عتمة وبعض من الأمل: مقابلة مع المخرجة السورية سؤدد كعدان

عتمة وبعض من الأمل: مقابلة مع المخرجة السورية سؤدد كعدان

عتمة وبعض من الأمل: مقابلة مع المخرجة السورية سؤدد كعدان

By : Isis Nusair

أجري هذا اللقاء عقب عرض أفلام المخرجة السورية سؤدد كعدان التي تضمنت «عزيزة» (٢٠١٩)، «يوم أضعت ظلي» (٢٠١٨) و«عتمة» (٢٠١٧). حصل فيلم «يوم أضعت ظلي» على جائزة «أسد المستقبل» لأول عمل روائي في مهرجان فينيسيا للأفلام. 

إيزيس نصير: كيف كانت بداياتك مع السينما؟

سؤدد كعدان: درست المسرح بالمعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق وهو من أقوى المعاهد بالوطن العربي في مجال المسرح. لكن لم أجد نفسي بالمسرح ولم يكن هنالك في ذلك الوقت معاهد لدراسة السينما. حصلت على منحة بعدها من الجامعة اليسوعية في لبنان كي أكمل دراسة الماجستير. عندها قررت أن أدرس سينما بدل المسرح. 

أنجزت فيلماً وثائقياً عام ٢٠٠٨ اسمه «مدينتين وسجن». صديقي كان يعمل وقتها على مسرحية تفاعلية والفيلم مبني على عمل المجموعة في مدينتي القامشلي والحسكة وفي سجن الأحداث في دمشق.  لقد أخرجت فيلماً تلفزيونياً عام ٢٠٠٩ عن أربع نساء سوريات متميزات اسمه «البحث عن اللون الوردي». الفيلم كان من انتاج الجزيرة الوثائقية. ثم عملت بعدها فيلماً آخراً للجزيرة الوثائقية عن مدينة دمشق اسمه «سقف دمشق وحكايات الجنّه» (٢٠١٠). الفيلم هو عبارة عن رسالة حب للمدينة. هذا كان آخر فيلم عملته بالشام وعرض قبل شهر من بدء الحراك. المدينة تغيرت كليةً من وقتها وهذا الفيلم يعني الكثير لي وللدمشقيين/ات.

عندما بدأت الحرب في ٢٠١١ صار معي صدمة ولم أعد قادرة على صنع الأفلام. أحسست أنه لا يحق لي أن أعمل فيلماً عن كل هذا الوجع. إذ أن ألم الواقع أقوى من أن أنقله بصورة أو عبر فيلم أعرضه في مهرجانات سينما. بدأت عندها بكتابة الأفلام الروائية.

إيزيس نصير: فلنبدأ بفيلمك الروائي الأول، «يوم فقدت ظلي» (٢٠١٨). الفيلم عبارة عن رحلة طريق في واقع مكسّر. هل باعتقادك يمكن للسينما أن تنقل تجربة الحرب؟

سؤدد كعدان : بقيت  في سوريا حتى أواخر عام ٢٠١٢ ثم انتقلت بعدها إلى بيروت. أسست شركة إنتاج مع أختي وخرج الفيلم للضوء عام ٢٠١٨. وكان مفاجأة جميلة جداً، إذ عرض في البداية في مهرجان فينيسيا وفي مهرجانات دولية عديدة بعدها. لقد سافرت مع الفيلم الذي يعبر عن ألم وصدمة، وعن معنى أن تعيش الحرب وأن تفقد ظلك.

كان من الصعب إنجاز الفيلم، لأنه كان علي أن أصور في بيروت كما لو أنها سوريا. وعندها شعرت بالفقدان المضاعف لمدينتي، ومكان التصوير الذي اعتدت عليه، والذي ألفته ويعرفني. المكان هو مثل شخصية بالفيلم له طابعه وشخصيته المميزة. لذلك كانت الخسارة مضاعفة بالنسبة لي من حيث كوني مخرجة حكاياتها عن سوريا. لقد فقدت المكان الأساسي الذي أحكي عنه، وحاولت أن أخلق صورة ثانية لسوريا. كان هذا عملاً جباراً لفيلم مستقل بميزانية صغيرة كفيلمي، إذ أن لبنان يختلف بشكله الجغرافي، والمناخي والمعماري عن دمشق. لذلك قمنا بتصوير الفيلم في كل أنحاء لبنان، من عكار إلى بيروت وطرابلس.

 
سامر إسماعيل، رهام القصار وسوسن إرشيد في مشهد من «يوم أضعت ظلي»

كانت الواقعية السحرية هي الحل الوحيد أمامي كي أحكي قصة الفيلم. كان الألم بالنسبة لي أكبر وأبشع من إمكانية نقله على شاشة السينما. وكنت أتساءل عن إمكانية السينما التعبير عن حالة الحياة في وقت الحرب. لقد كنت أنظر إلى صور من مراحل مختلفة من الحروب ووجدت صوراً لهيروشيما في اليوم التالي بعد إلقاء القنبلة الذريّة. رأيت صوراً بالأبيض والأسود لظلال الناس وقد حرقت على الأرض. عندها شعرت أن ذلك يشبه ما يجري في سوريا، فالناس تعيش وكأنها فقدت ظلها. فقدان الظلال هو تعبير عن حالة الصدمة، كأن تجربة الإنسان الذي عايش الحرب تختلف عن تجربة الإنسان الذي لم يـ/تعش الحرب. أنت تخسر/ين إيمانك بالأشخاص الذين ينتمون إلى نفس المكان، والعلاقات الحميمية تنقلب رأساً على عقب. ففي الحروب الاهلية، العدو هو الجار الذي يعيش في نفس البلد. أصدقاء ممكن أن تكونوا قد ذهبتم/ن معاً الى نفس الجامعة، والآن يريدون إلغاءك. العلاقة مركبة.


مشاهد من «يوم أضعت ظلي»

«يوم أضعت ظلي»، هو فيلم مستقل، وليس فيه خطاب مباشر عن الحرب. هو يطرح تساؤلات تتعلق بمعنى أن تكون إنساناً، أن تعيش تحت وطأة الحرب، وأن تحكي عن هموم الناس. الفيلم يحكي قصة امرأة (أم) تقابل امرأة أخرى متمردة أصغر منها بالعمر. في الحقيقة، المرأتان تتحدثان وكأنهما شخصاً واحداً ولكن من جيل مختلف. موقفهن من الحرب كان مختلفاً أيضاً. الفتاة اليافعة كانت غير متسامحة. ربما هذا جزء من غرور الشباب. نحن نرفض بعضنا ولا نعرف كيف نتقبل الآخر. علينا أن نبدأ بتعلم كيف نحاور بعض.


مشاهد من «يوم أضعت ظلي»

الفيلم يأخذ المشاهد في رحلة. هذا هو نفس الشعور الذي تشعر/ين به أثناء الحرب، شعور أنك ذهبت إلى مكان ما بدون اختيارك. وهنا تبدأ عملية الفحص ومراجعة قناعاتك واعتقاداتك. عندما خرجت الأم من دمشق إلى القرى والأرياف، رأت بشاعة الحرب. لكنها اكتشفت أشياء حلوة وصداقات جديدة. أصبحت تدريجياً مشاركة أكثر بما يحدث، بعد أن كانت ترفض ذلك. 

إيزيس نصير: فيلمك الوثائقي، «عتمة» (٢٠١٧)، يختلف عن الأفلام الوثائقية الأخرى التي حكت عن الحرب في سوريا. الكاميرا كما لو أنها حاضرة/غائبة. الفيلم مليء بالستائر والضباب، ويطرح مساءلة عن إمكانية الأطفال أن يحكوا عن الحرب. 

سؤدد كعدان : في هذا الفيلم أردت أن أصور قسوة صمت طفل، أحمد، عاش الحرب. أردت أن أصور الصمت لا الصراخ. الجمهور عادةً لا يقدر أن يستحمل هذا الوضع، إذ يشعر بالعجز أمام عيني الطفل اللتين اختارتا الغياب عن هذا الواقع. بدأت في تصوير الفيلم في دمشق، ولكنني لم أستطع أن أكمل التصوير، إذ أن الحرب عملت لي صدمة. بالنسبة لي العملية الإبداعية هي عملية عاطفية، عقلية وجمالية. لم أستطع أن يتحكم عقلي بكل هذا الألم، لذلك كنت أصور قليلاً وأترك الكاميرا لفترات طويلة. الناس الذين لم يدرسوا سينما عملوا أفلاماً أسرع عن الحرب، إذ أن الجانب العقلي والجمالي لم يكوّن بالنسبة لهم/ن ثقلاً يعرقل التصوير. العاطفة كانت متحكمة، لذلك كانت هنالك أفلام كثيرة عبارة عن صرخة عما يجري في سوريا.


الطفل أحمد في «عتمة»

في «عتمة»، لم أستطع أن أعود إلى التصوير حتى فهمت ما جرى لي، الصمت، عدم الرغبة بالتصوير، وعدم القدرة على الكلام. عندها قررت أن أغير مسار الفيلم ليحكي عن الصدمة والصمت الناتجين عن الحرب. لقد قابلت الطفل أحمد أثناء تحضيري للفيلم. لم أصوره في البداية. أردت أن يعتاد علي أولاً. مدرسته قالت لي إن لديه توحد، ولكن كان لدي شعور بأن هنالك شيئاً آخر، ولذلك حاولت أن أستشير مستشارة نفسية أثناء إنجاز الفيلم التي أكدت أن لديه صدمه. أول مرحلة في التصوير كانت صعبة علينا جميعاً. 

 يبدأ الفيلم مع الطفل عبر لقطات قريبة. أحمد يبقى ساكتاً وليس هنالك موسيقى أو ألوان. وكلانا لا نتحرك ونحاول عبر الصمت أن نفهم ما جرى. على الرغم من أن أحمد يبلغ من العمر سبع سنوات، إلا أن شعورنا كان متشابهاً، وكأننا شخص واحد. لذلك الأسئلة المطروحة في الفيلم: "بتقدر تنام؟ بتتذكر؟ بدّك تتذكر؟ من وين إنت؟“ هي نفس الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي. الطفل جعلني أرى هذا الشيء. عمل الفيلم كان مداوياً لنا الاثنين، والأسئلة هي جزء من العملية الفنية، ومن الصمت وكيفية التعبير بالكلمات عما يحدث. يتغير أحمد تدريجياً عبر إيقاع بطيء.


مشهد من «عتمه» في مخيم شاتيلا

إيزيس نصير: الطفل أحمد يسكن مع عائلته في مخيم شاتيلا في بيروت. يقطن الكثير من اللاجئين السوريين في هذا المخيم الذي أعدّ بالأساس لإيواء اللاجئين الفلسطينيين. هنالك طبقات لجوء متراكمة في هذا المكان.

سؤدد كعدان : مخيم شاتيلا في بيروت هو عبارة عن قنبلة موقوتة. الناس محصورة بهذا المكان وليس لديهم/ن حقوق أساسية، تصاريح إقامة، فرص عمل أو إمكانيات تعليم. الطفل جاء من درعا. عندما تسألينه "شو بتحب؟"، يقول لك، "شاتيلا". ذاكرة المكان الغائبة عنده، الحاضرة عندنا، تجعل هذا الجواب أقسى. بالنسبة إليه مخيم شاتيلا هو مكان جميل. هو يرفض أن يتذكر درعا. يحب بحر لبنان لكن البحر بعيد عنه.


مشهد من فيلم «عتمة»

ميزانية الفيلم كانت صغيرة جداً، وقد صورناه على مراحل عدة على مدى ست سنوات (٢٠١١-٢٠١٧). 

إيزيس نصير: الفيلم القصير، «عزيزة» (٢٠١٩)، يحكي أيضاً عن اللجوء وعن العلاقة مع الزمان والمكان.

سؤدد كعدان : عزيزة هو نتاج ورشة أفلام اشتركت بها في العام ٢٠١٨. عزيزة هنا هي السيارة، والبيت والحنين إلى الماضي وإلى سوريا. الفيلم يحكي عن التكيف مع المكان وإمكانية أن تكون سورياً/ة في لبنان. معظم الأفلام التي طرحت موضوع اللجوء، حاولت أن تمثّل شكلاً واحداً للاجئ/ة. أنا أحاول ألا أنمط الإنسان في أي من افلامي.


مشهد من فيلم «عزيزة»

هنالك لحظة عفوية، هي من أجمل لحظات الفيلم حيث يقف الممثل عبد المنعم عمايري ويحكي مع السيارة ويتمنى بشكل افتراضي ساخر أن يكون الشخص الذي دهسوه سوري. يقول، "شكله سوري!"  هذه اللقطة الإرتجالية كانت أجرأ من أن اكتبها بنفسي. في الحقيقة كان إرتجاله إعتماداً على تجربته القاسية إثر حادث سيارة في لبنان.

يبدأ الفيلم من داخل السيارة في مصف للسيارات في عمارة. يحاول أيمن أن يعلّم عليا (زوجته) القيادة، لأنه خائف أن يقود السيارة في شوارع بيروت بنمرة سيارة سورية.

كاريس بشار وعبد المنعم عمايري في مشهد من فيلم «عزيزة»

الفيلم كانت له أصداء حلوة. عليا، الممثلة كاريس بشار، تصرّعلى الخروج وسواقة السيارة. المرأة لديها قدرة أكبر من الرجل على التكيف في هذا المكان الجديد. السيارة وقيادتها تعبر عن جزء من حالة البلد. هم يسوقون السيارة في مكان مسدود. والسيارة تصبح غرضاً يعبّر عن الوضع الحالي، عن فقدان الوطن.


مشهد من فيلم «عزيزة»  مع صورة لساحة المرجة في دمشق

إيزيس نصير: في الفيلم القصير، «خبز الحصار» (٢٠١٦)، جردت الجندي بشكل فعلي ورمزي من عسكريته.

سؤدد كعدان : هنالك كثافة رمزية وبصرية في هذا الفيلم. يبدأ الفيلم بالجنديين وهما يطلقان النار على الشجر. لقد أصبحوا آلة للقتل، لكن عبثية الوضع تجعل واحداً منهم يطلق النار على الآخر. بسبب هذا الخطأ، على الجندي أن يخلع بدلته العسكرية. السؤال هنا يتعلق بمعنى أن تكون إنسانا، أو جندياً، بزيّ عسكري أم لا. كيف يتغير الإنسان أثناء الحرب عندما يلبس البدلة العسكرية؟ هذا الفيلم مبني على قصة حقيقية، فقد كان الجنود يطلقون النار على الشجر، ليتأكدوا من أن أحداً لا يختبئ خلفها. هذه القصة الحقيقية إن وضعتها في إطار سينمائي تصبح لها رمزية عالية. 

إيزيس نصير: يدور النقاش دائما عما إذا كانت الأفلام المصنوعة خلال فترة الحرب من الداخل أو الخارج السوري.

سؤدد كعدان : الأفلام هي نتاج لمواقف مختلفة عن الحرب، والموت والحياة. الزمن سوف يلغي هذا التصنيف ويبقى فقط الفيلم الأصيل والمحتوي على نزاهة فكرية، وشكل فني سينمائي. هنالك، للأسف، رغبة بالتلصص بالنسبة لأحداث الحرب والانفجارات، وهذه الأفلام تلغى مع الزمن. لا يعود هنالك داخل أو خارج، يبقى فقط الفيلم الجيد.

إيزيس نصير: هل تعتقدين أن هنالك سينما خاصة بالمرأة؟

سؤدد كعدان : هنالك حساسية خاصة للمرأة في صنع الأفلام. أنا أتابع أعمال مخرجات في العالم العربي والغربي مثل كوثر بن هنية وأندريا أرنولد، وجين كامبيون. هنالك مشكلة حقيقية تتعلق بأن عدد النساء المخرجات هو قليل جداً. صناعة السينما غير متاحة دائماً للمرأة في العالم العربي. لهذا تجدينهنّ ينتجن أعمالهن بأنفسهن. لقد أصبحت أنا أيضاً منتجة حتى أستطيع أن أصنع أفلامي. وبعد كل صعوبات إنجاز الفيلم، نجد البعض يقول إنه لاقى نجاحاً لان مخرجته امرأة! لكن حتماً هنالك الآن تغيير في صناعة السينما، وفي هذا المجال الزمن في صالحنا كمخرجات سينمائيات. هنالك اهتمام بحكايتنا كنساء من الشرق المتوسط ومن سوريا. أنا ممنونة أن فيلمي، «يوم فقدت ظلي»، لاقى الإعجاب ووجد مكانه بالمهرجانات.

إيزيس نصير: على ماذا تعملين الان؟  

سؤدد كعدان : أنا أعمل حالياً على فيلم «نزوح». الفيلم يروي قصة فتاة مراهقة تعيش في بيت مغلق حيث الأب لا يريد أن يترك سوريا كي لا يسمّى لاجئاً. الفيلم يحكي عن لجوء ما قبل اللجوء، وعن رفض وإصرار الأب حتى يصبح ذلك نوعاً من الجنون.

الفنان الكردي مجو كندش: كثيرة هي الأوطان التي تحولت إلى منافي دائمة لمواطنيها

[ولد الفنان الكردي السوري مجو كندش في بلدة كوباني عام 1966، وهو مغني وملحن وعازف بزق عصامي. اهتم بالموسيقى منذ صغره وبرزت مواهبه في المدرسة وهو في العاشرة من العمر. انتقل مع زوجته الفرنسية عام 1999 إلى مدينة نيوشاتل في سويسرا واستقر هناك. شكل فرقته الموسيقية الخاصة التي رافقته في كثير من الحفلات وشارك في العديد من المهرجانات العالمية المعروفة. وهو يشتغل إلى جانب كونه موسيقياً في مجال الترجمة مع شركة سويسرية خاصة.]

حاوره: جان دوست

السؤال التقليدي الذي بات يُطرح تقريباً في مقدمة أي حوار في هذه المرحلة، كيف تعايشت أو تتعايش مع كورونا؟ ما هي تجربتك الخاصة المميزة خلال الأشهر التي مضت؟

فترة كورونا بالنسبة لي هي فترة تأمل ومراجعة حسابات، هي فترة البحث عن إجابات غير تقليدية عن أسئلة تقليدية وأنا ارى بني آدم وحواء وهم يتحولون فجأة من كائنات جبارة تعمل جاهدة على ابتلاع الكون إلى كائنات هشة وضعيفة تتخبط ولا حول لها ولا قوة في هذا الكون. بات الإنسان لا يقدر على السيطرة حتى على ما صنعته يداه.

كي لا أترك للفراغ مكانا في حياتي تحولت الى القراءة المكثفة وخاصة فيما يتعلق بمستقبل الإنسان العاقل في ظل الإيقاع المتسارع للتكنولوجيا الرقمية والخوارزميات، والذكاء الاصطناعي التي يمكنها أن تشكل على المدى المتوسط طبقة اجتماعية جديدة، طبقة الأشخاص بدون فائدة، على الأغلب سوف يندرج الفنان والكاتب والمترجم وإلى آخر القائمة في هذه الطبقة المستحدثة. إذا كان ظهور الراديو والتلفزيون والأقراص المدمجة وأشرطة الكاسيت قد قلص بشكل ملحوظ من حضور الموسيقي والمغني جسديا فسوف يعمل الذكاء الاصطناعي على إقصائه كليا من الساحة، لأن الذكاء الاصطناعي سوف يعرف عن المستمع وذوقه أكثر مما يعرفه الفنان ومدير أعماله عن هذا الأخير وذلك بالطبع عن طريق جمع المعلومات وتكديس آلاف البيانات الشخصية التي تتعلق بالشخص المستهدف من قبل الشركات والمواقع الالكترونية العملاقة. في هذه الحالة سيصبح الشخص المعني مسيرا بملء إرادته وباختياره وكأنه حر في خياراته. فالشركات والمواقع الالكترونية المتنفذة كأمازون وفيسبوك وغوغل هي التي ستدفع المستهلك بمحض إرادته إلى اختيار ما اختير له مسبقا، الزواج والملبس والمأكل ووو... أما موسيقاه المفضلة فسوف تلحن من قبل آلة ذكية تعرف عنه أكثر بقليل مما يعرفه هوعن نفسه استنادا إلى آلاف البيانات التي جمعت عنه مسبقا وهذا القليل الذي يعرفه الذكاء الاصطناعي أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك يكفي لتحديد ما سوف تختاره وتحبه ويكون على ذوقك تماما. هنا سيعلن نهائيا انتماء الموسيقي إلى طبقة الأشخاص بدون فائدة، تماما مثلما دفعت الآلة بالملايين من الناس إلى تغيير حرفهم في القرن العشرين وإنشاء طبقة البروليتاريا.

قد تسألني عن الحل؟ برأيي الحل الجزئي هو أنه على الفنان التعايش مع التكنولوجيا الرقمية وتطورات الذكاء الاصطناعي حتى يستمر في سباق غير متكافئ لأطول مدة زمنية ممكنة وأن لا ينزلق إلى طبقة الأفراد عديمي الفائدة سريعا ومن الجولة الأولى دون مقاومة. لهذا على الفنان ان يواكب التطور السريع الحاصل في مجال البرمجيات المتعلقة باختصاصه والإلمام باللغة الإنكليزية، لأن الانكليزية أصبحت شئنا أم أبينا لغة العصر والعالمية. سأوضح فكرتي: في أيامنا هذه توجد برمجيات يمكنها أن توفر علينا الكثير من الجهد والمال والوقت. لم يعد المؤلف الموسيقي، في كثير من الأحيان، بحاجة إلى فرقة موسيقية ولا ستوديو في عملية تجهيز وتوزيع وتسجيل أعماله، هناك برمجيات يمكنها القيام بهذه المهمة على أكمل وجه وبمنتهى الدقة.

أود أن أشير هنا إلى أن ما أقوله لك ليس بنبوءة وإنما احتمالات قوية.

في حوار سابق قلت إنك لا تتذكر متى بدأت الغناء. لكن ما هي الأغنية التي شدت انتباهك أكثر في طفولتك؟ ما هو المفتاح الذي فتحت به باب الغناء؟

كل ما أتذكره من الأغاني الأولى أو بتعبير أدق الدندنات الأولى هو صوت والدتي الحنون وهي تدندن بأغنية لمريم خان الفنانة المعروفة والتي كانت قد سمعتها من راديو يريفان كون والدي كان مولعا بمتابعة الأخبار والأغاني القديمة على الراديو. كانت جدتي أيضا تدندن لنا بأجزاء من ملحمة ممي الآن المشهورة على نطاق واسع.

أما مفتاح الدخول إلى عالم الغناء فكان دخول المسجلة والتلفاز إلى بيتنا بالإضافة إلى التشجيع الذي لقيته من أساتذتي في المدرسة وكذلك بعض الجلسات الغنائية التي تقام في بيت العائلة.

لكن البيئة الاجتماعية لم تكن إجمالا في صالحي، فغلبتها بالعناد والمثابرة.

حدثنا قليلاً عن هذه البيئة التي عاندت موهبتك؟ ما هي ملامحها وكيف انتصرت عليها؟

كونك من كوباني صديقي جان فأنت تعرف تماما موقف المجتمع الكوباني في أوائل السبعينيات من الفن والفنانين. باستثناء المغنين الملحميين Dengbêj لم يكن ينظر إلى الفنان بعين الاحترام والرضى. كان كل عازف وفنان يطلق عليه لقب دومان. والدومان غالبا لم تكن له مكانة في العشيرة فكان نكرة العشيرة ومنبوذاً.

أنا لم أنشأ في بيئة متدينة ولا عشائرية مغلقة، فوالدي كان كرديا تقليديا يحب الموسيقى والسفر وبعض اللهو ويصلي ويصوم من حين لآخر من باب رفع العتب. لكنه في الوقت نفسه لم يكن يسمح لنا بممارسة الموسيقى أو الغناء في حضوره. كان يحق لنا الاستماع إلى الموسيقى وليس احترافها، لذا كنا محرومين من كل الامتيازات المتعلقة بتعلم الموسيقى: لا لشراء الة موسيقية ولا لأخذ دروس موسيقية. كون الحاجة أم الاختراع، اخترعنا آلاتنا الخاصة من بقايا حاويات الزيت وأسلاك كوابح الدراجات. لم يكن أحد في العائلة يشجعنا على الغناء، أستخدم هنا صيغة الجمع لأن اخي الصغير باران كان معي في مسيرتنا. أتذكر تماما في أول حضور لي أمام الجمهور في المركز الثقافي في كوباني طلب أستاذي من والدي أن يشتري لي ثيابا خاصة بمسرحية غنائية كنا نحضر لأدائها فرفض والدي شراء الملابس لذا اضطرت إدارة المدرسة أن تشتري الثياب لي وكان عمري حينها عشر سنوات. قدمنا المسرحية أمام جمهور كبير لكن والدي لم يحضر.

كي أتحرر من المعوقات على المستوى العائلي قررت ترك كوباني في سن مبكرة لالتحق بالعمل على حفارة ارتوازية مع اولاد عمومتي وبذلك تمكنت من شراء أول آلة موسيقية خاصة بي.

 صحيح أن الغناء بالكردية لم يكن ممنوعا رسمياً في سوريا ولكن في الوقت ذاته لم يكن مستحبا ومجالات مزاولة الغناء الكردي كانت تنحصر في الأعراس وحفلات الطهور والخطوبة وهذا بحد ذاته كان عائقا أمام الغناء بالكردية. عدا عن الإتاوات المفروضة من رجال السلطة ومضايقاتهم المستمرة

أتذكر حين سجلنا أول عمل لنا، بالمشاركة مع أخي باران وأحمد جب، بكثير من الفكاهة: تم التسجيل في الغرفة الوحيدة لصاحب محل لبيع أشرطة الكاسيت. أما الأجهزة المتواضعة فاستعرناها من صديق وحملناها على أكتافنا تحت مطر كوباني وأتينا بعازف إيقاع أكثر من مبتدئ وسجلنا عشر أغاني في ساعتين تقريبا.

ما هي الذكريات التي حملتها من كوباني السبعينيات؟ كيف كان المناخ الموسيقي وقتذاك؟ ومن من المغنين الذين كنت تحب الاستماع إليهم أو حضور جلساتهم؟

تشكل أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مرحلة ذهبية في تاريخ كوباني، كل من عايش تلك الحقبة يشهد بذلك. كانت المقاهي والمطاعم تنتشر على ضفاف نهر كوباني وفي ظلال بساتينها التي كانت توصل غرب المدينة بشرقها مرورا بحارة الأرمن. كوباني القديمة بطرازها المعماري الفرنسي ودكاكينها ذات الأبواب الخشبية وأزقتها المرصوفة بالحجارة السوداء على طريقة الأحياء الباريسية. دار السينما وخمارة سركيس بوغوصيان. مشتنور بكهوفها التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين وقنواتها الرومانية التي كانت تنحدر نحو كانيا عربان. الصفير المميز لقطار الشرق السريع الذي كان يمر مرتين أو أكثر في اليوم. قرية جدي بكرومها وشجرتي اللوز. كوباني بخيراتها حيث كروم العنب المترامية والخضار والفواكه وحقول القمح الذهبية في سهل سروج. كوباني اشتهرت بتسامحها حيث الجامع يجاور الكنيسة والأرمني شريك الكردي. أتذكر كوباني بتنوعها حيث كان من الممكن أن ترى في شارع واحد محالاً تجارية للكردي والأرمني والعربي والتركماني واليهودي. كان المسيحي يبارك أعياد المسلم والمسلم يبارك أعياد المسيحي. في هذا المناخ المتناغم والجميل كانت أغاني باقي خدو تسمع في كل مكان. وكان لي الحظ أن أحضر بعض هذه الجلسات التي كانت تجمع باقي خدو مع صديقه عازف الكمان حمدي دومان والتي تركت في نفسي وفني أثرا لا ينسى.

معروف عنك أنك مهتم بالموسيقى التراثية والأغاني ذات الوزن الثقيل إن صح التعبير، لماذا اخترت هذا اللون الصعب؟ ألا ترى أنك صرت على مسافة بعيدة عن الجيل الحالي الذي لا تهمه سوى الأغاني ذات الإيقاع السريع؟

سوف أبدأ من الشطر الثاني لسؤالك، أعتقد أن هذا البعد وهذه المسافة ليس سببها طبيعة الأغاني بقدر ما هو كيفية إيصالها إلى هذه الشريحة وبأية حلة يتم تقديمها. على سبيل المثال أعطني ستوديو مجهز وموسيقيين جيدين ومنبر إعلامي وسترى كيف لأغنية فلكلورية شهيرة مثل إيموÊmo  أن تصبح أغنية حديثة يتذوقها الجيل الجديد. عندي أغانٍ كثيرة تلائم روح الشباب المعاصر بكلماتها وإيقاعاتها وأجوائها لكنني في الوقت ذاته اتجهت الى هذا النوع من الغناء الملحمي والتاريخي لسببين، السبب الاول والاهم هو انني كأي كردي اردت التعويض عن حرماني من هويتي وتاريخي ولغتي عن طريق الاغاني، هذه الاغاني هي الدليل القوي على عراقتي ووجودي. اما السبب الثاني فهو ان هذه الاغاني تلائم طبيعة صوتي الملحمي التراجيدي.

 في كثير من حفلاتك نراك تغني بدون آلة مع أنك عازف ماهر وموسيقي بارع، هل هذا التقليد سببه اللون الذي تغنيه أم أن الآلة تعيقك عن الاسترسال في الغناء والتركيز على الأداء المتقن؟

نعم كلامك صحيح والجواب يكمن في السؤال. لكنني أحب أن أنوه إلى أنني قمت بتأليف مجموعة كبيرة من القطع الموسيقية لآلة البزق ويمكن توزيعها لفرقة موسيقية كاملة.

تعتبر أن أوربا أصبحت وطناً، ترفض أن تسميها منفى. كيف تحل معادلة المنفى والوطن؟ ماذا تسمي إذن كوباني التي تركتها منذ سنوات طويلة؟ هل ما زالت وطناً تحلم بالعودة إليه؟

وطنك هو المكان الذي تعيش فيه بكرامة. كثير من الأوطان تحولت الى منافي دائمة لمواطنيها.

هنا في أوروبا عرفت قدر نفسي وعرف الآخرون قدري لذلك أنا مدين لأوروبا بشكل عام ولسويسرا وفرنسا بشكل خاص وأعتبرهما كوطنين لي سأدافع عنهما كما أدافع عن كرديتي ردا للجميل الذي قدماه لي. أما كوباني فهي الجذور حيث ستظل جزءا من قلبي مدفونا هناك في مكان ما. اشتاق ألى كوباني وذكريات الطفولة وأحب أن اراها ولو لمرة واحدة.

ما هو جديد الفنان مجو كندش؟ هل تعمل على إصدار موسيقي قادم؟ وهل من معوقات تقف أمامك وتحول بينك وبين طموحك الموسيقي؟

هناك مشاريع واعدة وعديدة تحتاج فقط إلى أرضية لانبعاثها والعمل عليها. من هذه المشاريع أداء أغانينا الإيقاعية الفلكلورية مع ربع الصوت الشرقي وبدونه بأسلوب المحاورة وبآلات غربية وشرقية مختلطة. أما المعوقات فأكثرها يمكن تجاوزها بإجراء بعض التفاهمات والتوضيحات وقليل من التنازلات التي لا تمس المبادئ والتي تسير في الصالح العام. لا أريد أن أتحدث كثيرا هنا عن المعوقات لأن المعوقات الأساسية هي معوقات آنية ومرتبطة بطبيعة هذه المرحلة فالفلاح لا يمكن أن يحصد أثناء المطر، عليه أن يتحلى بالصبر. برأيي الطموح كمفهوم لا ينطبق على الموسيقى. الطموح الأول للموسيقي هو أن لا يكون موسيقيا فاشلا بالمعنى الفني. أما الامتيازات والأضواء وإقامة المشاريع فهي تحصيل حاصل وليست طموحات.

وطنك هو المكان الذي تعيش فيه بكرامة. كثير من الأوطان تحولت الى منافي دائمة لمواطنيها. هنا في أوروبا عرفت قدر نفسي وعرف الآخرون قدري لذلك أنا مدين لأوروبا بشكل عام ولسويسرا وفرنسا بشكل خاص وأعتبرهما كوطنين لي سأدافع عنهما كما أدافع عن كرديتي ردا للجميل الذي قدماه لي. أما كوباني فهي الجذور حيث ستظل جزءا من قلبي مدفونا هناك في مكان ما. اشتاق ألى كوباني وذكريات الطفولة وأحب أن اراها ولو لمرة واحدة.

الدف كآلة إيقاعية تضفي للموسيقا نوعاً من الروحانية ونرى هذه الآلة ترافقك في بعض الأغاني في يد ضارب الدف الماهر عباس بختياري. ما رأيك بالموسيقى الصوفية؟

الموسيقى والطقوس والشعر والرقص الصوفي جزء مهم من تاريخ الشعب الكردي وأنت تعرف صديقي جان سيرة الصوفية الكردية وطرقهم أكثر مني. الذكر والحال يشكلان العمود الفقري في الحلقات الصوفية والتكيات ومدينة أورفا القريبة من كوباني مشهورة جدا في هذا المضمار. كذا قمت بتلحين بعض القصائد والمدائح الصوفية وأسست مع الأستاذة في علم التصوف والراقصة الصوفية المعروفة Rana Gorgani  مجموعة صوفية تضم موسيقيين من دول إسلامية عديدة والأستاذة كوركاني تدرس التصوف وطقوس الرقص الصوفي في باريس والكثير من المدن الاخرى. دعني أحدثك عن بداية لقائي بها. في العام 2014 دعيت إلى تركيا لتقديم عمل صوفي ضخم يضم أكثر من 20 فنانا من مغن وراقص وعازف وقارئ. أعددت العمل بأربع لغات هي الكردية والعربية والفارسية والتركية حيث يجتمع كل من الشعراء Melayê Cizîrî ورابعة العدوية ومولانا الرومي وYunus Emre الجميع يغني على مقام واحد مشترك بين الشعوب اأاربعة ولكن كل واحد بلونه وهويته. لكن المشروع توقف بسبب هجوم داعش على كوباني وأنت تعرف البقية...

في العام 2016 دعيت من قبل المعهد الكردي في باريس للمشاركة في احتفال عيد نوروز الذي أقامته بلدية باريس في مبنى البلدية التاريخي الفخم وكان الأستاذ شفان برور والكاتب المعروف برنارد هنري ليفي والسيد سيروان بارزاني ورئيسة بلدية باريس السيدة ان هيدالكو والسيد كندال نزان مدير المعهد الكردي في باريس وحضور أكثر من ألف شخص آخر، ففكرت بدعوة السيدة كوركاني، أيضاً، وهي بدورها لم تخيب أملي بل لبت الدعوة وبدأ بيننا تعاون مشترك نتجت عنه حفلات في دول عدة وما زال هذا التعاون قائما.

في حين نجدك في أهم المهرجانات الموسيقية العالمية نراك بعيداً عن مهرجانات وطنك؟ هل لأن السبب كما يقول المثل الكردي عشبة الدار مرة؟

بلادنا بجهاتها الأربع ليست بخير وأمان وازدهار وهذا بالطبع يلقي بأثقاله وظلاله على كيفية التعامل مع الفن والفنانين والمهرجانات الفنية. هذه المهرجانات تقام أساسا من قبل أشخاص متنفذين ولغايات في نفوسهم وليس على مبدأ بناء الذوق الكردي العام وتوجيهه بحيث يفتخر الكردي بموسيقاه وإن كانت هذه الموسيقى "متواضعة" عوضا عن شعوره بالنقص تجاه موسيقى الشعوب المجاورة. وإلا فكيف نفسر إقبال الجمهور الكردي بالآلاف على حفلة مغن تركي أو لبناني وينفرون من فنان كردي خدم تراثه طيلة حياته؟ وبدوره نرى الإعلام الكردي ينشر أخبارا عن الفنانين الأجانب أكثر مما ينشره عن الفنان الكردي مهما كانت مكانته، وكأنهم بهذا يحولون المجتمع الكردي إلى مجتمع مستهلك حتى على مستوى الأخبار التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

برأيي إن تعامل الأكراد مع الإدارة حديث نسبيا وإن الكردي بشكل عام لم يتحرر بعد أو بمعنى آخر لم يخرج بعد من عقلية المحارب أو المحارب بفتح الراء وإن الفن لم يكن يوما من مهام المحارب. أعتقد أن الفنان الكردي الذي خدم شعبه وتراثه وافتخر بهما ليس بحاجة الى شهادة حسن سلوك من أحد مهما كان هذا "الأحد". أنا شخصيا أحييت العشرات من الحفلات باسم كردستان في جميع أنحاء العالم وهذا ما أفتخر به وأعتبره عنوان إخلاصي المطلق لجذوري ولا أنتظر مقابلا من أحد فالواجب لا يثمن. أنا أعيش في سويسرا وأعرف كيف يضع الناس المصلحة العامة أمام المصلحة الشخصية وهذا هو مفتاح المواطنة الصالحة. وإن القانون لا يعلى عليه وهذا هو مفتاح العدالة والمساواة.

نعم، تعيش الآن بهدوء في بلدتك السويسرية الجميلة، بعيداً عن الصخب والأضواء. هل هذا اختيار نهائي؟ هل هو نوع من الانتقام لصخب أيام الشباب الذي اشتهرت به؟

كان المغني الكردي الشعبي باقي خدو يقول عمري 83 عاما وما زال قلبي يرفع رأسه كشاب في الرابعة عشرة. أنا اعمل بهدوء ولست بنائم ولا خامل.

 بكل حزن أقولها، ليست هناك أضواء بل ضوضاء وصخب وغبار يشوش ويشوه ولا يفيد. حين تكون هناك أضواء حقيقية في الأفق سوف تجدوني بلا شك على رأس الدبكة.

لقد انتقلت بين هويات موسيقية عديدة: كردية وعربية وفارسية ومؤخرا غربية. كيف تحدد خصوصية الهوية الموسيقية ومقوماتها؟

فيما يخصني فإن الموسيقى الكردية هي الموسيقى الوحيدة التي أعيشها بروحي أما الموسيقى الأخرى فأقوم بأدائها فقط.

الموسيقى ليست فقط عبارة عن اهتزازات تنتج عنها أصوات مركبة ومتناغمة، إنما هي أكثر من ذلك بكثير. إن موسيقى مجموعة ما من البشر أو شعب ما أو قارة ما هي الحاضنة الأساسية لشعوره الجمعي. فالموسيقى تشبه إلى حد ما ذهنية مجموعة ما وتعبر عن بيئتهم بالمعنى العام للبيئة فهي مجموعة فريدة ومركبة ومعقدة من المشاعر والحقائق والأساطير والأكاذيب والأماكن تتداخل وتشكل هوية موسيقية معينة. لا يمكننا أن نتخيل انتماء موسيقى موزارت إلى جبال كردستان.  ولو عاش محمد عبد الوهاب في فيينا لكان ألف موسيقى مختلفة عما قام بتأليفها وهو في مصر ولو أمضى عارف جزيري أيامه في لندن ربما كان قد أصبح مغني روك.

المكان واللغة والمزاج العام هي التي تنتج الموسيقى التي تتناسب مع أذواق الجمهور المنتمي لتلك البيئة وبالتالي تترسخ في وجدان الناس كمعبر حقيقي عنهم وكهوية حضارية يفتخرون بها.