سوريّا افتَحي بوابك: كيفَ تتفاقم أزمة العبورعلى الحدود السورية – اللبنانيّة؟

سوريّا افتَحي بوابك: كيفَ تتفاقم أزمة العبورعلى الحدود السورية – اللبنانيّة؟

سوريّا افتَحي بوابك: كيفَ تتفاقم أزمة العبورعلى الحدود السورية – اللبنانيّة؟

By : Anas Al-Asaad أنس الأسعد

I.

"لم نستيقظْ على شيء غير متوقّع، كلّ الإجراءات التي كُنّا نُسيّرها بشيء من الصعوبة ــ لكن في النّهاية "بتقطع"ــ باتت اليوم شبه مُستحيلة! منذ بداية الأزمة في خريف العام الماضي، (تشرين 2019) كنّا نقول إنّ الشهر القادم سيكون أسوء وكارثياً، وبالفعل نحن الآن نعيشها "وصلنالها" نحن في قلب كارثة لا يُعلَم متى ستنتهي؟" (تاريخ المقابلة: 22/3 /2020)

بهذه العبارات، لخّص أحد السائقين مأزق العبور الذي تشهده الحدود السوريّة اللبنانيّة، منذ آذار الفائت. سائق سيّارة الأجرة هذا والذي يعمل بمهنته وعلى نفس الطُّرُق، لأكثر من 15 عاماً، لم يكُن يعرف أنّ رحلتَه، أو مشواره الأخير، كما يُحبّ أن يسميَه، سيحوّلُه إلى "أسير" في لبنان، ولا يستطيع العودة إلى سوريا، بسبب إغلاق الحدود!

تدخلُ أزمة إغلاق الحدود شهرها السّادس، مع كتابة هذه السّطور، إغلاقٌ نافذٌ قرارُه رسميّاً من كلا الجهتين: السورية بتاريخ 23/3/2020 واللبنانيّة قبلها بأسبوع أي بتاريخ 15/3/2020؛ وذلك ضمن الإجراءات المُتّخذة للحدّ من انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي يُعقّد على المواطنين السّوريين في لبنان في أيّ اتجاه ينظرون؟ ودوائرَ أيّ بلد يناشدون؟ ولو أنّ هذا الإغلاق قد تخلَّله بعض الفتح الجزئي والمشروط، لتظلّ الأزمة مُعلّقةً تنتظرُ حلولاً نهائيّة. آخر فصول هذه المأساة هي وفاة أحد المواطنين العالقين بأزمة قلبية، وتمّ نقله إلى مشفى زحلة، ثم تجمّع لعدد من المُحتجين عند معبر جديدة يابوس صارخين "سوريا نحنا ولادك، سوريا افتحي بوابك"، فلا معبر الجديدة السّوري يسمح لهم بالتقدم، ولا معبر المصنع اللبناني يسمح لهم بالتراجع.

تتذبذبُ أعداد العالقين صعوداً وهبوطاً، منذ أول الإغلاق إلى اليوم، كونه لا توجد آلية للفتح الجزئي فبتاريخ 18/ 4/ 2020 مثلاً سمحت السلطات السورية بالدخول لـ62 شخصاً، لكنّ مقاطع فيديو صورها أحد العالقين في تاريخ 7/ 7/ 2020 تُظهِر عدداً يُقدّر بالمئات مازالوا عالقين على الحدود ولا يبدو أنّ أحدا قد سمع بهم أو يُفكّر بإيجادِ حلٍّ لهم. وبُعيد الانفجار المروّع الذي ضرب مرفأ بيروت بتاريخ 4/ 8/ 2020 انكشَفَ أنّ ثلث الضحايا من العمّال السوريين، أي قرابة 53 شخصاً بينهم أطفال ونساء. إذ يُمكن من خلال هذه النسبة تصوُّر مدى الحركة أو الارتباط المكاني من جهة، بالانتشار الجغرافي من جهة ثانية للعمّال السوريين في لبنان.    

مع ذلك، قد لا تحملُ هذه الأزمة نوعاً من الخصوصيّة، أو الإلحاح في إيجاد حلول ناجعة، عند النّظر إليها بعين البيروقراطيّة البادرة، التي لا تكتفي بتقطيع أعناق وأرزاق الفئات الأشد فقراً من المُجتمع السوري، تلك الفئات المعتمِدَة على المياومة في نمط عمالتها وإنتاجها، مثل هؤلاء السائقين وغيرهم من عمّال بناء أو مرافق سياحيّة، ما عدا اللاجئين والنّازحين منهم. إنّما تُقطّعُ هذه البيروقراطية أيضاً، أوصالَ جغرافيا سياسيّة متهالكة، تستثمر فيها أطرافٌ سياسية/حزبيّة شتّى منذ بداية أزمة النّزوح السّوري إلى لبنان. هنا، لا نستطيع أن نُحيّدَ لبنان بوصفه ساحةَ صراع لمحاور إقليميّة ودوليّة، ليست تلك الأطراف الحزبية الداخلية إلّا تمثيل لها. ولا نستطيع بالمقابل أن نغضّ النظر عن خطاب الشّحن والكراهيّة الذي تستخدمُه بعض القنوات الإعلامية، قنواتٌ لم توفّر هذه المأساة وعَمِلت على تلويثها، وكأنها لم تكتفِ بما لوّثته سابقاً من قضايا سوريّة حَقّة. إنّ تلك البيروقراطية تجدُ مُبرّراتها بالتّعاطي البارد مع وباءِ كورونا على أنّه أزمة عالميّة غير مسبوقة، ليست محليّة وحسب، وأنّ لا حلول أرضيّة له تلوح في الأفق القريب. عندها فقط يستوي في القياس البيروقراطي التَّعِس حالُ المُقارنة بين دُول الاتحاد الأوربي مثلاً، وبين بلدين غارقين بالأزمات المالية والاجتماعيّة مثل سوريا ولبنان!

بدايةً، سأجادل في هذا المقال، في المُقدّمات الاجتماعية والاقتصادية لكلّ تلك الأزماتِ الضّاربةِ جذورَها في سنوات سابقة، قبل أن تنفجر مع أزمة كورونا في الشهر الثالث من هذا العام. وصولاً إلى الحدث الأكثر تدميراً، والمتمثّل بانفجار مرفأ بيروت، في الشهر الثامن منه. وبالتّالي لا يَصحُّ تصوير الواقع على أنّنا أمام مُشكلات آنيّة، جلبها لنا عامٌ ذو حظوظ سيّئة، إنّما هو تراكم عميق. ثم سأنتقل بعد عرض هذه المقدّمات إلى فقرة ثانية لأنظرَ في الإجراءات الرّسميّة التي اتُّخذت من أجل المعالجة، وسأتفحّص مدى نجاعتها من عدمه، وهل هو سعي جادٌّ بالفعل نحو الحلّ؟

II.             

أتحدّث في هذه الفقرة عن مُلخّص الأزمات والتّحدّيات التي تواجه العّمال السّوريين في لبنان، والتي يُمكن تجميعُها أو تصنيفُها ضمن ثلاثة عوامل أو مقدّمات، بما يكشفُ الجذورَ العميقة. سأتوقّف عند العامل الأول الأكثر كَشفاً وتأثيراً، ألا وهو الأزمة المصرفية الاقتصاديّة التي يُعاني منها لبنان. ثم أنتقل لتبيان العامل الثاني من خلال الحديث عن الواقع الصّحي بعد تفشّي وباء كورونا عالمياً ومحليّاً. أخيراً أتفحّص الطّابع التّراكمي والتّدريجي الذي أخذته الأزمة في التّبلور بشكلها الحالي، وهذا ما يظهر في العامل الثالث عند الحديث عن اللّجوء السوري في لبنان، واشتغالات الحرب الدائرة في سوريا منذ تسع سنوات فيه. فإلى أيّ هذه المقدّمات يُمكنُ أن ننظرَ بدايةً؟

 أولاً: أزمة القطاع المَصرفي التي انفجرت خريف العام المنصرم، وهي اليوم تهدّد لبنان بانهيار قيمة العملة الذي لا يُمكن أن يعود لما كان عليه في أيلول 2019 قبل 2040 حسب إحدى المنشورات اللبنانيّة المُختصّة، وتراجع القوّة الشرائية عند المواطن اللّبناني، إلى مستويات متدنّية غير مسبوقة. فما علاقة؟ أو كيف انعكس هذا العامل الخطير على أزمة العبور؟

منذ اندلاع الأزمة المالية، وما رافقها من احتجاجات مناهضة لهيمنة المصارف، وسياسة القائمين عليها، بدأ لبنان يشهد "هجرة عكسيّة" إنْ صحّت التّسمية، عصفت بالأيدي العاملة السّورية فيه. لم نستطع الوصول إلى أرقام دقيقة في هذا الصّدد، منسوبة إلى جهات رسميّة معنيّة بشكل خاص بهذا الملف، ولكن عمدنا إلى محاولة تقريبيّة لفهم ما يحدث من خلال:

1. مراجعة بعض التقارير الصّحفية المتابعة لشؤون العمالة السورية حينها، والتي تعود إلى هذه الفترة الزمنية من العام الماضي. يُنظَر مثلا إلى:  من تفاصيل الحملة على عمالة السوريين في لبنان. (في صيف العام المنصرم 2019)

2. العودة إلى الطريقة التقليدية والشفهيّة؛ بالتواصل مع عدد من العاملين في قطاعات تشيع فيها العمالة السورية (خاصّة: المرافق السياحية والبناء) نستطيع أن نلمسَ هذا الاتجاه من الهجرة، قد تبلورَ مع نهاية صيف العام الماضي. كما أنّها هجرة تأخذ صفة "القطعيّة" إذ لا يُفكّر أصحابُها بالعودة إلى لبنان مرّة أُخرى! وهذا ما كان يُفكّر فيه الكثير من الشّباب السوري العامل في لبنان.

التقينا في أحد الفنادق بمنطقة بيت الدّين، بمجد وهو شابّ سوريّ يبلغ من العمر 27 عاماً، ويعمل بمجال الفَنْدَقة يقول: (مجرد ما انتهتِ المهرجانات، سأحزم أغراضي وأعود إلى سوريا ومنها سأفكر ببلد جديد لأسافر، إما الخليج أو أربيل، ولكن ما أنا أكيد منه إلى هنا لن أعود مرّة ثانية) تاريخ المقابلة شهر 8/2019. ملاحظة: هذا العام أي صيف 2020 لم تُقَم تظاهُرة "مهرجانات بيت الدّين" السّياحية، والأمر ينسحب على سائر النشاطات، بسبب الحظر الكوروني، وانخفاض القدرة الشّرائية.

أمّا بالانتقال إلى القطاع الأوسع الذي تشغله العمالة السورية، قطاع البِناء والتّعمير، فالتقينا بفارس، وهو شاب سوري أيضاً، ويبلغ من العمر 30 عاماً، وقد جرّب الكثير مما يسميه "تنقيل المصالح" قبل أن يثبتَ على المِهن الحُرّة فيقول: (كنتُ أعمل في بيروت لأعوام سابقة، ولكن بسبب التضييقات الأخيرة، انسحبتُ إلى منطقة الجبل، لأنني لا أستطيع أن أعود مباشرة إلى سوريا فأنا مُتخلِّف عن الخدمة الإلزامية، مع ذلك لا أتوقّع أن أمكثَ هنا طويلاً، فالأجور أقلّ ممّا هي عليه في بيروت) تاريخ المقابلة شهر 6/2019.  ملاحظة: يقصد فارس بالتضييقات الأخيرة: هي القرارات الصادرة عن وزارة العمل اللبنانية حول شروط استخراج شهادة مزاولة عمل للعاملين الأجانب. والمرسوم قديم وليس جديداً، ولكنّ التشديد الفجائي عليه حينها، والحَمْلة الإعلامية التي تحدّثنا عنها أعلاه: من تفاصيل الحملة على عمالة السوريين في لبنان  وما رافقها من تغريدات وزراء ومانشيتات صحافة مُسيّسة، كلّ هذا  أثار جدلاً وخوفاً، وذلك لعدم تناسب تكاليفه العالية مع الأجور المتدنّية للعمالة الأجنبيّة.

لم يُعمَل طبعاً على تطبيق القرارات في ذلك الصيف، إلّا في المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس، حيث تبدو قبضة شرطة البلديات وهيبة الدولة أقوى، في حين تمّ التغاضي عن التّدقيق والتّفتيش من خلفه في المدن الصغرى حيث تقوى العُصَب الأهلية والزعامات المحلّية مثل مناطق: الجبل والبقاع والجنوب. نستنتج من هذا، إنّ الأزمة الماليّة هي الجذر الضارب والأقوى لحركة وكميّة العابرين في أيّ وقت، وأنّ ما قاله السّائق العامل على الخطوط البرية بين البلدين من "أنّه ما من شيء يحدثُ فجأة أو غير متوقع" هو بالفعل توصيف دقيق لجبل جليدٍ، رأسُه بادٍ في عام 2020، وأصلُه الثقيل متمكّن في السنوات السابقة وبالأخص 2019 ونكباتها الماليّة.

 ثانياً: الأزمة الصّحيّة العنيدة المُتمثّلة بكورونا. إذ يُمكنُ الاستعانة في توصيفها وما فعلتهُ باقتصادات بلادنا بمصطلحات الفعل والقوّة، (لو استعرنا شيئاً من معجم التّطوريين) فإنّ جائحة كورونا هي اليد التي أسقطتِ الثمرة، ولكن للأسف فإنّ الثمرة التي سقطت لم تسقط بفعلِ النّضوج المُبشّر بالخير، بل بفعل الفساد والتّعفُّن الذي كان يعملُ فيها عملَ النّأمة أو الحشرة الطفيليّة لعقود طويلة!

لقد سجّل لبنان الإصابة الأولى بفيروس كورونا خلال شباط الفائت، وأعلنتِ السلطات فرض الحظر في اليوم الأخير من ذلك الشهر، ومن ثمّ دخلتِ البلاد في نَفق طويل من الحظر حتى 6 تموز 2020؛ لتعودَ لجنة متابعة التّدابير الوقائية وتفرضَ من جديد بتاريخ 25 تموز 2020 مستوى من الحَجْر ولمدّة أسبوعين، أي حتى 10 آب 2020. ونستدعي من الذّاكرة القريبة أنّ يومي الرابع والخامس من آب لم يكونا ضمن أيام الحظر، مما جعل الكثير من التعليقات الناقدة تنصبّ على قرارات وتدابير التعبئة العامة، وكأنّ الفيروس ينتقل بأيّام معيّنة. ولكن أشدّ المتشائمين لم يكن يتوقّع أنّ يوم الرابع من آب سيحمل أبشع ذكرى في تاريخ لبنان المُعاصر، والتي ستتحوّل إلى نُدبة عميقة في وجه المدينة، خلّفتها أيدي الطّبقة البيروقراطية المُتنفّذة، وتبرهن على لا مبالاتها وإهمالها الكارثي في الإدارة.

مع ذلك، قد لا تحملُ هذه الأزمة نوعاً من الخصوصيّة، أو الإلحاح في إيجاد حلول ناجعة، عند النّظر إليها بعين البيروقراطيّة البادرة، التي لا تكتفي بتقطيع أعناق وأرزاق الفئات الأشد فقراً من المُجتمع السوري، تلك الفئات المعتمِدَة على المياومة في نمط عمالتها وإنتاجها، مثل هؤلاء السائقين وغيرهم من عمّال بناء أو مرافق سياحيّة، ما عدا اللاجئين والنّازحين منهم.

ظلّت القطاعات التجارية اللبنانية تُداري الشّلل التّامّ، الذي أخذ يستفحل مع تطاول مدّة الحظر، دون أي نتيجة تُذكر على صعيد الحد من انتشار الفيروس، ولو أنّ عدد المسحات يوميّاً تتضاعف، وهذا شيء إيجابي على صعيد تطويق الوباء، لكنّ عدد الإصابات ما زال في ازدياد بالغاً 21877 إصابة، (ويمكن متابعة تحديثات الإصابات عبر الموقع الخاص الذي استحدثته وزارة الصّحة اللبنانية) حتى تاريخ كتابة هذا المقال. وبطبيعة الحال فإنّ قواعد العمالة السّوريّة، أو ما يُمكن وصفهم بـ"من تبقّى منهم" كانت الأشد تضرّراً؛ لفقدانها أبسط حقوقها إنْ كان في الضّمان أو التأمين الصّحي. لكنّ انفجار المرفأ جاءَ ليقطعَ مع كل تلك التّدابير، ويُقزّم الجهود أمام فداحة الكارثة، وما خلّفته من ضحايا نازهوا 191  وقرابة ستة آلاف جريح. وفقاً لما أعلنته وزارة الصّحة بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 2020. أكثر من ثلثهم عمّالٌ سوريون، وبينهم نساء وأطفال أيضاَ.

ثالثاً: أزمات الّلجوء السوري التي تخرج من نفق لتدخلَ آخر حسب تمرحلات الحرب في سوريا. هنا يجب التمييز بين العمالة السورية التي تحدّثنا عنها في الفقرتين السابقتين، وبين اللاجئين السّوريين. ففي حين يمكن الذهاب إلى القول عن الفئة الأولى من  العمالة السورية إنّها تأتي من خلفية سوريّة للبيئات الأقل تضرّراً من الحرب (الضّرر بمعناه المادي وليس الاقتصادي المُعمّم والذي لم يَسلم منه أحد) وبالتالي هي فئة في نسبتها العُظمى ذات وجود قانوني في لبنان (المقصود بالقانوني هنا: نِظام الكفالة الذي أُقرّ نهاية عام 2014، وكان العامل الأساسي في الحدّ من تدفّق العمالة السّورية إلى لبنان) وصولاً إلى أنّ هذه الفئة هي المعنيّة أكثر بأزمة العبور؛ كونها تعمل لفترة من الصّيف في لبنان وتعود إلى سوريا شتاءً.

إنّ الوجود لعناصر هذه الفئة على الأراضي اللّبنانية قانونيّ، وبالتالي فإنّ تنظيم حركة عودتها يأتي من مهمّات السّفارة السوريّة في بيروت. وفي حال تفحَّصْنا هذه الفئة عُمريّاً، لوجدنا أنّ نسبةً كبيرة من هؤلاء العُمّال، هم شبابٌ في سنّ السّوق إلى الخدمة الإلزامية، وغاية عملهم في لبنان ليس تأمين العيش وحسب، بل أيضاً تأمين بدل نقدي عن الخدمة العسكريّة، يدفعونه بعد قضاء أربع سنوات خارج سوريا. وتنظّم السّفارة السورية في بيروت كلّ ما سبق من المعاملات والأوراق الثبوتية، بمجرّد خروجهم من سوريّا إلى حين دفعهم قدر البدل (8 آلاف دولار) بوصفها قناةً شرعيّة ضروريّة. كما لا يستطيع المرء الوصول إلى السّفارة إلا إذا كان وجوده قانونيّاً في لبنان، بسبب نَصْبِ حواجز للجيش اللبناني على مقرُبة من السفارة تُدقق في الوضع القانوني والشّرعي، لمُراجعي السّفارة. قد تبدو هذه الالتفاتة بعيدة بعض الشيء عن موضوعنا للقارئ العادي، ولو أنّ الباحث المُهتم بالتّفاصيل عليه أن يبني شبكة تحليله انطلاقاً من هذه الجزئيات اليوميّة الميكروــ سلطوية والتي يَخضع لها آلاف البَشر، وتعنيهم بشكل كبير. وللتأكيد أنّ جبل الجليد يستقي قوّته وعِنادَه من جانبه الخفي لا الظاهر فحسب.  

أمّا الفئة الثّانية من العمالة السّوريّة، الموسومة باللّجوء السّوري في لبنان، فهي فئة غير مُصرّح لها بالعمل أساساً. كما أنّها تنحدر من بيئات سوريّة أكثر تضرُّراً من الحرب وتكاليفها المادّية المباشرة من تدمير منازل وفقدان المأوى. وتشغلُ العائلاتُ بنيتَها التّكوينية في طابعها الغالب. أمّا إقامتُها فمحددة بالعيش ضمن مُخيّمات النزوح بمعنى إنّها: إمّا تعرّضت لتهجير قسري، أو خسرت مأواها ومنازلها في سوريا. بالتالي هي عاجزة عن العودة إلى موطنها بشكل مُباشر، أو بالوقت الذي يفرضُه عليها الآخر. كما أنّ هذه الفئة من اللاجئين السّوريين، يعانون من وضع مُزرٍ ليس وليد اليوم، ويُستفاض في شرح تفاصيله، وتعاطي الإعلام معهم يكون بطريقة نمطيّة مُجحفة، بالرّغم من أّنهم في عين العاصفة الماليّة، والصّحية الوبائيّة التي تتهدّدُ لبنان!.

 يجب لفتُ النّظر، طبعاً، إلى أنّ التعاملَ مع هاتين الفئتين يمرّ من خلال التقاطعات المُشتركة بين الدائرتين، وليس بوصفهم جُزراً معزولة عن بعضها بعضاً.   

تُلخّص السّطور السّابقة بعضاً من الآليات الرّسمية، وغير الرّسمية للتعامل مع الفئات المُتضرّرة جراء الإجراءات الحدودية الاعتباطية بين سوريا ولبنان، وما يوازيها من إجراءات بيروقراطية ضمن لبنان، والتي تنعكس بشكل متفاوت على حياة العمال السوريين بحسب وضعهم المقونن وطبقاتهم الاجتماعية. لكنّ المشكلة في هذه المقاربات أنها تبدو قريبة من لغات التقارير الحكومية وغير الحكومية المَهووسة بتصنيف الأزمات، والتَّعامُلِ مع النّاس كعيّنات قيد الدّرس.

سأحاول الآن قدر الإمكان، بعد هذه المُقدّمات الموحية بـ"انسداد" يَقتلُ ببطء، أن أتابعَ المقال، في الفقرة التالية، مبتعداً عن ثنائية استسهال رمي الحلول من جهة، خاصّة ذات اللون الثوري السّحري الفاقع، أو بثّ نبرة التّعجيز واليأس من جهة ثانية. لأنّ كلا القطبين في هذه الثنائيّة يتمّ استغلالهما بابتذال سياسي واضح، ونشهده يوميّاً، وتقطف ثمارُه أطراف حزبية أُشيرَ إليها أوّل المقال. فلا الأمل لأجل الأمل، وبالتّالي بيع الأوهام للنّاس، ولا اليأس المحض، يُجديان نفعاً من غير سياق سياسي واجتماعي واضح يُمكنُ الاحتكام إليه.

III.             

أنتقلُ في هذه الفقرة إلى الحديث عن بعض الإجراءات الحكومية الرّسمية التي اعتُمِدَت من أجل معالجة الأزمة، ونتفحّص ومدى نجاعتها ومسؤوليتها من عدمه؟

وقعتِ الحكومتان السوريّة واللبنانيّة تحت ضغط كبير، مع بداية جائحة كورونا، وأظهرتا في بعض التّعامل شيئاً من التّخبط في القَرارات.  عملت الحكومة السورية، في أوّل الأمر، على تطبيق الحظر الصّحي، وفرضت حظراً للتجوّل، وقامت بعزل الأرياف عن المدن، واستنكفت عن قرارات السوق إلى الخدمة الإلزامية، لمدّة مُعينة من الشهر الرابع لهذا العام. إلاّ أنّها تلقّت الكثير من النّقد والاستنكار من ناحية عودة المواطنين السّوريين في الخارج، بسبب اعتمادها آليّة بطيئة جداً من خلال تّسجيل أسماء الرّاغبين في العودة في السفارات. من جهة ثانية وهي الأهم والعامل الرئيسي لحلّ معضلة العبور والعودة، ألا وهي توفير أمكنة الحجْر اللائقة والقَادرة على استيعاب الكميّات الكبيرة من العائدين. قبل أن يتطوّر الوضع مع بروز مشكلة ضاغطة أكثر، وهي تزايد أعداد القادمين من المعابر البرية التي تصل سوريّا بلبنان. طال الحديث كثيراً حول هذه النّقطة، لكنّ أكثرَ ما يعنينا هو ارتباط كميّة وأعداد العابرين من خلال معبر المصنع ــ جديدة يابوس، وهو المعبر الرئيسي بين البلدين، بأماكن الحَجْر التابعة لهذه النقطة الحدودية، وهو مركز الدّوير. الذي أعلن أحد المسؤولين الحكوميين في منتصف شهر حزيران أنّه نُقِل 900 شخصاً من العالقين على الحدود إليه.

بِمقارنة سريعة بين  الطاقة الاستيعابية لهذا المركز، وهو أساساً مركز لنشاطات منظمة الطلائع، واعتماده من قبل الحكومة ليكون مقرّاً لحجرِ العائدين عن طريق مطار دمشق أيضاً، بغض النّظر عن بلد العودة، وبين أعداد الراغبين في العودة، نجد أنّ خطوط النّقل الجوّية تشتبك مع الخطوط البرّية، لأنّ مركز الدوير مُرتبط أيضاً بالقادمين من خلال مطار دمشق. عندها يستدير الزّمن بصورة بطيئة قاتلة، ويبدو إنقاذ ما يمكن إنقاذه أشبه بحرب استنزاف تصوَّب على القدرات المادّية للقطاع الصّحي السوري. هذا القطاع الذي لم يَخرج بعد من حرب عمرها تسع سنوات مازالت آثارها بادية عليه. ثمّ ليكللَ قانونُ قيصر هذا الواقع الصّعب، بتصويبه العشوائي، وهو صورة عن عقلية المنتقمين الذين صاغوه والإدارة الأمريكية التي تبنّته، ليفرضَ حصاراً خانقاً ضحيّته المباشرة الشّعب السوري.

هذا من ناحية العوامل الموضوعيّة التي تُكبّل الأداء الحكومي السوري عن إنجاز دوره بطريقة لائقة، لكنّنا ما إن نُقلّب النّظر في هذه العوامل، حتى نصطدمَ بعوامل ذاتيّة وقرارات كان بإمكان الحكومة ألاّ تقرّها. بل إنّ إقرارها بهذه الخفّة يظهرُها بمظهر من يستثمر في الأزمة، وليس الحريص المُفتّش عن حلٍّ لها، ونحن هنا نتكلّم عن القرار الأخير لوزارة الماليّة المتمثّل بإجبار السوريين القادمين من الخارج على تصريف مبلغ وقدره 100 دولار، وفقاً لسعر الصّرف الذي حدّده البنك المركزي السوري. صدر القرار بدايةً مطلع الشهر السادس من هذا العام، وبالرغم من الاستياء الكبير الذي لاقاه، حتى في أوساط من داخل التشكيلة الحكومية السابقة. لكنّ الأمر لم يتغيّر حتى مع انتخابات مجلس الشّعب، وتشكيل حكومة جديدة التي لم تخطُ صوبَ تقديم أي مُبادرة جدّية إلى الآن. بل إنّ تصريحات مدير الهجرة والجوازات اللواء ناجي النّمير، التي وصف بها العالقين على الحدود بلا مأوى، بأنّهم يمارسون حياتهم الطبيعية إلى حين دفعهم مئة دولار، يُمكن وصفها بالاستهتار وقلّة الحرص، وعدم تبدُّل العقلية التي تُدار بها الحكومات في سوريا سواء القديمة أو الجديدة. طبعاً لن نقف على الفوارق الرّقمية الدّقيقة بين سعر الصّرف المُعتمد رسمياً، وبين ما يتمّ الاحتكام إليه في السّوق السّوداء، لأنّه حديث غايته الدخول في صراخ إعلامي لا طائل منه، كما أنّ الخسارات الحقيقيّة للأوطان لا تُحتسب بهذه العقليّة.

لكنْ لو تجاوزنا كميّة النقد والسّخرية التي تعرّض له هذا القرار، وتمعنّا بالواقع المعيشي لمادّة مقالتنا هذه (أقصد: السوريين القادمين من لبنان تحديداً) لاكتشفنا مدى كارثيته. فمن حيث يُلزَم المواطن السوري بتأمين فحص (بي سي آر) من مشافٍ حدّدها مُسبقاً الأمن العام اللبناني، وبتكلفة 150 ألف ليرة لبنانيّة للمَسحة الواحدة، الفحص المعتمد والذي يُخوّل صاحبَه من عبور الحدود. وقد أيّدت هذا الإجراء الوقائي السّفارة السورية في بيروت من خلال بيان على صفحتها الرّسمية على الفيسبوك. عليه فإنّ قرار تصريف 100 دولار (بالدولار حصراً) يُفاقم معاناة العودة، ولا يَأخذ بعين الاعتبار واقع انعدام العمل كلّ هذه الشهور وتوقّف عجلة الإنتاج أصلاً، ويُشكّكُ بالموقف الأخلاقي للمواطن العائد إلى بلده، لِيُنْظَرَ إليه بوصفه شريكاً في شحّ العملة الصّعبة وانقطاعها وصعوبة توافرها من كلا البلدين. كما أنّه يدفع بالكثيرين للّجوء إلى خيار التّهريب والمعابر غير الشرعية ذات الأسعار المُنافسة، والتّشجيعية، بتوصيف ساخر! ومن نافل القول الحديث عن مدى خطورة هكذا خيار! وقد سُجّل مؤخراً حالة وفاة لفتاةٍ حاولت دخول لبنان بهذه الطريقة.

فهل لنا بعد هذا العرض البسيط، أن نتصوّرَ حجم التكاليف المُطالَب بأدائها عاملٌ قد يضطرّ للعمل شهراً كاملاً حتى يؤمّنَ هذا المبلغ؟ إنّنا لا نبالغُ أبداً بوصفه بالثمن الباهظ نسبة لأحاديث يأملُ المرء ألا تكون صحيحة عن مجاعة تتهدّد البلدين

IV.             

أخيراً: تناولَ هذا المقال بعض مُسبّبات أزمة العبور الحاصلة على الحدود السّورية اللّبنانية، وتفاصيل القرارات والقوانين المؤثرة في حركة النّزوح والعمالة خلال السنوات السّابقة. سعيتُ من خلاله، ألّا تظهرَ هذه الأزمة على أنّها كارثة طبيعية حدثت في يومٍ وليلة، وتنتظر حلّاً سحرياً من السّماء. قد تطول إجراءات الحلّ والعلاج، ولكنّ التعويل على المُباشرة فيها والتّسريع بتبنّيها، يقومُ أولاً على اقتناع القائمين عليها بأنّ هذا واجبهم، وليس مِنّة لهم على ناس تتضوّر جوعاً، وتباتُ في العراء.

يبدو الحديث اليوم عن واقع الحدود بين البلدين مُثقلاً بالشجون، بالرّغم من أساطير التّغني الطويلة بوحدة المَسار والمصير بين الشّعبين الشّقيقين. ومن المصادفات أنّ هذا العام هو الذكرى المئوية الأولى لإنشاء دولة لبنان الكبير بُعيد سنوات من مجاعات الحرب العالمية الأولى. ليس المقصدُ بهذه الإشارة التّاريخية وجود شيءٍ قَدري، يحكمُ بلادنا أو التّشكيك الجوهري بمصير شعوبنا، بل على العكس تماماً، إذ قليلاً ما تعني هذه المناسبات سوى المُنسحبين من مآسي الحاضر والعجز أمامه، إلى استحضار الماضي المُريح، كلٌّ حسب سرديته.

يدفعُنا الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم في المنطقة إلى التساؤل عن المهام الوطنيّة التي يجب إنجازُها، وإلى أي مستوى من مشاكل الشّعوب يجب أن يُنْظَرَ، سواء أولئك الذين أبّدوا أنفسهم في السّلطة حتى صارَ لا فِكاك لهم منها، أو المتنطّحين لمعارضتهم والسّاعين إلى تَمَلُّكِ المُلْك لأجل المُلْك.. لا لأجل النّاس.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • معجم «فرهاد دفتري» الاسماعيلي، اللغة تمتحن المؤرخ

      معجم «فرهاد دفتري» الاسماعيلي، اللغة تمتحن المؤرخ

      يعدّ اسمُ المؤرخ الإيراني والأكاديمي الرصين فرهاد دفتري (1938،...) ملازماً لكل حديث أكاديمي حول التأريخ المعاصر للحركات الشيعية، فهو حصر مجمل حياته الفكرية للخوض والنقاش في موضوع تاريخي واحد تقريباً، محاولاً خلال رحلته الطويلة عدم الاقتصار على الإنتاجات المعرفية والمكتبة الضخمة، بل تعدّاها إلى العمل الوظيفي كمدير مساعد ورئيس قسم البحث والمطبوعات الأكاديمية في معهد الدراسات الإسماعيلية (لندن).

    • مشاهدات يومية واجتماعية من السويداء: من حركة الاعتصام... إلى اغتيال البلعوس

      مشاهدات يومية واجتماعية من السويداء: من حركة الاعتصام... إلى اغتيال البلعوس
      تعود مدينة السويداء لتظهر من جديد في ساحة الخبر السوري مع مشهد اعتقال الناشط المدني والمعارض جبران سلامة مراد. الشاب الثلاثيني الذي ألقت دورية تابعة للمخابرات العسكرية القبض عليه، على الطريق بين مدين

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬