أجري هذا اللقاء عقب عرض أفلام المخرجة السورية سؤدد كعدان التي تضمنت «عزيزة» (٢٠١٩)، «يوم أضعت ظلي» (٢٠١٨) و«عتمة» (٢٠١٧). حصل فيلم «يوم أضعت ظلي» على جائزة «أسد المستقبل» لأول عمل روائي في مهرجان فينيسيا للأفلام.
إيزيس نصير: كيف كانت بداياتك مع السينما؟
سؤدد كعدان: درست المسرح بالمعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق وهو من أقوى المعاهد بالوطن العربي في مجال المسرح. لكن لم أجد نفسي بالمسرح ولم يكن هنالك في ذلك الوقت معاهد لدراسة السينما. حصلت على منحة بعدها من الجامعة اليسوعية في لبنان كي أكمل دراسة الماجستير. عندها قررت أن أدرس سينما بدل المسرح.
أنجزت فيلماً وثائقياً عام ٢٠٠٨ اسمه «مدينتين وسجن». صديقي كان يعمل وقتها على مسرحية تفاعلية والفيلم مبني على عمل المجموعة في مدينتي القامشلي والحسكة وفي سجن الأحداث في دمشق. لقد أخرجت فيلماً تلفزيونياً عام ٢٠٠٩ عن أربع نساء سوريات متميزات اسمه «البحث عن اللون الوردي». الفيلم كان من انتاج الجزيرة الوثائقية. ثم عملت بعدها فيلماً آخراً للجزيرة الوثائقية عن مدينة دمشق اسمه «سقف دمشق وحكايات الجنّه» (٢٠١٠). الفيلم هو عبارة عن رسالة حب للمدينة. هذا كان آخر فيلم عملته بالشام وعرض قبل شهر من بدء الحراك. المدينة تغيرت كليةً من وقتها وهذا الفيلم يعني الكثير لي وللدمشقيين/ات.
عندما بدأت الحرب في ٢٠١١ صار معي صدمة ولم أعد قادرة على صنع الأفلام. أحسست أنه لا يحق لي أن أعمل فيلماً عن كل هذا الوجع. إذ أن ألم الواقع أقوى من أن أنقله بصورة أو عبر فيلم أعرضه في مهرجانات سينما. بدأت عندها بكتابة الأفلام الروائية.
إيزيس نصير: فلنبدأ بفيلمك الروائي الأول، «يوم فقدت ظلي» (٢٠١٨). الفيلم عبارة عن رحلة طريق في واقع مكسّر. هل باعتقادك يمكن للسينما أن تنقل تجربة الحرب؟
سؤدد كعدان : بقيت في سوريا حتى أواخر عام ٢٠١٢ ثم انتقلت بعدها إلى بيروت. أسست شركة إنتاج مع أختي وخرج الفيلم للضوء عام ٢٠١٨. وكان مفاجأة جميلة جداً، إذ عرض في البداية في مهرجان فينيسيا وفي مهرجانات دولية عديدة بعدها. لقد سافرت مع الفيلم الذي يعبر عن ألم وصدمة، وعن معنى أن تعيش الحرب وأن تفقد ظلك.
كان من الصعب إنجاز الفيلم، لأنه كان علي أن أصور في بيروت كما لو أنها سوريا. وعندها شعرت بالفقدان المضاعف لمدينتي، ومكان التصوير الذي اعتدت عليه، والذي ألفته ويعرفني. المكان هو مثل شخصية بالفيلم له طابعه وشخصيته المميزة. لذلك كانت الخسارة مضاعفة بالنسبة لي من حيث كوني مخرجة حكاياتها عن سوريا. لقد فقدت المكان الأساسي الذي أحكي عنه، وحاولت أن أخلق صورة ثانية لسوريا. كان هذا عملاً جباراً لفيلم مستقل بميزانية صغيرة كفيلمي، إذ أن لبنان يختلف بشكله الجغرافي، والمناخي والمعماري عن دمشق. لذلك قمنا بتصوير الفيلم في كل أنحاء لبنان، من عكار إلى بيروت وطرابلس.
سامر إسماعيل، رهام القصار وسوسن إرشيد في مشهد من «يوم أضعت ظلي»
كانت الواقعية السحرية هي الحل الوحيد أمامي كي أحكي قصة الفيلم. كان الألم بالنسبة لي أكبر وأبشع من إمكانية نقله على شاشة السينما. وكنت أتساءل عن إمكانية السينما التعبير عن حالة الحياة في وقت الحرب. لقد كنت أنظر إلى صور من مراحل مختلفة من الحروب ووجدت صوراً لهيروشيما في اليوم التالي بعد إلقاء القنبلة الذريّة. رأيت صوراً بالأبيض والأسود لظلال الناس وقد حرقت على الأرض. عندها شعرت أن ذلك يشبه ما يجري في سوريا، فالناس تعيش وكأنها فقدت ظلها. فقدان الظلال هو تعبير عن حالة الصدمة، كأن تجربة الإنسان الذي عايش الحرب تختلف عن تجربة الإنسان الذي لم يـ/تعش الحرب. أنت تخسر/ين إيمانك بالأشخاص الذين ينتمون إلى نفس المكان، والعلاقات الحميمية تنقلب رأساً على عقب. ففي الحروب الاهلية، العدو هو الجار الذي يعيش في نفس البلد. أصدقاء ممكن أن تكونوا قد ذهبتم/ن معاً الى نفس الجامعة، والآن يريدون إلغاءك. العلاقة مركبة.
مشاهد من «يوم أضعت ظلي»
«يوم أضعت ظلي»، هو فيلم مستقل، وليس فيه خطاب مباشر عن الحرب. هو يطرح تساؤلات تتعلق بمعنى أن تكون إنساناً، أن تعيش تحت وطأة الحرب، وأن تحكي عن هموم الناس. الفيلم يحكي قصة امرأة (أم) تقابل امرأة أخرى متمردة أصغر منها بالعمر. في الحقيقة، المرأتان تتحدثان وكأنهما شخصاً واحداً ولكن من جيل مختلف. موقفهن من الحرب كان مختلفاً أيضاً. الفتاة اليافعة كانت غير متسامحة. ربما هذا جزء من غرور الشباب. نحن نرفض بعضنا ولا نعرف كيف نتقبل الآخر. علينا أن نبدأ بتعلم كيف نحاور بعض.
مشاهد من «يوم أضعت ظلي»
الفيلم يأخذ المشاهد في رحلة. هذا هو نفس الشعور الذي تشعر/ين به أثناء الحرب، شعور أنك ذهبت إلى مكان ما بدون اختيارك. وهنا تبدأ عملية الفحص ومراجعة قناعاتك واعتقاداتك. عندما خرجت الأم من دمشق إلى القرى والأرياف، رأت بشاعة الحرب. لكنها اكتشفت أشياء حلوة وصداقات جديدة. أصبحت تدريجياً مشاركة أكثر بما يحدث، بعد أن كانت ترفض ذلك.
إيزيس نصير: فيلمك الوثائقي، «عتمة» (٢٠١٧)، يختلف عن الأفلام الوثائقية الأخرى التي حكت عن الحرب في سوريا. الكاميرا كما لو أنها حاضرة/غائبة. الفيلم مليء بالستائر والضباب، ويطرح مساءلة عن إمكانية الأطفال أن يحكوا عن الحرب.
سؤدد كعدان : في هذا الفيلم أردت أن أصور قسوة صمت طفل، أحمد، عاش الحرب. أردت أن أصور الصمت لا الصراخ. الجمهور عادةً لا يقدر أن يستحمل هذا الوضع، إذ يشعر بالعجز أمام عيني الطفل اللتين اختارتا الغياب عن هذا الواقع. بدأت في تصوير الفيلم في دمشق، ولكنني لم أستطع أن أكمل التصوير، إذ أن الحرب عملت لي صدمة. بالنسبة لي العملية الإبداعية هي عملية عاطفية، عقلية وجمالية. لم أستطع أن يتحكم عقلي بكل هذا الألم، لذلك كنت أصور قليلاً وأترك الكاميرا لفترات طويلة. الناس الذين لم يدرسوا سينما عملوا أفلاماً أسرع عن الحرب، إذ أن الجانب العقلي والجمالي لم يكوّن بالنسبة لهم/ن ثقلاً يعرقل التصوير. العاطفة كانت متحكمة، لذلك كانت هنالك أفلام كثيرة عبارة عن صرخة عما يجري في سوريا.
الطفل أحمد في «عتمة»
في «عتمة»، لم أستطع أن أعود إلى التصوير حتى فهمت ما جرى لي، الصمت، عدم الرغبة بالتصوير، وعدم القدرة على الكلام. عندها قررت أن أغير مسار الفيلم ليحكي عن الصدمة والصمت الناتجين عن الحرب. لقد قابلت الطفل أحمد أثناء تحضيري للفيلم. لم أصوره في البداية. أردت أن يعتاد علي أولاً. مدرسته قالت لي إن لديه توحد، ولكن كان لدي شعور بأن هنالك شيئاً آخر، ولذلك حاولت أن أستشير مستشارة نفسية أثناء إنجاز الفيلم التي أكدت أن لديه صدمه. أول مرحلة في التصوير كانت صعبة علينا جميعاً.
يبدأ الفيلم مع الطفل عبر لقطات قريبة. أحمد يبقى ساكتاً وليس هنالك موسيقى أو ألوان. وكلانا لا نتحرك ونحاول عبر الصمت أن نفهم ما جرى. على الرغم من أن أحمد يبلغ من العمر سبع سنوات، إلا أن شعورنا كان متشابهاً، وكأننا شخص واحد. لذلك الأسئلة المطروحة في الفيلم: "بتقدر تنام؟ بتتذكر؟ بدّك تتذكر؟ من وين إنت؟“ هي نفس الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي. الطفل جعلني أرى هذا الشيء. عمل الفيلم كان مداوياً لنا الاثنين، والأسئلة هي جزء من العملية الفنية، ومن الصمت وكيفية التعبير بالكلمات عما يحدث. يتغير أحمد تدريجياً عبر إيقاع بطيء.
مشهد من «عتمه» في مخيم شاتيلا
إيزيس نصير: الطفل أحمد يسكن مع عائلته في مخيم شاتيلا في بيروت. يقطن الكثير من اللاجئين السوريين في هذا المخيم الذي أعدّ بالأساس لإيواء اللاجئين الفلسطينيين. هنالك طبقات لجوء متراكمة في هذا المكان.
سؤدد كعدان : مخيم شاتيلا في بيروت هو عبارة عن قنبلة موقوتة. الناس محصورة بهذا المكان وليس لديهم/ن حقوق أساسية، تصاريح إقامة، فرص عمل أو إمكانيات تعليم. الطفل جاء من درعا. عندما تسألينه "شو بتحب؟"، يقول لك، "شاتيلا". ذاكرة المكان الغائبة عنده، الحاضرة عندنا، تجعل هذا الجواب أقسى. بالنسبة إليه مخيم شاتيلا هو مكان جميل. هو يرفض أن يتذكر درعا. يحب بحر لبنان لكن البحر بعيد عنه.
مشهد من فيلم «عتمة»
ميزانية الفيلم كانت صغيرة جداً، وقد صورناه على مراحل عدة على مدى ست سنوات (٢٠١١-٢٠١٧).
إيزيس نصير: الفيلم القصير، «عزيزة» (٢٠١٩)، يحكي أيضاً عن اللجوء وعن العلاقة مع الزمان والمكان.
سؤدد كعدان : عزيزة هو نتاج ورشة أفلام اشتركت بها في العام ٢٠١٨. عزيزة هنا هي السيارة، والبيت والحنين إلى الماضي وإلى سوريا. الفيلم يحكي عن التكيف مع المكان وإمكانية أن تكون سورياً/ة في لبنان. معظم الأفلام التي طرحت موضوع اللجوء، حاولت أن تمثّل شكلاً واحداً للاجئ/ة. أنا أحاول ألا أنمط الإنسان في أي من افلامي.
مشهد من فيلم «عزيزة»
هنالك لحظة عفوية، هي من أجمل لحظات الفيلم حيث يقف الممثل عبد المنعم عمايري ويحكي مع السيارة ويتمنى بشكل افتراضي ساخر أن يكون الشخص الذي دهسوه سوري. يقول، "شكله سوري!" هذه اللقطة الإرتجالية كانت أجرأ من أن اكتبها بنفسي. في الحقيقة كان إرتجاله إعتماداً على تجربته القاسية إثر حادث سيارة في لبنان.
يبدأ الفيلم من داخل السيارة في مصف للسيارات في عمارة. يحاول أيمن أن يعلّم عليا (زوجته) القيادة، لأنه خائف أن يقود السيارة في شوارع بيروت بنمرة سيارة سورية.
كاريس بشار وعبد المنعم عمايري في مشهد من فيلم «عزيزة»
الفيلم كانت له أصداء حلوة. عليا، الممثلة كاريس بشار، تصرّعلى الخروج وسواقة السيارة. المرأة لديها قدرة أكبر من الرجل على التكيف في هذا المكان الجديد. السيارة وقيادتها تعبر عن جزء من حالة البلد. هم يسوقون السيارة في مكان مسدود. والسيارة تصبح غرضاً يعبّر عن الوضع الحالي، عن فقدان الوطن.
مشهد من فيلم «عزيزة» مع صورة لساحة المرجة في دمشق
إيزيس نصير: في الفيلم القصير، «خبز الحصار» (٢٠١٦)، جردت الجندي بشكل فعلي ورمزي من عسكريته.
سؤدد كعدان : هنالك كثافة رمزية وبصرية في هذا الفيلم. يبدأ الفيلم بالجنديين وهما يطلقان النار على الشجر. لقد أصبحوا آلة للقتل، لكن عبثية الوضع تجعل واحداً منهم يطلق النار على الآخر. بسبب هذا الخطأ، على الجندي أن يخلع بدلته العسكرية. السؤال هنا يتعلق بمعنى أن تكون إنسانا، أو جندياً، بزيّ عسكري أم لا. كيف يتغير الإنسان أثناء الحرب عندما يلبس البدلة العسكرية؟ هذا الفيلم مبني على قصة حقيقية، فقد كان الجنود يطلقون النار على الشجر، ليتأكدوا من أن أحداً لا يختبئ خلفها. هذه القصة الحقيقية إن وضعتها في إطار سينمائي تصبح لها رمزية عالية.
إيزيس نصير: يدور النقاش دائما عما إذا كانت الأفلام المصنوعة خلال فترة الحرب من الداخل أو الخارج السوري.
سؤدد كعدان : الأفلام هي نتاج لمواقف مختلفة عن الحرب، والموت والحياة. الزمن سوف يلغي هذا التصنيف ويبقى فقط الفيلم الأصيل والمحتوي على نزاهة فكرية، وشكل فني سينمائي. هنالك، للأسف، رغبة بالتلصص بالنسبة لأحداث الحرب والانفجارات، وهذه الأفلام تلغى مع الزمن. لا يعود هنالك داخل أو خارج، يبقى فقط الفيلم الجيد.
إيزيس نصير: هل تعتقدين أن هنالك سينما خاصة بالمرأة؟
سؤدد كعدان : هنالك حساسية خاصة للمرأة في صنع الأفلام. أنا أتابع أعمال مخرجات في العالم العربي والغربي مثل كوثر بن هنية وأندريا أرنولد، وجين كامبيون. هنالك مشكلة حقيقية تتعلق بأن عدد النساء المخرجات هو قليل جداً. صناعة السينما غير متاحة دائماً للمرأة في العالم العربي. لهذا تجدينهنّ ينتجن أعمالهن بأنفسهن. لقد أصبحت أنا أيضاً منتجة حتى أستطيع أن أصنع أفلامي. وبعد كل صعوبات إنجاز الفيلم، نجد البعض يقول إنه لاقى نجاحاً لان مخرجته امرأة! لكن حتماً هنالك الآن تغيير في صناعة السينما، وفي هذا المجال الزمن في صالحنا كمخرجات سينمائيات. هنالك اهتمام بحكايتنا كنساء من الشرق المتوسط ومن سوريا. أنا ممنونة أن فيلمي، «يوم فقدت ظلي»، لاقى الإعجاب ووجد مكانه بالمهرجانات.
إيزيس نصير: على ماذا تعملين الان؟
سؤدد كعدان : أنا أعمل حالياً على فيلم «نزوح». الفيلم يروي قصة فتاة مراهقة تعيش في بيت مغلق حيث الأب لا يريد أن يترك سوريا كي لا يسمّى لاجئاً. الفيلم يحكي عن لجوء ما قبل اللجوء، وعن رفض وإصرار الأب حتى يصبح ذلك نوعاً من الجنون.