[أجرى الحوار: أسامة إسبر]
فصيح كيسو مصور خارج عن المألوف، ومتمرد على الإطار، الصورة بالنسبة له دوماً تعيش خارج نفسها وتتوق إلى التوسع، ولهذا تتحول إلى فضاء، وفي هذا الفضاء تتجاور الأشكال وتُجهز وتتعانق وتخلق انسجاماً يولد إيحاءات مختلفة، والجسد حاضر في وسط كل هذا، تائقاً كشكل بصري ووجودي إلى فضاء الحرية، لكن عريه ليس تجرداً من الثياب بقصد الإثارة، بل هو خلع لجلد الثقافة، ووقوف في العراء الثقافي والديني والأخلاقي لثقافة ميتة لم يبتق منها إلا أدوات قمعها الصدئة. هكذا تتحول الصورة إلى أثر فني يطلق صرخة احتجاج، ويدخل الفوتوغراف في أبجدية جديدة تلعب عناصر كثيرة مختلفة دوراً في لغتها الفنية.
فصيح كيسوا فنان سوري من مواليد الحسكة هاجر إلى أستراليا حيث واصل نشاطه الفني، متخطياً الحدود الجغرافية كما تخطى الحدود الفنية، وفي هذا الحوار، يتحدث عن نظرته إلى فن الفوتوغراف، ويضيء جوانب من رحلته الفنية من الإضاءة والتضاد والانعكاس إلى آفاق التجاور والتجهيز وتداخل الفنون في أفق ما بعد الحداثة مؤكداً أن الغرابة واللامتوقع وقيمة الإضاءة ودرجة الإحساس هم ما يحدد إبداعية الصورة.
أسامة إسبر: ما الذي جذبكَ إلى عالم التصوير، كيف اخترتَ هذا الخط الفني في الحياة، وما المؤثرات الأولى التي لعبتْ دوراً في ذلك؟
فصيح كيسو: كانت تلك الكاميرا التي اشتراها والدي من بلغاريا وكنا مراهقين مغامرين في مدينة الحسكة، ووجدت نفسي أنفق كل مدخراتي على تصوير تحركات الشلة، وكانت صوراً لألبومي الخاص. ومع دخول الخبراء الروس في عجلة الاقتصاد السوري دخلت كاميرات الزينت وكاميرا8 مم السينمائية ووصلت لي عبر خالي الذي كان يعمل معهم. يبدو أن هناك علاقة نشأت منذ مراهقتي مع هذه الآلة التي أصبحت ترافقني طيلة حياتي حتى الآن. وفي الحقيقة لم أنتبه إلى القيمة الفنية للكاميرا إلا عندما أصبحتُ طالباً في معهد الفنون في بيروت وتحديدا على الروشة بعد تلك اللقطات بكاميرا زينت مسخدماً فيلماً بالأسود والأبيض والتي بيعت كلها خلال عرض لأعمال الطلبة، عندها دعاني زملائي باسم مصور ضوئي. كانت الإضاءة والتضاد والانعكاس وموضوع الطبيعة هو المحور الأول الذي عملت عليه.
[الصورة: لقطة من معرض " إنهم يقتلون الراقصات، أليس كذلك؟“ الذي أقيم في صالة جيرترود للفنون المعاصرة عام 1996. في الخلف طباعة كومبيوتر على الڤينيل وفي المقدمة فيديو مدته 40 دقيقة على ستة اجهزة تلفزيون.]
أإ- كيف اكتشفتَ تلك النقلة من شخص هاو للتصوير إلى فنان يبتكر عوالم مختلفة بالصورة؟
ف. ك: شدتني المشاهد حولي إن كانت طبيعة أو حركة الشارع أو أشخاصاً، وكانت محاولاتي الخاصة بامتلاك مهارات التصوير الضوئي الدافع الأول، رسخها صاحب مخبر لطباعة الصور في منطقة الحمراء من خلال إعجابه الشديد بأغلب صور أول فلم 36 صورة أخذته بطريقة احترافية. فقد كنت أدون قيم فتحات العدسة وسرعة الغالق ووقت اللقطة لمعرفة النتيجة. ومن خلال اهتمام وإعجاب زملائي وأساتذتي بمعهد الفنون بصوري، وقتها في بداية الثمانينات لم يكن التصوير الضوئي في البرامج الأكاديمية ضمن إطار الفنون.
[الأبواب الثمانية، إكرليك على صور بالأسود والأبيض، 8 قطع بقياس كل واحدة 50x60 سم، 1996.]
إ: ما هي أبرز محطة تعتبرها نقطة تحول في تجربتك الفنية؟
ف. ك: تعددت التقنيات والأساليب التي عملت عليها. بدايتي كانت الصورة بالأبيض والأسود تخللتها تجارب باستخدام الألوان على الصورة هذا كان في بيروت، ثم تدريجياً في أستراليا طغى استخدام اللون والفرشاة على الصورة إلى درجة أنه غيبها أو حجبها كون الجسد العاري كان العنصر الأساسي فيها. الصورة بحلتها البيضاء والسوداء المتألقة قبل ظهور التصوير الرقمي ومن ثم أدخلت الفيديو في تكوين العمل الفني والذي عنصره الأساسي لا زال الصورة. تلتها مرحلة استخدام تقنيات متعددة في تشكيل العرض عندي فكان الأداء الحي وتجهيز الفيديو والصورة الملونة والطباعة المتنوعة والإضاءة والصوت والموسيقى، إلى درجة أن بعض الأعمال فرغت من الصورة الضوئيّة. إنها ليست نقلات بل تتداخل في التخصصات أي تداخل الصورة مع اللون مع الفيديو والأداء وغيرهم. ولكن الصورة ظلت عنصراً هاماً من العناصر التي أستخدمها في أغلب أعمالي التي أقدمها.
[حانوت كيتي، قماش وصور مطبوعة بالألوان على القماش، تطريز، قياس 350x220 سم، 1998.]
أ.إ: ما الصورة الإبداعية بالنسبة لفصيح كيسو؟ ما الذي يجب أن يتحقق في الصورة كي نقول إنها صورة إبداعية؟
ف. ك: الغرابة، أي اللامتوقع من ناحية الموضوع وحدود الصورة أي تأطيرها ولا يهم إن كانت بالأسود والأبيض أو بالألوان. وأيضاً تكون ابداعية إذا كانت تقنياً مدروسة من ناحية فتحة العدسة وسرعة الإغلاق أي قيمة الإضاءة بالمشهد المصور ودرجة الإحساس بها.
[أحلام أولاد، من مجموعة صور ضوئية باستخدام الفلم مع تدخل بالكمومبيوتر، طباعة الكترونية على ورق معدني، قياس 140x110سم، 2008]
أ. إ- ما الخصوصية الإبداعية لفن التصوير، بالمقارنة مع الفنون الأخرى كالفن التشكيلي (الرسم) والنحت؟
ف.ك: الزمن، التصوير الضوئي فن يسجل حدثاً ما يحدث خلال ثانية أو جزء منها في زمن ومكان لا يمكن إعادته فهو ليس قابلاً للتكرار ولا يحتاج إلى زمن طويل لإنجازه كما في التشكيل ولهذا يعتبر من الفنون المؤقتة.
أ.إ: أنت فنان يميل إلى التجريب وإلى استخدام تقنيات مختلفة، هل تهدم الصورة من أجل صور كامنة فيها أو خلفها، أم تكتفي بالتنقيب عن الصورة، بالعثور عليها، كشيء مجهول؟ أم ترى أن الصورة غير كافية ولهذا تضيف إليها عناصر أخرى؟
ف.ك: الصورة كونها شكلاً تعبيرياً معاصراً فهي بحد ذاتها كافية، ونظرا لقيمتها المعاصرة فقد استخدمت بكثرة ووظفت لأن تكون عنصراً من عناصر الفن المعاصر خاصة الفن الذي يعتمد الفكرة كبنية له. فالفن المعاصر أو فنون ما بعد الحداثة أدت الى تهديم الصورة بشكلها الثابت أو الكلاسيكي الذي ظهرت عليه، بأنها أصبحت جزءاً من أدوات التعبير في العمل الفني، وفي الحقيقة لولا الصورة لما تطور أو أخذ الفن المعاصر هذه الإشراقة والعمق المعرفي. ولهذا بالنسبة لي كمصور ضوئي كما كنت في بداياتي الفنية ساعدتني الصورة على الغوص والتجريب وتكثيف الحالة الفكرية والتقنية لأعمالي خاصة فيما يتعلق باستعمال الفلم والفيديو. ولكن لازالت الصورة كما بدأت أو الصورة الفكرية كافية، فأنا أتنقل حسب شكل العرض ومفهومه بين الصورة وبين استخدامها مع عناصر خرى.
[الصاعقة، 30x40 سم، قلم باستيل على صورة بالأسود والأبيض، 1990
المفكر، 30x40 سم، قلم باستيل على صورة بالأسود والأبيض، 1990]
أ.إ- كيف أثرت تجربة السفر في تصويرك؟ خاصة أن السفر نقلك إلى فضاء بصري مختلف، كيف تعاملت مع هذا التنقل فوتوغرافياً؟
ف.ك: ليس السفر والتنقل لدي هو للبحث عن صورة ضوئية مختلفة إنما لإغناء المعرفة البصرية والفكرية، كوني أستخدم في فني مواد متعددة، قد أسجلها بكاميرا تصوير ثابتة أو متحركة، أو قد تسجل يدوياً كبدايات لأفكار قد تطبق أو تبقى في الأرشيف. لا شك أن اختبار الأمكنة المختلفة بصرياً وثقافياً يغني أي إنتاج إبداعي. من جهتي حالياً لا أعتبر نفسي فقط مصوراً ضوئياً بالرغم من أن كاميرتين كانتا ترافقانني دائماً، الكاميرا الثابتة والمتحركة، ومع تطور أو تغير الصيغة التعبيرية في إنتاجي الفني فقد أصبح السفر ينقلني إلى فضاء فكري مجتمعي سياسي ولم تعد الكاميرا الثابتة توصل الفكرة لدي لأن الادوات أصبحت متعددة في إنتاجي الفني ولم تعد تقتصر على الصورة الثابتة ليس لفشلها في إيصال الفكرة إنما لرغبتي في التجريب
[تكوين، صورة بالاسود والابيض، 30x30 سم، 1989 عرضت هذه الصورة في تونس وبيروت ودمشق عام 1990]
أ.إ: أنت من الذين مزجوا بين التصوير والتشكيل، أخرجتَ الصورة من فوتوغرافيتها وفتحتها على ما هو أكبر منها، ما الذي دفعك إلى الخروج من حدود النوع الفني؟تجاربك الأخيرة، هي تجاورية، عناق فنون وعناصر مختلفة، ما الذي دفعك إلى التعددية في العمل الفني؟ ما الذي طمحت أو تطمح إلى تحقيقه في فن الفوتوغراف، وخاصة أنك من الفنانين الذين لا يقبلون التوقف داخل حدود الصورة؟
ف.ك: من الممكن تصنيفي باللامقتنع بوحدة الأسلوب والمادة في عملية الإنتاج الفني في مسيرة الفنان وسنينه الطويلة التي يقضيها في إنتاج فنه. وتبين زمنياً أن تفكيري هذا المقرون بإنتاجي يصب في تيارات فنون ما بعد الحداثة. ومن خلال أعمالي منذ أن بدأت بأول تجربة لي ومادتها الصورة الضوئية من دون تدخل عليها بعد طباعتها إلى إدخال التشكيل اليدوي عليها ثم إلى برامج الكومبيوتر وإنتاج الفلم والفيديو إلى التشكيلات ثلاثية الأبعاد والأداء الحي، وقد توجد كلها في عرض واحد، كل هذا الخلط الذي رسخته خلال إقامتي في ملبورن ونيويورك إنما يصب في ما يُسمى تداخل الاختصاصات والتي كانت بداياتها تترسخ في ملبورن وكنت من الرواد في هذا التنظير ليس فقط بالأدوات والمواد وإنما أيضاً في الفكر أي المزج والتداخل بين الغرب والشرق والذي كان واضحاً ليس فقط في أفكار معارضي وإنما في شكل العرض أيضاً.
[ظلال، 40x30سم، قلم باستيل على صورة بالاسود والابيض، 1990
كأس فارغة 30x40 سم، قلم باستيل على صورة بالاسود والابيض، 1990]
أ.إ- أنت تثير قضايا في الصور تتعلق بالخلفية الثقافية الاجتماعية والسياسية، وتركز على موضوع الجسد الراقص والعاري والجنسانية، وبدأتَ ذلك في إطار ثقافة قائمة على التعاليم المدونة باللغة وعلى حجب الجانب البصري للأشياء، هل تعتقد أن فن التصوير قادر على أن يرتبط بالجدل الفكري والثقافي ويحافظ على خصوصيته الفنية في الوقت نفسه، كيف يجمع بين كونه في قلب الصراع الثقافي وبين جماليته الفنية؟
ف. ك: نعم، اللغة في ثقافة المنطقة هي المركز بينما البصر تقريباً مغيب. أعتقد أن التأثير التاريخي شديد جداً وهذا ليس في سبل المعرفة فقط بل في صعوبة تماشي الدين والعادات مع التطور التاريخي للإنسانية في هذه المساحة الجغرافية التي يطلق عليها العالم العربي. فما بالك في مجال الصورة التي هي نتيجة للتطور العلمي، وزيادة عليها الموضوعة التي أستخدمها وهي العري. فكما عملت على مسألة تمرير الجسد في العمل التشكيلي في الشرق مثل بيروت وتونس ودمشق في بداياتي الفنية، عملت على تمرير مواضيع الشرق في الغرب وأهمها اختلاف الرؤية في قراءة الجسد والجنسانية في كلا القطبين. موضوعات شاقة ولكن العمل عليها كان ممتعاً وصعبا حيث كان الجدل ملازماً لعملية العرض عندي ومتعباً في أغلب الأحيان، إنما هذا كان اختياري.
أ. إ: كيف تلعب الصورة دوراً في إنقاذ الجسد من شيئيته، من كونه موضوعاً جنسياً أو إيديولوجيا، من كونه ابن ثقافة غربية أو شرقية؟
عندما يكون لها مغزى إنساني، وإذا ارتقت الى مستوى الجسد نفسه. عملية إنقاذ الجسد تبدأ من ذهن الفنان ورؤيته للجوانب الفكرية والتكوينية في صورته أو عمله التشكيلي، تبدأ بعمق التعبير والتكوين للجسد من مسألة تشكله أو ولادته إلى واقع اندثاره أو موته. وتتحقق أيضا بمسألة التمكن من إظهار هذه الأشياء حسب فلسفة الفنان الفكرية بما فيها الجوانب الإيجابية أو الجمالية أو السلبية وتدعم بعملية تموضع الجسد في فراغ العمل الفني وعلاقته فكرياً بتنفيذه أي بمن صنع العمل الفني وهذا كله بالتوازي مع مسيرة الجسد الفلسفية التاريخية وربطها بالقهر أو المتعة المعاصرة.
إنها عملية شائكة يعود نجاحها أولاً إلى فلسفة الفنان عن الجسد وأعتقد أنها تكون مركزة وأقرب إلى الدقة إذا كان جسد الفنان هو موضوعة الفنان أو على الأقل أن يعمل على أجساد الآخرين كما يفكر بآلية جسده وجماليته ولهذا ظهرت في الفن الغربي نظريات تناهض استخدام الفنان لأجساد الآخرين وقد يكون مرجعها الغربي تيارات مثل النسوية والمثلية والتي أدت إلى ظهور فنون صريحة واضحة عن مسألة الجسد بما فيها الصورة الضوئية. الجسد هنا ليس في عريه فقط. وبما أن الفكر في الشرق مفصول عن الجسد كون الاثنين مقيدين فلقد كان من الصعب أن تجد قبل بداية القرن الواحد والعشرين في الفن العربي مواضيع وأعمالاً فنية تتناول ثقافة الجسد حتى في لباسه إلا أنه ظهرت مع مطلع هذا القرن تجارب عديدة وموضوعاتها اجتماعية سياسية وذلك تبعاً للموقع الجغرافي والاجتماعي والسياسي لهذا البلد العربي ومستوى الحريات فيه. إلا أن الجسد العاري لا زال مختبئاً في ثيابه في بلاد العرب أي ليس حقيقياً. فالجسد العاري خاصة في هذه الفترة الزمنية مقفل عليه في زنزانة العادات والتقاليد البائدة بنفس الطريقة التي يلقى بها هذا الجسد في زنزانات الاختلاف السياسي. إنها عملية محبطة للفنان اذا لم يفكر بالخرق أي الجرأة في الطرح وفي تناول موضوعة وحقيقة الجسد العاري وبكل بساطة نعم إنه موضوع له علاقة بالثقافة الغربية وعلى الشرق أو بالأحرى العالم العربي أن ينهض إلى الأعلى لا للأسفل. فالغرب تخطى عملية التابو عن الجسد وأصبحت التعبيرات عنه في العمل الفني إن كانت إيديولوجية أو جنسية متحررة بالكامل. ولا تستغرب إذا عرفنا أن هذا التحرر كان أساسه أعمال الفنانين وخاصة التي تعتمد الصورة كأساس لأنها بكل بساطة تعبر عن الحقيقة في وقت سجلته العدسة.