المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية

[المصدر: موقع قنطرة] [المصدر: موقع قنطرة]

المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية

By : Amr Adly عمرو عادلي

[يصادف الثامن والعشرين من أيلول مرور نصف قرن على وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. ما زال السجال النقدي يدور حول إرث عبد الناصر السياسي. بهذه المناسبة، تنشر صفحة «مصر» على «جدلية» ثلاث مقالات حول الموضوع. وتدعو الباحثين والمهتمين بهذه الحقبة إلى الإدلاء بدلوهم وإرسال مقالاتهم]

المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية[1]

"في تصوري المجتمع المصري مجتمع تاريخي له حضارة عريقة ولكنه مجتمع غير عصري، مجتمع متخلف" هكذا اختتم الراحل أحمد عبد الله رزه تعليقا له حول تاريخ الحركة الوطنية في مصر ضمن أعمال ندوة كان هو مقررها في ١٩٨٧.. ولكي لا نسارع إلى اتهام الرجل بكراهية الذات أو باحتقار وطنه ومواطنيه فلنعرض لمداخلته المسجلة بشكل أكثر شمولا، يقول أحمد عبد الله "[إن] درجة نضج المجتمع تتحدد بالأمرين معا، بقدرته على إدارة الصراعات، وقدرته على صياغة الاتفاق. المشكلة عندنا في مصر أن صراعاتنا غير ناضجة! القدرة الوحيدة التي أثبتناها في تاريخنا الحديث هي: (١) الإتفاق في الشارع بين فئات الشعب حين تكون هناك سلطة محتلة فنتفق في الشارع بين صفها مثل تجربة ثورة ١٩١٩ والوفد كجبهة وطنية في البداية على الأقل. (٢) الاتفاق حول جهاز الدولة مثل تجربة الإلتفاف حول عبد الناصر. فالملايين كانت تؤيد عبد الناصر بالفعل، ولكن دون أن تكون لها حريات سياسية وحقوق في الصراع الاجتماعي في الشارع فدون ذلك قمع شديد. أي أنه كان هناك إتفاق ما، ولكن هذا الإتفاق لا يأتي من "التعددية" وإنما يأتي من "الأحادية". وهذا معناه أننا في مصر حين نتفق إنما نتفق على أن نكون أطرافا إضافية أو تحابيش معاونة لجهاز الدولة... بهذا المعنى في تصوري المجتمع المصري مجتمع تاريخي له حضارة عريقة ولكنه مجتمع غير عصري، مجتمع متخلف.[2]

كم تبدو هذه الكلمات اليوم نافذة في تعبيرها عن الواقع السياسي في مصر، خاصة في الفترة التالية على يناير ٢٠١١، والتي فشلت فيها القوى السياسية والمجتمعية في الاتفاق على حدود دنيا تحكم التأسيس لسلطة الدولة بشكل ديمقراطي بعد إزاحة مبارك يتيح قدرا من إدارة التعددية السياسية والاجتماعية، وهي الصراعات التي أفضت إلى انهيار المسار السياسي التالي على الثورة بفاعليه وبدستوره وبمؤسساته بانتصاف ٢٠١٣. والملاحظ أن الخروج من دوامة الفوضى وبوادر العنف الأهلي والصراع الوجودي بين القوى السياسية خلال حكم الإخوان المسلمين القصير كان بتصدر الجيش للمشهد ممثلا عن الدولة والشعب معا، والشروع في بناء إجماع وطني يقوم على استدعاء تراث الوطنية المصرية الطويل بكافة مكوناته السابقة على يوليو ١٩٥٢ والتالية عليها بهدف إعادة التأسيس لسلطة الدولة في أعقاب أعمق أزمة سياسية واجتماعية تمر بها مصر في تاريخها الحديث.

على أن هذا الإجماع قد أتى بتكلفة باهظة إذ اقتضى مصادرة غالب المكتسبات التي تحققت بعد يناير ٢٠١١، خاصة في شق الحريات السياسية وحرية التعبير والتنظيم، والعودة إلى الإدارة الأمنية للمجال العام، حيث تتمثل فرص فرض إجماع وطني ما في التضحية بالنزر اليسير من الحريات والحقوق التي تم انتزاعها من دولة عرفت تاريخيا بسلطويتها وتحكمها من ناحية أخرى.

فلم كان الإجماع الوطني في مصر دائما يتأسس على افتراض وربما فرض الأحادية على حد تعبير أحمد عبد الله قبل ثلاثة عقود؟ يسعى هذا المقال للإجابة على هذا السؤال في ذكرى الرحيل الخمسين لمن يعتبر أحد مؤسسي دولة ما بعد الاستقلال -إن لم يكن هو مؤسسها الأول-، وذلك من خلال تتبع جذور الضيق بالتعدد في تراث الوطنية المصرية لا إلى لحظات تأسيس دولة يوليو فحسب، بل إلى ما قبل هذا، إلى بدايات الحركة الوطنية المصرية الأولى  في مطلع القرن العشرين.

كان التأكيد على "الأحادية" محورا من محاور بناء الهوية الوطنية المصرية الحديثة في مواجهة الاستعمار البريطاني، فبينما كانت إستراتيجية الحزب الوطني القديم في مطلع القرن العشرين هي التأكيد على الإنتماء العثماني لمصر، وبالتالي إبراز الرباط الديني بين مسلمي البلاد وبين الدولة العثمانية كانت إستراتيجية حزب الأمة ثم الوفد المصري مغايرة تماما إذ أنها قامت على الدفع بوجود هوية مصرية واحدة تجمع كل المصريين بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية في المقام الأول بين مسلمين ومسيحيين، والعرقية والجهوية والقبلية في المقام التالي، ومن هنا فقد تبنى الوفد فعليا خاصة بعد اندلاع ثورة ١٩١٩ خطابا ومشروعا سياسيا مقاوما للنظرة التقليدية التي روجها البريطانيون عن مصر منذ عهد كرومر، والتي عبر عنها في كتابه الأشهر "مصر الحديثة" بنفيه وجود شعب مصري من الأساس، وحديثه في المقابل عن وجود "سكان لمصر" لا مصريين، هم عبارة عن أخلاط من المسلمين بتنوعاتهم (فلاحون وعرب ونوبيون ومغاربة وأتراك وشراكسة وغيرهم) ومن المسيحيين بتنوعاتهم (أقباط وسريان وأرمن) غير الأقليات اليهودية، علاوة على الإسهاب في الحديث عن الاختلافات الثقافية بين التقليديين والمتغربين وبين الريف والمدن ما يحول دون ظهور أي وعي جماعي لهؤلاء السكان، هذا بالطبع بالإضافة للأجانب المقيمين من يونانيين وإيطاليين وأوروبيين آخرين. وقد كان يدعم من الناحية العملية تصور كرومر هذا خطاب الحزب الوطني الإسلامي النزعة، والذي كان يسوغ للبريطانيين الحديث عن مناهضي وجودهم في مصر باعتبارهم "متطرفين" مسلمين في استعارة لذات الوصف الذي سبق وأن أطلقوه على أنصار الحركة المهدية في السودان في نهاية القرن التاسع عشر.

إذن كان خطاب التعدد الديني والثقافي تاريخيا جزءا من إستراتيجية الإدارة البريطانية لتبرير استمرارها في حكم مصر رغم افتقاد وجودها العسكري والإداري لأي مسوغ قانوني أو اعتراف أوروبي طيلة الفترة بين ١٨٨٢ و١٩١٤، ومن هنا يمكن فهم نشوء الخطاب الوطني المصري بعد الحرب العالمية الأولى وقد أعلى من قيمة الوحدة على مستوى هوية المصريين من ناحية، وعلى مستوى مواقفهم السياسية المنادية بالاستقلال عن بريطانيا (وعن الدولة العثمانية الآيلة للسقوط وقتذاك، والتي اختفت من الوجود كليا بحلول ١٩٢٤) من ناحية أخرى. وكان منطقيا أن يأتي التأكيد على الوحدة والاصطفاف في سبيل الاستقلال على حساب أي اعتراف ناهيك عن الاحتفاء بالتعدد سواء على مستوى الهويات دون القومية التي قد تميز مجموعة ما أو منطقة ما أو على مستوى المواقف السياسية، ولعل هذا ما يفسر رفض سعد زغلول باستمرار بعد صدور دستور ١٩٢٣ لاعتبار الوفد حزبا سياسيا كغيره من الأحزاب، مثل الأحرار الدستوريين والحزب الوطني، وتأكيده على أن الوفد هو وكيل الأمة بما لا يدع مسوغا لقبول التعددية الحزبية أو التنافس السياسي.

وكما يبين أحمد عبد الله فثمة استمرارية ما في جزئية التأكيد على الوحدة والضيق بالتعدد بين الناصرية ودولة يوليو من جهة وبين تراث الوفد المصري من جهة أخرى، وإن تحول الالتفاف حول هدف الاستقلال إلى الالتفاف حول دولة ما بعد الاستقلال في المرحلة التالية على ١٩٥٢.

كانت دولة يوليو امتدادا لتراث الحركة الوطنية في الضيق بالتعدد والتأسيس للنضال الوطني من منطلقات الأحادية، وإن كانت لا تمثل امتدادا للوفد المعروف بدستوريته وبرلمانيته ـ اهم معلم للحركة الوطنية السابقة على يوليو ١٩٥٢ ـ بقدر ما كانت امتدادا للجناح السلطوي من الحركة الوطنية، والذي جمع بين العداء للدستور والبرلمانية الذي ميز حركات مثل مصر الفتاة والإخوان المسلمين منذ الثلاثينيات، والذين دارت أطروحاتهم حول صيغ شمولية إسلامية أو قومية مصرية أو خليط من الاثنين، كما أنه طالما ميز موقف السراي من الوفد ودستور ١٩٢٣ والبرلمان، وليس من قبيل الصدفة أن التيارات المعادية للجناح الدستوري من الحركة الوطنية قد وجدت فرصا للتحالف مع القصر الملكي في مراحل متعددة، وإن كان انفصام عرى التحالف هو المصير الأغلب. 

مع حسم أزمة ١٩٥٤ لصالح الجناح السلطوي في الضباط الأحرار انتقلت تصورات وكالة الأمة المصرية من الوفد للدولة التي كان يمثلها الجيش في تلك الفترة، وكما رأي شريف يونس في كتابه نداء الشعب فإن انتصار ذلك الجناح على خصومه جميعا وخاصة الوفد والتعددية الحزبية التي كان يكفلها دستور ١٩٢٣، والانتقال إلى إدعاء التماثل بين الدولة المصرية حديثة العهد بالاستقلال وبين الشعب المصري الملتف حولها والمتوحد حول أهداف الاستقلال والنهضة الوطنية كان تحققا فعليا لأحلام القصر الملكي منذ العشرينيات، والذي شهد محاولات متعددة ومتكررة طيلة حكم الملك فؤاد ثم فاروق لإيجاد صيغة تواصل مباشرة مع الجماهير تحجب عن الوفد شعبيته وشرعيته، وتجعل من الملك رئيس الدولة وممثل الإجماع الوطني في الوقت ذاته، وقد فشلت محاولات الملك فؤاد المتكررة في إنشاء أحزاب قصر تحظى بأي شعبية بدءا من حزب الاتحاد وانتهاء بحزب الشعب كما فشل فاروق من بعده خاصة مع انهيار تحالف السراي مع الإخوان ومصر الفتاة (وامتدادها في الحزب الاشتراكي) في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات.

ويرى شريف يونس أن صيغة ١٩٥٤ والتأسيس لدولة يوليو وللنظام الناصري على وجه الخصوص كان انتصارا لإستراتيجية السراي وإن حل فيها الجيش كمؤسسة ممثلة للدولة محل الملك، وحلت بمقتضاها الجمهورية محل الملكية في ١٩٥٣،[3] ولكن تكمن الاستمرارية في محاولات إيجاد نوع من التماهي بين الدولة والشعب من خلال تنظيمات الحزب الواحد بدءا من هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومي وانتهاءا بالاتحاد الاشتراكي، وإن كان أهم تجليها كان زعامة جمال عبد الناصر باعتبارها حبيب الملايين وممثل الجماهير الساعية نحو الاستقلال الوطني ثم النهوض الاقتصادي والاجتماعي ومناهضة الإمبريالية والصهيونية.

بيد أنه خلافا للتنظيمات المناهضة للوفد كمصر الفتاة والإخوان فإن نظام يوليو كان نتيجة لانقلاب من داخل أهم مؤسسة في الدولة المصرية وقتذاك ـ والآن ـ ممثلة في القوات المسلحة، ومن ثم كان المشروع السياسي معبرا عن هذه الدولة الآخذة في التشكل مع إجلاء البريطانيين وتوسع صلاحياتها لتشمل مناح متعددة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يفسر تحول المشروع السياسي إلى التأكيد على تماهي الدولة المصرية مع شعبها كما سبقت الإشارة، وإلى البحث عن كيانات وسيطة تصل الدولة هذه بشعبها إما من خلال شخص الزعيم أو من التنظيمات الحزبية المتصلة بالجهاز الإداري والأمني للدولة.

كانت مقتضيات هذا المشروع السلطوي هو إخلاء المجال العام من أي فاعلين مستقلين أيا كان توجههم وإخضاعه في المقابل للإدارة البيروقراطية والأمنية خاصة، وهو ما انطبق على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية في مصر منذ منتصف الخمسينيات من المدارس والجامعات إلى الشوارع والمقاهي والمساجد وغيرها من الأحواز التي أخضعت للرقابة ثم للإدارة الأمنية، وبمقتضى هذه الصيغة تم نفي السياسة ـ بمعناها الليبرالي والماركسي ـ من المجال العام، فمن وجهة النظر الليبرالية السياسة هي السماح بتعدد تمثيل المصالح وتنافسها بغية تحقيق الصالح العام، ومن وجهة النظر الماركسية فالسياسة هي الصراع بين ممثلي المصالح الطبقية المتضاربة، وفي كلتا الحالتين لم يكن للسياسة مكان في ظل دولة يوليو إذ أن البديل الذي تأسست عليه شرعية النظام وممارساته للحكم والسلطة كان الاصطفاف والوحدة، والتي تحولت من ائتلاف المصريين جميعا في الهوية والهدف كما كان الحال بعد ثورة ١٩١٩ إلى تماهي المصريين مع الدولة والتفافهم حولها، ولعل نفي السياسة هو الملمح الذي استمر بعد انتهاء فترة حكم عبد الناصر (١٩٥٤ـ١٩٧١) رغم التغيرات الكبيرة وربما الجذرية التي شهدتها السياسات الخارجية والاقتصادية، ما يجعل فترات حكم السادات ومبارك امتدادا مؤسسيا لنظام يوليو الناصري، وإن اختلفت القرارات والسياسات والتوجهات اختلافا كبيرا. وذلك على نحو يبرز نفاذ تحليل غالي شكري في كتابه الهام "الثورة المضادة في مصر" عندما تتبع سياسات الانفتاح الاقتصادي والتحول نحو الكتلة الغربية والسلام مع إسرائيل في عهد الرئيس السادات إلى الجناح اليميني في النظام الناصري عوضا عن تصورات الناصريين عن انقلاب ما أحدثه السادات ليأتي بما لم يأت به عبد الناصر من قبل.[4]

يمدنا تراث الوطنية المصرية من بعد التأسيس للجمهورية وحتى اللحظة الراهنة بتصورات وممارسات مؤسسية تفيد بأنه ليست هناك مساحة حقا للنشاط الحر للمواطنين المهتمين بشئون بلادهم العامة، مهما كان ولاؤهم ودرجة تأييدهم للدولة ولقيادتها، فخلافا لغيرهم من المواطنين القانعين بالانضمام لحزب الدولة (حال ما كان موجودا) أو لبعض الشبكات غير الرسمية المرتبطة بها، لتحصيل بعض المزايا والمكاسب فإن هؤلاء يهتمون حقا بمستقبل بلادهم، ويرغبون من هذه الزاوية في التعبير عن هذا والانخراط في نشاط "سياسي" ما بحكم الضرورة ـ كون السياسة في تعريف أرسطو الأولي هي الاهتمام بإدارة الشأن العام بغية الوصول لصالح الجميع، ومما يزيد الأمور تعقيدا أنه في مقابل مصادرة الدولة للسياسة بشتى أشكالها، فإن أجهزتها منذ الاستقلال وحتى اليوم تعمل على تنشئة المواطنين على الولاء للدولة وعلى الوطنية وتشجع على الاهتمام بالشأن العام، وتثني على من يقدمون مصلحة الوطن على مصالحهم الخاصة، وهو ما يحضر بقوة في العديد من الممارسات اليومية بدءا من التعليم الإلزامي ومرورا بالإعلام والتجنيد وفي خطب الجمعة.

وتسلمنا هذه التناقضات إلى مخرج واحد وهو تحول المواطنين الشرفاء هؤلاء إلى مخبرين للدولة يساعدون أجهزتها الأمنية على إدارة المجال العام بتصفيته وتنقيته من أي مظاهر للسياسة، ومن أي إشارة للتعدد الذي يخرج عن تعريف الدولة للهوية الوطنية الجامعة، والتي تضيق بالتعدد والتنوع بحكم التعريف، ويكون المواطن مخبرا هنا لا لأنه يشغل وظيفة أمنية ولا لأنه يتقاضى راتبا عن هذا أو يحقق مصلحة مباشرة إنما يكون هذا هو الطريق الوحيد للانشغال بالشأن العام وللتعبير عن وطنيته. ويتزايد هذا المنحى مع غياب عصر التنظيمات الحزبية التي تضطلع بجهود التعبئة والتلقين كما كان الحال مع تنظيمات الحزب الواحد التي انتهجها نظام عبد الناصر بدءا من هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومي ثم الاتحاد العربي الاشتراكي، والتي كانت توفر مساحة للمواطنين لممارسة السياسة بالتعبير عن التماهي مع قرارات السلطة من ناحية، بالإضافة إلى الانخراط في إعادة توزيع الموارد من خلال شبكات زبونية بالأساس من ناحية أخرى. وهو ما لم يعد متوفرا اليوم في ضوء غياب أي قنوات أو ترتيبات تقوم بمهام التعبئة أو الحشد أو حتى الوساطة فيما يتعلق بالتوزيع غير الرسمي للموارد كما كان الحال في عصري السادات ومبارك بعد تفكك ما كان للنظام الناصري من تماسك أيديولوجي.  

إن المواطن الحريص على الصالح العام إذن هو من يعمل في صمت ويساند جهود الدولة، وعلاوة على الأفعال غير السياسية كالاستمرار في الحياة اليومية والعمل بكد واجتهاد من أجل رفعة الوطن، فإن حيز الفعل السياسي المتاح هو مد يد العون للدولة للتغلب على خصومها من خلال تسليمهم أو الإبلاغ عنهم. ومن هنا جاز نعته بالمخبر العضوي ـ على غرار المثقف العضوي الذي تحدث عنه أنطونيو جرامشي، والذي يقوم بدوره في التوعية والتنظيم من منطلق موقعه الطبقي ـ ذلك أنه يقوم بدوره كمخبر من موقعه الاجتماعي، ومن باب وعيه بمكانه في الجماعة الوطنية، وبدوره كمواطن تجاه الدولة.

هوامش

[1] نشرت نسخة مبكرة من هذا المقال في "عالم الكتاب" في فبراير 2015.

[2] أحمد عبد الله رزة: تاريخ مصر بين المنهج العلمي والصراع الحزبي أعمال ندوة: الالتزام والموضوعية في كتابة تاريخ مصر المعاصر ١٩١٩ـ١٩٥٢ القاهرة ١٩٨٧ المحرر أحمد عبد الله رزه، ص ٣٩١.

[3] شريف يونس (2012) نداء الشعب: تاريخ نقدل للأيديولوجيا الناصرية. القاهرة: دار الشروق

[4] غالي شكري (1978) الثورة المضادة في مصر. بيروت: كتاب الأهالي رقم 15

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬