لا يمكن لألدّ أعداء غسّان كنفاني أو كارهيه أن يصفوه بالطَّيش أو الهَبَل، ولكنْ ما يضع العقل في الكفّ، ويرغمنا على ضرب كفٍّ بكفّ، ثمّ إتباعها بضرب رؤوسنا في الجدار، والتّشكيك في قواه العقليّة (غسّان لا الجدار) تجاهلُ غسّان لرواياته الثّلاث الأخيرة (العاشق، الأعمى والأطرش، برقوق نيسان) إذ أبقاها طيّ الأدراج طوال حياته. لا يمكن للمرء تخيُّل درجة الكُفر بالنّعمة التي قد يصل الإنسان إليها، لأنّ تلك الروايات أعظم ما كتب غسّان على الإطلاق. يُرَدّ عادةً على تلك المسألة المحيّرة بإجابة بسيطة: اغتيل غسّان ولم يتسنّ له نشرها. على أنّ السنوات الفاصلة بين تاريخ كتابتها وبين اغتيال غسّان لا تُرجِّح كفّة الإجابة البسيطة تلك. تشير لجنة تخليد أعمال غسّان كنفاني في الطبعة الأولى من أعماله الكاملة التي صدرت بُعيد اغتياله عام 1972 إلى أنّ «فترة ليست بعيدة» تفصل بين العاشق التي بدأ كتابتها عام 1966، وبين الأعمى والأطرش. ولكنّ اللجنة لم تدقِّق في لغة غسّان وفي جوّ الأعمى والأطرش الذي لا يشبه جوّ أعماله السابقة بقدر ما يمثّل جوًا جديدًا أنضج بكثير، عدا عن كونها تشير صراحةً إلى هزيمة 67 وآثارها. وبذا فإنّ الأرجح أنّ غسّان كتبها عام 1969، وربما عام 1970؛ بينما يُتَّفَق على أنّ برقوق نيسان آخر ما كتبه على الإطلاق. قد تكون برقوق نيسان استثناءً لأنّ غسّان كان منهمكًا في كتابتها قبل تشظّيه الأخير، كما ينقل أصدقاؤه وناشروه؛ وهي مختلفة بعض الشيء عن الروايتين الأخريين. وبذا فإنّ لدينا ما لا يقلّ عن عامين بين تاريخ الكتابة وتاريخ الاغتيال. عامان يعنيان الكثير بالنّسبة إلى غزارة غسّان كنفاني المذهلة، على الأخص إذا تذكّرنا أنّه نشر ثلاثة أعمال في عام 1969 وحده. وحتّى لو تجاوزنا مسألة الوقت الفاصل، ستُعمّق الروايات نفسها حيرتنا، إذ لا تُنبِئُ نهاية كلّ رواية من هذه الروايات بنهاية فصل، أي بنهايةٍ عابرة تُمهّد لما سيليها، حتّى لدى غسّان المولع بوحدة الفصول التي تكون أقرب إلى قصص قصيرة متكاملة يمكن فصلها عن جسد الرواية، ويمكن قراءتها بوصفها تفصيلًا من تفصيلاتها، بل تومئ الخواتيم إلى نهاية أقوى، إلى نهاية عمل كامل. وليس الحجم عنصرًا حاسمًا أيضًا (برقوق نيسان استثناء مرةً أخرى) لأنّ أعمال غسّان الأخرى ليست أضخم من الأعمى والأطرش أو حتّى من العاشق. فلنتذكّر أمّ سعد أو ما تبقّى لكم أو متتالية الصغير منصور داخل كتاب عن الرجال والبنادق. وحدها الشيء الآخر تنتأ في المقارنة، ولكنّها تنتأ في المقارنات كلّها في عالم غسّان كنفاني، إذ لا تشبه تلك الرواية أيّ عمل آخر له. لحظة! ألا يكون الاختلاف سببًا أكثر إقناعًا من الاغتيال؟ نعلم أنّ كنفاني لم ينشر الشيء الآخر في كتاب، بل أبقاها حلقات متسلسلة في مجلّة. كان السبب المعلن (و«المنطقيّ» في عُرف غسّان المناضل) تغيُّر الظروف كلّها بعد هزيمة 67، ولا يمكن للمناضل نشر رواية «بوليسيّة» (لو بقينا ضمن التّصنيف الرائج لهذه الرواية) إثر الهزيمة، بل ينبغي له التّركيز على الأدب التّحريضيّ كما في عن الرجال والبنادق وأم سعد، وحتّى في عائد إلى حيفا، من دون أن نعني تلاشي الجماليّات التي تجعل الفنّ فنًا لا محض منشور تحريضيّ، لأن غسّان هَجَر الأدب التّحريضيّ بمعناه المباشر منذ منتصف الستينيّات.
ليس هدفي هنا التركيز على الشيء الآخر إذ تستحقّ وقفةً مستقلّة، وليس هدفي (جزئيًا على الأقل) المضيّ في بحثٍ بوليسيّ عن سبب عدم نشر غسّان لرواياته الأخيرة، غير أنّني سأحاول قراءتها بوصفها أعمالًا بعد الهزيمة، أعمالًا مغموسة في الهزيمة، سنجد فيها الوجه الآخر لغسّان (الوجه الذي يهمّنا حقيقةً، لا تفاصيل حياته الشخصيّة)، غسّان الذي واصل تقسيم حياته بين نهار النّضال وليل الأدب. أعمال أفضل من أعماله المنشورة كلّها، ولكنّ كاتبها فضَّل أن يُنعَت بالحماقة بعد وفاته على أن يُنعَت بالخيانة أو «وهن نفسيّة» المناضلين وهو على قيد الحياة في تلك الظروف الحرجة (وكلّ ظروفنا حرجة!)، وكأنّ لسان حاله يقول: تريدون أدبًا تحريضيًا؟ سأهِبُكم ما تشتهون. ولكن سأدفن معي الأدب الآخر، الوجع الآخر، اليأس الذي يسحق الروح والجسد أكثر حتّى من السكّريّ الذي ربما كان سيقتله لو لم يقتله الإسرائيليّون. عن اليأس القاتل، عن وطأة الحزن، عن الكلمات المغموسة في الهزيمة، عن الروايات التي تتقطّر لوعةً وأسى، سأحدّثكم.
أشار الكاتب الأميركيّ وليم گاس في مقالته «معبد نصوص: خمسون نُصبًا أدبيًا» إلى أنّ «النوڨيلا الجميلة المباركة»، بحسب تعبير هنري جيمس، تأتي غالبًا في ثلاثيّات، مرجّحًا سبب الحجم، إذ يُعادِلُ حجمُ النوڨيلا ثلثَ حجم الرواية، وبذا يعدّد گاس ثلاثيّات لكاثرن آن پورتر وگرترود ستاين وگوستاف فلوبير، وإلى إمكانيّة تجميع ثلاثيّات أخرى لتشيخوف، وجيمس، وكونراد، وجويس، وفوكنر ، وكوليت. لعلّ الحجم أيضًا كان السّبب الذي دفع ورثة كنفاني لنشر ثلاثيّة النوڨيلات الأخيرة في كتاب واحد. ولكنْ ما لم يُشرْ إليه گاس، وما لم ينتبه إليه ورثة كنفاني، هو أنّ خيار الانتقاء والجمع يستلزم بالضّرورة وجود سبب آخر بخلاف الحجم، سبب أدبيّ لا ماديّ، سبب كيفيّ لا كمّيّ. لو كان الحجم وحده سببًا لجمع النوڨيلات كنّا سنجد ثلاثيّة أخرى لكنفاني، ولتكن: «ما تبقّى لكم، أم سعد، عائد إلى حيفا»، على أنّ ما يفرّق هذه الأعمال الثلاثة أكثر ممّا يجمع بينها، على عكس ثلاثيّتنا هذه التي صُودف أنّ الحجم والجوّ المشترك اجتمعا معًا لتشكيل كتاب واحد حرفيًا ومجازًا، فالكتاب أقرب إلى كونشرتو بثلاث حركات. يتأكّد الأمر حين نتذكّر محاولة مجلّة «الدوحة» نشر برقوق نيسان مع عدة قصص من مجموعة القميص المسروق. كان التّخلخل والتوتّر واضحين بين النوڨيلا وبين القصص، بين غسّانين مختلفين توحّدا هذه المرة في ثلاثيّة لا سبيل إلى فصل أيّ جزء من أجزائها، ولا إلى قراءة أيّ جزء على حدة، بالرغم من الاختلاف الظاهريّ.
ابتداءً من ملحمة أنومَ ألِشْ (أستخدم ترجمة نائل حنّون بتعديلات طفيفة): «حينما في العُلى لم تُسَمَّ السّماوات بعد/ وفي الدُّنى لا رواسي ذُكرت بالاسم/ ... حينما لم يكن الآلهة قد وُجِدوا/ ما كانوا قد ذُكروا باسمٍ ولا قُدِّرَت الأقدار»، وليس انتهاءً بمحمود درويش: «كانت تُسمّى فلسطين/ صارت تُسمّى فلسطين»، يحاول الأدب التّشديد على أنّ ما لا اسم له لا وجود له. أي إنّ الأشياء تُخلَق حين تُسمّى. غير أنّ ثلاثيّة غسّان تنفر من هذه المعادلة الكونيّة، وترسم معادلةً أخرى يكون الوجود فيها منفصلًا عن الاسم أو غير مكترث به. لا نعرف اسمًا محدّدًا لبطل العاشق، فهو قاسم والعاشق وعبد الكريم وحسنين والسّجين رقم 362، ولكنّه حاضرٌ بقوّة بصرف النّظر عن اسمه المنتقى. الأسماء عابرةٌ فيما الوجود راسخٌ، بل إنّ الوجود يستمدّ حضوره من غياب الاسم. صحيحٌ أنّ غسّان يمهّد في السّطور الأولى بأنّ البطل «صار لتوّه شيئًا من أشيائها [القرية] الصغيرة، ولكنّه ابدًا لم يستطع أن يكون من ناسها»؛ وصحيح أنّه يُتْبِعُها بجملة: «في تلك الظهيرة ولد قاسم فجأةً»، إلا أنّ الأحداث كلّها لا تقوم على اسم محدّد، بل نستشعر حسدًا واضحًا من الجميع حيال هذا الغريب الذي لم يكن منهم، ولا يودّ أن يكون منهم، أو من غيرهم؛ هذا الغريب المنتشي بمجهوليّته، الذي جرؤ على ما لم يجرؤ عليه غيره، وصار ندًا لمن لا يجرؤ أصحاب الأسماء المحدّدة على مجرّد الاعتراض عليهم. لم يكن من ناس القرية، ولا من ناس البلاد، ولكنّه بات شيئًا من أشيائها حيث الأشياء تبقى والنّاس عابرون، حيث الحاج فلان ورئيس العمّال فلان ليسوا سوى كومبارس نافل على شاشة الوجود الذي يتجذّر بالغياب؛ غياب الاسم لا غياب الهويّة؛ حضور الهويّة المتجذّرة بلا اسم. لعلّ اسمه قاسم حقًا، ولكنّ اسم قاسم موجود في أعمال أخرى لغسّان، وكأنّه اسم مُحبَّب لديه أو اسم اعتباطيّ هو أوّل ما يخطر له من الأسماء. بل إنّ قاسمًا آخر موجودٌ في برقوق نيسان، وهو أيضًا جُرِّد من اسمه، وإنْ في ظروف أخرى. على أنّ غسّان يحنو على بطله الآخر (أو يُصرِّح بما أَضْمَرَه في النوڨيلا الأولى) فيحوّله من شيءٍ إلى حلم، حلم يتّحد مع الوجود فيمنحه معناه، ومن ثمّ يتلاشى ليذهب إلى عالم آخر، إلى وجود آخر ليرسّخه أو يخلقه أو يمنحه معناه. لا يحضر قاسم الآخر إلا في الذكريات ولكنّه أكثر حياةً من الجميع بلا استثناء، من جميع الأشخاص الذين قد يتباهون بتفرّدهم في أسمائهم. بل ربّما لم نكن لنعرفهم لولا قاسم الحلم الذي انتاب غسّان فخلق له عالمًا بأكمله. لا قاسم في الأعمى والأطرش، ولكن لا أسماء أخرى أيضًا. يبدأ غياب الأسماء من المفارقة التي دفعت لجنة تخليد أعمال غسّان إلى حرمان بطلَيْ الرواية من اسميهما حينما خلَّدّتْهُما (مصادفةً) باسمَيْ الأعمى والأطرش. غير أنّ الكون الخالي من الأسماء يواصل ترسيخ وجوده - حتّى بمعزل عن العنوان - في مشهدين جميلين: الأول، حين يعجز أبو قيس «الأطرش» عن سماع اسم عامر «الأعمى» فيسمّيه عبد العاطي، فنقرأ مناجاة عامر التي تختزل وجودهما معًا: «ولكنّه لم يسمع، ولو سمع لما كان لذلك أيّة أهميّة، ولما كان جديرًا بأن يعني شيئًا». يدرك عامر (وغسّان) برهافة أنّ المعنى لا يستلزم اسمًا، ويدرك أبو قيس بذكاء (في المشهد الثاني) أنّ الأسماء خالية من المعنى. إذ ما معنى الاسم إنْ كنّا نستطيع شطبه بقلم وإحياءه بقلم؟ ما الذي سيزيد اللاجئَ لو كان اسمه غسّان أو عامر أو صفيّة أو حمدان أو أم سعد؟ ليست الأسماء إلا لعبةً لن يزيدك وجودًا تضاعفُ عددها ولن ينقصك وجودًا حذفُها. دنيا الأسماء دنيا أخرى لا يكترث لها غسّان: تلك دنيا الآلهة متعدّدة الأسماء، والبشر أحاديّي الاسم. ولكن بوسعك أنت أيضًا أن تلعب بالمنطق ذاته لو أحببت. بوسعك أن تصير إلهًا إنْ كان الوجود مُعلَّقًا باسم. هنا غسّان، هنا فارس فارس، هنا أ. ف.، هنا أبو فايز. علَّمَنا الأسماءَ كلّها من دون أن يكون إلهًا، إذ ما من آلهةٍ مصابةٍ بالسكّريّ أو تُدمِنُ التّدخين. الأسامي كلام كما تدرك فيروز، وكما يدرك غسّان. أما الوجود فأمرٌ آخر أسمى وأبهى.
خلوّ الحكايات من الأسماء أو عدم اكتراث الراوي لها يفترض ضمنًا إيجاد حيويّة أخرى تُبقي السرد حيًا. وبما أنّ الأسماء تفرض على السّرد سُلطةً خارجيّة، بات السّرد بحاجة إلى سُلطة داخليّة تصون التّوازن كيلا ينفرط عقد الحكاية فتتلاشى وتُنسى. كان الحل الوحيد أمام غسّان تنويع السّرد بين الوعي واللاوعي، بين المنطوق والمُضمَر. غير أنّ المغامرة كانت تتمثّل في التخلّي عن اختلاف بنط الطّباعة كما درجت العادة في روايات تيّار الوعي، وكما استخدمها غسّان نفسه مُضطرًا في ما تبقّى لكم، وكأنّه يومئ إلى أن الحكاية ستحافظ على پوليفونيّتها مع صون الصوت الواحد في آن: أن تصبح الأصوات المتعدّدة صدى لصوت أوحد ليس هو صوت الراوي أو الكاتب بالضّرورة مع أنّنا نستشعر حضور غسّان بقوّة، للمرة الأولى ربّما بهذا الوضوح. ليست سيرة ذاتيّة بقدر ما هي سيرة أفكار، سيرة تداعي الوعي واللاوعي داخل ذهن غسّان قُبيل الهزيمة وبعدها، مع ملاحظة تزايد دفقة التّجريب مع تقدّم السنوات ومع تجذّر الهزيمة.
كان التّجريب في أبسط حالاته في العاشق، ولكنّه شكَّل – برغم هذه البساطة الظاهريّة – نقلةً كبرى في روايات الستينيّات، إذ أزال غسّان الفواصل بين وعي الشخصيات وباتت الانتقالات بينهم أسرع وأعقد في آن. ما عاد هناك فاصل (أو فارق) بين السارد العليم وضمائر سُلطته كليّة القدرة، وبين أنا كلّ شخصيّة من الشخصيّات، بحيث بات علينا إبطاء قراءتنا كيلا نتوه في عالم الأصوات المتداخلة التي تحكي قصّة ذلك «العاشق»، وتُمثّل في الآن ذاته أصداءً لصوته الأوحد، مثل ألسنة لهب تُحرِق وتحترق بفعل جذوةٍ متّقدةٍ واحدة. ومع انتقال الكونشرتو من الحركة الأولى المتمحورة حول صولو الآلة المنفردة، صارت الحركة الثانية قائمةً على آلتين تتبادلان دوريهما في البوح، وتتداخلان ببراعة بحيث تمسيان صوتًا واحدًا في مشهد الدعاء الجميل الذي وحَّد صوتَيْ الأعمى والأطرش إلى أن باتا فرعين لغصن واحد يشتركان في الحكاية، أيًا يكن بوح أزهار كلٍّ منهما على حدة. استغلّ غسّان الظروف الخاصة لبطليه كي يُدخلنا إلى متاهة بديعة تتوه فيها الأصوات إلى حدّ تلاشي الحوارات. وكأنّ كلّ شخصيّة عالمٌ مستقلٌّ يُناجي ذاته ويحاور العالم المُتاخِم في آن. الحوارات عبثيّة في دنيا الأعمى والأطرش التي يدرك كلا بطليها بأنّها «غابةٌ كثيفةٌ من علامات الاستفهام». ما من ردود لأنّ الحوارات أسئلة كلّها؛ ما من حوار لأنّ الكلام استحال مناجاة مفردة لكلّ شخصيّة من الشخصيّات. وفي دنيا الأسئلة تلك، تحدث لحظة الانكشاف حين يدرك كلٌّ منهما أنّ حياته بأكملها كانت محض عمليّة تنفّس ميكانيكيّ؛ محض أوهام ومعارك تندلع وتنطفئ في الذهن من دون أن تخرج، أو يجسر أيٌّ منهما على إخراجها. وحين خرجت إثر لقاء البطلين اندلقتْ مثل قيح دمّل كان ينتظر لحظة النضج كي ينفجر: يدرك الأعمى أنّ حياته ليست إلا تكملةً لشقاء أمّه حيث انتقلَ عَرَق القهر من الجبين إلى الأصابع؛ ويدرك الأطرش أنّ العالم الصامت الغاطس في حوضٍ زجاجيّ تفجَّر أخيرًا بحيث تمكَّن من سماعه، لا بالأذنين بل بالقلب والوعي فكان الصوت مؤلمًا مُفجعًا.
بعد تشظّي عالم الأعمى والأطرش ما عاد ممكنًا لغسّان أن يكرّر لعبة توحيد الأصوات، إذ تحطَّم العالم القديم كلّه بأصواته كلّها ولم يعد هناك إلا أصداء منكسرة خائبة مثل بحرٍ تقلَّص إلى هواءٍ عفنٍ في صدفة. انقلب العالم في برقوق نيسان رأسًا على عقب بحيث بات المتن هامشًا والهامش متنًا. حُشرت الحياة بأسرها، ولادةً وعيشًا وموتًا، في الهامش حيث لا تستحقّ حياةُ أيّة شخصيّة من الشخصيّات، شهيدًا كان أم جنديًا أم مناضلًا، أكثر من هامشٍ موجز، فيما استحال المتن فوضى عبثيّة في تحقيقٍ عسكريٍّ عبثيّ يدور حول باقة زهر وصحن كنافة. تحقيقٍ غرق جميع أطرافه في حيرةٍ تامّةٍ لأنّ جوهر الحوار تلاشى واندثر. انتهت احتمالات اللعب بالسّرد، وإغواء الخلق بالكلمات، وبتنا في عالمٍ لا يمكن القبض على تفاصيله إلا بالمجاز، في غرفةٍ ضيّقةٍ تضمّ الجلّاد والضحيّة، المحقّق والمتَّهَمين، الحلم والذاكرة، الطفولة والشيخوخة، الطبيعة والجماد. ما من شيء حيّ في دنيا المجاز الضيّق تلك إلا حُمرة زهر البرقوق الذي تضاءلت أهميّته بذاته ليصبح مجازًا للدم، الدم فقط. وكأنّ الأرض كلّها، الطّبيعة كلّها، استحالت جسدًا واحدًا ينزف وينزف إلى أن تتلاشى حُمرته. باتت الأرض «جثّة مطرَّزة بالرصاص»، تبعًا للمجاز الذي لا يملّ غسّان من تكراره في أعماله. جثّة يجفّ دمها شيئًا فشيئًا ويمسي صدأً منفِّرًا. نكاد نشمّ رائحة يأس غسّان من بين ثقوب الدم أو الصدأ تلك، ولكنّه فضَّل دفن ذلك اليأس في الأدراج كيلا تنكسر صورة المناضل المعصوم من اليأس. هل كانت صورة توحُّد الجسد بالأرض حلمَ غسّان المُشتهى بحيث أدمنَ تكرارها؟ لا نعلم. ولكنْ نعلم بالمقابل أنّه حُرِمَ حتّى من ذلك الثّوب المُطرَّز، وتشظّى بين السماء والأرض، حيث لا هامش، ولا متن، ولا أصوات، ولا أصداء.