابة شخصيّة واضحة، وأذكى من كتابة شخصيّة «طيّبة» بالمطلق. فالمفارقة التي تسم أولنكا هي أنّ حبها غير المشروط هو ذاته منبع طفيليّتها. هي تعيش من أجل حب الآخرين بلا شروط؛ هذا ما اتّفق فيه غوركي وتولستوي، ولكنّ أولنكا تعيش على حب الآخرين أيضًا، لأنّ وجودها لن يكتمل، بل لن يكون، إلا بوجود الآخرين. لا هويّة لأولنكا إلا حين تتماهى مع آخرين يتقلّبون في حياتها مع تقلّب الأيام. هي ليست قدّيسة، وليست أمًا، وليست حارسة ذاكرة كما هي أم الروبابيكيا، ولكنّها تصون الذاكرة بطريقتها حين باتت (وإنْ في غفلة عن نفسها) مرآةً للآخرين الذين لم نكن لنفهمهم لولا حضورها الذي يشبه الغياب. لا تنتقي أولنكا جواهر الذاكرة، بل تعكس ذاكرة الآخرين لتعمّق وجودهم ووجودها. ولا تكترث لمعادلة العودة والبقاء بل تعيش لمعادلة الحضور والغياب؛ الوجود واللاوجود. صحيح أنّ حضور الآخرين كائنٌ بحضور أولنكا وفي غيابها، ولكنّه سيتعمّق أكثر حين تكون موجودة. وليست مصادفةً، ولا ضربةً عفويّةً من تشيخوف أن يترك أولنكا حاضرةً على امتداد شخصيات ذكوريّة متلاحقة يظهرون ثم يغيبون فيما تبقى هي دومًا؛ يظهرون فلا نكترث لظهورهم إلا من أجل قراءة انعكاسهم في مرآة أولنكا، ويغيبون فلا نحفل بغيابهم أبدًا لأنّ أولنكا موجودة حتّى مع خواء مرآتها. لن تفيدنا غرائبيّة دين تولستوي ولا سذاجة يساريّة غوركي في فهم أولنكا التي لن نفهمها إلا عبر عيني تشيخوف وحده الذي لا نعرف له موقفًا واضحًا حيالها إلا عبارته الخجولة حين ردَّ على مديح تولستوي الدامع: «ولكنْ فيها أخطاء طباعيّة». يقصد تشيخوف القصة المنشورة طبعًا. طبعًا؟ ربما! وإنْ كانت أولنكا نفسها حافلةً بالأخطاء الطباعيّة، إنْ لم تكن هي ذاتها خطأ طباعيًا، فهي ليست بشريّة حقًا بالرغم من حضورها الكاسح. ما من أحد يمنحك حبًا غير مشروط، ولا حتّى الأمهات أو القدّيسات. وجودها ليس فردوسًا كما قد نتصوّر للوهلة الأولى لو تخيّلناها في حياتنا؛ بل هي جحيم منفّر إلا لو كنّا ساديّين بالمطلق. تفاجئنا عبقريّة تشيخوف مرة أخرى من حيث لا نتوقّع حين يقدّم لنا شخصيّة بحضورٍ أقوى من حضورنا كلّنا، ولكنّها بلا وجود أو كينونة إلا من خلالنا. وكأنّ تشيخوف يقدّم لنا هنا الوصفة السحريّة لقراءة الأدب: لا نقرأ لنفهم الكاتب أو الحكاية بقدر ما نقرأ لنفهم أنفسنا، أو ربما لنرى أنفسنا في مرآة مغايرة لمرايانا التي تخدعنا حتمًا، كما هي مرآة تولستوي ومرآة غوركي اللتان قدّمتا لهما ما يودّان رؤيتهما في دنياهما، وكذا ستقدّم لنا مرآتنا ما نودّ رؤيته في دنيانا. ليست أولنكا حارسة ذاكرة إذن. إذ هي أضعف من أن تكون كذلك، ولكنّها – على ضعفها وهشاشتها – حارسة وجود وكينونة لروسيا تشيخوف، بل لبلداننا، ولعالمنا كلّه.
لا تكترث أم الخوش في تيه مدن ملح عبد الرحمن منيف لذاكرة أو لوجود، إذ انحصر تفكيرها وحياتها وأيامها ولياليها بالانتظار. كانت أم الخوش حارسة الانتظار الذي اختزل الذاكرة والوجود في شخص واحد هو ابنها الخوش الذي يبدو أسطورة أو وهمًا لولا الحكايات المتناثرة عنه. حين التقط عبد الرحمن منيف لعبة أسطرة العاديّ في شخصيّة عساف في النّهايات، أدرك أنّ هذه اللعبة ستُمسي أداته البارعة التي لن يضارعه أّيّ كاتب عربيّ فيها. غير أنّ منيف لا يركن للعبة سرديّة أيًا تكن مغرياتها، ولذا نقل أسطرة الشخصيّة التي تختصر المكان والزمان في ذاتها إلى أسطرة الشخصيّة/التفصيل. من عساف الطيبة إلى متعب الهذّال وادي العيون. ولأنّ متعب الهذّال أسطورة لا تتكرر، أفلتَ حتّى من بين يدي منيف ليطغى على روايته الملحميّة كلّها مع أنّ حضوره لا يشغل أكثر من مئة صفحة من الجزء الأول من الرواية التي تشغل قرابة ألفين وخمسمئة صفحة. ولكنّ منبع تميّز أم الخوش هي أنّها «تحترف الحزن والانتظار» لتكتب أسطورتها وأسطورة وادي العيون من زاوية أخرى: أن يمسي انتظارك انتظارًا للجميع. ليست أم الخوش پنيلوپي، إذ كوفئت الإغريقيّة في نهاية المطاف وعاد إليها زوجها وابنها، ولكنّ أم الخوش بقيت على انتظارها، وأبقت على انتظار وادي العيون حتّى بعد موتها. تتشابه أم الخوش مع أم الروبابيكيا أكثر من تشابهها مع أولنكا، إلا أنّها تفترق عنهما في كونها حارسة انتظار شخصيّ يكاد لا يعبأ به أحد مع أنّه يرسم حدود حيوات الجميع: مَنْ أشفق، ومن سخر، ومن أعانَ، ومن غفل، ومن نسي. انتظار شخصيّ اتّحد في نهاية المطاف مع مصير وادي العيون كلّه. غيّرت أم الخوش إيقاع حياة الوادي، وورّطت الجميع في مأساتها لأنّهم باتوا يدركون أنّهم لن يتخلّصوا من وطأة أم الخوش إلا مع عودة الخوش؛ ولن تعود مشاعرهم إلى مساراتها القديمة، بحيث يعود الفرح فرحًا، والحزن حزنًا، والعويل عويلًا، إلا مع انتهاء هذا الانتظار الجنونيّ الذي مزج الحزن بالفرح، والتنهّد بالعويل، والوهم بالواقع، بحيث تشابكت الخيوط كلّها، ولم يعد ثمة منجاة لأيّ أحد، حتّى ممّن لا ينتظرون شيئًا لأنّ العويل مُعدٍ كالطاعون، ولا مفرّ من الاكتواء به حتى لو حاولت الابتعاد. بل إنّ أم الخوش أرغمت الجميع على مشاركتها عويلها حين نقلت عويلها ذاك ليمسي عويلهم، ونقلت انتظارها ليمسي انتظارهم، انتظارًا جماعيًا هذه المرة – وإنْ ليوم واحد – كي يدفنوا حارسة الانتظار، كلّ انتظار، التي قرّرت الاستسلام أخيرًا بعد أن نقلت عدوى الانتظار لوادي العيون كلّه قبل أن يتلاشى هو أيضًا.
العائد كالباقي في أنقاض أم الروبابيكيا، والحاضر كالغائب في مرآة أولنكا، والقريب كالبعيد في متاهة أم الخوش لأنّ حارسات الذاكرة والوجود والانتظار تولّعنَ بالجلوس على الحافة بين هاويتين. تدرك كلٌّ منهنّ أنّ العودة مستحيلة إلى ما كان، وأنّ الإيغال في ما سيكون سيحرقهنّ في أتون الجنون الذي كانت أم الخوش أكثر من احترقت به من بينهنّ. ولكنّهنّ سيمضين في جنونهنّ وإليه لأنّه أهون الشّرور، ولأنّه منبع تفرّدهنّ. قد تجد أم الروبابيكيا نقودًا قديمة في ركام الراحلين لنكتشف أنّها نقود زواج الخوش التي خبّأتها أمّه ولم نعرف لها مصيرًا؛ أو ربّما تلتقي أولنكا بأمّ الخوش وتجتمعان إلى السّماور لتشربا شاي الحاضرين والغائبين فيعود تألّق أولنكا الذي كاد يخبو، فتتشارك الصراخ والعويل مع أم الخوش بحثًا عن الولد الذي لم يعد. قد، وقد لا. هل بتنا نحن أيضًا على حافة الجنون؟ ربما، ولكنّنا لن نفلح في التوقّف أو في العودة بلا حارسات. كان لدانتي حارسة هي بياتريتشه عبرت به الفردوس، ولكنْ من لنا نحن؟