لزمنٍ طويل، شغلني سؤال الأمل. وعند التحدث عن كتابي بانتظار حربٍ مقبلة: تخطيط بيروت وضواحيها (2018) الذي فصّلتُ فيه طُرق التنظيمات الدينية في استخدام التخطيط أداةً للنزاع كما للسّلم في مدينة بيروت المتوتّرة طائفيًا، غالبًا ما يُوجّه إليّ السؤال التالي: أين نعثر على الأمل في مساحاتٍ موسومةٍ بالظلم الاجتماعي – المساحي؟ غالبًا ما أتوقّف لبرهةٍ لأستوعب الضغط الكامن في السؤال: أشعر بعبء تقديم نهايةٍ سعيدةٍ للجانب المُظلم من التنظيم المُدني. أشارك مع القرّاء والمستمِعين قصص الصراع القائم لإنتاج الجغرافيات اليومية لأطراف بيروت التي استحالت تخوماً، وطُرق الناس في صنع الحياة في مكانٍ يخيّم عليه شبح الحرب دومًا. لكن إزاء ذلك السؤال، أشعر بمسؤولية تخيّل مستقبلٍ مختلفٍ – مستقبلٍ أفضل – عن الحاضر والماضي الذي اختبره واجتازه كلّ مَن قابلتُ في خلال بحثي الميداني في لبنان، بمن فيهم عائلتي. وبفعل تخصّصي في التنظيم المُدني، وهو حقلٌ يلقّننا دومًا ضرورة أن نفعل شيئًا لجعل العالم مكانًا أفضل للحياة، أجد هذا السؤال مضنيًا إلى حدٍ كبير.
في الواقع، تبدو بعض الإجابات على أسئلة الأمل مُرضيةً للبعض: فكتابي يستخلص أنّ الطائفية تتغيّر بمرور الوقت، وتُصاغ وتُنتَج مساحيًا من خلال الممارسات اليومية، وهي بالتالي غير ثابتةٍ أو منقوشةٍ في الحجر. هذه الخلاصة تمنح بعض الأمل لسكّان بيروت بأنهم غير محكومين بالعيش تحت نير الطائفية إلى الأبد. على سبيل المثال، الخطوط الفاصلة بين العائلات الدرزية وتلك الشيعية في صحراء الشويفات، ليست جدرانًا قائمة، بل مساحاتٍ يتداولها الناس ويُعيدون تشكيلها وتشريعها. وعلى الرغم من صعوبة تخيل مستقبلٍ مزدهر، ثمة حركات اجتماعية تعمل بجدٍّ لتشكيل مساحاتٍ جديدةٍ للتفاعل الاجتماعي وتداول المعرفة في لبنان، موفّرةً منصّاتٍ للتنظيم في سبيل أفقٍ مستقبليٍ جمعيّ، وإمكانيات انبثاق مصالح عامة تستبعد حتمية وقوع حروبٍ جديدة (مثال: صعود حملة بيروت مدينتي كمنافسٍ جدّي وواعدٍ في الانتخابات البلدية عام 2016).
مع ذلك، وفي الثانية التي تسبق إجابتي على ذلك السؤال المهم، غالبًا ما أتساءل: "ما هو بالضبط الأمل الذي يبحث عنه الناس؟" هل هو أملٌ بحلول زمن ما بعد الحرب؟ ما بعد العنف؟ ما بعد الطائفية؟ هل هو مستقبلٌ يرسي قطيعةً مع الماضي؟ أم مستقبلٌ يحصّل فيه المقيمون في أطراف بيروت "حياةً أفضل" – لكن مقارنةً بمَن، وأين وماذا؟
كان الأمل كبيرًا في بيروت في 17 تشرين الأول 2019، يوم انتفض الناس في الشوارع مطالِبين بوضع حدٍّ للفساد وبإسقاط النظام الطائفي المتوحّش. في الأشهر التالية، كانت الشوارع والساحات والطرق الرئيسة تمتلئ يوميًا بآلاف اللبنانيين واللبنانيات المنتفِضين. رافعين القبضات معًا، مردّدين الأغنيات الرائجة ومضيئين الشموع، كان الآلاف يتمايلون متّحدين ومتعاهدين بـ “خلع طائفتهم" والمطالبة بالمساءلة. الناس يملؤون المساحات المفتوحة، وحلقات النقاش تحتلّ مواقف السيارات، والغرافيتي والفن الثوري يغطّي الجدران الأمنية، والعربات تبيع أطعمةً شعبيةً في أفخر مناطق بيروت؛ كلّها مشاهد جعلت المستقبل يبدو لبرهةٍ من الزمن، واعدًا وشاملًا الجميع. لكن كباحثةٍ قضيتُ 15 عامًا من حياتي في بحث وتوثيق كيف تشكّل الحروب المقبلة المُنتظرة المساحة المدينية وتساهم في خلق جغرافياتٍ مقسّمةٍ طائفيًا في بيروت، انتابتني وقتذاك آمالٌ متعارضة.
أردت حقًا أن تنتهي في تلك اللحظة كل الحروب المستقبلية المُنتظرة دومًا، والتي لطالما حكمت حيوات الناس اليومية منذ السبعينات – أردتُ لذلك المستقبل القاتم أن يموت هناك تحت أقدام المتظاهرين والمتظاهرات في الشوارع، لينبلج منها مستقبلٌ آخر يتجاوز العنف الطائفي.
لكن جزءًا مني كان يدرك مدى تجذّر أنظمة التهميش القمعية في المساحات القائمة بمرور الزمن، تغذّيها باستمرارٍ ميليشياتُ الحرب السابقة التي استحالت تنظيماتٍ دينية – سياسية، لذا ظللتُ متردّدةً في عقد الآمال. فتلك الأطراف الهجينة ذات الطابع الخاص-العام تستخدم كافة الأدوات المتاحة لها لتبقى في السلطة؛ فتُحكم القبضة على الحكومة ومواردها، وتهيمن في الوقت نفسه على المجالات العامة والأهلية عبر مؤسّساتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وشبه عسكريةٍ لا تُحصى – مانعةً تقريبًا أيّ إمكانيةٍ للعمل السياسي خارج سيطرتها. لذا، وبينما كنتُ أهتف "يسقط النظام الطائفي" مع آلاف المتظاهرين والمتظاهرات، أخذتُ أتساءل عن كيفية خلق تلك الإمكانية السياسية عمليًا على أرض الواقع.
وبينما كنا نسير هاتفين عاليًا لتغيير النظام وبناء مجتمعٍ عادلٍ غير طائفي، بادرت بتوثيق تلك اللحظات الرائعة، مركزّةً على نجاح المتظاهرين والمتظاهرات في إعادة توظيف المساحات المفتوحة، صانعين بذلك الأمل يوميًا في الشوارع والطُرق الرئيسة. أخذتُ أحاول تصوّر ذلك المستقبل الواعد. يومها، تساءلتُ أين وكيف نتوجّه لنهدم بُنى القمع التي تكرّس الحرمان والعنف؟ ما نوع العمل الذي علينا إنجازه؟ أيّ سرديةٍ عن الأمل يجب أن نناصر؟ وكمختصّةٍ في الدراسات المدينية، مثل أمامي السؤال التالي أيضًا: كيف نفكّر في الأمل جغرافيًا؟ أين نعثر على الأمل؟
ليست هذه التساؤلات حكرًا على بيروت. فكما أجادل في الكتاب، تبرز تلك الأسئلة في سياقاتٍ متنوعةٍ من النزاع والاحتجاج، إذ نعيش لحظةً عالميةً يبدو فيها المستقبل المُتخيّل في معظم مناطق العالم – في دول الشمال كما الجنوب – موسومًا بالنزاع والخلاف، ومشوبًا بالأزمات الإيكولوجية، والهجمات الإرهابية المتوقعة، والتدفّق غير المسبوق للاجئين والمهاجرين، ومؤخرًا، بالجائحة العالمية التي فتكت على نحوٍ خاصٍ بالمجتمعات المهمّشة والمحرومة.
تبادر إلى ذهني بسرعةٍ هذا الاحتقان بين حاضرٍ يائسٍ ومستقبلٍ واعد، بينما كنتُ أشارك في الاحتجاجات التي اندلعت في نيويورك، مكان إقامتي وعملي، ردًا على القتل الوحشي لجورج فلويد على يد الشرطة في مينيسوتا. ذلك الألم الناجم عن موت أشخاصٍ سود وسُمر البشرة نتيجة وحشية الشرطة، تفاقم واشتدّ بفعل رؤية أعدادٍ كبيرةٍ منهم يسلمون الروح في مختلف المُدن الأميركية خلال جائحة كوفيد-19 بسبب غياب الاستثمار في قطاع السلامة والرعاية الصحية في مناطق الأقلّيات. يوم 6 حزيران 2020، ولدى انضمامي إلى احتجاجات حركة حياة السود مهمّة (Black Lives Matter) في نيويورك في مسيرةٍ جابت شارع سنترال بارك وست باتجاه واشنطن سكوير بارك رافعةً هتافات "لا عدالة، لا سلام" و"لا تطلقوا النار"، راودني الشعور الحماسي ذاته الذي سبق أن تملّكني في أثناء مشاركتي في انتفاضة 17 تشرين الأول في لبنان. عاد إليّ إحساسي المفعم بالأمل (اللاعقلاني ربما) بأنّ الأمور ستتغيّر يومًا ما، وانتابني في الوقت عينه شعورٌ عارمٌ باليأس والغضب بشأن طبيعة المجتمع الظالم الذي أنشأناه، سواء تحدّثنا عن الاضطهاد العرقي والوحشية ضد السّود في الولايات المتحدة الأميركية، أو عن العنف الطائفي الذي يثور ويخبو في لبنان مقتلعًا حيوات الناس مرةً تلو الأخرى. تساءلتُ بنقمةٍ عمّا إذا كنا سنتمكّن يومًا من تغيير ذلك الوضع.
في 6 حزيران، عدتُ إلى المنزل ليلًا بعد نهارٍ من التظاهر، وبدأتُ أتلقى عبر تطبيق واتساب سيلًا من الفيديوهات التي تُظهر أناسًا يطلقون النار بعضهم على بعضٍ في بيروت. كانت تلك سلسلةٌ من مشاهد العنف الحديثة التي مثّلت عودةً إلى الاقتتال الطائفي – وإن لمدّة يومٍ واحد. في تلك اللحظة، تلاقت مرةً جديدةً مدينتاي، بيروت ونيويورك، في حبكةٍ معقّدةٍ تجمع الأمل باليأس. في تلك الليلة، أحسستُ بنفسي عالقةً بين هذين المكانَين البعيدَين بتواريخهما وحاضرهما وأشكال تحرّرهما المختلفة، إنّما المرتبطَين على نحوٍ حميمٍ بفعل صراعاتهما. تأرجحَت مشاعري بين الغضب العارم والإحساس الهائل بالأمل، وبين انعدام جدوى المقاومة بعد أن انحسرَت انتفاضة 17 تشرين في لبنان وتراجعَت جزئيًا بفعل الأزمة الاقتصادية المُستنزِفة، وقوة المقاومة المتمثّلة في مشهد الناس الجاثين على رُكبهم رافعين القبضات طلبًا للعدالة في شوارع مدينة نيويورك صباح ذلك اليوم.
وبينما كنتُ أصبو إلى فهمٍ نقديٍ لمطالب مختلف الناس ومساعيهم للتوصّل إلى سيناريوهات الأمل، إلى تلك النهاية السعيدة، تعلّمتُ أمورًا عدّةً عن الأمل: أولًا، تَخَيُّل مستقبلٍ مختلفٍ لا يتجذّر في الحاضر وماضيه ويفترض إمكانية إعلان القطيعة مع ذلك التاريخ، هو باعتقادي شكلٌ مضلّلٌ من الأمل. فمنظومات القمع لا تُطرَد بعيدًا بالأمل والهتافات، بل لا بد من تفكيكها وهدمها. إذًا، كيف نُطابق بين أزمنة ومادّيات الأمل من جهة، وخطورة ووطأة أزمنة ومادّيات القمع من جهةٍ أخرى؟ ثانيًا، لا يوجد أملٌ من دون يأس، ومن غير المفيد الفصل بين الاثنين. فالمرء يأمل بحدوث شيءٍ ما بسبب عدم رضاه/ا عن الظروف القائمة أساسًا. بالتالي، من المفيد أكثر بالنسبة لي التفكير في تداخل الأمل واليأس، وفي العلاقة الجدلية التي تصوغ النزعتَين إزاء الحياة، والتبِعات المادية لتبنّي نزعةٍ دون الأخرى أو الاثنين في آنٍ معًا.
ثالثًا، وباستلهام أدب العدَمية السّوداء والتشاؤم الإفريقي(afropessimism) ، يُغرق الأمل في الحداثة ويتداخل مع حكايا الزمن الغائيّ والتقدّم الخطّي. يجادل كالفن ل. وارن (Warren, 2015) أن الأمل، كمشروعٍ سياسي، هو غير مُجدٍ للحيوات السوداء. فلزمنٍ طويل، وُعد السود وبيعوا الأمل بمستقبلٍ أفضل (فقط إن إقترعوا، أو إن عملوا بجدٍّ أكبر، أو لبسوا على نحوٍ مختلفٍ، إلخ). لكن قرونًا وعقودًا من التهميش والاستغلال أثبتت أن الأمل يُرهق الأجساد السوداء في نهاية المطاف، ويُبقيها عالقةً في مكانها، تكدّ وتسعى لتحصيل أملٍ مستحيل. "الرؤيا الطوباوية المتمثّلة بـ "نظامٍ اجتماعي لم يتحقّق بعد" والتي تسعى إلى التخلص من معاداة السواد، تقدّم وعدًا بلا انفراج – فجوابها الوحيد على إلحاحيّة المعاناة السوداء هو الاستمرار في النضال" (Warren, 2015: 233). ويعود ذلك إلى أنّ الحداثة ومفاهيمها المُحتفى بها كالأمل والتقدّم، ترتكز على استغلال أو إقصاء أو موت الشعوب سوداء وسمراء البشرة. وفيما يتلقى جميع الناس وعود الحداثة بمستقبلٍ واعد، ينطبق ذلك الوعدُ في الواقع فقط على أكثر الناس نفوذًا وقوة، وتحديدًا الرجال البيض الأوروبيّين. كما أن ذلك المستقبل المبني على نزعة المركزية الأوروبية (Eurocentrism) يقوم في جوهره على استغلال الآخر/ الأخرى المُصنّف/ة عرقيًا من خلال الاستعمار، والاستعباد، والسطو على الأجور و/أو النيوكولونيالية. في النتيجة، يبقى معظم الناس سود وسُمر البشرة عالقين في زمنٍ مُعرقَنٍ دوريّ، عاجزين عن تحقيق التقدّم الخطّي الغائيّ المُتخيّل والمفروض والمُعمّم عالميًا.
في كتابي عن بيروت، أبيّن تفاصيل فئاتٍ وهميةٍ أخرى تسِمُ عادةً "الحياة الجيّدة" في ظل الحداثة (Berlant, 2011) كالسلام والإعمار والاستقرار؛ وهي فئاتٌ تُعرّف في الوقت عينه بغياب أضدادها كالحرب والدمار والتهجير. على سبيل المثال، دراستي المفصّلة في الكتاب عن سبب بقاء بعض الأنقاض العمرانية من زمن الحرب الأهلية في حيّ ماضي – مار مخايل مقابل هدم بعضها الآخر واستبداله بأبنيةٍ حديثة، تُظهر التناقضات والأزمات الكامنة في الثنائيات المُركّبة بين الحرب والسلم، والمستقبل والماضي، والإعمار والدمار، والبيت والتهجير، والفصل والتعايش. ففي الواقع، غالبًا ما يكون الحد الفاصل بين الحرب واللا حرب (السلم) مطموسًا. إذًا، ضمن هذا السياق القائم في الجغرافيات المُتنازع عليها، كيف نعرّف الأمل؟ بمعنًى آخر، حين لا تكون الحرب والسلام فئتَين متمايزتَين بوضوح: ما هو الأمل؟
ثم نأتي إلى سؤال المكانيّة: كيف نحدّد مكان الأمل في ظل غياب الفرق بين الحياة اليومية والمساحات المُعسكَرة؟ في حالة بيروت، أتطرّق إلى تسابق التنظيمات الدينية – السياسية للسيطرة على التلال الاستراتيجية والحفاظ على حضورها في المناطق السكنية، بالإضافة إلى سيطرتها على أسواق السكن والعقارات، توقعًا للحروب المقبلة. فشبّاك شقّةٍ ما يبدو الآن شباكًا عاديًا يُستخدَم لتعليق الثياب المغسولة أو وضع أحواض الزهور والتحدّث إلى الجيران. لكن في الحرب المقبلة، قد يتحوّل هذا الشباك إلى موقعٍ يتمركز فيه قنّاصٌ ما. هذا الواقع يؤدّي إلى عسكَرة الحياة اليومية.
أحيانًا، وبعد قراءة كتابي، يصارحني البعض من مُواطني/ات دول عالم الشمال بأنّهم يتعاطفون مع جميع سكان كتابي (بمن فيهم أسرتي)، لكنهم لن يتمكّنوا يومًا من التماهي مع بيروت لكونهم لم يعايشوا الحرب يومًا ولطالما نعموا بالسلام. لكن جرائم القتل الأخيرة التي استهدفت أشخاصًا عُزّلًا من السّود مطلقةً شرارة احتجاجات حياة السود مهمة في المدن الأميركية والعالم، تُظهر أن أماكن هؤلاء ليست غريبةً عن الحرمان الاجتماعي – الاقتصادي، ولا عن العسكَرة والعنف الدّوري المُمنهج. ففي جغرافيّات التفوّق العرقيّ الأبيض، يتوفّر "السلام" للبعض فقط، بينما يرزح الآخرون تحت نير الحرب، والأنشطة البوليسية، والسجن والموت، سواء كان ذلك الآخر رجلًا أسود في مينيابوليس، أو طفلةً في بغداد أو عاملًا في كابول. في لحظات الشّرخ تلك، تُرسَم تلقائيًا حدود فصلٍ مُعسكَرة داخل مُدننا، مُحدّدةً مَن يستحقّ الحياة وحماية الشرطة، ومَن يمكن للشرطة التضحية به/ا باسم النظام العام أو بذله/ا أضحيةً لجائحة كوفيد-19 بذريعة الحفاظ على الصحة العامة.
ضمن هذا السياق، لا بد لنا من التأمّل في الشكل ما بعد الاستعماري للأمل بدلًا من التسليم به كما عرّفه المشروع الحداثي، وهو صنفٌ من الأمل لطالما ارتكز على إخضاع الشعوب ملوّنة البشرة والسطو على ثرواتها، ومواردها، ورفاهها وحيوات أفرادها. لا أقصد هنا القول إنّ جغرافيات الطائفية في لبنان والعنصرية في الولايات المتحدة قابلة للمقارنة. فالكتاب يضيء على انسيابية الطائفية ومرونتها، وكيفية صنعها، وتفكيكها وإعادة صنعها على نحوٍ يومي، وهو أمرٌ لا ينطبق على العنصرية البُنيوية في الولايات المتحدة، حيث يجد التمييز العِرقي جذورَه في تاريخ العبودية. لكن ما أجادل من أجله هنا هو أن التفكير في هاتين الجغرافيّتَين على نحوٍ علائقي يكشف الحاجة إلى إعادة تشكيل مفهوم الأمل خارج بعده الحداثي الغائيّ، من أجل استيعاب تعقيدات حاضرنا. لتحقيق هذا، نحتاج أولًا إلى الإقرار بأنّ الأمل في حدّ ذاته ليس بالضرورة مفهوم تقدمي. فأمل شخصٍ ما قد يلحق الألم بالآخرين أو يتسبّب بتدمير آمالهم. عطفًا على ذلك، يمكن للأمل أن يكون قمعيًا في حال إرغام الناس على الامتثال للحاضر بغية الوصول إلى الأمل الموعود الآتي. غالبًا ما يكون الأمل مبهمًا وغامضًا. وفي هذا الصدد، تجادل عائشة بارلا قائلةً "يختزن الأمل إمكانية التمكين أو التعطيل، وإمكانية الإلهام أو الحجب، بحسب السياق، وموضوعه ومبرراته." (Parla, 2019:24)
بالإضافة إلى ذلك، تلحظ المقاربة ما بعد الاستعمارية للأمل أنّ أُفقه ومواقيته ونطاق إمكانياته هي كلّها مسائل سياسية. مَن يستطيع أن يأمل وبماذا يمكنه الأمل، هي أمورٌ تخضع لماضي الشخص وحاضره، كما لاقتصاد موقعه في المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفي إطار هذا التمايز، يستلزم إطلاق مشروعٍ جَماعي للأمل ما يسمّيه مايكل توسّيغ "حساب الأمل." (Zournazi, 2003: 62) وكامرأة نشأَت في كنف الحرب، غالبًا ما أُسأل: كيف كانت الحياة في الحرب؟ في الواقع، "عاش" الناس في ظل الحرب، وعملوا في خلالها من أجل "تحسين" حيواتهم. أحيانًا، كانوا يضحكون، ويتزوّجون، ويبنون البيوت ويديرون الأعمال؛ وفي أحيانٍ أخرى، كانوا يتعرّضون للقصف والتفجير والتهجير. كان الأمل يتعايش مع الحرب. لكن ما كان مُتاحًا للناس ليأملوا به كان مشروطًا بالإمكانيات التي يحدّدها الوجود المادّي للفرد.
إذًا، التفكير في مادّية الأمل قد يكون مثمرًا أكثر. كيف نصوغ مفهوم الأمل كممارسةٍ مادّية، لا كحلمٍ ميتافيزيقي لا جذور له في مادّية الحياة اليومية؟ يجدر بنا التفكير في الأمل كممارسةٍ إذا ما أردنا خلق تصدّعاتٍ في بُنى القمع كي نتيح المجال أمام آفاقٍ وظروفٍ ماديةٍ بديلةٍ لتنبثق أو تزدهر، على أن تكون متجذّرةً في الحاضر والماضي. يبدو لي الأمر أشبه بزعزعة أساس بيتٍ ما حتى يبدأ بالتداعي، مفسحًا المجال لأشكالٍ جديدةٍ من الحياة لتنبعث من تحت الأنقاض. وقد تنبثق عن ذلك ميادين مجزّأةٌ وبعيدةٌ عن المفهوم الكوني الشمولي للأمل، أو ما يسمّيه توسّيغ "جُزُر الأمل." (Zournazi, 2003: 62) لكن لعلّ بمستطاعنا أن نحيك "جُزُر الأمل" تلك بعضها ببعضٍ بواسطة أفعال التضامن، والتعبئة الجَمعية والحركات الجماهيرية التي قد تمكّننا من المواظبة على زعزعة أساس البيت. وقد يتحقّق ذلك من خلال التجمّع في المساحات المفتوحة، واستملاك الشوارع، وإعادة توظيف الأماكن العامة، والتظاهر وإنشاء مجموعات إغاثةٍ مشتركةٍ بين الأحياء. فهذه كلّها ممارساتٌ تتيح لنا توسيع أفُقنا وتسمح لإمكانياتٍ سياسيةٍ مختلفةٍ بالانبعاث من تحت الركام.
بالعودة إلى سؤال الأمل في أطراف مدينة بيروت: إذا كان السؤال يهدف إلى مناقشة قدرة الناس على "تحرير أنفسهم" من الطائفية ومواقيتها وجغرافياتها، فمن المهم الإقرار بأنّ مستقبلًا كهذا غير ممكن التحقّق من دون التفكير في المستويات العديدة التي نمَت عبرها منظومات القمع تلك، وتحديدًا عند تقاطع الاستعمار والنيوليبرالية والعسكَرة. في ختام أطروحته عن مساحات الأمل، يقول دايفيد هارفي إنّ "بمستطاعنا، لا بل علينا، أن نصنع عالمنا الاجتماعي والمادّي، وأن نُعيد صنعه، وفي حال إخفاقه، أن نُعيد صنعه من جديد" (Harvey, 2008: 281)، ويتابع معتبرًا أنّ "نقطة الانطلاق وما يجب إنجازه هما مسألتان أساسيّتان." وبالطبع، تظلّ هاتان المسألتان أساسيّتين. كذلك يطرح هارفي في كتابه قابلية تحقيق ذلك من خلال احتساب الإمكانيات المُختزنة في "مستوياتٍ زمكانيةٍ متنوّعة." (Harvey, 2008: 234) في حالة بيروت التي أضحت أطرافُها ليس فقط جبهاتٍ مرسومة المعالم، بل أيضًا مراكز ومعاقل للتداول المالي العابر للحدود، كما للعسكَرة والطائفية السياسية، يستلزم الأمر نضالًا مدينيًا مستمرًا يتقاطع مع الدفع العالمي باتجاه إنهاء الطابع الاستعماري للعلاقات الدولية، ونزع السلاح وكبح الاستغلال الرأسمالي حول العالم.
إذًا، أمل التحرّر الذي يسعى إليه الناسُ قد لا يكمن في إنهاء الترسيم الطائفي في أحياء بيروت الطرَفية فحسب، بل في نسف الرأسمالية العِرقية والنظام العسكري (racial capitalism and the industrial-military complex) – الصناعي العالمي. وقد يتضمّن ذلك إعادة صنعٍ للعالم يُحيك "جُزُر الأمل" الناتجة عن النضالات المدينية في بيروت، بجُزُر الأمل التي تتفتّح في المُدُن الأميركية، وفي ضواحي باريس، وسويتو(هات) جوهانسبرغ وغيرها من الأماكن. ربما عندها، نستطيع ابتكار إطار عملٍ فعّالٍ لنزع الصبغة الاستعمارية عن الأمل، واستملاك مادّيات الأمل وأزمنته كأدواتٍ للانعتاق والتحرّر.
مُلحق
تفجير المرفأ المروّع الذي هزّ بيروت يوم 4 آب/ أغسطس أعاد خلط آفاق اليأس والأمل في المدينة من جديد. ففي حين اعتاد اللبنانيون توقّع الدمار والتهجير الناجمَين عن الحروب المُنتظرة، جاء الدمار الشامل هذه المرة نتيجة إهمال الحكومة اللبنانية الفاسدة والفاشلة التي تركَت 2700 طنٍ من نترات الأمونيوم مُخزّنةً على نحوٍ عشوائي في مرفأ بيروت. في ذلك اليوم المشؤوم، اشتعل حريقٌ في أحد عنابر المرفأ (لأسبابٍ ما زالت مجهولة) وامتدّ ليطال مخزون نترات الأمونيوم، مولدًا أحد أضخم الانفجارات غير النووية المسجّلة في العالم. وأدّى التفجير إلى مقتل أكثر من 200 شخصٍ (والعدّ مستمر)، وجَرح 6000 وتهجير حوالي 300 ألف، كما خلّف أضرارًا ماديةً تُقدّر قيمتها بحوالي 10-15 مليار دولار.
في أعقاب هذه الكارثة، تبخّر ما تبقّى من أملٍ بعثته ثورة 17 تشرين في النفوس. لكن حتى وسط تلك اللحظة القاتمة والحافلة بالخسارة والدمار، ما لبثت إشارات الأمل أن عادت وانبعثت من الشبكات والبُنى التحتية التي أنشأها الناس في خلال الثورة، لتنطلق فورًا جهود التحشيد والتعبئة لإغاثة ضحايا الانفجار. وسرعان ما عادت الحياةُ تدبّ في مجموعات الانتفاضة على تطبيق واتساب من أجل تنظيم أعمال الإغاثة، بعد أن كانت تُستخدم للتخطيط للتظاهرات وتحشيد الموارد. كما عادت خيام الثورة تنتصبُ لتحتضن اجتماعات ونقاشات المتطوّعات والمتطوّعين وجهود توزيع المساعدات. في خلال بضع ساعات، حمل آلاف الناس من مختلف أنحاء لبنان مكانسهم وهبّوا يكنسون الشوارع وينظّفونها ويساعدون في إعادة الإعمار، كما شرعت شبكاتٌ واسعةٌ من النشطاء في تأمين الدعم المادّي للمناطق المتضرّرة. حتى في أحلك الظروف، يصحّ القول إنّ شبكات صنع الأمل الصّابي إلى العدالة الاجتماعية، والتي سبق للناس أن بنوها في خلال الانتفاضة الأخيرة في لبنان، ظلّت حيّةً نابضةً لتبني آمال المستقبل الآتية.
[نشرت في Society and Space. ترجمة هاشم هاشم]
المراجع
Berlant, Lauren. Cruel Optimism. Durham: Duke University Press Books, 2011.
Bou Akar, Hiba. For the War Yet to Come: Planning Beirut’s Frontiers. Stanford, California: Stanford University Press, 2018.
Harvey, David. Spaces of Hope. Berkeley: University of California Press, 2000.
Parla, Ayse. Precarious Hope: Migration and the Limits of Belonging in Turkey. Stanford, California: Stanford University Press, 2019.
Warren, Calvin L. “Black Nihilism and the Politics of Hope.” CR: The New Centennial Review 15, no. 1 (2015): 215–48. https://doi.org/10.14321/crnewcentrevi.15.1.0215.
Zournazi, Mary. Hope: New Philosophies for Change. Psychology Press, 2003.