جمال عبد الناصر: الشخصية الشامخة التي تركت خلفها إرثا متناقضاً

جمال عبد الناصر: الشخصية الشامخة التي تركت خلفها إرثا متناقضاً

جمال عبد الناصر: الشخصية الشامخة التي تركت خلفها إرثا متناقضاً

By : Joel Beinin

جويل بينين١

ما يزال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد مرور خمسين سنة على وفاته مؤثراً وعلى نحو عميق في السياسة العربية. فقد كان رمزاً للتحدي في عصر إنهاء الاستعمار، ووضع بلاده على طريق التحول لكنه لم يمنح شعبه أبداً السيطرة على النظام الذي حكمه. واليوم يمرّ خمسون عاماً على وفاة جمال عبد الناصر، رئيس مصر من 1954 إلى 1970 وبطل القومية العربية والاشتراكية العربية ومناهضة الإمبريالية في فترة إنهاء الاستعمار العالمي. وكان ناصر أول حاكم لمصر من السكان الأصليين منذ كليوباترا. واعتقد أنه كان ناطقاً باسم مصلحة شعبه وأنه فهمها على نحو عميق.  فقد خاطب القائد المصري شعبه بلهجة شبه عامية غير مصقولة وحثه قائلاً: "ارفعْ راسك يا خويا". وكان التوازن بين القبول والإذعان والإكراه في صناعة مشروع ناصر متناقضاً وتبدل مع مرور الزمن.  فقد دعمه البعض من أمثال خَلَفهِ أنور السادات (1970-81)  والكاتب الليبرالي المعروف توفيق الحكيم، حين كان في السلطة، لكنهم شجبوه كديكتاتور بعد وفاته .   ونعت الماركسيون ناصر بأنه فاشي في أوائل الخمسينيات، لكنهم هلّلوا له في الستينيات وحتى بعد موته.

جمهورية الضباط

كان تحول مصر السياسي من نظام ملكي دستوري أرستقراطي إلى "جمهورية ضباط" هو إرث ناصر الأكثر استمرارية. وما يزال شَكْل هذا النظام مستمراً رغم إعادة ترتيب سياسة مصر الداخلية والخارجية، والتغير في موازين القوة بين عناصر تكتلها الحاكم والذي يتألف من الجيش وجهاز الأمن الداخلي وبرجوازية الدولة، وانضمت إليه منذ السبعينيات رأسمالية المحاسيب في القطاع الخاص. ومنذ منتصف الخمسينيات وحتى بعد وفاته ما تزال كاريزما ناصر الشخصية وجاذبيته للقوميين العرب يحدثان تأثيرهما العميق في السياسة العربية. ذلك أن مصر أنشأت نموذج الجمهوريات العسكرية التي نصبت نفسها كمناهضة للإمبريالية أو اشتراكية في سوريا والعراق والجزائر واليمن الشمالي وليبيا والسودان، وكانت كلها دولاً استبدادية بأجهزة أمن داخلية قمعية سيطرت على المجتمع والثقافة والحياة الفكرية، وسحقت حركات المعارضة. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو لماذا اعتبر الماركسيون في فترة إنهاء الاستعمار نظام ناصر في مصر والأنظمة المشابهة له في الجنوب العالمي تقدمية بل حتى اشتراكية؟  كان إنهاء الاستعمار الدينامية التاريخية الرئيسية في تلك الفترة. ولم يفهم اليسار العالمي جيداً البنى الاجتماعية المحلية للأنظمة المناهضة للإمبريالية أو يناقش هذه المسألة بصورة جدية.  وقد عزر الاتحاد السوفياتي أوهاماً عن حلفائه في الحرب الباردة، مما شجع على توجه لإغفال التمييز بين السياسة الخارجية المناهضة للإمبريالية والاستبداد في الداخل. وكانت المؤسسات العسكرية في كثير من بلدان الجنوب العالمي هي المؤسسات ذات الوزن القومي الأكبر والأكثر تنظيماً والأحدث. وغالباً ما تحالفت مع (أو حتى قادت) القوى المناهضة للاستعمار، وكانت في موقع جيد للاستيلاء على السلطة بأسمائها وكي تقمع المعارضة باسم الوحدة ضد العدو الإمبريالي.  وغالباً ما وظف الناصريون شعار "لا صوت أعلى من صوت المعركة" (ضد إسرائيل) بهذه الطريقة. وكانت الانقسامات العميقة في أوساط اليسار حول كيفية فهم بشار الأسد في سوريا اليوم ميراثاً تاريخياً لهذه الدينامية.

جيل ناصر

كان ناصر ينتمي إلى الفوج الأول من الطلاب الضباط الذي قُبلوا في الكلية الحربية في 1936.  وفي ذلك العام خفضت المعاهدة البريطانية المصرية نطاق الاحتلال العسكري شبه الاستعماري الذي طُبق من قبل في أعقاب غزو بريطانيا لمصر.  لكن المصالح البريطانية كانت لها الغلبة في معظم المسائل الحساسة، كما بينت حادثة الرابع من شباط\فبراير 1942.  في ذلك اليوم، وبينما كانت قوات المشير الألماني إرفين رومل تتقدم نحو الإسكندرية، حاصرت الدبابات البريطانية القصر الملكي في القاهرة. ودخل السفير البريطاني إلى القصر، وطالب الملك فاروق إما بالتنازل عن العرش أو حل الحكومة الحالية، التي اعتبرتها بريطانيا متعاطفة مع المحور، وأن يدعو مصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد المعادي بقوة للفاشية، لتشكيل حكومة جديدة. فأذعن الملك فاروق. وبعد الحرب العالمية الثانية، واصلت القوات البريطانية احتلال منطقة قناة السويس. وهكذا، فإن ناصر وجيله نشآ سياسياً في خضم الصراع لتحقيق "الإجلاء الكامل" للقوات البريطانية و"الاستقلال الكامل" لمصر. وآمن ناصر أن الجيش يجب أن يقوم بالمبادرة لطرد البريطانيين، ويدمر قوة المتعاونين المحليين معهم، ويصلح السياسة والمجتمع.  وكي يحقق هذه الأهداف، بعد هزيمة مصر المذلة في حرب 1948 مع إسرائيل، أسس ناصر حركة الضباط الأحرار وقادها. وفي الثالث والعشرين من تموز\يوليو 1952، قامت حركة الضباط الأحرار بانقلاب عسكري غير دموي ضد الملك فاروق، وبعد ثلاثة أيام، أمرت الحركة الملك بالتنازل عن العرش ومغادرة مصر. رحب معظم المصريين بما دعوه "الحركة المباركة" للضباط باستثناء الطبقة الحاكمة الملكية، ومالكي الأرض الكبار، وطبقة الأعمال المدينية المحلية، ومساعديهم القانونيين والصحفيين.

اختبارات الإجهاد

كان ناصر وغالبية الضباط الأحرار معادين شرسين للشيوعية. وكان عدد منهم، وخاصة أنور السادات، (وناصر لوقت قصير) أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين قبل الانضمام إلى حركة الضباط الأحرار. وبالمقابل، كان أحد قادة المجلس العسكري خالد محيي الدين، وعدد من الضباط ذوي الرتب الأدنى قريبين من الحزب الماركسي الذي دُعي الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني. ودعم الإخوان المسلمون وحزب الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في البداية الانقلاب (لكن جميع التنظيمات الماركسية الأخرى عارضته). على أي حال، صارت كلتا الجماعتين (الإخوان المسلمون وحزب التحرر الوطني) عدوين له بعد سنة ونتيجة لهذا عانى أعضاء هذه التنظيمات من السجن والتعذيب المتكررين. وكان اختبار الإجهاد الأول للنظام الجديد هو المواجهة الدموية مع عمال النسيج المضربين في معمل ضخم على بعد 15 ميلاً جنوب الإسكندرية، مما فضح خوفه من المبادرات الشعبية.  ففي الثالث عشر من آب\أغسطس، تدخل الجيش لسحق الإضراب. ورد الجنود على طلقات من مصدر مجهول بإطلاق النار على العمال المتظاهرين الذين رددوا شعارات مؤيدة للنظام الجديد مما أدى لسقوط إصابات في الجانبين. وقام المجلس العسكري المتلهف كي يؤكد للسفارة الأميركية أنه ليس شيوعياً، بمحاكمة 29 عاملاً أمام محكمة عسكرية شُكلت بسرعة.  وأدين اثنان منهما هما مصطفى خميس ومحمد البقري بالقتل العمد مع سبق الإصرار وبكونهما شيوعيين. وحكمت عليهم المحكمة بالإعدام شنقاً. ربما كان خميس ماركسياً، لكنه لم يكن موجوداً حين أطلقت النار، ولم يكن البقري ناشطاً. ورغم ذلك أُعدم الرجلان في السابع من أيلول\سبتمبر 1952.

الإصلاح الزراعي

كانت مصر في 1952  بلداً زراعياً بشكل كامل. وكان مصدرها الرئيسي للثروة زراعة وتصدير القطن من الصنف الممتاز. وعانى معظم سكان الأرياف من سوء التغذية وتفشت الأمية في أوساطهم وأصيبوا بالأمراض وخاصة داء البلهارسيا، الذي أصيبوا بالعدوى به من الطفيليات والبكتريا الموجودة في المياه الراكدة في حفر الري حيث كانوا يعملون حفاة لساعات أحياناً. وفي الأعوام الأخيرة للعهد الملكي تركزت الثروة والسلطة السياسية في أيدي 12 ألف أسرة كبيرة من مالكي الأراضي الذين شكلوا أقل من 0،5٪ من سكان الريف وامتلكوا حوالى 35٪ من الأراضي الزراعية.  وفي قاع البنية الطبقية الزراعية لم يمتلك 60٪ من جميع الأسر الريفية أو يستأجروا الأرض وعملوا كعمال مأجورين، بينما ملكت مليونا أسرة، تشكل 72٪ من مالكي الأراضي كلهم، مساحة أقل من 1 فدان بالكاد تكفي للمعيشة. ووعد برنامج الضباط الأحرار بإلغاء "الإقطاع" وكان هذا مصطلحاً غير دقيق للتعبير عن القوة الاقتصادية والسياسية لمالكي الأرض الكبار. ولإكمال ذلك، أصدر الضباط مرسوماً طبق إصلاحاً زراعياً متواضعاً، كان أقل راديكالية من الإجراءات المشابهة بعد الحرب العالمية الثانية التي طُبقت بإشراف أميركي في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وقصرَ قانون الإصلاح الزراعي الصادر في التاسع من أيلول 1952 الملكية الفردية على 200 فدان و300 فدان للأسرة، وهذه ملكيات كبيرة جداً بالمعايير المصرية. وفي البداية فقد حوالى 1700 من مالكي الأراضي يضمون 425 من أعضاء العائلة المالكة 10٪ من الأراضي الزراعية. وبحلول 1970 أعيد توزيع 15٪ من الأراضي الزراعية.  وانحدر عدد السكان الذين لا يملكون أرضاً إلى 43٪ من الأسر الريفية، وتضاعفت حصة الدخل الزراعي التي يتلقاها العمال المأجورون ومالكو أقل من خمسة فدادين. أما الفلاحون المتوسطون والأغنياء الذين لديهم مدخل إلى الائتمانات المصرفية لشراء أراضي إضافية فقد كانوا المستفيدين الرئيسيين من إعادة توزيع الأراضي. وكان الحكمان الرئيسيان في القانون اللذان رفعا مستوى المعيشة في الريف هما حد الإيجارات الزراعية، بما لا يزيد عن سبعة أضعاف قيمة الضريبة السنوية على الأرض، والحد الأدنى للأجور الزراعية.

قائد عالمي

قضى الإصلاح الزراعي وحظر الأحزاب السياسية للنظام القديم في كانون الثاني\يناير 1953 على قوة الطبقة الحاكمة في الحقبة الملكية في مصر. والآن، وبعد أن رأى نفسه كقيادة ثورية، بدأ المجلس العسكري يدعو نفسه مجلس قيادة الثورة. لكن الثورة لم تمتلك سياسة اقتصادية متماسكة أو إيديولوجيا سياسية، ولم تضعها في السلطة حركةٌ اجتماعية شعبية أو حزب، ولم تكن مسؤولة أمام أية حركة من هذا القبيل. وعزز ناصر السلطة بيديه متفوقاً بدهائه على معارضيه في آذار\مارس 1954.  وضمن سيادته بعد عدة أشهر حين أوفى بوعده بتوقيع اتفاقية ضمنت إجلاء القوات البريطانية في حزيران\يونيو 1956. وكان دور ناصر كقائد للعالم العربي وصراع الجنوب العالمي (والذي أشير إليه آنذاك بالعالم الثالث) وعمله على تأسيس بديل لتأطير السياسة العالمية في إطار الحرب الباردة مثيرين للجدل وكانت لهما نتائج تاريخية أكثر من إنجازاته المحلية.  ودعم دون تردد جبهة التحرير الوطنية الجزائرية حين شنت حرب الاستقلال ضد فرنسا في الأول من تشرين الأول\نوفمبر 1954، وزود الحركة بمكتب في القاهرة وإذاعة وتدريب وأسلحة. واستخدم ناصر إذاعة "صوت العرب" القوية في مصر، في أوائل 1955 مذيعاً مناشدات موجهة مباشرة للشعوب العربية، ومتجاوزاً حكوماتها، حاثاً لها على رفض حلف بغداد المعادي للسوفييت والذي رعته بريطانيا وأميركا. ولقد أنهى هذا التدخل الالتزام المخطط له من قبل الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية (على الرغم من انضمام تركيا والعراق.) وكان أول ظهور لناصر على المسرح العالمي في نيسان\أبريل 1955 في مؤتمر باندونغ للدول الآسيوية والأفريقية.  وجاء الإلهام من أجل مؤتمر باندونغ من مبادئ "الحياد الإيجابي" التي عززها الرئيس الأندونيسي سوكارنو ورئيسا وزراء الهند والصين جواهر لال نهرو وزو إنلاي. واقترح الحياد الإيجابي نظاماً عالمياً مبنياً على مناهضة الاستعمار، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل المتبادل في الشؤون المحلية كبديل لتكتل الحرب الباردة. ورغم أن مؤتمر باندونغ يُذكر بشكل عام كأكثر راديكالية مما كان عليه في الحقيقة، فإنه رَمزَ إلى بزوغ العالم الثالث كقوة سياسية دولية. وأسهم ناصر في تشكيل هذا التيار التاريخي وركب الموجة بنجاح لأكثر من عقد.

الصراع على قناة السويس

رغم معاداة ناصر للشيوعية رفضتْ إدارة دوايت آيزنهاور أن تبيع الأسلحة لمصر. فشجع زو إنلاي ناصر على اللجوء إلى الكتلة السوفيتية، وفي السابع والعشرين من أيلول\سبتمبر أعلنت مصر صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، وكانت هذه أول صفقة أسلحة بين قوة غير غربية وبلد شرق أوسطي. وفي خطوة هدفتْ إلى خطب ود مصر كي تعيدها إلى المعسكر الغربي، اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا على تمويل بناء السد العالي في أسوان، وكان هذا مشروع تنمية له أولوية عليا يعادل في أهميته إنشاء شركة تينسي أوثوريتي فالي.٢  لكن وجهة النظر المانوية للعالم لدى وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دلس لم تسمح بأن يواصل ناصر ممارسته للحياد الإيجابي ودعمه. وفي 18 تموز يوليو 1956 ألغى دلس العرض الأمريكي في رسالة مهينة بشكل مقصود لمصر  فردَّ ناصر بشجاعة فاقت التوقعات وأمّم قناة السويس، التي كانت شركة صاحبة امتياز تملكها وتشغّلها شركة متعددة الجنسيات مقرها في باريس، وكانت الحكومة البريطانية تمتلك فيها 44٪ من الأسهم. أثار إعلان ناصر حماس الشعب المصري والمنطقة العربية والعالم الثالث كله:

”وقد كانت قنال السويس صرحاً من صروح الاستبداد، وصرحاً من صروح الاغتصاب، وصرحاً من صروح الذل.

اليوم - أيها المواطنون - أممت قنال السويس، ونشر هذا القرار بالجريدة الرسمية فعلاً، وأصبح القرار أمراً واقعاً. 

اليوم - أيها المواطنون - نقول: هذه أموالنا ردت إلينا.. هذه حقوقنا التى كنا نسكت عليها عادت إلينا. 

اليوم - أيها المواطنون - ودخل قنال السويس 35 مليون جنيه 100 مليون دولار فى السنة، 500 مليون دولار فى الخمس سنين، لن ننظر إلى الـ 70 مليون دولار بتوع المعونة الأمريكية ولا بتوع المعونة الإنجليزية. 

اليوم - أيها المواطنون - بعرقنا.. ودموعنا.. وأرواح شهدائنا وجماجمهم؛ اللى ماتوا سنة 56 من 100 سنة وهم فى السخرة، نستطيع أن ننمى هذه البلد، وسنعمل وننتج ونزيد في الإنتاج، برغم كل هذه المؤامرات وكل هذا الكلام.“ ٣

كانت فرنسا تزوّد إسرائيل بالدبابات والطائرات والتكنولوجيا النووية منذ 1954، وكان أحد الأسباب التي دفعتها إلى ذلك دعم مصر لاستقلال الجزائر الذي أثار غضبها. ورداً على تأميم القناة أقنعت الحكومة الفرنسية بريطانيا بالانضمام إلى تحالف فرنسي إسرائيلي للهجوم على مصر في 29 تشرين الأول\أكتوبر 1956، وكان هذا هو "العدوان الثلاثي" كما دعاه المصريون. اجتاحت إسرائيل بسهولة قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وأعلنت نيتها ضمهما. لكن الولايات المتحدة والضغط السوفياتي أجبرا إسرائيل وحلفاءها الأوربيين على الانسحاب. ورغم الهزيمة العسكرية بزغت مصر من الحرب غير منحنية ومسيطرة على قناة السويس، وكان هذا نصراً سياسياً ضخماً. ولمع نجم ناصر بين الحكام العرب الذي قبلوا ذل الهيمنة الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية. وسعى القادة السياسيون في سوريا إلى الاستفادة من نفوذ ناصر وعرضوا الوحدة مع مصر. تحمل ناصر متردداً المسؤولية عن سوريا متصدعة، وشعر بأنه ملزم بالموافقة على وحدة مقترحة للحفاظ على قيادته في العالم العربي وفكرة الوحدة العربية، فتم تأسيس الجمهورية العربية المتحدة في 1958.

الاشتراكية العربية

شرع ناصر ببناء قطاع عام كبير من خلال تأميم ملكية جميع المواطنين البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين بعد العدوان الثلاثي لكنه فعل هذا دون خطة في البداية. ثم في 1960، ولأن طبقة رجال الأعمال المحلية امتنعت عن الاستثمار في الصناعة، بادر ناصر إلى تأميم بنك مصر وجميع المصالح الصناعية والمالية والتجارية المرتبطة به ووضع خطة خمسية. وأممت "المراسيم الاشتراكية" الصادرة في تموز\يوليو 1961 معظم المشاريع غير الزراعية وخفضت السقف في الملكية الزراعية للفرد إلى مائة فدان ( ثم إلى 50 فداناً في 1969) . وفي 1962 أعلنت وثيقة الميثاق الوطني الاشتراكية العربية كإيديولوجيا رسمية للدولة، كما تم الإعلان عن تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي العربي كتنظيم موحد يقود الحياة السياسية في مصر. وتبنت الاشتراكية العربية، مثلها مثل الاشتراكية الأفريقية، وتنويعات أخرى معادية للماركسية من الاشتراكية في العالم الثالث، تبنت التنمية الاقتصادية وفق النموذج السوفياتي في التصنيع السريع ورفع مستوى استهلاك الطبقات الشعبية في الوقت نفسه.  ولم تمتلك مصر ما يكفي من رأس المال لتحقيق هذا المشروع دون نزع ملكية كبار ملاك الأراضي وتطبيق إصلاح زراعي أكثر راديكالية.  لكن ناصر عارض تعبئة الغالبية الفلاحية في صراع طبقي ضد أعمدة النظام القديم.  وحاكت الاشتراكية العربية المصرية مظاهر أخرى كثيرة من الحكم السوفياتي، بما فيه ممارساته الأكثر بغضاً المعادية للديمقراطية. وأصبح ضباط من ذوي الرتب العالية الذين لا يمتلكون خبرة اقتصادية كافية مديري شركات قطاع عام ضخمة، وشكلوا برجوازية دولة كانت إلى حد كبير غير كفء وفاسدة. وحسّنت الاشتراكية العربية حياة العمال في المشاريع العامة وجهاز الدولة البيروقراطي، الذي حصل على وظائف ثابتة وفوائد  اجتماعية مثل الرعاية الصحية والرواتب التقاعدية. وتلقى جميع المصريين سلعاً أساسية مدعومة وتعليماً عاماً مجانياً من الروضة إلى الجامعة، بينما حصل أولاد العمال والفلاحين على فرص أكبر في التعليم العالي.

حدود الناصرية

بقيت الفجوة بين أصحاب الثروات والمعوزين واسعة.  ولم تتغير علاقات الإنتاج داخل المعامل كثيراً، وفي بعض الحالات حلَّ الاستبداد العسكري مكان أبوية القطاع الخاص. وهيمن الفلاحون الأغنياء على الريف، وفي غالب الأحيان مارسوا إكراهاً غير قانوني على الفلاحين الفقراء والعمال المأجورين في القطاع الزراعي. وكان الماركسيون المصريون محدودي العدد ومفككين ومعزولين عن غالبية الفلاحين فلم يتمكنوا من تشكيل بديل لنظام ناصر. ونشر عدد من الماركسيين المصريين الذين يعيشون في فرنسا مثل أنور عبد الملك وسمير أمين ومحمود حسين انتقادات مطولة للاشتراكية العربية الناصرية. لكن مزيجاً من القمع والتعلل بالآمال والتمسك بالخط السوفياتي وبأن مصر لم "تكن على الطريق الرأسمالي في التنمية" عطل الملكات النقدية للذين يعيشون في مصر.  وفي كانون الثاني\يناير 1959 سجن نظام ناصر تقريباً جميع الشيوعيين المصريين وأخضعهم لتعذيب وحشي إلى أن تم الإفراج عنهم في 1964. وبالرغم من ذلك، هلّل الشيوعيون من معسكرات سجنهم في الصحراء "للمراسيم الاشتراكية". وبتبنيه للاشتراكية العربية دون مشاركتهم، بز ناصر بدهائه الشيوعيين وصورهم بأنهم غير ضروريين. حل الحزبان نفسيهما في 1965، تماماً حين وصل مشروع ناصر إلى حدوده. وحثت المراسيم الاشتراكية حلفاً ضم طبقة رجال الأعمال السوريين والجيش على التمرد والانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في أيلول\سبتمبر 1961. وفي العام التالي، ومن أجل تدعيم موقفه على الساحة العربية، شجع ناصر على انقلاب قام به الضباط الأحرار اليمنيون الشماليون ضد الإمام وأرسل الجيش المصري لدعمهم حين تدخلت القوات السعودية لاستعادة حكم الإمامة. وأصبح اليمن الشمالي فيتنام مصر، ونُشر حوالى سبعين ألف جندي وطيار في اليمن حتى 1970. وبسبب الأداء الضعيف للجيش المصري في اليمن الشمالي عرف ناصر وعبد الحكيم عامر، رئيس أركان الجيش، وأعز صديق لناصر منذ الثلاثينيات، أن مصر غير جاهزة للحرب.  وقوض عامر الانضباط العسكري والاستعداد مغدقاً على سلك الضباط الامتيازات وبنى شبكة محسوبية كان إخلاصها له أقوى من إخلاصها لناصر. ومنعت عاطفة ناصر تجاه عامر وإدراكه أن الجيش سيطيع عامر في الأزمة القائد المصري من تحميل عامر المسؤولية عن إخفاقات الجيش. وفي أيار\مايو 1967، ودون الحصول على موافقة ناصر، أرسل عامر بتهور فرقتين إلى شبه جزيرة سيناء. مما دفع إسرائيل إلى شن هجوم على مصر وسوريا والأردن في 5 حزيران. وانتصرت إسرائيل في حرب حزيران بعد أن سحقت القوات المصرية أكثر مما فعلت في الحربين السابقتين.

عصر جديد

في ٩ حزيران\يونيو أعلن ناصر الاستقالة والتقاعد من السياسة. رداً على ذلك تدفقت حشود المصريين إلى شوارع القاهرة مطالبة ناصر بالبقاء رئيساً لهم، رغم أن هناك سبباً للاعتقاد أن ضباط ناصر هم الذين نظموا هذه المظاهرات. وبالرغم من أن المظاهرات كانت ظاهرياً عرضاً للدعم، إلا أنها كشفت ضعف ناصر الكبير. فقد أقنع أو أجبر الشعب المصري على أن يعهد له بجميع القرارات الرئيسية. وفي لحظة أزمة، لم يمتلك الشعب ثقة بإرادته. وبددت هزيمة مصر في حرب 1967 الموقع الدولي للبلاد، وأثقلت اقتصادها وأنذرت بموت الاشتراكية العربية والقومية العربية، الأمر الذي فاقمه سحق إسرائيل لحليف مصر في وقت الحرب، سوريا. وسعى يسار عربي جديد لملء الفراغ السياسي، مُلْهَماً من المقاومة المسلحة التي قادتها فتح برئاسة ياسر عرفات وخصماها الماركسيان (على الأقل اسمياً) الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ومنحت معركة الكرامة في آذار\مارس 1968 هذا الأفق السياسي الجديد شعبية بعد أن ألحق مقاتلون من فتح والجيش الأردني خسائر فادحة بالقوات الإسرائيلية التي توغلت عميقاً في الأردن. وألهم هذا النصر العربي، بالرغم من أنه كان تكتيكياً وليس استراتيجياً، المئات في العالم العربي للتطوع في فتح للقتال ضد إسرائيل. وتنازل ناصر إلى حد كبير عن قيادة مصر السابقة للصراع من أجل فلسطين للمقاومة الفلسطينية المسلحة. وفي تموز\يوليو 1968، أخذ ناصر عرفات معه إلى موسكو وقدمه للقيادة السوفياتية، وبعد ستة أشهر، رضخ ناصر لعرفات  كي يصبح رئيس اللجنة التنفيذية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

إرث ناصر

في 21 شباط\فبراير، 1968 قام العمال والطلاب المصريون بأول مظاهرات ضخمة ضد نظام ناصر منذ 1954، وقد حثهم على ذلك التساهل مع قادة القوى الجوية في المحاكمة رغم عدم كفاءتهم في حرب 1967.  وفي النهاية عبّر المتظاهرون عن مطالب أكثر جوهرية مثل حرية التعبير والديمقراطية ووضع قيود على سلطة قوى الأمن الداخلي. وتواصلت المظاهرات تقريباً لأسبوع، وقُتل عاملان وجُرح 67 مدنياً في الاشتباكات مع الشرطة. وسواء كان ناصر من أمر القوى الجوية بأن تطلق النار على الطلاب في الإسكندرية لسحق المظاهرات أم لا (على الأقل هناك كاتب واحد يزعم هذا هو هشام السلاموني) فإن تلك الطلقات بينت فشل المشروع الاشتراكي العربي لعبد الناصر. لكن هيبة ناصر الشخصية بقيت قوية بما يكفي له كي يتوسط في اتفاقية القاهرة في نوفمبر\تشرين الثاني التي منحت منظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان البالغ عددهم ثلاثمائة ألف ووضعت الشروط التي على أساسها ستسمح السلطات اللبنانية بالهجمات الفلسطينية على إسرائيل. وفي القمة العربية في أيلول\سبتمبر 1970 عمل ناصر لساعات طويلة لترتيب وقف لإطلاق النار أنهى الحرب الأهلية الفلسطينية الأردنية ورتب إجلاء الجماعات الفلسطينية المسلحة من الأردن إلى لبنان. وأثرت الدبلوماسية المكثفة لذلك الجهد على صحة ناصر، والتي كانت سيئة لسنوات ولم يكن هذا معروفاً للعامة.  وأدى هذا الجهد إلى نوبة قلبية قاتلة في 28 أيلول\سبتمبر، 1970.

لقد جسّد جمال عبد الناصر تطلعات بلدان مُستعمَرة سابقاً في الجنوب العالمي كي يؤكد مصالحها السيادية في عالم ثنائي القطبين. وعرّفت إنجازاته على الصعيد العالمي ومكنت لها في آن واحد معاً الفترة التاريخية لإنهاء الاستعمار وحدودها. وأنشأ ناصر روابط عاطفية مع الشعب المصري وحسّن حياته كثيراً لكن افتقاره للثقة به قاد إلى فشله كقائد.

[نشرت المقالة في مجلة «جاكوبن» وترجمها إلى العربية أسامة إسبر]

هوامش

١-جويل بينين أستاذ التاريخ وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد. صدر له مؤخراً كتاب بعنوان ”عمال ولصوص: الحركات العمالية والانتفاضات الشعبية في تونس ومصر“ (مطبوعات جامعة ستانفورد، 2016).

٢-The Tennessee Valley Authority شركة فيدرالية في الولايات المتحدة أنشأها الكونغرس  الأميركي في 18 أيار 1933 لتوفير الملاحة والسيطرة على الفيضانات، وتوليد الكهرباء وصناعة الأسمدة والتنمية الاقتصادية لوادي تينيسي، وهو منطقة تأثرت جراء الكساد الكبير.

٣- من خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمناسبة تأميم قناة السويس.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬