المجتمع التركي في مواجهة السلطوية

المجتمع التركي في مواجهة السلطوية

المجتمع التركي في مواجهة السلطوية

By : Arabic Editors

أوليفيي بيو

بتكثيفه الحرب ضد كردستان التركية والقمع المسلط على منتخبي الحزب الديمقراطي للشعوب الموالي للأكراد، اختار الرئيس رجب طيب أردوغان، ابتداء من عام 2015 استقطاب المجتمع التركي. وهو يعوّل بحلول المواعيد النهائية لعام 2023، على حلمه العثماني الجديد لتدعيم شرعية انتخابية تتعرض للوهن. غير أن الانحرافات الاستبدادية لنظامه قد تتحطم أمام حيوية المجتمع المدني المتمسك باحترام الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع.

شهد ربيع وصيف عام 2020 استفحالا في الانجرافات السلطوية والقاتلة للحريات من طرف نظام رجب طيب أردوغان، ولم يكن ذلك مفاجأة. وآخر مثال على ذلك وفاة إبرو تيمتيك، المحامية البالغة من العمر 42 سنة والمحكوم عليها في 2019 بالسجن بتهمة الانتماء إلى “منظمة إرهابية”. توفيت المحامية في نهاية أغسطس/آب 2020، بعد 238 يومًا من الإضراب عن الطعام للمطالبة فقط بالحصول على محاكمة عادلة… هذا المثال الجديد لانتهاكات حقوق الإنسان في تركيا (والذي أدانته منظمة هيومن رايتس ووتش) يدخل ضمن سلسلة طويلة من الهجمات العنيفة وعمليات تصفية (تطهير) يتم تنفيذها منذ عام 2015 من قبل الرئيس. وهي موجهة ضد الحركة الكردية، وأيضًا ضد جميع المؤسسات والفاعلين (وسائل إعلام، محامين، فنانين، موظفين، اساتذة، أطباء وعسكريين، إلخ) في الديمقراطية التركية.

من الناحية الرمزية، شهد صيف عام 2020 حلول الذكرى المئوية لتوقيع معاهدة سيفر، مع نقطتين بارزتين: الوعد (الذي لم يتم الوفاء به آنذاك) بمنح الحكم الذاتي (أو حتى إقامة الدولة) لأكراد الشرق الأوسط و“التقاسم الكبير” للإمبراطورية العثمانية التي قام الحلفاء بتقطيع أوصالها. بعد مائة عام، يقوم الرئيس -ومنذ خمس سنوات- بحبك استراتيجيات لدعم سلطته باللجوء تحديدا إلى هاتين الجبهتين (الأكراد و“العظمة” المفقودة لتركيا). فما هو الدور الذي لعبه الملف الكردي حتى الآن في الازدهار السياسي لرئيس أنقرة؟ وما هي القوى الدافعة للانحراف الأوتوقراطي لنظام يعمل شيئا فشيئا على تقويض الديمقراطية التركية؟ وفي الأخير، إلى أي مدى يمكن أن يتمادى أردوغان في هذا التسلط والتعسف المتصاعد؟

تغيير المسار في سنة 2015

بعد أن كان -وبدون شك- الرجل السياسي التركي الوحيد الذي اختار (ابتداء من 2005) التوجه بحزم نحو حل القضية الكردية، أدار أردوغان ظهره عمداً لهذا الأفق في عام 2015. ففي حربه ضد “الدولة العميقة” (derin devlet باللغة التركية) والتي تواصلت حتى بعد محاولة انقلاب 2016، بدا الملف الكردي ولمدة طويلة وسيلة بيد اردوغان لمواجهة النخب والأحزاب الكمالية. وقد تم ذلك من خلال تأسيس سلطته على سياسة مد اليد إلى القادة والناخبين الأكراد (الذي يمثلون 20٪ من السكان). ولكن ومنذ ذلك الحين، تحولت استراتيجية “الانفتاح” هذه إلى نقيضها تمامًا، أي إلى قمع شديد في أراضي كردستان التركية وضد كل مقاتلي وكوادر ومنتخبي الحركة الكردية.

خسر أردوغان لأول مرة الأغلبية المطلقة في برلمان أنقرة خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران/يونيو 2015. وقد شكل ذلك صدمة لحزب تعود حتى ذلك الحين على انتصارات كبيرة في صناديق الاقتراع. يقول جان ماركو، مدير الشؤون الدولية بمعهد العلوم السياسية بغرونوبل، إن “الانحسار المنتظم لقاعدته الانتخابية منذ ذلك التاريخ دفع أردوغان إلى البحث عن رد يضمن بقاءه في صناديق الاقتراع. أدرك آنذاك أن استراتيجية” اليد الممدودة“المنتهجة مع الأكراد باتت انتحارية كونها تنفر منه الأحزاب والناخبين القوميين، وهم كثيرون. وعلى عكس ذلك، سمح له تشدده الجديد في المسألة الكردية ببناء أغلبيات جديدة -حيث لم يعد يحظى بها عن طريق حزب العدالة وحده- ومواصلة تفوقه في توازن القوى السياسية للبلاد”.

شكلت رغبة بعض الكوادر من حزب العمال الكردستاني (PKK) في استيراد نموذج “حرب العصابات الحضري” الذي نجح في كوباني (سوريا) إلى المدن الكردية التركية، والتي شجعها تقدم عملية السلام ابتداء من عام 2014، الذريعة لهذا الانقلاب في الموقف.

من الوهلة الأولى إذا، كان هدف استراتيجية الحرب المفتوحة الجديدة لأردوغان ضد الحركة الكردية أن تضمن له البقاء المريح على السطح خلال مختلف المواعيد الانتخابية التي كانت تنتظره (انتخابات أو استفتاء). وقد تزودت هذه الاستراتيجية بعد ذلك بمحرك، وهو التحالف مع أقصى اليمين والأطراف القومية المتطرفة للأحزاب الكمالية. ثم تغذت في الأخير بوقود آخر، تمثل في نشر ثقافة السلطوية السياسية حتى يضمن للرئيس التركي الجديد (المنتخب في عام 2014) ممارسة مستدامة للسلطات الكاملة.

“حرب أهلية” وسلطوية

فرض حالة الطوارئ، تكثيف الاحتلال العسكري، اعتقالات، إجراءات استثنائية وإقالة منتخبين ... بات القمع في كردستان تركيا شديد التصلب مع عودة إلى سنوات الرصاص للسنوات 1980 و1990. فتحت حجة القضاء على “الإرهاب” الكردي في تركيا ولكن أيضًا في سوريا ، ومن خلال ثلاث هجمات عسكرية (2016 و2018 و2019) وأخرى أحدث في شمال العراق (2020)، أعلن حاكم أنقرة الحرب على حزب العمال الكردستاني، وكذلك على كوادر ومنتخبي الحزب الديمقراطي للشعوب الموالي للأكراد، والذي أصبح في عام 2015 القوة السياسية الثالثة في البلاد. يعلق جان فرانسوا بيروز على هذا قائلا: “فضلا عن الحرب ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، قام أردوغان بتجريم المنتخبين الأكراد في الحزب الديمقراطي للشعوب”.

لقد دفع فعلا كوادر هذا الحزب الشرعي ثمن نتائجهم الانتخابية التاريخية التي سجلوها خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، إن كانت رئاسية (2014 و2018)، بتسجيل في كل مرة حوالي 9٪ من الأصوات لمرشح الحزب الديمقراطي للشعوب، أو تشريعية في 2015 (انتخاب 52 نائب) وفي 2018 (80 ثم 67 نائب)، وأيضا في الانتخابات البلدية لعام 2014 حيث فازوا بـ104 بلديات، وفي 2019 حيث تحصلوا على 65 منتخب.

تم منذ ذلك الحين نزع العهدة البرلمانية من بعض نواب الحزب الديمقراطي للشعوب، كما أودع آخرين السجن (سبعة في المجموع). فيما يخص المنتخَبين المحليين، تم “فصل” أكثر من ثلثي رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين -وعددهم 65- في 2019، أي 45 رئيس بلدية، واستبدالهم بمسيرين (kayyum بالتركية) معينين من طرف… المحافظات، دون إمكانية تعيين رؤساء بلديات مؤقتين. وإلى غاية اليوم، يقبع أكثر من 20 من هؤلاء المنتخبين في السجون التركية بتهمة “الإرهاب”.

جاءت محاولة الانقلاب في عام 2016 بالطبع لتسارع وتعطي تبريراً جديداً لتنامي النهج التسلطي لأردوغان: تغيير الدستور (عن طريق استفتاء عام 2017) لإضفاء الطابع الرسمي على نظام رئاسي تعزز بحكم الأمر الواقع منذ 2014، إنشاء “نظام التحالفات” الانتخابي الذي تم ترسيخه من خلال الروابط بين حزب العدالة والتنمية وحزب العمل القومي اليميني المتطرف ضمن “ائتلاف الشعب” (2018)، وضغوطات وتهديدات علنية ضد القادة الكماليين في حزب الشعب الجمهوري، وهي القوة السياسية الثانية في البلاد. وأخيراً، تثبيت لسلطة “أفقية” في معظم مجالات المجتمع التركي.

يذكر الخبير الاقتصادي والسياسي أحمد إنسل، وهو أستاذ فخري في جامعة غلطة-سراي بأنه “في غضون سنوات قليلة، قام أردوغان تدريجياً بنزع الحياة من الديمقراطية التركية، إذ جعل من البرلمان مجرد جمعية رمزية ومنح نفسه كل السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية”. وهكذا فقدت تركيا بكل بساطة نظامها البرلماني لصالح رئيس مهيمن يدعمه عدد قليل من الوزراء المخلصين.

“الوطن الأزرق” و“العظمة” المفقودة

في الآونة الأخيرة، ومع نهاية عام 2017، تم إثراء هذا المحور الأول المناهض للأكراد في استراتيجية أردوغان بمحفز سياسي ثان، وهو “عظمة” تركيا المفقودة. سواء تعلق الأمر بالأطروحة السيادية للـ“وطن الأزرق”(التي تبرر النزعات التركية في البحر الأبيض المتوسط) أو وبشكل أوسع بالإشعاع المفقود للإمبراطورية العثمانية السابقة، اختار أردوغان عقيدة إيديولوجية لاستعادة مكانة بلده في النظام العالمي الجديد. ففي كل ساحات التوتر والصراع، كاليونان وقبرص وليبيا والعراق وسوريا والسودان والصومال، قرر الرئيس التركي أن يفرض بلاده كقوة إقليمية جديدة. ناهيك عن الموقف المتمثل في استعراض العضلات أمام الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي. ويؤكد جان ماركو: “بقيامه بذلك، يعرف أردوغان أنه يؤمّن لنفسه دعما داخليا من طرف العديد من الأحزاب السياسية والناخبين الذين تتحرك فيهم بقوة النزعة القومية والرغبة في الاقتصاص من التاريخ”.

إنه تطور على طريقة بوتين في روسيا، الذي عوَّل هو أيضًا منذ عام 2010 على الحنين إلى “روسيا الكبرى” (إمبراطورية القيصر والاتحاد السوفياتي) لإرساء سلطته لفترة طويلة. فبالنسبة لأردوغان، يعد هذا التوجه القائم على الكبرياء الوطني والرغبة في الانتقام (من معاهدة سيفر) أداة فعالة لتفتيت المعارضة السياسية ووسيلة لإسكات الانتقادات الداخلية التي تتصاعد، إن كانت بخصوص الأزمة الاقتصادية، وعبء الـ 3.8 مليون لاجئ سوري المقيمين في تركيا أو التصرف المثير لكثير من الجدل مع أزمة وباء كوفيد-19.

لكن هذا الخط المفعم بالإرادة والمغامرة لا يترك له مجالًا للخطأ. فإذا كان هذا النهج العدواني يسمح للرئيس التركي بتقوية علاقات على الفور مع كبار المسؤولين في الجيش التركي (والذي كافح ضده طويلاً) وأن يحكم في جو من “الحرب الأهلية” بإجراءات استثنائية، هناك من صار يستشيط غضبا وبدأت انتقادات في الظهور، في أوروبا كما في إيران أو في روسيا.

الاستبداد والثقافة الديمقراطية

بهاتين الرافعتين (“الحرب” ضد الأكراد والحلم “العثماني الجديد”)، إلى أي مدى يريد أو يمكن لأردوغان الذهاب في تدعيم سلطويته؟ هل لديه على وجه الخصوص، القدرة على فرض ديكتاتورية حقيقية وصريحة، كما هو الحال في مصر على سبيل المثال، بمهازل انتخابية وحظر تام لأحزاب المعارضة؟

يلاحظ أحمد إنسل: “هنا يكمن مفتاح أساسي للحياة السياسية في تركيا وهنا أيضًا تكمن حدود المقارنات بين أردوغان والأنظمة القوية، مثل نظام السيسي في القاهرة أو بوتين في موسكو. المواطنون الأتراك متمسكون جدا باحترام القواعد الانتخابية (التعددية والشفافية). وأردوغان نفسه وليد تلك الحماسة الديمقراطية التي مكنته من الوصول والبقاء في السلطة. يمكنه أن يخل بالحريات في تركيا وأن يتعدى على الموازين وعلى أجهزة السلطة، لكنه مجبر أن يمر بانتظام على حكم صندوق الاقتراع. وهو يعلم ذلك ...”.

هنا، بالفعل، خاصية في التاريخ الاجتماعي والسياسي التركي تمثلت في إرساء نظام سياسي ديمقراطي قريب من النماذج الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، حتى وإن تخلّل ذلك اضطرابات وانقلابات عسكرية. نظام يتميز بالتعددية السياسية، والانتخابات الحرة والشفافة، وحرية التعبير، وإعلام مستقل، والتقسيم والفصل بين السلطات، إلخ.

يقول الأستاذ جان ماركو: “درَّست في كل من مصر وتركيا وتبيّن لي أن الثقافة السياسية لطلابي مختلفة تمامًا. في تركيا، لطالما لفت انتباهي عمق معرفة الطلبة وإتقانهم لقواعد ومبادئ الديمقراطية السياسية. لاحظوا نسبة المشاركة للناخبين الأتراك! إنها هائلة. بالإضافة إلى ذلك، يتم تسجيل كل مواطن تلقائيًا بمجرّد بلوغه سن التصويت، دون إمكانية التصويت بالوكالة أو عن طريق البريد. بينما في مصر، وبسبب الافتقار إلى التجربة والممارسة لهذه الآليات، تبقى فكرة الديمقراطية والانتخابات الحرة والتعددية السياسية أمورا مجردة”.

حكم صندوق الاقتراع

يشهد سيناريو الانتخابات البلدية الأخيرة في عام 2019 بوضوح على هذه الخاصية للثقافة السياسية التركية. خلال الانتخابات البلدية الأخيرة في يونيو/حزيران 2020، فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض لحزب العدالة والتنمية في إسطنبول (معقل أردوغان التقليدي) بفارق صغير. وقد ضغط الرئيس التركي على المجلس الأعلى للانتخابات لإلغاء التصويت. وكانت الفاتورة غالية خلال التصويت الجديد حيث خسر حزب العدالة والتنمية مرة أخرى وبفارق 10 نقاط تقريبًا… يؤكد أحمد إنسل: “شاهد أردوغان ناخبين يثورون ضد التلاعب بالاقتراع الأول، حتى بين من هم في صفه، وقرروا معاقبته على ذلك”. وبالتالي خسر حزب العدالة والتنمية مدنا كبرى مثل أنقرة وإسطنبول، وهو سيناريو لا يمكن تصوره في روسيا، حيث يضيف المختص في العلوم السياسية بنوع من التهكم: “ثقافة التعددية منعدمة في هذا البلد (روسيا) ويصعب رؤية مرشحي بوتين يفقدون موسكو أو نوفوسيبيرسك...”.

على نطاق أوسع، لا تزال العديد من القوى التي تعتبر نفسها سلطة مضادة تحرك المجتمع المدني. يشرح فهيم تستكين، وهو صحفي وكاتب تركي: “لننظر إلى احتجاجات منتزه غيزي عام 2013، لا أحد توقعها! نفس الشيء بالنسبة للحركات النسائية أو نضال حزب الشعوب الديمقراطي الكردي: إنها ضمانات شجاعة وتعبئة. وطالما لم”يهضم“أردوغان هذا النصف من السكان، وحتى إن كان مستعدًا لبذل كل ما في وسعه للبقاء في السلطة، فلن تكون لديه إمكانية الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير”. ويضيف جان فرانسوا بيروز أن “مقاومة المجتمع هذه لها وجوه عديدة. هناك خمس حركات لا تزال نشطة اليوم: المدافعين على البيئة والنساء والطلاب والعمال والأكراد. ومن خلال تلاقيها، ولو بشكل جزئي، تشكل نشاطاتهم مانعا ضد انحراف تام ومطلق لأردوغان”.

تشهد الحلقة الأخيرة من “اتفاقية إسطنبول” (رغبة أنقرة في الانسحاب من معاهدة مناهضة العنف ضد المرأة) على ديناميكية المقاومة هذه، خاصة وأن مسألة انتهاكات حقوق المرأة دائمًا ما شكلت صداعًا حقيقيًا لأردوغان. وهي تشكل واحدة من المجالات النادرة (العارضة إذ لا يمكن اختزالها في الانقسامات السياسية) التي أُجبر فيها زعيم حزب العدالة والتنمية عدة مرات على مراجعة نسخته، إن كان ذلك حول تجريم الزنا (2004)، أو الحق في الإجهاض (2012)، أو زواج القاصرات المعتدى عليهن (2016).

يكفي القول إنه في هذا الموضوع، كما سيكون الحال في مواضيع أخرى مستقبلا - بالإضافة إلى يقظة المواطنين القوية بشأن احترام القواعد الانتخابية -، قد يفاجئ المجتمع بقدرته على معارضة إرادة رئيسه في التسلط.

[ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬