في مدينة لا أودّ ذكر اسمها (كما علّمنا ثربانتس) ما زلت أكرهها إلى اليوم، كتبتُ قبل عشر سنوات أثناء الخدمة العسكريّة الإلزاميّة قصّة صغيرة غريبة لا أتذكّر سبب كتابتي لها أو حتّى ورودها في ذهني قبل الكتابة. سمّيتها «حلم أخضر»: «أَلَمُ كفّيه المتورّمتين كَبَحَهُ عن إتمام جداله مع المعلّمة. قصاصاتُ سمائه الخضراء الممزّقة بين أصابع المعلّمة، وضحكات زملائه الهازئة من رسمته، أرغَمَتْهُ على إخفاء دموع قهره إلى أن انتهى الدّوام. وعد حلول الليل، ارتسمتْ ابتسامةٌ مشرقةٌ على وجهه، وهو يحلم بأفق دنياه الخضراء التي خَلَتْ من أيّة سماوات زرقاء، أو معلّمة، أو زملاء هازئين».
لعلّي كتبتُها كي أهرب من عالمي الخانق آنذاك. المهم، أنّني نسيتها ونفيتها إلى سجن الخزانة مع باقي المحاولات القصصية الأخرى بعيدًا من الشمس والأعين. حين أعيد التّفكير فيها اليوم، أحسد ذلك الطّفل الذي كان هروبه أجمل من هروبي. أنا كتبتُ قصّةً حكمتُ عليها بالمنفى، بينما هرب هو إلى عالمٍ خلقه بخياله؛ عالمٍ لا يركن فيه إلى الحسرة، ولا يقول عبارة «يا ريت» التي بتنا نستخدمها كثيرًا. لعلّ هذا الطفل سيكبر في دنيا الأدراج المغلقة ويهرب ليصبح شاعرًا. لعلّه سيصبح سعيد عقل في كونٍ موازٍ.
لم يقل سعيد عقل عبارة «يا ريت» في أيّة قصيدة محكيّة من القصائد التي غنّتها فيروز. ترك تلك العبارة لجوزف حرب الذي أدمنها وجعلنا ندمنها ولم يسأم من تكرارها أبدًا، كما لم يسأم زكي ناصيف من كلمة «المدى». تقوم قراءة الشعر «الطبيعيّة» على قراءة معجم الشاعر. ولكن ماذا عن سلّة مهملاته؟ ماذا عن حجرات الذاكرة التي أفرغها عمدًا من مفردات بعينها؟ أليست قراءة مجدية أكثر؟ هل هي «مجرد عبارة أخرى» لا تستحق هذا التركيز؟ لا، لأنّ سعيد عقل لا ينشغل بـ «العبارات الأخرى»، بل يحيك قصائده بأناة عذراء تحيك جهاز عرسها، ويدقّق في مفرداته بحذرِ ... كدت أقول: بحذر قدّيس، ولكنّ اندفاعاته السياسيّة الهوجاء ستحطّم كلّ قداسة لديه. لا، ليس هذا أيضًا. إذ لن يتحطّم إلا الأهوج صاحب المانشيتات السامة، أما الشاعر فكائن آخر في دنيا غير الدنيا. لن أخوض هنا في هذا الفصام الذي طَبَعَ حياة سعيد عقل، وسأكتفي بكاتدرائيّة الشعر التي شيّدها بكلماته، وطُوِّب فيها قدّيسًا. طُوِّب وطوَّب نفسه قدّيسًا أوحد لأنّ نرجسيّته المذهلة لا ترضى شريكًا، حيث غاص في اللغة على هواه، وعاد إلى الشاطئ بجوهرة هي فيروزه التي لا تشبه الفيروزات الأخريات. فيروز، حلوة الحلوين.
فلنعد إلى تلك الـ «يا ريت» التي لم يقلها. مغريةٌ هي الكاتدرائيّة التي لا حسرة فيها. لا بدّ من التّدقيق مع سعيد عقل، لأنّ انتقاءه للكلمات يفترض وجود مُنصِتٍ وقارئٍ يتلذّذ بهذا الانتقاء الصارم أيضًا. كاتدرائيّة لا حسرة فيها، ولكنّها مفعمة بالأمنيات التي لا تُغريه برفض دنياه. فلندقّق مرةً أخرى. دنياه، لا دنيا سواه. دنيا صاحب القصائد التي تُقارب أحلام الأطفال، ولكنّها تُمثّل أعقد القصائد التي غنّتها فيروز على الإطلاق. أعقد حتّى من عالم زياد المدينيّ الذي اختار بذكاء تفريغه من أدنى أثرٍ لسعيد عقل. فلنرتّب أذهاننا قبل انطلاقنا في الرحلة. رحلة هي حلم طفل لا يكبر، ولا يتحسّر، ولا يندم، لأنّ دنياه دائريّة (أو لولبيّة ربّما) لا بداية فيها ولا نهاية؛ لا واقع فيها ولا خيال؛ دنيا كالأماني، بل هي دنيا الأماني التي تتحقّق بالكلمات: كن فيكون، انطق فيحدث، قُلْ تَرَ. دنيا مليئة بالخيارات، ولكنّ الخيارات متساوية كلّها. بوسعك انتقاء ما يحلو لك، وبوسعك الدخول في التجربة كما تشاء، إذ لا شرّير هنا. «لا تُدخِلنا في تجربة»؟ تلك دنيا الدنيويّين الذين فارقوا مرحلة الطفولة ودخلوا إلى دنيا الخيارات غير المتساوية التي تُرهِبُ المرء من أيّة تجربة. أما دنيا سعيد عقل فكلّها تجارب، ولا استقرار فيها. تعيش لتجرّب، فتجرّب لتعيش. احذف ما يحلو لك، وعش ما يحلو لك. فالماضي هو الحاضر وهو المستقبل. ربّما هي دنيا أوهام. هذا ما نراه نحن. ولكنّ العائش في الوهم لا يدرك الوهم، لأنّ الوهم هو ما لا يعيشه، وما من شيء لا يعيشه ذاك الدّاخل في التّجربة والمتحرّر من تراتبيّة الخيارات. فالواهم/الحالم/الطفل يعيش، ويعيش، ويعيش، كما لو كان دفقة طاقة لا تفنى. طاقة ندركها في صوت فيروز الذي لم يصل درجة الصفاء تلك مع أيّ شاعر آخر: طاقة تنسف اللحن، لأنّ الألحان ستفنى في حضور الكلمة والصوت. هل جرّبتَ الإصغاء إلى فيروز وأنت تقرأ سعيد عقل؟ هل جرّبتَ الإنصات إلى فيروز وهي تنطق سعيد عقل؟ تجربة لا تُضاهى، لأنّها – بالتحديد – تخلو من الـ «يا ريت» التي ستُرغمنا على التذكُّر الذي سيُرغمنا بدوره على التحسّر، تذكُّر حسراتنا الماضية كلّها. ولكنّ عالم سعيد عقل الفيروزيّ لا ذاكرة فيه. الذاكرة هي الأحلام.
هِنْ قالولي
هل تأمّلتَ يومًا الحبّ الذي يُغدقه الأطفال عليك؟ حبُّ صافٍ، لا تشوبه أدنى مصلحة دنيويّة. لا أعني أولئك الأطفال الذين بدؤوا مرحلة إدراك الأذى والتّحطيم والتّخريب، بل ما قبل تلك المرحلة؛ حين يكون الطفل عاجزًا إلا عن الحب. ابتسامة أولى، لمسة أولى، ضحكة أولى. لا نعلم ما إذا كانوا يدركون أنّهم يحبّوننا ولكنّنا ندرك، لأنّ تلك الأفعال الأولى التي تُبهجهم، تُبهجنا نحن أيضًا، وتُغيّر شيئًا فينا ولو موقّتًا. إذن، لا نُدرك الحب من الحب، بل من نتائجه. أي إنّ الحبّ أشبه بغاز يدخل في المعادلة الكيميائيّة من طرفها الأول ويخرج من طرفها الثاني بلا تغيير، ولكنّه يغيّر المعادلة بأسرها. في قصيدة/أغنية «بحبّك ما بعرف»، تبدو كلمة «بحبّك» الأولى وكأنّها سلاح خَفَر ومكر للأنثى العاشقة التي لا تودّ الاعتراف بعشقها. ولكنّها تدرك أنّها تحب بسبب تأثير الحب فيها وفي ما حولها. بل إنّ هذا المحيط هو ما ومَنْ يؤكّد فكرة الحب تلك لديها. وكأنّ العاشق لا يدرك عشقه إلا بالبوح؛ لا بوحه هو، بل بوح طرف ثالث يلتقط أدقّ التغيّرات في طرفَيْ المعادلة من دون أن يتدخّل فيها. حبّ سعيد عقل يتسامى دومًا إلى الأعلى، من الأرض إلى السماء، إنْ كان ثمّة معنى أصلًا لهذه المفردات الدنيويّة في عالمه الحُلُميّ. حبّ دانتي يحرّك أجرام السّماء، ولكنّ حبّ سعيد عقل يبثُّ فيها الحياة، ويغيّر خصائصها، فتنعكس بدورها علينا فندرك أنّنا نحبّ. يتعمّق معنى مفردة «بحبّك» المتردّدة الأولى حين تنتهي القصيدة بمفردة مماثلة – ولكنْ غير متطابقة بالرغم من تطابق الأحرف – هي «بحبّك» الواثقة التي راقبتْ عمليّة التحوّل كلّها فبلغتْ ذروة الإدراك. وسيلة صعود الحبّ وتساميه وانعكاسه هي الأرجوحة التي يدمنها سعيد عقل. ولكنّها ليست أيّة أرجوحة، بل الأرجوحة التي تكون أرضُها سماءَها في عالمٍ يكون هو القلب بذاته، بل عالم داخل القلب، ينتمي إليه ولكنّه لا يساويه. تبدو الصورة شديدة الإغواء: لا أطلس هنا ليحمل الأرض على كتفيه، إذ هي معلّقة بحبال أرجوحة داخل قلب عاشق يتمرّد على مقاييسه الدنيويّة ليصبح قلبًا أكبر وأجمل، كما ترسمه يد طفل نظنّ أنّه لا يدرك الأبعاد والمقاييس، ولكنّه يرى ما لا نراه؛ يرى أنّ العالم كلّه مفردات ضئيلة في قلب القلب.
لأ، يوجعك قلبي
هل تأمّلتَ يومًا الأعين التي يرسمها الأطفال؟ تكون العين واسعةً وكأنّها فمٌ أو بئرٌ أو شمس؛ أو ربّما شبّاك، مثل تلك الفتحات الدائريّة التي تُحاذي السّقف أو تنزل عنه قليلًا في البيوت القديمة. أعين للجدار يطلّ منها المرء على العالم، ويُطِلّ العالم عليه. نجد بقايا لها في بعض الأفلام السينمائيّة حين تلتقط منها العدسة وجه القمر. العدسة/العين تُقابل الشبّاك/العين لترى القمر/العين. ولذا نجد القمر مبثوثًا في كلّ قصيدة حب تقريبًا، لأنّ المحبوب كالقمر، يطلّ عليك مثل عين، كما في المجازات التي أسأمنا الشّعراء بتكرارها. ولكنّ سعيد عقل لا يفضّل المجازات الماديّة، بل ينسف التأثير المكرور ليجعل العينين الأصليّتين أبهى من القمر؛ أي ليجعل العينين المركزَ الذي يُولِّي العالمُ وجهَه شطرَه. يلفتنا دومًا في المحكيّة (في محكيّات بلاد الشّام على الأقل) أنّ العين لا تَرِدُ في صيغة المثنّى بل في صيغة الجمع دومًا: عيون؛ من دون أن يدرك الناس أنّ العربيّة الفصحى لا تستخدم «العيون» جمعًا للعين أداة الإبصار، بل تمنحها مفردة «الأعين»، بينما العيون للمياه. لعلّها غفلة تسلّلت إلى المحكيّة وباتت قاعدة، ولعلّها محاولة لخلق صيغة جديدة تكون العين فيها ماءً؛ تكون العين فيها موحَّدة المعنى على الدّوام بحيث تنفر من الكليشيهات التّنميطيّة. العين ليست قمرًا في نهاية المطاف، إذ ما القمر أصلًا في دنيا تختلط فيها المعاني؟ فالعينان ألف أغنية تنطلقان من ماء العين وتصبّان في عين الماء. فالطّبيعة كلّها قد عادت إلى حالة الشّواش الأولى لتختلط الضمائر كلّها، وتتلاشى الأنا والأنت أو تتبادلان المواقع بحيث لا يوجعك قلبك، بل «يوجعك قلبي». طبيعة جديدة لا معنى فيها لعناصر الطبيعة. لا معنى للزّهر الحيّ أو المجفّف الذي لا يكترث له سعيد عقل ويتخلّى عنه طواعية لشاعرٍ غيره سيدسّ زهرته الجافّة في دفاتر فيروز. أما فيروز سعيد عقل فلا تكترث حتّى لموت الزّهر، لأنّ الطبيعة القديمة كلّها قد فنيت كما فني الزّهر الذي كاد يفنى أصلًا في قصائد الشعراء المتطابقة المستعادة.
مين بيقول كذبوا؟
هل تأمّلتَ يومًا كذبات الأطفال؟ مرةً أخرى، لا أعني الأطفال الذين كسروا الخط الفاصل بين الأذى غير المقصود والأذى المقصود، بل الأطفال الذين لا يكذبون لأنّهم يريدون الكذب، بل ليخلقوا حقيقةً أخرى تكون فيها الأشياء شريكةً في «جريمة» الكذب التي تنفصل عن كونها حدثًا يستحقّ العقاب لتُمسي ذكرى يختلط فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالكذب؛ ذكرى نصدّق فيها أنّ الأشياء لها حياة وإرادة تكذب فيها كالأطفال، ونبقى فيها على حبّنا لهم، وحبّنا للذّكريات التي «اختلقوها» فصارت هي الواقع. وإنْ كان الحب يعني نتائج الحب، ماذا عن ذكرياته؟ إنْ كانت الذاكرة شخصيّة، ماذا عن الآخرين؟ ماذا عمّن يحرّض الذاكرة؟ تربكنا هذه التّساؤلات لأنّنا نظنّ أنّها ستدمّر جمال الذاكرة وفتنة استعادتها. ما الذي سيبقى منّا لو كان الآخرون مسؤولين عن تحريض ذاكرتنا؟ وما معنى الحب إنْ كانت ذاكرته بيد الآخرين، أشياء وأشخاصًا؟ يقلب سعيد عقل طاولات المعاني والأسئلة كالمعتاد ليؤكّد لنا أنّ الذاكرة نافلة بالنّسبة إلى العشق لأنّ العشق عيشٌ أبديٌّ لا ماضي فيه، ولا مستقبل بالنّتيجة. تلفتنا في «مشوار» متاهة الذاكرة التي وقع فيها الآخرون وأوقعوا معهم بطلة القصيدة بحيث غرقت في متاهات لا تهمّها؛ متاهات التّفريق بين الواقع والخيال؛ متاهات تأكيد وجود الوهم؛ بينما المتاهة الحقيقيّة الوحيدة هي المتاهة التي لا وهم فيها إذ لا واقع فيها. على أنّ غرق البطلة في متاهات الآخرين سيُعيْنها على استعادة متاهتها التي لا تنشغل بالتّفاصيل. نقرأ القصيدة وننصت إليها ونعيشها فلا ندرك «الحقيقة»، لأنّ الحقيقة (بلا مزدوجين هذه المرة) هي الوهم، أو لعلّها وهم الوهم. لا نعرف ما إذا كان السؤال الأول: «مين قال حاكيته وحاكاني؟» استنكارًا أم دهشة أم مفاجأة؟ لا نعرف ما إذا كان البطلان قد تحدّثا أم لا. معرفتنا مرتبطة بذاكرة البطلة التي ربطت ذاكرتها بذاكرة الآخرين إمعانًا في التّضليل. تتحوّل البطلة إلى راوية أو إلى ناقلة للحكاية التي كانت حكايتها؛ أم لعلّها ليست حكايتها؟ تباغتنا البطلة/الراوية أحيانًا فتؤكّد وجود القصة والتفاصيل، ثم تعاود نسفها مرةً أخرى بعد أن وقعنا في متاهة جمال الاستعادة. ما الكذب وما الصدق؟ ليس هذا السؤال صائبًا لأنّ السؤال الفعليّ لا إجابة له: «هل كان حلمًا؟» حقًا؟ ما الحلم إذن؟ سؤال متاهة آخر إذ تركنا سعيد عقل حائرين مرةً أخرى في دنياه اللولبيّة حين يمنح الحلم مفردات «الصحو»، إذ «نُبصر» الحلم لأنّ العينين (العيون بالأحرى) قاصرة وكليّة القدرة في آن. قاصرة حين تفصل بين الواقع وبين الخيال، وكليّة القدرة حين تعيش الحلم، حين تعيش الوهم، ولكنْ من دون أن يكون وهمًا.
شو العمر تَ نرجعلوا؟
هل تأمّلتَ يومًا طفلةً تقف أمام المرآة؟ لعلّ أولى مراحل إدراك الطّفل لذاته تكون عند «مواجهة» نفسه في المرآة. يتحوّل من مُراقِب إلى مُراقَب مع عدم تخلّيه عن ولعه الأصليّ. تصبح الذات هي الموضوع من دون أن تفقد الذات ذاتها. تبدأ الطفلة باكتشاف الجمال في ذاتها من دون الإمعان في التّفاصيل، إذ يكون الجمال كتلةً واحدةً تختصرها الطفلة في كلمة: «حلوة». لا عينان، ولا شعر، ولا أصابع، بل هي ذات واحدة تستحيل تفصيلًا أوحد. وفي تلك التجربة أيضًا تدرك الطفلة اختلافها عن باقي الكائنات، ولكنْ بلا وضع حدٍّ فارقٍ بينها وبين الأسماك حين تسبح، أو بينها وبين القرود حين ترقص. يبقى الطيران فقط. كيف تصبح الطفلة فراشةً أو نورسًا أو عصفورًا؟ لا بدّ من أرجوحةٍ تنسف الحدود الفاصلة بين الأرض والسماء. تكتشف الطفلة متعة الطيران المشوبة بالرعب الذي تتضاعف لذّته بتضاعف درجته. عالم سعيد عقل مغرٍ لأنّه عالم لا رعب فيه. عالم مرايا وأراجيح ولذّة من دون أدنى رعب. تمسي الأرجوحة أداة للحب الذي يختزل معناه في الطيران، في الهروب من القيود المتلاحقة، في الفرار من الجميع. تُستعاد صورة العالم الجديدة حين باتَ قلبًا فقط تسكنه الطفلة الأبديّة مع أرجوحتها التي تَهِبُ طاقةً جديدةً لراكبتها تقارب طاقة الخلق، حيث تقطف النّجوم وتُعيد زراعتها في الأرض من دون أن ننتظر إثمار شجرة النّجوم تلك، إذ سنواصل الطيران والهروب إلى عالم ثالث بعد العالم الثاني، وعالم آخر وآخر، مُخلِّفين العوالم القديمة وراءنا وهي تشتعل بالحسرة لأنّها ثابتة في مجازات ثابتة جافة، لا يتغيّر ولا يطير فيها إلا الأغاني التي لا يحكمها قانون المنطق ولا يقيّدها سجن الحواس. أفسدتْ الشّرائع والأديان إغراء الفردوس لأنّها قتلتها توصيفًا وتفصيلًا فقتلت متعة الخيال. ولذا تهرب الطفلة في قصيدتَيْ «مرجوحة» و«دقّيت، طلّ الورد ع الشبّاك» إلى عالمٍ تفنى فيه التّفاصيل وتتضاعف في آن حين لا يقتلها الوصف. عالم تعود فيه الطفلة إلى مرحلة المرآة القديمة لتدرك أنّها حلوة فقط، «وخلصت الحكاية»، مع أنّها (وأنّنا) تدرك أنّ تلك النهاية بداية جديدة لعالم آخر لا تفاصيل فيه؛ كون لا ينبغي الرحيل عنه إلا بعد أن نترك عطرًا قد يكون أرجوحة أو أغنية أو وهمًا. على الأرجح أنّه وهم لا «قد» فيه ولا «يا ريت».
يشير إيتالو كالڨينو في «مدن لامرئيّة» منذ البداية إلى أنّ قبلاي خان لا يصدّق جميع قصص ماركو پولو عن تلك المدن التي يصفها له ولنا، ولكنّه يواصل الإصغاء لأنّ الخيال لا يحدّه حدّ، ولا تحكمه قوانين الصدق والكذب. وكذا نحن لا نصدّق وجود جميع عوالم سعيد عقل في قصائده المحكيّة، ولا نصدّق صور المدن في قصائده الفيروزيّة الفصيحة التي وهبت لنا، أو خلقت لنا بالأحرى، مدنًا لا تشبه تلك المدن المذكورة إلا بالاسم. غير أنّنا نتلذّذ، مثلًا، في تخيّل تلك الدّنيا التي سيُلْحِقُها أُمويّو سعيد عقل اللامرئيّون ببستان هشام. تعيدنا هذه الصورة إلى فصام سعيد عقل الموجع. كيف سيُلحِقون تلك الدّنيا؟ بالإبادة وبالقتل؟ هذا ما قد تودّ مانشيتات الصحفيّ الأهوج أن تقوله، ولكنّ الشاعر دارس التّاريخ يلعب مرةً أخرى بالمفارقات حين نتذكّر أنّ المرويّات التاريخيّة تنقل عن هشام بن عبد الملك أنّه كان أكثر الخلفاء نفورًا من الدم والقتل. لعلّه سيُلحِقُ الدّنيا ببستانه عبر الخيال وحده. لن تعود الدّنيا دنيا، ولكنْ هذه هي متعة الخيال الذي يُتيح لنا الفرار كي نخلق العالم الذي نريد. عالم يقول فيه كلٌّ منّا باقتناع تام: حلو أنا، وحلو عالمي، وحلوة سماؤه الخضراء؛ وخلصت الحكاية.