فخاخ الاستقرار ونظام ٧/٣ في مصر

فخاخ الاستقرار ونظام ٧/٣ في مصر

فخاخ الاستقرار ونظام ٧/٣ في مصر

By : Ahmad Elghoneimy أحمد الغنيمي

تنتهي دراسة حديثة لمبادرة الإصلاح العربي https://www.arab-reform.net/ar/publication/مصر-بعد-فيروس-كورونا-العودة-إلى-المربع/ إلى خلاصة: "لقد تم بناء استقرار الأمن والاقتصاد الكلي في مصر مؤخراً على أسس ضعيفة، كشفت عن هشاشتها جائحة كوفيد-19.  وبالتالي عادت البلاد الآن إلى نُقْطَة البِدَايَة، في موقفٍ يشبه إلى حد بعيد ما كانت عليه قبل ثورة 2011: مستقرة في الظاهر، ولكن في الداخل ثمّة مشكلات بنيويّة عميقة ومظالِم اجتماعيّة محتدمة، مع استنفاد كل ما يمكن أن يخفّف من حدّتها."

ويتوقع كوردسمان في دراسته بعنوان: "الشرق الأوسط الكبير: من الربيع العربي إلي محور الدول الفاشلة" التي صدرت أغسطس الماضي لمصر في سنواتها الخمس القادمة :"تظل مصر دولة فاشلة ما لم يتم تخفيف القمع، ويحدث إصلاح اقتصادي جاد بالفعل."

يهدف هذا المقال -إذن- إلي بيان المرتكزات الأساسية التي استند إليها نظام السيسي بعد انقلاب يوليو ٢٠١٣ في تحقيق الاستقرار، إلا أن هذه المرتكزات والأسس لا يمكن مناقشتها بعيدا عن مفهوم "فخاخ الاستقرار" الذي صاغه كاتب هذه السطور، ويقصد به تلك الساحة التي تتراكم فيها تناقضات مرتكزات الاستقرار والتي تتغذي أساسا من المخاطر والمظالم ولا يتم معالجتها؛ فالسعي لتحقيق هدف الاستقرار قصير الأجل قد يأتي في بعض الأحيان على حساب الهدف طويل الأجل لتعميق الاستقرار، وحينئذ فإن الأنشطة التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتلبية الاحتياجات العاجلة غالبًا ما تفشل في معالجة القضايا الهيكلية، بل إنها تؤدي إلى تفاقم هذه القضايا الأساسية التي تسبب المظالم وتفاقم المخاطر.

ويزعم كاتب هذه السطور أن نظام 3/7 قد صاغ وامتلك سردية حكمت نظرته إلي ما جري في انتفاضة يناير ٢٠١١؛ ووفق هذه السردية رسم اتجاهات بناء الاستقرار المنشود التي كان جوهرها ليس استعادة لحظة ما قبل يناير بمعالجة تداعياتها علي الدولة المصرية؛ فهو يملك رؤية نقدية لما قبل يناير جوهرها: ضرورة القضاء ومنع كل المقدمات التي أدت إليها، وساعده في ذلك تسرب شعور بالفوضى لدي فئات اجتماعية متسعة بما أوجد دعما شعبيا لسرديته، وهنا يجب التنبه إلي أن الفوضى هي عدو الزمن الانتقالي، وعندما يضطر الناس للاختيار بين الفوضى وأي شيء آخر، فسيختارون أي شيء آخر، بما في ذلك دولة مفترسة متوحشة.

عصبية الملك/السلطة

العصبية بالمعني الخلدوني الشرط الأول للتداول علي السلطة أو نشوء الملك، فمن دون عصبية تلحم الأفراد وتحولهم إلي جماعة متحدة وقادرة علي التصرف علي مسرح التاريخ كقوة متماسكة؛ لن يكون للسلطة عصب، أي اتساق يشد أركانها إلي بعضها ويفرض إرادة القوة والتضحية التي يحتاج إليها كسب الصراع، وأظن أن هذا هو المدخل لفهم دور الجيش الآن وليس العلاقات المدنية العسكرية؛ فلم يكن لدينا قوي مدنية توازن قوة المؤسسة العسكرية بعد ٥٢ إلا لحظة يناير التي لم تدم طويلا (٢٠١١-٢٠١٣) وسعت المؤسسة سريعا لاستردادها، وإذا كان سابقا يمكن الحديث عن تمثيل الجيش لفئات متسعة من المصريين؛ فإنه في السنوات الآخيرة من حكم مبارك حدث تحول بالغ الخطورة علي مؤسسات الدولة المصرية وهو أن التجنيد لها بات ضيقا جدا بما يمكن الحديث معه عن مفهوم "الطائفة" المغلقة.

العصبية -كما أقدمها هنا- بدلا من أن تكون تضامنات أهلية أولية؛ هي تضامنات أولية غير حداثية تدور حول المؤسسة وتتغذي منها، ويصبح الهدف من الاطارين الدستوري والقانوني، والسياسات المتبعة إيجاد ودعم هذه التضامنات.

الهدف إذن هو السلطة/الملك بالتعبير الخلدوني فهو الغاية الأساسية، ولا يوجد عند السيسي مشروع آخر: لا بناء دولة، ولا بناء أمة، ولا إقامة عدالة اجتماعية، وإنما بناء سلطة، وتأمين وسائل القوة الكفيلة بالدفاع عنها.

هناك عصبيات مؤسسية متعددة داخل الدولة المصرية الآن، ولكنها ليست علي قدم المساواة بل هناك تفاوت بينها علي حسب الدور الذي تضلع به في الحفاظ علي الملك، ولكنها تظل عصبيات ملحقة وليست أصيلة. في هذا السياق يمكن الاشارة إلي مؤسستي القضاء والشرطة.

ليست العصبية هدفا في حد ذاتها بل شرط لانتاج العنف الضروري للحفاظ علي الملك، بل هي القمينة بأن توفر له العنف الأعمي البدائي الأول. العصبية هي المرجل الذي يقطر فيه العنف الضروري لفرض الشوكة والهيبة والذي يشكل فيه القبض علي الدولة جائزتها الكبري.

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل أن نظام 3/7 استطاع أن يبني منظومة متكاملة للتحكم والسيطرة انتجت آلة جهنمية للعنف والقمع تستخدم فيها أدوات متعددة من القانوني والدعوي بالمعني الخلدوني (الايديولوجي)، بالإضافة إلي نظم متكاملة للعقاب في القلب منها منظومة للسجن، وبالطبع قوة صلبة.

هذه الآلة الجهنمية استخدمت أولا ضد الإسلاميين ثم انتقلت إلى جميع المعارضين، ولكنها الآن باتت مرشحة للاستخدام ضد قطاعات متسعة من المصريين كما يظهر في قضايا التصالح على العقارات.

بنيت هذه الآلة مستقلة ومفارقة لآية قاعدة اجتماعية، فأحد السمات الاساسية لهذا النظام أنه متجاوز للطبقات الاجتماعية والجزء الغاطس يقع في قلب مؤسسات الدولة العميقة وتحالفاتها الإقليمية والدولية. انتهت أحد الدراسات التي عالجت العقد الاجتماعي بعد الربيع العربي إلي التالي:

"أعاد السيسي بناء شبكة الامتيازات السابقة. تتمثل أيديولوجيته في توسيع دور الجيش في الطاقة والبناء بمساعدة ثلاثة حلفاء: (1) المانحون الخليجيون (الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت) الذين لديهم حصص في مشاريع الجيش ويتوقعون مساعدة مصر في محاربة الإخوان المسلمين؛ (2) الجيش نفسه عن طريق تعيين جنرالات على جميع مستويات الحكومة تقريبًا؛ (3) مجموعة مختارة من نخبة رجال الأعمال الذين يستفيدون من العقود من الباطن مع الجيش. تمتلك تلك النخب شبكات محلية ودولية واسعة لا غنى عنها، وسيطرة مباشرة على وسائل الإعلام، وبالتالي لا يمكن استبعادها. تمنح الامتيازات [في هذا التحالف] دون أي أهداف تنموية محددة معلن عنها بخلاف توسيع المكانة السياسية للجيش في الدولة".

كما أغلق السيسي أيضاً قنوات الاتصال التقليدية بين الدولة والمجتمع والتي اعتمد عليها مبارك لاستيعاب المظالم الاجتماعية وتهدئتها قبل أن تتصاعد أو كلا الأمرين معاً. فقد كان الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك والمجالس المحلية المنتخبة من أبرز هذه القنوات التي استغلها مبارك. وبعد أن حُلت هاتين المؤسستين بسبب فسادهما -وهو ما يعكس في جانب منه على الأقل المطالب "الثورية" التي نادى بها الثوار في ميدان التحرير- لم يحل محلها أي مؤسسات أخرى منذ ذلك الحين.

ونتيجة لهذا فإن نظام السيسي لا يملك سوى مجموعة محدودة من الأدوات للنظر في المظالم واتخاذ إجراءات بشأنها. ولا يوجد في الواقع سبل لتخفيف الصدمات يُمكن الاستعانة بها، إضافة إلى أن أيّ انتقادات ينظر إليها سريعاً باعتبارها تهديدات أمنية ويتم التعامل معها بناءً على ذلك. وتبرهن مبالغة السلطات في التصدي للاحتجاجات الصغيرة التي اندلعت في أعقاب الاتهامات التي وجهها رجل الأعمال المصري محمد علي إلى السيسي بإهدار المال العام على مشاريع للتباهي، على هشاشة الوضع.

وإذا تبني النظام نهج النيوليبرالية الاقتصادية؛ هنا نصبح إزاء ظاهرتين بالغتا الخطورة: الأولي؛ الانتقال من رأسمالية المحاسيب كما في نظام مبارك إلي رأسمالية محاسيب الطائفة أو العصبية/ات المهيمنة، وتدلنا تجارب بلدان أخري في المنطقة علي هذه الظاهرة؛ فالطوائف في لبنان والعراق تم اختزالها في عدد محدود من محاسيب الطائفة الذين تمتعوا وحدهم بالامتيازات، ومن هنا كان احتجاج أتباع الطوائف في انتفاضات الموجة الثانية من الربيع العربي ٢٠١٩ علي النظام الطائفي وما أنتجه من محاسيب، وبذلك نصبح إزاء مستوطنات زبائنية ذات طابع عصبوي.

الطائفية ممأسسة في العراق أو لبنان بطريقة تستمد منها النخب السياسية سطوتها ونفاذها للموارد والسلطة من ادعاء تمثيلها لطوائف دينية أو مجموعات إثنية،أما الطائفية في مصر التي تستند إلي المؤسسات فيصبح المنوط به تمثيل مصالح المؤسسسة/الطائفة هو من في قمة هرمها التنظيمي الذي يتغير من فترة لأخري؛ لكن يظل الدور والمهمة قائمة:النفاذ إلي الموارد والسلطة لضمان تحقيق مصالح  المنتمين للمؤسسة، ويتطلع من في أدني السلم الوظيفي-دائما- إلي هذه المهمة لأنها تدخله في دائرة محاسيب الطائفة. 

الظاهرة الثانية: هي أننا لسنا بإزاء رأسمالية جديدة للدولة المصرية، بل بصدد رأسمالية الطائفة والعصبية، ففي الفترة الناصرية من رأسمالية الدولة كان هناك قطاع مدني متسع يساهم في بناء النموذج التنموي لهذه الفترة، أما الآن فنحن بإزاء مقايضة تاريخية بين الرئيس والجيش: الأخير يهيمن علي مجمل المجالات مقابل الدعم والمساندة.

ويحسن أن نناقش لماذا جري إعادة صياغة العلاقة مع القطاع الخاص في هذا النموذج، فالمطروح من السيسي هو الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في ظل هيمنة وتحكم للمؤسسة العسكرية. ويعزي البعض هذه العلاقة لخيبة الأمل في استجابة القطاع الخاص لتوقعات السيسي في مراحل الحكم الأولي، وأطرح أنه بالإضافة لهذا السبب هو أن الوزن النسبي الذي أخذه هذا القطاع في عهد مبارك وأدواره المتعددة وصراعات رموزه ونفاذيته للقرار الاقتصادي بخاصة في العقد الأخير من مبارك؛ كان أحد المقدمات الأساسية ليناير، بل يزعم كاتب هذه السطور أن جوهر مشروع جمال مبارك ولجنة السياسات كان بالإضافة إلي دمج الاقتصاد المصري في هيكل الاقتصاد العالمي؛ هو تحجيم دور الفيتو الذي كان يضطلع به الجيش في الاقتصاد خاصة من خلال سيطرته علي مجمل الأراضي المصرية. "أدت الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية التي أجريت منذ أوائل التسعينات إلى تغيير جذري في الاقتصاد السياسي المصري وغيرت علاقات القوى الطبقية داخل المجتمع المصري. أولاً، كان هناك تحول داخل الكتلة الحاكمة، حيث مكنت الإصلاحات النخب الموجهة نحو الخارج وريادة الأعمال من الأقسام المحافظة الأخرى من الكتلة الحاكمة، وعلى الأخص الجيش المسيطر. وثانياً، تفاقمت محنة صغار المزارعين والعمال ومعظم قطاعات الطبقة الوسطى داخل المجتمع ككل، مما أدى إلى توسيع الانقسام بين الكتلة الحاكمة وهذه الطبقات المتفرقة. النيوليبرالية فتحت مكانًا اجتماعيًا للصراع على السلطة. وقامت بتسييس رجال الاعمال والفئات الاجتماعية الاخري"- [انظر دراسة الإصلاح العربي].

قدمت التسعينات شرطا أساسيا لانهيار النظام الاستبدادي بقيادة حزب الدولة. وكان نمط التطور النيوليبرالي مفتوحًا عن غير قصد، ومحل للتأثيرات المجتمعية المتعددة. وبالتالي، فقد جمع مراكز الصراع على السلطة داخل المجتمع الذي غير توزيع السلطة داخل الكتلة الحاكمة وبين الدولة والمجتمع وأدى في نهاية المطاف إلى تمزق في هيمنة الحزب الواحد.

الخلاصة: أننا بإزاء مشروع بناء دولة مستقلة عن الطبقات الاجتماعية ومتسامية فوقها، فلم تعد الدولة كما في الفترة الناصرية محتلة بالفئات الاجتماعية المتعددة في مقابل احتكار تمثيلها والتعبير عنها، بالاضافة إلى توفير الحماية لها. ومن هنا يمكن فهم تعامل الدولة مع المصريين بمنطق "المواطن الزبون" بما يجعلنا إزاء ظاهرة "الدولة المفترسة"؛ فالهدف هو زيادة الايرادات المتحصلة منه لا تحقيق الرفاهية له.

الدعوة/ايديولوجيا غريزة الخوف

وجد النظام في الفترة الناصرية عددا من المقولات السياسية التي يمكن باستدعائها أن يحرك خيال فئات اجتماعية من الطبقات الوسطي والدنيا فتكون قاعدته الداعمة، يضاف إليها لحظة الانتفاضات العربية وما أحدثته من تداعيات علي السلم الأهلي، وأخيرا كان الضلع الثالث لهذه الايديولوجية هي المواجهة مع الاخوان وسياساتهم الخلافية تحت عنوان "الحرب علي الارهاب" والذي قصد به القضاء علي جميع مظاهر الإسلام السياسي دون تمييز بين معتدل ومتطرف.

قام العقد الاجتماعي إبان الفترة الناصرية على مقايضة بسيطة ولكنها وجدت قبولاً اجتماعية وخلقت قاعدة النظام المساندة له: المسألة الاجتماعية في مقابل الديموقراطية السياسية، أما مع السيسي فقد قامت المقايضة علي الحماية بالمعني الهوبزي مقترنة بحديث عن الرفاهية الاقتصادية التي ضربت لها آجل عديدة دون تحقق. كان الخطاب قوميا: استعادة كرامة مصر بتقليص اعتماد البلاد على الواردات والغرب بشكل عام، وإعادة بناء مصر. علاوة على ذلك، فإن الجيش هو منقذ مصر من الإرهاب، وهو ما يسميه أحد الباحثين ميثاق الحماية، والذي يشير إلى أن العقد الاجتماعي للأغلبية قد تم تجريده من العقد الاجتماعي الأساسي إلى مبدأ هوبز الأساسي المتمثل في توفير القانون والنظام. ومع ذلك، فإن بعض التوزيع للموارد من الجيش إلى الجمهور يتم في شكل منح، كما لو كان المستفيدون يتلقون إحسانا بدلاً من الخدمات الممولة من الضرائب. [انظر دراسة العقد الاجتماعي بعد الربيع العربي].

الاضطرابات الإقليمية المستمرة والحرب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن وصعود الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق سمحت لنظام السيسي بترسيم الحدود السياسية من خلال لعب دور المدافع عن السيادة الوطنية، وأظهرت الجيش نفسه على أنه الحكم الوحيد لخلافات القوى الاجتماعية الجديدة وكذا القوي السياسية، وقائد الجيش منقذ الأمة من الصراع الأهلي والنزاع الطائفي من جهة أخرى.

سهل المنطق الجيوسياسي استنساخ سلاسل العدو والتهديد في السياسة المحلية لاستعادة الدعم الاجتماعي للحكم الاستبدادي ومنع الديمقراطية. تقدم لنا بعض الدراسات ثلاثة تفسيرات لتراجع اهتمام بعض الفئات الاجتماعية العربية بالديموقراطية مدعومة بنتائج الباروميتر العربي: تراجع تصورات السلامة والأمن وخاصة على المستوي الشخصي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتصور متزايد لعدم المساواة بسبب تزايد الطائفية والفساد. وأتساءل مع هذه الدراسات عن أثر توفير النظام المصري للبعد الأول مع غياب البعدين الأخيرين على تحقيق الاستقرار على المدي الطويل؟

تحقيق الأمن دون التنمية الاقتصادية قد يؤدي إلى نوع من الاستقرار على المدى القصير فقط، ولكنه لن يعالج المطالب الشعبية بالحصول على الفرص الاقتصادية والمساواة في توزيعها والكرامة، وعلى العكس من ذلك، فإنه من دون ضمان الأمن تكون المبادرات الاقتصادية للحكومة عُرضة لتهديدات متزايدة من العنف خارج نطاق القانون– ومثال على ذلك ليبيا.

فخاخ الايديولوجيا الثلاثة

أولا: لماذا الطلب المتصاعد على الاستقرار؟ يبدو أن الإجابة تكمن في قدرة النظام على الحد من انعدام الأمن الشخصي لدى للمواطنين، في فترة كانت تعصف بالمنطقة الحروب والاضطرابات، وهو ذلك الشعور بعدم الأمان الذي استغلته المنابر الإعلامية التي تسيطر عليها الدولة والتي أخذت تلهج بشعار أن مصر تفادت مصير ليبيا وسوريا. فقد كشفت استطلاعات الرأي التي أجرتها شبكة "الباروميتر العربي" عن تحسن مستويات الأمن الشخصي، مقرونة بالشعور بزيادة مستويات انعدام الأمن الاقتصادي. إذ يُظهر المتغير الأول (الحكومة "تضمن أو تضمن بالكامل" توفير الأمن) تحسناً ملحوظاً بنسبة تقارب 80% منذ عام 2016 (بالتوازي مع نشوب الصراعات المسلحة في سوريا وليبيا واليمن)، بعد أن شهدت هبوطاً حاداً بلغ 19% فقط عام 2013. أما المتغير الثاني، وهو الشعور بانعدام الأمن الاقتصادي، فقد ظل مرتفعاً. فضلاً عن أن نسبة المواطنين الذين يشعرون بالرضا إزاء الجهود التي تبذلها الحكومة لخلق فرص العمل (جيد أو جيد جداً) لا تتجاوز 20% فقط، وفقاً لآخر استطلاع أجرته شبكة "الباروميتر العربي. [تابع التفاصيل في دراسة الإصلاح العربي]

لذا، يبدو حتى الآن أن الأمن الشخصي ما يزال يتفوق على الأمن الاقتصادي، إلا أن ذلك آخذ في الانحسار. ولكن إلى متى قد يدوم هذا الأمر؟ ففي الوقت نفسه، يُمكن ملاحظة ارتفاع وتيرة التوترات الاجتماعية التي تتجلى بوضوح في انهيار الثقة الاجتماعية. فعندما سأل الباروميتر عن إمكانية الثقة في الأشخاص الآخرين، أجاب 30% فقط من المشاركين في الاستطلاع بنعم عام 2019 مقابل 55% عام 2011 ("يمكن الثقة في معظم الأشخاص"). وفي حين كان 10% فقط يفكرون في الهجرة عام 2011، فقد ازدادت النسبة زيادة هائلة بلغت 30% وفقاً لآخر استطلاع أجرته شبكة "الباروميتر العربي".

تشير هذه الأرقام -كما تري دراسة الإصلاح العربي- إلى معضلة محيرة ستكون على الأرجح نتائجها سلبية. إذ إن أيّ تخفيف للقبضة الأمنية المشددة قبل تخفيف التوترات الاجتماعية الناجمة عن الظروف الاقتصادية الصعبة من شأنه أن يزعزع استقرار النظام، مع ذلك، أيّ تدابير أخرى تهدف لقمع المعارضة من شأنها أن تسهم في تفاقم الظروف الاقتصادية الصعبة أصلاً، وبالتالي قد تتسبب في تزايد حالة السخط.

ثانيا: خفف الخط الفاصل بين المعارضة المعتدلة والراديكالية الضغوط على نظام مبارك، وساعده على إدامة موقعه المهيمن، وعرقل أي محاولة كبيرة لتشكيل تحالف معارض وتحويل الانفصال الاجتماعي إلى حشد شعبي. أنا أدرك بالطبع أنه ليس مطروحا على بقايا المعارضة المصرية بناء تحالف فيما بينها، لكن النظام بمعاداته لجميع القوي السياسية والانتهاك الممنهج لحقوق الانسان خلق أرضية من التضامن الانساني متجاوز للانتماءات السياسية والايديولوجية، كما أن سياساته الاقتصادية التي أضير منها قطاع واسع من المواطنين أوجد قاعدة اجتماعية متسعة للمعارضة لم تحسن استغلالها حتى الآن في معركتها مع النظام لفتح المجال العام. وهكذا يوسع النظام بشكل دائم ومستمر من معارضيه ويضيف إليهم أطرافا جدداً كل يوم.

ثالثا: يتسم الطور الانتقالي العربي بأن الدولة باتت محل تساؤل بحيث يصير المطلوب بناؤها بإعادة التفكير فيها؛ فالتحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي هو إحداث تحول ديموقراطي ذا جوهر اجتماعي؛ أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة؛ ولكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء. فقد انتهت صيغة دولة يوليو في مصر (ودولة ما بعد الاستقلال في المنطقة)، ولا يمكن استعادتها لاختلاف السياقات التاريخية التي انتجتها، وللأسف تم تبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار القرنين الأخيرين في مصر، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي. بحيث بتنا الآن مع السيسي أمام معضلة تصيب كل الدول العربية وهي أن استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.

وعزز من ذلك اختزال الدولة في شخص ومؤسسة وحيدة؛ فقد عزز السيسي أيضاً نفوذه كثيراً من خلال الاستحواذ على سلطة تعيين وإقالة رؤساء الهيئات الرئيسية جميعا: رؤساء الهيئات الرقابية والقضائية الرئيسية في الدولة، مثل الجهاز المركزي للمحاسبات والمحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض وهيئة النيابة الإدارية ومجلس الدولة، ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات بالإضافة إلى المحافظين ...إلخ. وعزز من هيمنة المؤسسة العسكرية بإعطائها الاشراف الكامل علي جهاز الدولة المصرية وتنفيذ المشروعات التي يطلق عليها قومية.

تصحير وطأفنة المجال العام

تكاملت ثلاث ظواهر في المجال العام المصري بعد يوليو٢٠١٣: فمع التصحير -أي مصادرة أية مجال عام تعددي حر-كان لابد من تطييف هذا المجال من خلال التعامل مع بعض مكوناته باعتبارهم طائفة يجب الاستجابة للامتيازات في مقابل الدعم والتأييد، ويستكمل ذلك ببناء منظومة متكاملة للسيطرة والتحكم في مقدرات المجتمع جميعا؛ تستخدم فيها التكنولوجيا بكثافة.

أما عن الطأفنة؛ فيقول المستشار طارق البشري في الحوارات الهامة التي أجراها مع الباحث المتميز مدحت الليثي وصدرت في ٥٥٠ صفحة عن دار البشير هذا العام:

"ومن المهم ملاحظة مشروع طأفنة مصر على ضوء الصراع الراهن منذ الثورات فالعلمانيون لا يتعاملون باعتبارهم قوة ذات فكر ومشروع مفتوح للجميع، بقدر ما يبحثون لأنفسهم عن حقوق وضمانات حماية على طريقة الطوائف والأقليات، وبالمثل تفعل الكنيسة والقيادات المسيحية، بل إن خطاب المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية وبعض الفئات يعتمد منطق المحاصصة التي لا تجعل من ‫مصر وطنا بل شركة مساهمة أو مستوطنات محتلة  ،وهذا من أخطر ما يمكن أن تؤول إليه أوضاعنا " ص٢٢٣

وأضيف : إن أخطر ما جري في دستور ٢٠١٤ أن خضع لابتزاز الطوائف فمأسسها، وكان قانون بناء الكنائس في مسودته الأولي قد استخدم لفظ الطائفة لولا تدخل ا. سمير مرقص حين كتب منتقدا ذلك فإستبدلوها بلفظ الكنائس. وأقول أن الطأفنة أو التطييف قد طالت الحركات الإسلامية عامة، فتلبسها نفس الداء حين تحولت الي تنظيمات مغلقة تسيطر عليها مصالحها الذاتية الضيقة حين لم تستطع أن تعبر عن التيار الأساسي.

يدرك النظام أن المجال العام المقيد الذي سمح به مبارك بعد ٢٠٠٥ -أو أجبر علي السماح به -هو الذي أنتج انتفاضة يناير، لذا يصبح المطلوب هو تصحير هذا المجال تماما، أي جعله صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، فلا مجتمع مدني ولا أحزاب ولا صحافة حرة ولا قطاع خاص ولا نقابات عمالية مستقلة أو حكومية، ولا مجال ديني تعددي، ولا جامعات ولا بحث علمي حر، حتي السوشال ميديا التي لم يستطع منعها تصير تكلفة الرأي فيها مرتفعة جدا. والمؤسسات التشريعية المنتخبة صوريا تتم هندستها كاملة من الأجهزة الأمنية بما يحول دون أن تلعب دورا في إدارة الصراعات الاجتماعية والسياسية وتحويلها من المجتمع إلي داخل هذه المؤسسات، فقد غاب عن النطام صمام الضغط والمساحة السياسيّة اللازمة لاستيعاب الظروف الاجتماعيّة المتدهورة وتصاعد مستويات السخط.

يُخيم على المشهد العام في مصر صورة مجتمع تتعرض فيه معظم أشكال التنظيم والتمثيل للقمع، وبالتالي فإنها عاجزة عن الدفع باتجاه إجراء إصلاحات داخلية لازمة، وهو مجتمع تشعر فيه السلطات العامة على الدوام بعدم الأمان -بالرغم من سحق كل أشكال المعارضة- وبالتالي فإنها تعتمد على القوة لمواجهة التحديات.

خطورة التصحير ليس فقط مصادرة الصراع الاجتماعي بالقمع، ولكنه يحرر الآلة الجهنمية للقمع من أية اعتبارات سياسية؛ فتصير حرة طليقة من الاعتبارين الاجتماعي والسياسي.

أما منظومة السيطرة والتحكم في المجتمع باستخدام التكنولوجيا وبناء قواعد البيانات فيحتاج إلي دراسة مستقلة تتبع المجالات التي يبني فيها ذلك، لكن الملمح الهام في هذا القبيل أنه تحت دعاوي تحديث الدولة المصرية ومحاربة الارهاب يجري بشكل متصاعد إدخال المجالات كافة تحت المظلة الرسمية، ويمكن ملاحظة ذلك في إزدياد إستخدام الكاميرات، والتعامل مع الاقتصاد غير الرسمي، والاجراءات المتعلقة بالقطاع المصرفي، وفي قطاع المرور، وأخيراً وليس آخراً عمل ملف كودي لكل شقة، كما أعلن رئيس الوزراء في بيانه يوم ٩سبتمبر.

برغم أن الوضع الراهن قد يبدو مستقراً في الأمد القريب، لكنه استقراراً يستند إلى قاعدة ضعيفة. إذ يتطلب الوضع الاقتصادي الضعيف أصلاً، وهو الذي يزداد سوءاً بسبب جائحة كوفيد-19، إجراء تغييرات استراتيجية في النهج الذي يتبعه النظام. ولا سبيل لذلك سوى البدء في عملية إصلاح تدريجي من القمة والتي من شأنها أن تسمح بالمشاركة الحقيقية، وإلا فإن البديل هو حدوث انفجار اجتماعي في نهاية المطاف، وهو انفجار تزداد احتمالات وقوعه بسبب غياب أية مؤسسات سياسية قادرة على استيعاب المطالب الاجتماعية وبلورتها تمهيدا للتعامل معها. من واقع التجربة، عندما يتدهور الوضع، سيتركز الدعم على إجراء إصلاحات مؤقتة ستفشل حتماً في تقديم أيّة رؤية طويلة الأجل.

شبكة مصالح دولية وإقليمية

من اللحظة الأولي لتدشين نظام 3/7 كان جزءا من محور إقليمي اجتمعت فيه مصالح أطراف عدة كان يهمها القضاء علي الانتفاضات العربية واحتواء تداعياتها، لذا فقد تلقى من الدول الخليجية الداعمة الثلاثة -السعودية والامارات والكويت-مايزيد علي ٢٣مليار دولار وفق تقدير أحد الدراسات، وقد إستخدمت هذه الأموال في زيادة القدرات القمعية للنظام الجديد، والحفاظ على مؤسسة عسكرية مخلصة، ودرء عدم الاستقرار الاقتصادي بعد عام 2013.

كما وفرت له منظومة العلاقات الدولية والأقليمية القدرة على الاقتراض بما يزيد عن ١٠٠ مليار دولار حتي الآن، كما حمته من الانتقادات الموجهة له في مجال حقوق الانسان.

استثمر النظام كثيرا في بناء شبكة المصالح هذه واستخدم فيها أدوات متعددة، كما ساعده تطورات إقليمية ودولية مثل: تشكل محور إقليمي بقيادة السعودية والإمارات للقضاء علي مجمل حركات الإسلام السياسي دون تمييز بين معتدل ومتطرف، وصعود الدولة الإسلامية في سوريا والعراق والحرب علي الارهاب، والعداء ضد إيران الذي امتد إلي حرب في اليمن، ومجيئ ترامب إلي الحكم وتبنيه ما يطلق عليه صفقة القرن، بالإضافة تصاعد النفوذ الروسي في المنطقة ورغبتها في العودة إليها، والمخاوف الأوربية من تصاعد الارهاب والهجرة غير الشرعية ...إلخ ، وهكذا لعبت السياقات الدولية والإقليمية دورا بارزا في استقرار النظام الجديد في مصر بعد يوليو ٢٠١٣.

أتصور أن هناك فخاخا ثلاثة باتت تواجه النظام من منظور علاقاته الدولية والإقليمية: الأول أن هذه البيئة متغيرة بأسرع مما نتخيل، ومع كورونا ستزيد عوامل التغير بشكل أسرع؛ فعلي سبيل المثال كيف يتعامل النظام مع الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة والتي عمقتها أزمة الوباء، وهل يمكن أن يخلق لنفسه طريقا وسطا بين الحفاظ على العلاقات الخاصة التي تربط مصر بالولايات المتحدة وبين تحقيق مصالحه مع الصين، أم يجب عليه الاختيار بينهما؟

مثال آخر؛ إذا تغير ساكن البيت الأبيض فمن المتوقع أن تكون هناك بعض الضغوط على الأقل في ملف حقوق الانسان [أنا لا أتوقع تغيراً كبيراً فيما يخص أوضاع الداخل المصري]، إلا أن الأهم أن التغييرات ستلحق بشكل أكبر المحاور الأقليمية الثلاثة في المنطقة (الإيراني، والتركي القطري، والسعودي الإماراتي الذي مصر جزءا منه).

متغير آخر وهو انخفاض سعر النفط وتداعيات أزمة كورونا التي جعلت استمرار الدعم المالي الخليجي محل شك، وفي نفس الوقت قلل تحويلات المصريين من الخارج بنسبة ٣٠٪؜ في وقت تراجعت فيه مصادر النقد الاجنبي الأخري أو انعدمت.

وأخيرا فقد لعبت سياسة المحاور الإقليمية الثلاثة في المنطقة دورا في تصاعد عدم الاستقرار، وخلق بيئة تتقاطع فيها الصراعات على المستويات كافة، ولقد حدت هذه البيئة الصراعية غير المستقرة من قدرات النظام علي التعامل مع تهديدات الأمن القومي؛ ويمكن أن نضرب بسد النهضة مثالا، فقد تنازعت النظام مهددات كثيرة للأمن القومي المصري في ظل هشاشة تسم أوضاع الدولة المصرية بما حد من قدرتها علي التعامل بفاعلية مع هذه المهددات.

وأختم متسائلا كما تساءلت ورقة مبادرة الإصلاح العربي: "لا يزال مصدر القوة الرئيسي الذي تتمتع به مصر، الذي يعد عبئاً أيضاً، هو أنها "أكبر من أن تفشل"، ولكن هل من المتوقع أن يستمر سعي دول مجلس التعاون الخليجي والغرب إلى تحقيق مكاسب أو التماس مصالح سياسية على نفس المستوى خلال الأوضاع الجديدة في عالم ما بعد كورونا؟ هل ننظر إلى موقف يتحول فيه تعبير "أكبر من أن تفشل" في نهاية المطاف إلى "تمثل عبئاً ثقيلاً ولا تستحق عناء الإنقاذ"؟

أم نكون بإزاء نهج جديد في السياسة والاقتصاد ينقذ به العباد والبلاد.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬