تنتهي دراسة حديثة لمبادرة الإصلاح العربي https://www.arab-reform.net/ar/publication/مصر-بعد-فيروس-كورونا-العودة-إلى-المربع/ إلى خلاصة: "لقد تم بناء استقرار الأمن والاقتصاد الكلي في مصر مؤخراً على أسس ضعيفة، كشفت عن هشاشتها جائحة كوفيد-19. وبالتالي عادت البلاد الآن إلى نُقْطَة البِدَايَة، في موقفٍ يشبه إلى حد بعيد ما كانت عليه قبل ثورة 2011: مستقرة في الظاهر، ولكن في الداخل ثمّة مشكلات بنيويّة عميقة ومظالِم اجتماعيّة محتدمة، مع استنفاد كل ما يمكن أن يخفّف من حدّتها."
ويتوقع كوردسمان في دراسته بعنوان: "الشرق الأوسط الكبير: من الربيع العربي إلي محور الدول الفاشلة" التي صدرت أغسطس الماضي لمصر في سنواتها الخمس القادمة :"تظل مصر دولة فاشلة ما لم يتم تخفيف القمع، ويحدث إصلاح اقتصادي جاد بالفعل."
يهدف هذا المقال -إذن- إلي بيان المرتكزات الأساسية التي استند إليها نظام السيسي بعد انقلاب يوليو ٢٠١٣ في تحقيق الاستقرار، إلا أن هذه المرتكزات والأسس لا يمكن مناقشتها بعيدا عن مفهوم "فخاخ الاستقرار" الذي صاغه كاتب هذه السطور، ويقصد به تلك الساحة التي تتراكم فيها تناقضات مرتكزات الاستقرار والتي تتغذي أساسا من المخاطر والمظالم ولا يتم معالجتها؛ فالسعي لتحقيق هدف الاستقرار قصير الأجل قد يأتي في بعض الأحيان على حساب الهدف طويل الأجل لتعميق الاستقرار، وحينئذ فإن الأنشطة التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتلبية الاحتياجات العاجلة غالبًا ما تفشل في معالجة القضايا الهيكلية، بل إنها تؤدي إلى تفاقم هذه القضايا الأساسية التي تسبب المظالم وتفاقم المخاطر.
ويزعم كاتب هذه السطور أن نظام 3/7 قد صاغ وامتلك سردية حكمت نظرته إلي ما جري في انتفاضة يناير ٢٠١١؛ ووفق هذه السردية رسم اتجاهات بناء الاستقرار المنشود التي كان جوهرها ليس استعادة لحظة ما قبل يناير بمعالجة تداعياتها علي الدولة المصرية؛ فهو يملك رؤية نقدية لما قبل يناير جوهرها: ضرورة القضاء ومنع كل المقدمات التي أدت إليها، وساعده في ذلك تسرب شعور بالفوضى لدي فئات اجتماعية متسعة بما أوجد دعما شعبيا لسرديته، وهنا يجب التنبه إلي أن الفوضى هي عدو الزمن الانتقالي، وعندما يضطر الناس للاختيار بين الفوضى وأي شيء آخر، فسيختارون أي شيء آخر، بما في ذلك دولة مفترسة متوحشة.
عصبية الملك/السلطة
العصبية بالمعني الخلدوني الشرط الأول للتداول علي السلطة أو نشوء الملك، فمن دون عصبية تلحم الأفراد وتحولهم إلي جماعة متحدة وقادرة علي التصرف علي مسرح التاريخ كقوة متماسكة؛ لن يكون للسلطة عصب، أي اتساق يشد أركانها إلي بعضها ويفرض إرادة القوة والتضحية التي يحتاج إليها كسب الصراع، وأظن أن هذا هو المدخل لفهم دور الجيش الآن وليس العلاقات المدنية العسكرية؛ فلم يكن لدينا قوي مدنية توازن قوة المؤسسة العسكرية بعد ٥٢ إلا لحظة يناير التي لم تدم طويلا (٢٠١١-٢٠١٣) وسعت المؤسسة سريعا لاستردادها، وإذا كان سابقا يمكن الحديث عن تمثيل الجيش لفئات متسعة من المصريين؛ فإنه في السنوات الآخيرة من حكم مبارك حدث تحول بالغ الخطورة علي مؤسسات الدولة المصرية وهو أن التجنيد لها بات ضيقا جدا بما يمكن الحديث معه عن مفهوم "الطائفة" المغلقة.
العصبية -كما أقدمها هنا- بدلا من أن تكون تضامنات أهلية أولية؛ هي تضامنات أولية غير حداثية تدور حول المؤسسة وتتغذي منها، ويصبح الهدف من الاطارين الدستوري والقانوني، والسياسات المتبعة إيجاد ودعم هذه التضامنات.
الهدف إذن هو السلطة/الملك بالتعبير الخلدوني فهو الغاية الأساسية، ولا يوجد عند السيسي مشروع آخر: لا بناء دولة، ولا بناء أمة، ولا إقامة عدالة اجتماعية، وإنما بناء سلطة، وتأمين وسائل القوة الكفيلة بالدفاع عنها.
هناك عصبيات مؤسسية متعددة داخل الدولة المصرية الآن، ولكنها ليست علي قدم المساواة بل هناك تفاوت بينها علي حسب الدور الذي تضلع به في الحفاظ علي الملك، ولكنها تظل عصبيات ملحقة وليست أصيلة. في هذا السياق يمكن الاشارة إلي مؤسستي القضاء والشرطة.
ليست العصبية هدفا في حد ذاتها بل شرط لانتاج العنف الضروري للحفاظ علي الملك، بل هي القمينة بأن توفر له العنف الأعمي البدائي الأول. العصبية هي المرجل الذي يقطر فيه العنف الضروري لفرض الشوكة والهيبة والذي يشكل فيه القبض علي الدولة جائزتها الكبري.
وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل أن نظام 3/7 استطاع أن يبني منظومة متكاملة للتحكم والسيطرة انتجت آلة جهنمية للعنف والقمع تستخدم فيها أدوات متعددة من القانوني والدعوي بالمعني الخلدوني (الايديولوجي)، بالإضافة إلي نظم متكاملة للعقاب في القلب منها منظومة للسجن، وبالطبع قوة صلبة.
هذه الآلة الجهنمية استخدمت أولا ضد الإسلاميين ثم انتقلت إلى جميع المعارضين، ولكنها الآن باتت مرشحة للاستخدام ضد قطاعات متسعة من المصريين كما يظهر في قضايا التصالح على العقارات.
بنيت هذه الآلة مستقلة ومفارقة لآية قاعدة اجتماعية، فأحد السمات الاساسية لهذا النظام أنه متجاوز للطبقات الاجتماعية والجزء الغاطس يقع في قلب مؤسسات الدولة العميقة وتحالفاتها الإقليمية والدولية. انتهت أحد الدراسات التي عالجت العقد الاجتماعي بعد الربيع العربي إلي التالي:
"أعاد السيسي بناء شبكة الامتيازات السابقة. تتمثل أيديولوجيته في توسيع دور الجيش في الطاقة والبناء بمساعدة ثلاثة حلفاء: (1) المانحون الخليجيون (الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت) الذين لديهم حصص في مشاريع الجيش ويتوقعون مساعدة مصر في محاربة الإخوان المسلمين؛ (2) الجيش نفسه عن طريق تعيين جنرالات على جميع مستويات الحكومة تقريبًا؛ (3) مجموعة مختارة من نخبة رجال الأعمال الذين يستفيدون من العقود من الباطن مع الجيش. تمتلك تلك النخب شبكات محلية ودولية واسعة لا غنى عنها، وسيطرة مباشرة على وسائل الإعلام، وبالتالي لا يمكن استبعادها. تمنح الامتيازات [في هذا التحالف] دون أي أهداف تنموية محددة معلن عنها بخلاف توسيع المكانة السياسية للجيش في الدولة".
كما أغلق السيسي أيضاً قنوات الاتصال التقليدية بين الدولة والمجتمع والتي اعتمد عليها مبارك لاستيعاب المظالم الاجتماعية وتهدئتها قبل أن تتصاعد أو كلا الأمرين معاً. فقد كان الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك والمجالس المحلية المنتخبة من أبرز هذه القنوات التي استغلها مبارك. وبعد أن حُلت هاتين المؤسستين بسبب فسادهما -وهو ما يعكس في جانب منه على الأقل المطالب "الثورية" التي نادى بها الثوار في ميدان التحرير- لم يحل محلها أي مؤسسات أخرى منذ ذلك الحين.
ونتيجة لهذا فإن نظام السيسي لا يملك سوى مجموعة محدودة من الأدوات للنظر في المظالم واتخاذ إجراءات بشأنها. ولا يوجد في الواقع سبل لتخفيف الصدمات يُمكن الاستعانة بها، إضافة إلى أن أيّ انتقادات ينظر إليها سريعاً باعتبارها تهديدات أمنية ويتم التعامل معها بناءً على ذلك. وتبرهن مبالغة السلطات في التصدي للاحتجاجات الصغيرة التي اندلعت في أعقاب الاتهامات التي وجهها رجل الأعمال المصري محمد علي إلى السيسي بإهدار المال العام على مشاريع للتباهي، على هشاشة الوضع.
وإذا تبني النظام نهج النيوليبرالية الاقتصادية؛ هنا نصبح إزاء ظاهرتين بالغتا الخطورة: الأولي؛ الانتقال من رأسمالية المحاسيب كما في نظام مبارك إلي رأسمالية محاسيب الطائفة أو العصبية/ات المهيمنة، وتدلنا تجارب بلدان أخري في المنطقة علي هذه الظاهرة؛ فالطوائف في لبنان والعراق تم اختزالها في عدد محدود من محاسيب الطائفة الذين تمتعوا وحدهم بالامتيازات، ومن هنا كان احتجاج أتباع الطوائف في انتفاضات الموجة الثانية من الربيع العربي ٢٠١٩ علي النظام الطائفي وما أنتجه من محاسيب، وبذلك نصبح إزاء مستوطنات زبائنية ذات طابع عصبوي.
الطائفية ممأسسة في العراق أو لبنان بطريقة تستمد منها النخب السياسية سطوتها ونفاذها للموارد والسلطة من ادعاء تمثيلها لطوائف دينية أو مجموعات إثنية،أما الطائفية في مصر التي تستند إلي المؤسسات فيصبح المنوط به تمثيل مصالح المؤسسسة/الطائفة هو من في قمة هرمها التنظيمي الذي يتغير من فترة لأخري؛ لكن يظل الدور والمهمة قائمة:النفاذ إلي الموارد والسلطة لضمان تحقيق مصالح المنتمين للمؤسسة، ويتطلع من في أدني السلم الوظيفي-دائما- إلي هذه المهمة لأنها تدخله في دائرة محاسيب الطائفة.
الظاهرة الثانية: هي أننا لسنا بإزاء رأسمالية جديدة للدولة المصرية، بل بصدد رأسمالية الطائفة والعصبية، ففي الفترة الناصرية من رأسمالية الدولة كان هناك قطاع مدني متسع يساهم في بناء النموذج التنموي لهذه الفترة، أما الآن فنحن بإزاء مقايضة تاريخية بين الرئيس والجيش: الأخير يهيمن علي مجمل المجالات مقابل الدعم والمساندة.
ويحسن أن نناقش لماذا جري إعادة صياغة العلاقة مع القطاع الخاص في هذا النموذج، فالمطروح من السيسي هو الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في ظل هيمنة وتحكم للمؤسسة العسكرية. ويعزي البعض هذه العلاقة لخيبة الأمل في استجابة القطاع الخاص لتوقعات السيسي في مراحل الحكم الأولي، وأطرح أنه بالإضافة لهذا السبب هو أن الوزن النسبي الذي أخذه هذا القطاع في عهد مبارك وأدواره المتعددة وصراعات رموزه ونفاذيته للقرار الاقتصادي بخاصة في العقد الأخير من مبارك؛ كان أحد المقدمات الأساسية ليناير، بل يزعم كاتب هذه السطور أن جوهر مشروع جمال مبارك ولجنة السياسات كان بالإضافة إلي دمج الاقتصاد المصري في هيكل الاقتصاد العالمي؛ هو تحجيم دور الفيتو الذي كان يضطلع به الجيش في الاقتصاد خاصة من خلال سيطرته علي مجمل الأراضي المصرية. "أدت الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية التي أجريت منذ أوائل التسعينات إلى تغيير جذري في الاقتصاد السياسي المصري وغيرت علاقات القوى الطبقية داخل المجتمع المصري. أولاً، كان هناك تحول داخل الكتلة الحاكمة، حيث مكنت الإصلاحات النخب الموجهة نحو الخارج وريادة الأعمال من الأقسام المحافظة الأخرى من الكتلة الحاكمة، وعلى الأخص الجيش المسيطر. وثانياً، تفاقمت محنة صغار المزارعين والعمال ومعظم قطاعات الطبقة الوسطى داخل المجتمع ككل، مما أدى إلى توسيع الانقسام بين الكتلة الحاكمة وهذه الطبقات المتفرقة. النيوليبرالية فتحت مكانًا اجتماعيًا للصراع على السلطة. وقامت بتسييس رجال الاعمال والفئات الاجتماعية الاخري"- [انظر دراسة الإصلاح العربي].
قدمت التسعينات شرطا أساسيا لانهيار النظام الاستبدادي بقيادة حزب الدولة. وكان نمط التطور النيوليبرالي مفتوحًا عن غير قصد، ومحل للتأثيرات المجتمعية المتعددة. وبالتالي، فقد جمع مراكز الصراع على السلطة داخل المجتمع الذي غير توزيع السلطة داخل الكتلة الحاكمة وبين الدولة والمجتمع وأدى في نهاية المطاف إلى تمزق في هيمنة الحزب الواحد.
الخلاصة: أننا بإزاء مشروع بناء دولة مستقلة عن الطبقات الاجتماعية ومتسامية فوقها، فلم تعد الدولة كما في الفترة الناصرية محتلة بالفئات الاجتماعية المتعددة في مقابل احتكار تمثيلها والتعبير عنها، بالاضافة إلى توفير الحماية لها. ومن هنا يمكن فهم تعامل الدولة مع المصريين بمنطق "المواطن الزبون" بما يجعلنا إزاء ظاهرة "الدولة المفترسة"؛ فالهدف هو زيادة الايرادات المتحصلة منه لا تحقيق الرفاهية له.
الدعوة/ايديولوجيا غريزة الخوف
وجد النظام في الفترة الناصرية عددا من المقولات السياسية التي يمكن باستدعائها أن يحرك خيال فئات اجتماعية من الطبقات الوسطي والدنيا فتكون قاعدته الداعمة، يضاف إليها لحظة الانتفاضات العربية وما أحدثته من تداعيات علي السلم الأهلي، وأخيرا كان الضلع الثالث لهذه الايديولوجية هي المواجهة مع الاخوان وسياساتهم الخلافية تحت عنوان "الحرب علي الارهاب" والذي قصد به القضاء علي جميع مظاهر الإسلام السياسي دون تمييز بين معتدل ومتطرف.
قام العقد الاجتماعي إبان الفترة الناصرية على مقايضة بسيطة ولكنها وجدت قبولاً اجتماعية وخلقت قاعدة النظام المساندة له: المسألة الاجتماعية في مقابل الديموقراطية السياسية، أما مع السيسي فقد قامت المقايضة علي الحماية بالمعني الهوبزي مقترنة بحديث عن الرفاهية الاقتصادية التي ضربت لها آجل عديدة دون تحقق. كان الخطاب قوميا: استعادة كرامة مصر بتقليص اعتماد البلاد على الواردات والغرب بشكل عام، وإعادة بناء مصر. علاوة على ذلك، فإن الجيش هو منقذ مصر من الإرهاب، وهو ما يسميه أحد الباحثين ميثاق الحماية، والذي يشير إلى أن العقد الاجتماعي للأغلبية قد تم تجريده من العقد الاجتماعي الأساسي إلى مبدأ هوبز الأساسي المتمثل في توفير القانون والنظام. ومع ذلك، فإن بعض التوزيع للموارد من الجيش إلى الجمهور يتم في شكل منح، كما لو كان المستفيدون يتلقون إحسانا بدلاً من الخدمات الممولة من الضرائب. [انظر دراسة العقد الاجتماعي بعد الربيع العربي].
الاضطرابات الإقليمية المستمرة والحرب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن وصعود الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق سمحت لنظام السيسي بترسيم الحدود السياسية من خلال لعب دور المدافع عن السيادة الوطنية، وأظهرت الجيش نفسه على أنه الحكم الوحيد لخلافات القوى الاجتماعية الجديدة وكذا القوي السياسية، وقائد الجيش منقذ الأمة من الصراع الأهلي والنزاع الطائفي من جهة أخرى.
سهل المنطق الجيوسياسي استنساخ سلاسل العدو والتهديد في السياسة المحلية لاستعادة الدعم الاجتماعي للحكم الاستبدادي ومنع الديمقراطية. تقدم لنا بعض الدراسات ثلاثة تفسيرات لتراجع اهتمام بعض الفئات الاجتماعية العربية بالديموقراطية مدعومة بنتائج الباروميتر العربي: تراجع تصورات السلامة والأمن وخاصة على المستوي الشخصي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتصور متزايد لعدم المساواة بسبب تزايد الطائفية والفساد. وأتساءل مع هذه الدراسات عن أثر توفير النظام المصري للبعد الأول مع غياب البعدين الأخيرين على تحقيق الاستقرار على المدي الطويل؟
تحقيق الأمن دون التنمية الاقتصادية قد يؤدي إلى نوع من الاستقرار على المدى القصير فقط، ولكنه لن يعالج المطالب الشعبية بالحصول على الفرص الاقتصادية والمساواة في توزيعها والكرامة، وعلى العكس من ذلك، فإنه من دون ضمان الأمن تكون المبادرات الاقتصادية للحكومة عُرضة لتهديدات متزايدة من العنف خارج نطاق القانون– ومثال على ذلك ليبيا.
فخاخ الايديولوجيا الثلاثة
أولا: لماذا الطلب المتصاعد على الاستقرار؟ يبدو أن الإجابة تكمن في قدرة النظام على الحد من انعدام الأمن الشخصي لدى للمواطنين، في فترة كانت تعصف بالمنطقة الحروب والاضطرابات، وهو ذلك الشعور بعدم الأمان الذي استغلته المنابر الإعلامية التي تسيطر عليها الدولة والتي أخذت تلهج بشعار أن مصر تفادت مصير ليبيا وسوريا. فقد كشفت استطلاعات الرأي التي أجرتها شبكة "الباروميتر العربي" عن تحسن مستويات الأمن الشخصي، مقرونة بالشعور بزيادة مستويات انعدام الأمن الاقتصادي. إذ يُظهر المتغير الأول (الحكومة "تضمن أو تضمن بالكامل" توفير الأمن) تحسناً ملحوظاً بنسبة تقارب 80% منذ عام 2016 (بالتوازي مع نشوب الصراعات المسلحة في سوريا وليبيا واليمن)، بعد أن شهدت هبوطاً حاداً بلغ 19% فقط عام 2013. أما المتغير الثاني، وهو الشعور بانعدام الأمن الاقتصادي، فقد ظل مرتفعاً. فضلاً عن أن نسبة المواطنين الذين يشعرون بالرضا إزاء الجهود التي تبذلها الحكومة لخلق فرص العمل (جيد أو جيد جداً) لا تتجاوز 20% فقط، وفقاً لآخر استطلاع أجرته شبكة "الباروميتر العربي. [تابع التفاصيل في دراسة الإصلاح العربي]
لذا، يبدو حتى الآن أن الأمن الشخصي ما يزال يتفوق على الأمن الاقتصادي، إلا أن ذلك آخذ في الانحسار. ولكن إلى متى قد يدوم هذا الأمر؟ ففي الوقت نفسه، يُمكن ملاحظة ارتفاع وتيرة التوترات الاجتماعية التي تتجلى بوضوح في انهيار الثقة الاجتماعية. فعندما سأل الباروميتر عن إمكانية الثقة في الأشخاص الآخرين، أجاب 30% فقط من المشاركين في الاستطلاع بنعم عام 2019 مقابل 55% عام 2011 ("يمكن الثقة في معظم الأشخاص"). وفي حين كان 10% فقط يفكرون في الهجرة عام 2011، فقد ازدادت النسبة زيادة هائلة بلغت 30% وفقاً لآخر استطلاع أجرته شبكة "الباروميتر العربي".
تشير هذه الأرقام -كما تري دراسة الإصلاح العربي- إلى معضلة محيرة ستكون على الأرجح نتائجها سلبية. إذ إن أيّ تخفيف للقبضة الأمنية المشددة قبل تخفيف التوترات الاجتماعية الناجمة عن الظروف الاقتصادية الصعبة من شأنه أن يزعزع استقرار النظام، مع ذلك، أيّ تدابير أخرى تهدف لقمع المعارضة من شأنها أن تسهم في تفاقم الظروف الاقتصادية الصعبة أصلاً، وبالتالي قد تتسبب في تزايد حالة السخط.
ثانيا: خفف الخط الفاصل بين المعارضة المعتدلة والراديكالية الضغوط على نظام مبارك، وساعده على إدامة موقعه المهيمن، وعرقل أي محاولة كبيرة لتشكيل تحالف معارض وتحويل الانفصال الاجتماعي إلى حشد شعبي. أنا أدرك بالطبع أنه ليس مطروحا على بقايا المعارضة المصرية بناء تحالف فيما بينها، لكن النظام بمعاداته لجميع القوي السياسية والانتهاك الممنهج لحقوق الانسان خلق أرضية من التضامن الانساني متجاوز للانتماءات السياسية والايديولوجية، كما أن سياساته الاقتصادية التي أضير منها قطاع واسع من المواطنين أوجد قاعدة اجتماعية متسعة للمعارضة لم تحسن استغلالها حتى الآن في معركتها مع النظام لفتح المجال العام. وهكذا يوسع النظام بشكل دائم ومستمر من معارضيه ويضيف إليهم أطرافا جدداً كل يوم.
ثالثا: يتسم الطور الانتقالي العربي بأن الدولة باتت محل تساؤل بحيث يصير المطلوب بناؤها بإعادة التفكير فيها؛ فالتحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي هو إحداث تحول ديموقراطي ذا جوهر اجتماعي؛ أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة؛ ولكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء. فقد انتهت صيغة دولة يوليو في مصر (ودولة ما بعد الاستقلال في المنطقة)، ولا يمكن استعادتها لاختلاف السياقات التاريخية التي انتجتها، وللأسف تم تبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار القرنين الأخيرين في مصر، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي. بحيث بتنا الآن مع السيسي أمام معضلة تصيب كل الدول العربية وهي أن استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.
وعزز من ذلك اختزال الدولة في شخص ومؤسسة وحيدة؛ فقد عزز السيسي أيضاً نفوذه كثيراً من خلال الاستحواذ على سلطة تعيين وإقالة رؤساء الهيئات الرئيسية جميعا: رؤساء الهيئات الرقابية والقضائية الرئيسية في الدولة، مثل الجهاز المركزي للمحاسبات والمحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض وهيئة النيابة الإدارية ومجلس الدولة، ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات بالإضافة إلى المحافظين ...إلخ. وعزز من هيمنة المؤسسة العسكرية بإعطائها الاشراف الكامل علي جهاز الدولة المصرية وتنفيذ المشروعات التي يطلق عليها قومية.
تصحير وطأفنة المجال العام
تكاملت ثلاث ظواهر في المجال العام المصري بعد يوليو٢٠١٣: فمع التصحير -أي مصادرة أية مجال عام تعددي حر-كان لابد من تطييف هذا المجال من خلال التعامل مع بعض مكوناته باعتبارهم طائفة يجب الاستجابة للامتيازات في مقابل الدعم والتأييد، ويستكمل ذلك ببناء منظومة متكاملة للسيطرة والتحكم في مقدرات المجتمع جميعا؛ تستخدم فيها التكنولوجيا بكثافة.
أما عن الطأفنة؛ فيقول المستشار طارق البشري في الحوارات الهامة التي أجراها مع الباحث المتميز مدحت الليثي وصدرت في ٥٥٠ صفحة عن دار البشير هذا العام:
"ومن المهم ملاحظة مشروع طأفنة مصر على ضوء الصراع الراهن منذ الثورات فالعلمانيون لا يتعاملون باعتبارهم قوة ذات فكر ومشروع مفتوح للجميع، بقدر ما يبحثون لأنفسهم عن حقوق وضمانات حماية على طريقة الطوائف والأقليات، وبالمثل تفعل الكنيسة والقيادات المسيحية، بل إن خطاب المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية وبعض الفئات يعتمد منطق المحاصصة التي لا تجعل من مصر وطنا بل شركة مساهمة أو مستوطنات محتلة ،وهذا من أخطر ما يمكن أن تؤول إليه أوضاعنا " ص٢٢٣
وأضيف : إن أخطر ما جري في دستور ٢٠١٤ أن خضع لابتزاز الطوائف فمأسسها، وكان قانون بناء الكنائس في مسودته الأولي قد استخدم لفظ الطائفة لولا تدخل ا. سمير مرقص حين كتب منتقدا ذلك فإستبدلوها بلفظ الكنائس. وأقول أن الطأفنة أو التطييف قد طالت الحركات الإسلامية عامة، فتلبسها نفس الداء حين تحولت الي تنظيمات مغلقة تسيطر عليها مصالحها الذاتية الضيقة حين لم تستطع أن تعبر عن التيار الأساسي.
يدرك النظام أن المجال العام المقيد الذي سمح به مبارك بعد ٢٠٠٥ -أو أجبر علي السماح به -هو الذي أنتج انتفاضة يناير، لذا يصبح المطلوب هو تصحير هذا المجال تماما، أي جعله صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، فلا مجتمع مدني ولا أحزاب ولا صحافة حرة ولا قطاع خاص ولا نقابات عمالية مستقلة أو حكومية، ولا مجال ديني تعددي، ولا جامعات ولا بحث علمي حر، حتي السوشال ميديا التي لم يستطع منعها تصير تكلفة الرأي فيها مرتفعة جدا. والمؤسسات التشريعية المنتخبة صوريا تتم هندستها كاملة من الأجهزة الأمنية بما يحول دون أن تلعب دورا في إدارة الصراعات الاجتماعية والسياسية وتحويلها من المجتمع إلي داخل هذه المؤسسات، فقد غاب عن النطام صمام الضغط والمساحة السياسيّة اللازمة لاستيعاب الظروف الاجتماعيّة المتدهورة وتصاعد مستويات السخط.
يُخيم على المشهد العام في مصر صورة مجتمع تتعرض فيه معظم أشكال التنظيم والتمثيل للقمع، وبالتالي فإنها عاجزة عن الدفع باتجاه إجراء إصلاحات داخلية لازمة، وهو مجتمع تشعر فيه السلطات العامة على الدوام بعدم الأمان -بالرغم من سحق كل أشكال المعارضة- وبالتالي فإنها تعتمد على القوة لمواجهة التحديات.
خطورة التصحير ليس فقط مصادرة الصراع الاجتماعي بالقمع، ولكنه يحرر الآلة الجهنمية للقمع من أية اعتبارات سياسية؛ فتصير حرة طليقة من الاعتبارين الاجتماعي والسياسي.
أما منظومة السيطرة والتحكم في المجتمع باستخدام التكنولوجيا وبناء قواعد البيانات فيحتاج إلي دراسة مستقلة تتبع المجالات التي يبني فيها ذلك، لكن الملمح الهام في هذا القبيل أنه تحت دعاوي تحديث الدولة المصرية ومحاربة الارهاب يجري بشكل متصاعد إدخال المجالات كافة تحت المظلة الرسمية، ويمكن ملاحظة ذلك في إزدياد إستخدام الكاميرات، والتعامل مع الاقتصاد غير الرسمي، والاجراءات المتعلقة بالقطاع المصرفي، وفي قطاع المرور، وأخيراً وليس آخراً عمل ملف كودي لكل شقة، كما أعلن رئيس الوزراء في بيانه يوم ٩سبتمبر.
برغم أن الوضع الراهن قد يبدو مستقراً في الأمد القريب، لكنه استقراراً يستند إلى قاعدة ضعيفة. إذ يتطلب الوضع الاقتصادي الضعيف أصلاً، وهو الذي يزداد سوءاً بسبب جائحة كوفيد-19، إجراء تغييرات استراتيجية في النهج الذي يتبعه النظام. ولا سبيل لذلك سوى البدء في عملية إصلاح تدريجي من القمة والتي من شأنها أن تسمح بالمشاركة الحقيقية، وإلا فإن البديل هو حدوث انفجار اجتماعي في نهاية المطاف، وهو انفجار تزداد احتمالات وقوعه بسبب غياب أية مؤسسات سياسية قادرة على استيعاب المطالب الاجتماعية وبلورتها تمهيدا للتعامل معها. من واقع التجربة، عندما يتدهور الوضع، سيتركز الدعم على إجراء إصلاحات مؤقتة ستفشل حتماً في تقديم أيّة رؤية طويلة الأجل.
شبكة مصالح دولية وإقليمية
من اللحظة الأولي لتدشين نظام 3/7 كان جزءا من محور إقليمي اجتمعت فيه مصالح أطراف عدة كان يهمها القضاء علي الانتفاضات العربية واحتواء تداعياتها، لذا فقد تلقى من الدول الخليجية الداعمة الثلاثة -السعودية والامارات والكويت-مايزيد علي ٢٣مليار دولار وفق تقدير أحد الدراسات، وقد إستخدمت هذه الأموال في زيادة القدرات القمعية للنظام الجديد، والحفاظ على مؤسسة عسكرية مخلصة، ودرء عدم الاستقرار الاقتصادي بعد عام 2013.
كما وفرت له منظومة العلاقات الدولية والأقليمية القدرة على الاقتراض بما يزيد عن ١٠٠ مليار دولار حتي الآن، كما حمته من الانتقادات الموجهة له في مجال حقوق الانسان.
استثمر النظام كثيرا في بناء شبكة المصالح هذه واستخدم فيها أدوات متعددة، كما ساعده تطورات إقليمية ودولية مثل: تشكل محور إقليمي بقيادة السعودية والإمارات للقضاء علي مجمل حركات الإسلام السياسي دون تمييز بين معتدل ومتطرف، وصعود الدولة الإسلامية في سوريا والعراق والحرب علي الارهاب، والعداء ضد إيران الذي امتد إلي حرب في اليمن، ومجيئ ترامب إلي الحكم وتبنيه ما يطلق عليه صفقة القرن، بالإضافة تصاعد النفوذ الروسي في المنطقة ورغبتها في العودة إليها، والمخاوف الأوربية من تصاعد الارهاب والهجرة غير الشرعية ...إلخ ، وهكذا لعبت السياقات الدولية والإقليمية دورا بارزا في استقرار النظام الجديد في مصر بعد يوليو ٢٠١٣.
أتصور أن هناك فخاخا ثلاثة باتت تواجه النظام من منظور علاقاته الدولية والإقليمية: الأول أن هذه البيئة متغيرة بأسرع مما نتخيل، ومع كورونا ستزيد عوامل التغير بشكل أسرع؛ فعلي سبيل المثال كيف يتعامل النظام مع الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة والتي عمقتها أزمة الوباء، وهل يمكن أن يخلق لنفسه طريقا وسطا بين الحفاظ على العلاقات الخاصة التي تربط مصر بالولايات المتحدة وبين تحقيق مصالحه مع الصين، أم يجب عليه الاختيار بينهما؟
مثال آخر؛ إذا تغير ساكن البيت الأبيض فمن المتوقع أن تكون هناك بعض الضغوط على الأقل في ملف حقوق الانسان [أنا لا أتوقع تغيراً كبيراً فيما يخص أوضاع الداخل المصري]، إلا أن الأهم أن التغييرات ستلحق بشكل أكبر المحاور الأقليمية الثلاثة في المنطقة (الإيراني، والتركي القطري، والسعودي الإماراتي الذي مصر جزءا منه).
متغير آخر وهو انخفاض سعر النفط وتداعيات أزمة كورونا التي جعلت استمرار الدعم المالي الخليجي محل شك، وفي نفس الوقت قلل تحويلات المصريين من الخارج بنسبة ٣٠٪ في وقت تراجعت فيه مصادر النقد الاجنبي الأخري أو انعدمت.
وأخيرا فقد لعبت سياسة المحاور الإقليمية الثلاثة في المنطقة دورا في تصاعد عدم الاستقرار، وخلق بيئة تتقاطع فيها الصراعات على المستويات كافة، ولقد حدت هذه البيئة الصراعية غير المستقرة من قدرات النظام علي التعامل مع تهديدات الأمن القومي؛ ويمكن أن نضرب بسد النهضة مثالا، فقد تنازعت النظام مهددات كثيرة للأمن القومي المصري في ظل هشاشة تسم أوضاع الدولة المصرية بما حد من قدرتها علي التعامل بفاعلية مع هذه المهددات.
وأختم متسائلا كما تساءلت ورقة مبادرة الإصلاح العربي: "لا يزال مصدر القوة الرئيسي الذي تتمتع به مصر، الذي يعد عبئاً أيضاً، هو أنها "أكبر من أن تفشل"، ولكن هل من المتوقع أن يستمر سعي دول مجلس التعاون الخليجي والغرب إلى تحقيق مكاسب أو التماس مصالح سياسية على نفس المستوى خلال الأوضاع الجديدة في عالم ما بعد كورونا؟ هل ننظر إلى موقف يتحول فيه تعبير "أكبر من أن تفشل" في نهاية المطاف إلى "تمثل عبئاً ثقيلاً ولا تستحق عناء الإنقاذ"؟
أم نكون بإزاء نهج جديد في السياسة والاقتصاد ينقذ به العباد والبلاد.