مصر. الأولتراس السياسي - إسلاميون قيد المحاولة

[ أولتراس نهضاوي. الصفحة الرسمية. فيس بوك] [ أولتراس نهضاوي. الصفحة الرسمية. فيس بوك]

مصر. الأولتراس السياسي - إسلاميون قيد المحاولة

By : Ahmed Abdel Halim أحمد عبد الحليم

منتصف عام 2013. تحديدًا وسط ميدان رابعة العدوية بالقاهرة حيث أقامت جماعة الإخوان المسلمين ومؤيدوها اعتصامًا مفتوحًا بدايةً من يوم 28 يونيو- حزيران إلى يوم فُضَّ الاعتصام (14 أغسطس) بواسطة قوات الأمن المصرية، وذلك اعتراضًا على بيان 3 يوليو- تموز وهو البيان الذي ألقاه وزير الدفاع حينها عبد الفتاح السيسي لعزل الرئيس المصري محمد مرسي قبل أن يأخذ مكانه في الرئاسة تماشيًا مع سُنّة الانقلابات العسكرية. خلال تلك الفترة دوّى الميدان بالهتافات والأغاني المناوءة لما جرى بواسطة شباب عُرفوا باسم رابطة أولتراس نهضاوي، مِن بعد الفضِّ تفرقت تلك التجمّعات من جديد، ولكن استمر نزولها إلى الشارع للاحتجاج تحت أسماءٍ كثيرة، ولكنّها ميّزت الحراك الاحتجاجي من حيث شكله وتفاعله، بل ميّز الأولتراس أنفسهم عن طريق عدة طرق ووسائل مناهضة للنظام في مصر فكانوا أول أولتراس ذو فكرة وغاية سياسيّة وهنا الكناية بالأولتراس السياسيّ  كوّنهم مُشجعون لحزبٍ سياسيّ ألا وهو حزب الحريّة والعدالة. على غرار الأولتراس الرياضي الذي يشجع فريقا رياضيا.

أحاول في هذا المقال توثيق ظاهرة الأولتراس السياسي في مصر تحديدًا فترة ازدهاره 2014 إلى 2016 بالإجابة عن كيفية خروج الأولتراس من المدرجات إلى الشوارع، وما هي الأشكال والأفكار الذي خرج بها؟، وإلى أين وصل به الحال تنظيميًا بعد أن قضى النظام الأمني في مصر على احتجاجات الشارع التابعة لتحالف دعم الشرعية بحلول منتصف عام 2016؟ ابتعدت عن تناول الكثير من التفاصيل التي تخُص الأولتراس السياسي، وهذا لأني بعيدًا عن اتخاذ زاوية بحثية مُحكمة، وركزتُ بشأن التفاصيل التي توثّق وتساعدنا على رسم ملامح النشأة والتطور والإشكاليات التي مرّ بها تلك الفترة. [1] 

البداية - التنظيم ثم الانتشار

 [أولتراس نهضاوي مايو 2012 - موقع إخوان أون لاين]

في أبريل من عام 2012 قررت جماعة الإخوان المسلمين ترشيح عضوها محمد مرسي لخوض صراع الانتخابات الرئاسية المصرية، وكأي دعاية انتخابية يقف الحزب ومُنتميه في الشوارع أو يدوروا من حولها ليُحدّثوا الناس فرادى وجماعة عن مرشحهم آملين أن يضعوا علامة الصح على صورته عند  وقت الانتخاب، اتخذ شباب الإخوان دورًا مهمًا من أجل هذا، جمّعت الشُعب (المناطق) بمسؤولية أعضائها بعض الشباب المتحمّس ليأسسوا رابطة عرفت باسم «أولتراس نهضاوي». الأولتراس انتماءًا لمجموعة الأولتراس التي تُعرف بحماسها الزائد تجاه تأييد وتشجيع شيء ما (فريق كرة قدم) ونهضاوي (كنايةً عن مشروع النهضة التابع للإخوان) ليردد هؤلاء الشباب الهتافات والأغاني بدوره في الميادين أثناء حملة الدعاية الرئاسية، وبتعميم التكتيك تكوّن في أكثر من محافظة مصرية عدد من الشباب تجمعهم تيشرتات بيضاء عليها شعار مُوحد كزيٍّ لرابطتهم، يغنون الأغاني التي تعبر عن مشروع جماعتهم النهضوي لمصر، ليصبح نهضاوي أول أولتراس سياسي يقف في الشارع بعيدًا عن روابط الكرة التشجيعية في المدرجات، ويتخذ من يوم 22 مايو عام 2012 ذكراه التأسيسيّة الأولى ويرسم بالإنجليزية UN12 شعارًا له.

وبعد أسابيع قليلة فاز مرسي بالانتخابات الرئاسية، وذهب إلى استاد القاهرة ليحدث الشعب المصري كرئيس للجمهورية المصرية، كان نهضاوي معه حاضرًا، ولكن من أكثر مِن محافظة، فقد حافظت الرابطة على تجميع نفسها، والتواصل مع روابط المحافظات الأُخرى، ليرددوا هتافاتهم وأغانيهم السياسية من قلب مدرجات الاستاد. 

استمر وانحصر نشاط الرابطة ضمن أجواء تجمُّعات جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي حزب الحرية والعدالة إلى أن جاء يوم بيان 3 يوليو 2013 الذي انقلب فيه وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي على الرئيس محمد مرسي، اعتصمت جماعة الإخوان ومؤيدوها من المستقلين والأحزاب الإسلامية في ميدان رابعة والنهضة بالقاهرة، بل وقامت الجماعة عن طريق تنظيمها القوي على الحشد بالتظاهر في محافظات مصر كُلها مطالبةً بعودة الشرعية متمثلة في الرئيس المعزول محمد مرسي ودستور 2012. أُدير الاعتصام بواسطة قيادات الجماعة والرموز الإسلامية الأُخرى من على منصة رابعة، إلا أن وجد أولتراس نهضاوي حاضنة زمكانيّة قوية لتجميع أفراده، وسرعان ما طَبع تيشرتات بلوجو (شعار) مُوحد، وفرت الجماعة أيضًا لهم دعمًا لوجسيتيًا كَبعض الألعاب النارية (الشماريخ) والطبلة وعصيانها (الطرومبيطة) رافعين شعارات قماشية (بنرات) تعبّر عن رابطتهم ونداءاتهم ليديروا مشهدًا احتجاجيّا حماسيًا يشعل الميدان وسط عشرات الآلاف من المعتصمين.

يوم 14 أغسطس 2013. وهو بمثابة يوم الصدمة المتوقعة لقيادة الجماعة، فَضَّ النظام المصري اعتصاميّ رابعة والنهضة، ليُقتل ويعتقل المئات من المُعتصمين، بعد ذلك تتجمّع الاحتجاجات طيلة شهور اُخرى في جامعات وميادين حَضر وريف مصر، ازدهر دور  نهضاوي في إدارة المشهد الاحتجاجي أكثر، بل أصبح لأعضاء الأولتراس رمزيّة قيادية وسط كثير من الشباب، وأمسى شكل الاحتجاج ملهمًا بل واستقطابيًا للكثير من الشباب الذين ذهبوا بدورهم إلى قيادات الأولتراس الشبابية يطلبون منهم الانضمام إليهم، فضلًا عن عرضهم تأسيس رابطة الأولتراس في منطقتهم أو قريتهم أو محافظتهم حتى أصبح تعداد الأولتراس يساوي بضعة آلاف خلال شهور من رسم الاحتجاجات بأشكال الإبداع في شوارع مصر.

تتمتّع القوى الإسلامية الشبابية الحركية بوجود زخم كبير من حيث التعداد، ولذلك من لم ينضم لأولتراس نهضاوي لأسباب مختلفة، ويرفض تكوين الاحتجاج تحت مظلة تحالف دعم الشرعية الذي يتمتّع بشيخوخة حركية لا تتماهى مع الحماسية الشبابية، يؤسس بدوره كيانًا يوازي نهضاوي، فَأُسست روابط شبابية أخرى تحت مسمى أولتراس ربعاوي و أولتراس مصري سياسي، واللذان أدارا المشهد الاحتجاجي في الشارع خاصةً قرى المحافظات كالجيزة والمنوفية وكفر الشيخ وغيرها. إلا أن تلك المسمّيات مهما اختلف شكلها ومظهرها الاحتجاجي ولكنها تندرج تحت مظلة جماعة الإخوان أو بمفهومٍ أكثر سياسيّة [2] كجماعة ضغط تستفيد منها الجماعة إعلاميًا من خلال كثرة الأسماء والكيانات التي تعادي النظام المصري الجديد، وحتى إن اعترفت الدولة المصرية بتلك الكيانات الجديدة على المستوى الإعلامي من حيث الخبر إلا أنها تعاملت معها كنباتات نضجت في حقل الجماعة، ولا تعاملها قانونيًا أو سياسيًا بشكل فردي، بل تُعرّفها أنها كيانات تابعة لِجماعة الإخوان المحظور نشاطها في مصر.  

الاستقلال التام

[أولتراس نهضاوي - الحساب الرسمي على تويتر]

بالرغم من تعدد الكيانات تحت مُسمّى أولتراس إلا أن الكيان الأبرز تنظيميًا واحتجاجيًا كان نهضاوي، يرجع هذا التميّز إلى أسبقيته في الاحتجاج والإبداع (22 مايو 2012)، فضلا عن رموزه الشبابية التي كان لها صدى وكاريزما استطاعت احتواء وجذب الكثير من الشباب غير المُنتمين للتنظيمات الإسلامية وغير ذات السمت الديني تحت رايتهم. ممّا مكّن نهضاوي من الانتشار السريع في قرى ومدن مصر كافة، لاسيما القاهرة والجيزة والشرقية. ترك نهضاوي أثرًا كبيرا خلال عاميّ 2014 و 2015 من خلال زخمه الاحتجاجي والإبداعي في الشارع المصري حتى بدأت وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية كالجزيرة الإنجليزية وموقع mada masr بالنسخة الإنجليزية وموقع egyptian streets و daily news egypt ومجلة foreign policy الأمريكية  والإنجليزية the economist تتناول احتجاجاته بشكلٍ منفصل، وتناقش دوره في مقاومة النظام الحاكم بشكلٍ جديدٍ ومبدع يتخلله نوع المقاومة غير العنيفة مثل ضرب الألعاب النارية كالشماريخ وأنواعها للتصدي لفض قوات الأمن تظاهراتهم ووقفاتهم. 

أدرك قادة الأولتراس عندئذٍ حجمهم الذي أصبح كبيرًا من حيث الزخم والحشد (عام 2015. قُدرت الأعداد ببضعة آلاف) ويستطيع حشد التظاهرات وحده دون التنسيق مع الإخوان أو تحالف دعم الشرعية كما كان يُطلق عليه كمُنظم للفاعليّات، فقاموا بوضع عدة لوائح لتأسيس الرابطة في مناطق جديدة و لتنظيم دخول الأفراد وترقيتهم داخل الرابطة وفق شروط معيّنة من ضمن اللائحة

قانون الانتخاب

قانون التعيين 

شروط انضمام العضو الجديد

تحديد أسماء مراتب الأعضاء داخل الرابطة وهى بالصعود

 normal (منضم جديد)

 active (منضم قديم ونشط ومسرول منطقة أو قرية)

 capo (مسؤول محافظة)

 leader (مسؤول جمهورية) 

تحديد أسماء للقرى (المنطقة) والمحافظة أي مجموعة أفراد داخل قرية يسمون team (فريق) أما أفراد المحافظة مُجتمعين يسمّون section (قطاع) 

تجميع اشتراك شهري من الأعضاء في صندوق مخصص للمال يشرف عليه شخص يعلوه شخص وهكذا.

تُصرف الأموال المُجمعة في شراء الألعاب النارية وأدوات الرسم والأقمشة والأعمال الفنيّة

بدأت الأمور تتزن أكثر من حيث فاعليات الرابطة، أصبح نهضاوي هيكلًا هرميًا من حيث الشكل الإداري آخذًا نمط الهيكلية من أولتراس كرة القدم من حيث أسماء المراتب وأسماء المناطق كأولتراس أهلاوي مثالًا إلا أنه يختلف عنه من حيث الفكرة ومكان النشاط، وبالرغم من توّفر العنصر البشري واللائحة التي تُنظم وجود هذا العنصر بها، ولكنه فقد وجود فكرة واضحة أو مناهج ثقافية تَتغذي أذهان أفراده عليها. كل ما في الأمر أنه كان يردد شعارات مثل جيل الخلافة القادم قاصدًا الخلافة الإسلامية على نهج النبوّة، فكانت شعاراته المرسومة كَخوذة صلاح الدين وهتافاته المسموعة لا تخرج عن إطار يوتوبيا الأمة الإسلاميّة الواحدة. وفنياً، أنتج أولتراس نهضاوي قُرابة 10 أغنيّات خاصّة به يُمجد في كلماتها ثورة يناير واعتصام رابعة العدوية وينادي بالقصاص للشهداء وحق السجناء في الحرية.

نوفمبر 2014. اجتمعت قيادة الرابطة متمثلةً في مسؤولي الجمهورية والمحافظات لتقييم رابطتهم من حيث الفعاليّة الحركية للاحتجاج. والحديث عن وضع مناهج فكرية وثقافية لأعضائها، لتكوّين بارادايم (نموذج) فكري إسلامي يتفق مع ما تطالب به الرابطة، إلا أن الحال وصل بهم للتفكير فيما بعد نزول الاحتجاجات، يريدون أن تكون لهم مناهج ولو بشكلٍ مبسط يعملون تحت أدواتها الفكرية، وبما أن لديهم العنصر البشري ومعهم اللائحة القانونية فلا لا يتخذون أدوات فكرية ومنهجية يصعدون بها إلى سُلّم الحركات الفكرية المستقلة، خلصوا في هذا الاجتماع إلى أمرين مهمّين. 

الأول هو تكوين مكتبين، الأول يختص بالأمور الإعلامية عبر صفحات السوشيال ميديا أو التصريح للمؤسسات الصحافية أو القنوات التلفزيونية إن سمح الأمر نظرًا للملاحقات الأمنية والثاني وهو المكتب السياسي الذي يتولى كتابة البيانات وإبرام التحالفات السياسية مع القوى الحركية الأُخرى سواء كانت شبابية ناشئة كحركة أحرار أو روابط أولتراس كرة القدم (أولتراس أهلاوي UA) و (أولتراس زملكاوي UWK) أو حتى قوى شبابية مدنية غير إسلامية.

والأمر الآخر هو الاستقلال ككيان إسلامي  شبابي مستقل لا يتبع جماعة الإخوان المسلمين لا منهجيًا ولا فكريًا ولا إداريًا، ولكن يتعاون معها فقط من حيث إدارة الحراك وأي أمورٍ أُخرى. هذا الأمر سبب تصدّعًا في الآراء بين القيادة الشبابية حيث وافق البعض وبشدة بشأن الطرح كونهم أصبحوا الآن قوة تنظيمية لا تحتاج إلى الإخوان في شيء، فضلًا عن عدم رضا هؤلاء الشباب عن قيادة الإخوان للحراك أو تصريحاتهم بشأن التداعيات أو رؤيتهم الضبابية بشأن المستقبل. بينما رفض البعض الانفصال عن الإخوان بسبب أنه الفصيل الأم بالنسبة لهم وأنهم يفضلون القعود تحت مظلته دائمًا عكس الرؤية الأولى التي كانت أكثر طموحًا وإدراكًا للقوة التنظيمية التي أصبحوا عليها. وآلَ الأمر فيما بعد إلى الاتجاه نحو الاستقلال وتغيير اسم الرابطة من أولتراس هدفه التأييد والدعم الحركي لاتجاه سياسيّ ما إلى حركة فكرية سياسية شبابيّة مستقلة 

الموت الزؤام

[أولتراس نهضاوي - الصفحة الرسمية -  فيس بوك]

لم يكتمل حلم استقلال الرابطة وتكوين حركة شبابية إسلامية صاعدة، بل تدمّر تمامًا، وبدلًا من أن تُرسم له خريطة تنظيمية على المستوى القُطري وليس المصري فقط، أصبح أعضاؤه بين سجين ومهاجر ومُشتت. يرجع فشل الرابطة في الاستمرار وتحقيق الأهداف التي حددت خطوطها الأولى ثلاثة أسباب.

الأول هو ضعف القدرة الفكرية والإدارية لدى قيادات الرابطة، فكانت القيادة الشبابية حينها غير مُغذاة بالثقافة التي تُعِينها على وضع منهاج ثقافي كامل للحركة، بل كانت أذهانهم في بدايات التغذية التي اكتسبها البعض من مناهج التربية لدى الإخوان، فضلًا عن كُتب محمد الغزالي وسيد قطب ومحمد عمارة وغيرهم من المعالم الإسلامية العربية الصاعدة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، بالتزامن مع القراءة السطحية غير المعمّقة للتاريخ المصري وتدني الإحاطة بشكل كامل بعُمق الدولة المصرية ومؤسساتها وتاريخها. أما على المستوى الإداري فكما ذكرنا استطاعت الرابطة جذب الكثير من الشباب في الآونة الأولى إليها إلا أنها فشلت في كيفية الاستمرار في الحفاظ على الكيان بسبب عدم اتجاهها نحو استراتيجية النفس الطويل الذي لَعِبَ عليه النظام الأمني في مصر في ضرب الكيانات المناوئة له. ناهيك عن التباطؤ الشديد وضعف القدرة التخطيطيّة في اتخاذ التكتيكات السريعة والمرنة لتنفيذ أولى خطوات الاستقلال والإعلان عن حركة شبابية، حتى الاجتماعات المُصغرة (أفراد المنطقة مع  قائدهم)، والاجتماعات الأعلى مستوى (قادة المناطق مع قائد المحافظة) كانت لا تثمر أي مجهود فكري أو إداريٍّ حقيقي، بل كانت لتقييم الحراك وتجميع الاشتراكات الشهرية وغير ذلك من الأمور البسيطة، فضلًا عن صغر سنّ الكثير من أفراد الأولتراس (عمر الفرد من 16 إلى 26 عاما) وحتى من قياداته فكان عُمر القيادة يترواح بين 19 إلى 26 عامًا. 

والسبب الثاني هو  ضيق صدر الجماعة عند استقبال بعض قياداتها لنيّة وعزم الرابطة الاستقلال عنها. فالجماعة التي أسست الرابطة وساعدتها على الظهور في الاعتصام وما بعد الاعتصام لتكون جماعة ضغط سياسية وإعلامية هي الآن تتمرّد عليها وتنوي التحليق بعيدًا عن أهدافها.وهذا دائمًا ما يزعج الجماعة لأنها تمتلك فطرةً أبوية أو بنيةٍ صلبة لا تقبل الانفكاك عنها كما يصفها الباحثون أو بعض نُقادِها، [3] زاد قلق الإخوان بشأن تكوين كيان شبابي إسلامي منفصل عنها لاسيما بعد مظاهرات يوم 28 نوفمبر 2014. وهى مظاهرات دعت لها الجبهة السلفيّة مطالبين فيها الشعب المصري بالنزول والتظاهر برفع المصاحف تأكيدًا على الهويّة الإسلامية للشعب المصري، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عدم مشاركتها في هذا اليوم، وأعلنت جماعة الضغط الشبابية التابعة لها والتي تُعرف بـ «شباب ضد الانقلاب» عدم مشاركتها أيضًا تنفيذًا وطاعة لما صرّح به الكيان الأمّ، بينما أعلن أولتراس نهضاوي مشاركته في التظاهرات في خطوة استباقية حركية منه يُعبّر فيها عن قراره الذي يخص رؤيته السياسية فقط وغير تابعة للجماعة الأمّ التي ينوي فعليًا الانفصال عنها. 

أما السبب الثالث يرجع إلى القبضة الأمنية التي ضربت الرابطة بقوة بدايات عام 2015 إلى منتصف 2016، حيث كانت بداية الخطوات الجادة لظهور كيان شبابي إلا أنه تم القبض على غالبية قيادات الرابطة في جميع المحافظات، وليست القيادات الأولى فقط، بل حتى الشباب من القيادة الثانية، ممّا جعل البقية القليلة تترك العمل الحركي نهائيًا وتركز في حياتها بعيدًا عن النضال أو الاحتجاج، أو تهاجر خارج البلاد خوفًا من الملاحقة الأمنيّة، أيضًا سهل القبض على هؤلاء الشباب صيتهم الواسع في محافظاتهم لأنهم كانوا قيادات الحراك في الشارع ممّا سهل على الأمن معرفة أسمائهم وملاحقتهم والقبض عليهم بسهولة، ممّا يجعلنا نُشير إلى ضعف الخبرة الشبابية في مُعضلات الحفاظ على النفس وأُسس المقاومة دون الظهور.

قيّد المحاولة 

[أولتراس نهضاوي - 2016 - الصفحة الرسمية فيس بوك]

بحلول أوائل عام 2017. في معركة النفس الطويل فاز الجهاز الأمني في مصر واستطاع إحكام قبضته على أي احتجاجٍ شارعيّ يزعزع صورة استقراره أيًا كانت مرجعيّته، ساعده في هذا انقسام جماعة الإخوان المسلمين إلى نصفيّن، والإدارة المندفعة لتظاهرات الشارع التي سُيطر عليها ممّا أفقدها سريعًا ورقة الضغط التي تلعب بها الجماعة مع النظام المصري.

حُكم على شباب الرابطة بأحكام كبيرةٍ وخفيفة، خرج الكثير منهم ولكن كان الخروج بمراجعة إدارية وفكرية لما كانوا عليه قبل الاعتقال سواء كانت المراجعة محضّ أفكارٍ ووحيٍّ شخصي للتجربة أو حتى مراجعة فرضها الواقع بمجرد أن العمل الحركي الاحتجاجيّ قد انتهي وهذا ما كان يجمعهم بالرابطة، فالآن لا شيء يجمعهم، بل كان النقد محلّ وجود لاستراتيجيات الماضي، فكانت جماعة الإخوان وقيادة الرابطة تدفع بالشباب وبأنفسهم إلى التظاهرات دون رؤية تقدميّة لما بعد الحراك أو وجود حلّ تفاوضي مع النظام في مصر، فاكتشفوا أن التظاهرات كانت غاية وليست وسيلة كما يجب أن تكون، لذا تجربة الماضي بالنسبة لكثير من الشباب تجربة مُهلكة للأنفس دون داعٍ حقيقي لهذا الهلاك.

فشلت ظاهرة الأولتراس السياسي في الاستمرار أو حتى العدول إلى حركة سياسية مستقلة ذات مرجعيّة فكرية كما كان مُخططاً لها، وكما تجمّع أفرادها حول حراك شارعيّ، فَفُضَّ الحراك فتفرّق الجمع مرّةً أُخرى، ومن لم يتوجّه من الشباب الإسلاميّ بشكلٍ عام وشباب الرابطة بشكلٍ خاص إلى معيشة حياته العاديّة حيث الدراسة والعمل والطموح إلى تكوين الأسرة، وما زالت تربطه أحبال أفكار مرّةً أُخرى، ارتمى في أحضان منهاج إسلام ما بعد التنظيمات، أي السعي للحصول على الثقافة الإسلامية بشكل فردي تعليميّ عن طريق حضور دروس الفقه والعقيدة والفلسفة والاجتماع وعلم النفس في أماكن واقعية تُدرس بشكل رسميّ محض علمٍ دون توجّه، أو عن طريق حضورات تلك الدورات والاستماع إلى مُعلّميها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات التعليمية عبر الإنترنت. 

الهوامش

1- وهذا من خلال مقابلات أجريتها مع بعض قيادات الرابطة، (مسؤولي جمهورية ومحافظات) نتج عنها شهادات وسرديات وتفاصيل ذكرت منها ما رأيته مناسبًا لمقالنا.

2- جماعة الضغط. pressure group .. الموسوعة السياسية. رابط.

3- انظر. جاسم سلطان، أزمة التنظيمات الإسلامية: الإخوان المسلمين نموذجًا، ط1 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2015م)

عبد المنعم أبو الفتوح، شاهد على الحركات الإسلامية، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 2010م).

خليل العناني - داخل الإخوان المسلمين - الدين والهوية والسياسية - 2016. .Oxford University Press.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬