جويل بينين١
ما يزال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد مرور خمسين سنة على وفاته مؤثراً وعلى نحو عميق في السياسة العربية. فقد كان رمزاً للتحدي في عصر إنهاء الاستعمار، ووضع بلاده على طريق التحول لكنه لم يمنح شعبه أبداً السيطرة على النظام الذي حكمه. واليوم يمرّ خمسون عاماً على وفاة جمال عبد الناصر، رئيس مصر من 1954 إلى 1970 وبطل القومية العربية والاشتراكية العربية ومناهضة الإمبريالية في فترة إنهاء الاستعمار العالمي. وكان ناصر أول حاكم لمصر من السكان الأصليين منذ كليوباترا. واعتقد أنه كان ناطقاً باسم مصلحة شعبه وأنه فهمها على نحو عميق. فقد خاطب القائد المصري شعبه بلهجة شبه عامية غير مصقولة وحثه قائلاً: "ارفعْ راسك يا خويا". وكان التوازن بين القبول والإذعان والإكراه في صناعة مشروع ناصر متناقضاً وتبدل مع مرور الزمن. فقد دعمه البعض من أمثال خَلَفهِ أنور السادات (1970-81) والكاتب الليبرالي المعروف توفيق الحكيم، حين كان في السلطة، لكنهم شجبوه كديكتاتور بعد وفاته . ونعت الماركسيون ناصر بأنه فاشي في أوائل الخمسينيات، لكنهم هلّلوا له في الستينيات وحتى بعد موته.
جمهورية الضباط
كان تحول مصر السياسي من نظام ملكي دستوري أرستقراطي إلى "جمهورية ضباط" هو إرث ناصر الأكثر استمرارية. وما يزال شَكْل هذا النظام مستمراً رغم إعادة ترتيب سياسة مصر الداخلية والخارجية، والتغير في موازين القوة بين عناصر تكتلها الحاكم والذي يتألف من الجيش وجهاز الأمن الداخلي وبرجوازية الدولة، وانضمت إليه منذ السبعينيات رأسمالية المحاسيب في القطاع الخاص. ومنذ منتصف الخمسينيات وحتى بعد وفاته ما تزال كاريزما ناصر الشخصية وجاذبيته للقوميين العرب يحدثان تأثيرهما العميق في السياسة العربية. ذلك أن مصر أنشأت نموذج الجمهوريات العسكرية التي نصبت نفسها كمناهضة للإمبريالية أو اشتراكية في سوريا والعراق والجزائر واليمن الشمالي وليبيا والسودان، وكانت كلها دولاً استبدادية بأجهزة أمن داخلية قمعية سيطرت على المجتمع والثقافة والحياة الفكرية، وسحقت حركات المعارضة. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو لماذا اعتبر الماركسيون في فترة إنهاء الاستعمار نظام ناصر في مصر والأنظمة المشابهة له في الجنوب العالمي تقدمية بل حتى اشتراكية؟ كان إنهاء الاستعمار الدينامية التاريخية الرئيسية في تلك الفترة. ولم يفهم اليسار العالمي جيداً البنى الاجتماعية المحلية للأنظمة المناهضة للإمبريالية أو يناقش هذه المسألة بصورة جدية. وقد عزر الاتحاد السوفياتي أوهاماً عن حلفائه في الحرب الباردة، مما شجع على توجه لإغفال التمييز بين السياسة الخارجية المناهضة للإمبريالية والاستبداد في الداخل. وكانت المؤسسات العسكرية في كثير من بلدان الجنوب العالمي هي المؤسسات ذات الوزن القومي الأكبر والأكثر تنظيماً والأحدث. وغالباً ما تحالفت مع (أو حتى قادت) القوى المناهضة للاستعمار، وكانت في موقع جيد للاستيلاء على السلطة بأسمائها وكي تقمع المعارضة باسم الوحدة ضد العدو الإمبريالي. وغالباً ما وظف الناصريون شعار "لا صوت أعلى من صوت المعركة" (ضد إسرائيل) بهذه الطريقة. وكانت الانقسامات العميقة في أوساط اليسار حول كيفية فهم بشار الأسد في سوريا اليوم ميراثاً تاريخياً لهذه الدينامية.
جيل ناصر
كان ناصر ينتمي إلى الفوج الأول من الطلاب الضباط الذي قُبلوا في الكلية الحربية في 1936. وفي ذلك العام خفضت المعاهدة البريطانية المصرية نطاق الاحتلال العسكري شبه الاستعماري الذي طُبق من قبل في أعقاب غزو بريطانيا لمصر. لكن المصالح البريطانية كانت لها الغلبة في معظم المسائل الحساسة، كما بينت حادثة الرابع من شباط\فبراير 1942. في ذلك اليوم، وبينما كانت قوات المشير الألماني إرفين رومل تتقدم نحو الإسكندرية، حاصرت الدبابات البريطانية القصر الملكي في القاهرة. ودخل السفير البريطاني إلى القصر، وطالب الملك فاروق إما بالتنازل عن العرش أو حل الحكومة الحالية، التي اعتبرتها بريطانيا متعاطفة مع المحور، وأن يدعو مصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد المعادي بقوة للفاشية، لتشكيل حكومة جديدة. فأذعن الملك فاروق. وبعد الحرب العالمية الثانية، واصلت القوات البريطانية احتلال منطقة قناة السويس. وهكذا، فإن ناصر وجيله نشآ سياسياً في خضم الصراع لتحقيق "الإجلاء الكامل" للقوات البريطانية و"الاستقلال الكامل" لمصر. وآمن ناصر أن الجيش يجب أن يقوم بالمبادرة لطرد البريطانيين، ويدمر قوة المتعاونين المحليين معهم، ويصلح السياسة والمجتمع. وكي يحقق هذه الأهداف، بعد هزيمة مصر المذلة في حرب 1948 مع إسرائيل، أسس ناصر حركة الضباط الأحرار وقادها. وفي الثالث والعشرين من تموز\يوليو 1952، قامت حركة الضباط الأحرار بانقلاب عسكري غير دموي ضد الملك فاروق، وبعد ثلاثة أيام، أمرت الحركة الملك بالتنازل عن العرش ومغادرة مصر. رحب معظم المصريين بما دعوه "الحركة المباركة" للضباط باستثناء الطبقة الحاكمة الملكية، ومالكي الأرض الكبار، وطبقة الأعمال المدينية المحلية، ومساعديهم القانونيين والصحفيين.
اختبارات الإجهاد
كان ناصر وغالبية الضباط الأحرار معادين شرسين للشيوعية. وكان عدد منهم، وخاصة أنور السادات، (وناصر لوقت قصير) أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين قبل الانضمام إلى حركة الضباط الأحرار. وبالمقابل، كان أحد قادة المجلس العسكري خالد محيي الدين، وعدد من الضباط ذوي الرتب الأدنى قريبين من الحزب الماركسي الذي دُعي الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني. ودعم الإخوان المسلمون وحزب الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في البداية الانقلاب (لكن جميع التنظيمات الماركسية الأخرى عارضته). على أي حال، صارت كلتا الجماعتين (الإخوان المسلمون وحزب التحرر الوطني) عدوين له بعد سنة ونتيجة لهذا عانى أعضاء هذه التنظيمات من السجن والتعذيب المتكررين. وكان اختبار الإجهاد الأول للنظام الجديد هو المواجهة الدموية مع عمال النسيج المضربين في معمل ضخم على بعد 15 ميلاً جنوب الإسكندرية، مما فضح خوفه من المبادرات الشعبية. ففي الثالث عشر من آب\أغسطس، تدخل الجيش لسحق الإضراب. ورد الجنود على طلقات من مصدر مجهول بإطلاق النار على العمال المتظاهرين الذين رددوا شعارات مؤيدة للنظام الجديد مما أدى لسقوط إصابات في الجانبين. وقام المجلس العسكري المتلهف كي يؤكد للسفارة الأميركية أنه ليس شيوعياً، بمحاكمة 29 عاملاً أمام محكمة عسكرية شُكلت بسرعة. وأدين اثنان منهما هما مصطفى خميس ومحمد البقري بالقتل العمد مع سبق الإصرار وبكونهما شيوعيين. وحكمت عليهم المحكمة بالإعدام شنقاً. ربما كان خميس ماركسياً، لكنه لم يكن موجوداً حين أطلقت النار، ولم يكن البقري ناشطاً. ورغم ذلك أُعدم الرجلان في السابع من أيلول\سبتمبر 1952.
الإصلاح الزراعي
كانت مصر في 1952 بلداً زراعياً بشكل كامل. وكان مصدرها الرئيسي للثروة زراعة وتصدير القطن من الصنف الممتاز. وعانى معظم سكان الأرياف من سوء التغذية وتفشت الأمية في أوساطهم وأصيبوا بالأمراض وخاصة داء البلهارسيا، الذي أصيبوا بالعدوى به من الطفيليات والبكتريا الموجودة في المياه الراكدة في حفر الري حيث كانوا يعملون حفاة لساعات أحياناً. وفي الأعوام الأخيرة للعهد الملكي تركزت الثروة والسلطة السياسية في أيدي 12 ألف أسرة كبيرة من مالكي الأراضي الذين شكلوا أقل من 0،5٪ من سكان الريف وامتلكوا حوالى 35٪ من الأراضي الزراعية. وفي قاع البنية الطبقية الزراعية لم يمتلك 60٪ من جميع الأسر الريفية أو يستأجروا الأرض وعملوا كعمال مأجورين، بينما ملكت مليونا أسرة، تشكل 72٪ من مالكي الأراضي كلهم، مساحة أقل من 1 فدان بالكاد تكفي للمعيشة. ووعد برنامج الضباط الأحرار بإلغاء "الإقطاع" وكان هذا مصطلحاً غير دقيق للتعبير عن القوة الاقتصادية والسياسية لمالكي الأرض الكبار. ولإكمال ذلك، أصدر الضباط مرسوماً طبق إصلاحاً زراعياً متواضعاً، كان أقل راديكالية من الإجراءات المشابهة بعد الحرب العالمية الثانية التي طُبقت بإشراف أميركي في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وقصرَ قانون الإصلاح الزراعي الصادر في التاسع من أيلول 1952 الملكية الفردية على 200 فدان و300 فدان للأسرة، وهذه ملكيات كبيرة جداً بالمعايير المصرية. وفي البداية فقد حوالى 1700 من مالكي الأراضي يضمون 425 من أعضاء العائلة المالكة 10٪ من الأراضي الزراعية. وبحلول 1970 أعيد توزيع 15٪ من الأراضي الزراعية. وانحدر عدد السكان الذين لا يملكون أرضاً إلى 43٪ من الأسر الريفية، وتضاعفت حصة الدخل الزراعي التي يتلقاها العمال المأجورون ومالكو أقل من خمسة فدادين. أما الفلاحون المتوسطون والأغنياء الذين لديهم مدخل إلى الائتمانات المصرفية لشراء أراضي إضافية فقد كانوا المستفيدين الرئيسيين من إعادة توزيع الأراضي. وكان الحكمان الرئيسيان في القانون اللذان رفعا مستوى المعيشة في الريف هما حد الإيجارات الزراعية، بما لا يزيد عن سبعة أضعاف قيمة الضريبة السنوية على الأرض، والحد الأدنى للأجور الزراعية.
قائد عالمي
قضى الإصلاح الزراعي وحظر الأحزاب السياسية للنظام القديم في كانون الثاني\يناير 1953 على قوة الطبقة الحاكمة في الحقبة الملكية في مصر. والآن، وبعد أن رأى نفسه كقيادة ثورية، بدأ المجلس العسكري يدعو نفسه مجلس قيادة الثورة. لكن الثورة لم تمتلك سياسة اقتصادية متماسكة أو إيديولوجيا سياسية، ولم تضعها في السلطة حركةٌ اجتماعية شعبية أو حزب، ولم تكن مسؤولة أمام أية حركة من هذا القبيل. وعزز ناصر السلطة بيديه متفوقاً بدهائه على معارضيه في آذار\مارس 1954. وضمن سيادته بعد عدة أشهر حين أوفى بوعده بتوقيع اتفاقية ضمنت إجلاء القوات البريطانية في حزيران\يونيو 1956. وكان دور ناصر كقائد للعالم العربي وصراع الجنوب العالمي (والذي أشير إليه آنذاك بالعالم الثالث) وعمله على تأسيس بديل لتأطير السياسة العالمية في إطار الحرب الباردة مثيرين للجدل وكانت لهما نتائج تاريخية أكثر من إنجازاته المحلية. ودعم دون تردد جبهة التحرير الوطنية الجزائرية حين شنت حرب الاستقلال ضد فرنسا في الأول من تشرين الأول\نوفمبر 1954، وزود الحركة بمكتب في القاهرة وإذاعة وتدريب وأسلحة. واستخدم ناصر إذاعة "صوت العرب" القوية في مصر، في أوائل 1955 مذيعاً مناشدات موجهة مباشرة للشعوب العربية، ومتجاوزاً حكوماتها، حاثاً لها على رفض حلف بغداد المعادي للسوفييت والذي رعته بريطانيا وأميركا. ولقد أنهى هذا التدخل الالتزام المخطط له من قبل الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية (على الرغم من انضمام تركيا والعراق.) وكان أول ظهور لناصر على المسرح العالمي في نيسان\أبريل 1955 في مؤتمر باندونغ للدول الآسيوية والأفريقية. وجاء الإلهام من أجل مؤتمر باندونغ من مبادئ "الحياد الإيجابي" التي عززها الرئيس الأندونيسي سوكارنو ورئيسا وزراء الهند والصين جواهر لال نهرو وزو إنلاي. واقترح الحياد الإيجابي نظاماً عالمياً مبنياً على مناهضة الاستعمار، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل المتبادل في الشؤون المحلية كبديل لتكتل الحرب الباردة. ورغم أن مؤتمر باندونغ يُذكر بشكل عام كأكثر راديكالية مما كان عليه في الحقيقة، فإنه رَمزَ إلى بزوغ العالم الثالث كقوة سياسية دولية. وأسهم ناصر في تشكيل هذا التيار التاريخي وركب الموجة بنجاح لأكثر من عقد.
الصراع على قناة السويس
رغم معاداة ناصر للشيوعية رفضتْ إدارة دوايت آيزنهاور أن تبيع الأسلحة لمصر. فشجع زو إنلاي ناصر على اللجوء إلى الكتلة السوفيتية، وفي السابع والعشرين من أيلول\سبتمبر أعلنت مصر صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، وكانت هذه أول صفقة أسلحة بين قوة غير غربية وبلد شرق أوسطي. وفي خطوة هدفتْ إلى خطب ود مصر كي تعيدها إلى المعسكر الغربي، اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا على تمويل بناء السد العالي في أسوان، وكان هذا مشروع تنمية له أولوية عليا يعادل في أهميته إنشاء شركة تينسي أوثوريتي فالي.٢ لكن وجهة النظر المانوية للعالم لدى وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دلس لم تسمح بأن يواصل ناصر ممارسته للحياد الإيجابي ودعمه. وفي 18 تموز يوليو 1956 ألغى دلس العرض الأمريكي في رسالة مهينة بشكل مقصود لمصر فردَّ ناصر بشجاعة فاقت التوقعات وأمّم قناة السويس، التي كانت شركة صاحبة امتياز تملكها وتشغّلها شركة متعددة الجنسيات مقرها في باريس، وكانت الحكومة البريطانية تمتلك فيها 44٪ من الأسهم. أثار إعلان ناصر حماس الشعب المصري والمنطقة العربية والعالم الثالث كله:
”وقد كانت قنال السويس صرحاً من صروح الاستبداد، وصرحاً من صروح الاغتصاب، وصرحاً من صروح الذل.
اليوم - أيها المواطنون - أممت قنال السويس، ونشر هذا القرار بالجريدة الرسمية فعلاً، وأصبح القرار أمراً واقعاً.
اليوم - أيها المواطنون - نقول: هذه أموالنا ردت إلينا.. هذه حقوقنا التى كنا نسكت عليها عادت إلينا.
اليوم - أيها المواطنون - ودخل قنال السويس 35 مليون جنيه 100 مليون دولار فى السنة، 500 مليون دولار فى الخمس سنين، لن ننظر إلى الـ 70 مليون دولار بتوع المعونة الأمريكية ولا بتوع المعونة الإنجليزية.
اليوم - أيها المواطنون - بعرقنا.. ودموعنا.. وأرواح شهدائنا وجماجمهم؛ اللى ماتوا سنة 56 من 100 سنة وهم فى السخرة، نستطيع أن ننمى هذه البلد، وسنعمل وننتج ونزيد في الإنتاج، برغم كل هذه المؤامرات وكل هذا الكلام.“ ٣
كانت فرنسا تزوّد إسرائيل بالدبابات والطائرات والتكنولوجيا النووية منذ 1954، وكان أحد الأسباب التي دفعتها إلى ذلك دعم مصر لاستقلال الجزائر الذي أثار غضبها. ورداً على تأميم القناة أقنعت الحكومة الفرنسية بريطانيا بالانضمام إلى تحالف فرنسي إسرائيلي للهجوم على مصر في 29 تشرين الأول\أكتوبر 1956، وكان هذا هو "العدوان الثلاثي" كما دعاه المصريون. اجتاحت إسرائيل بسهولة قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وأعلنت نيتها ضمهما. لكن الولايات المتحدة والضغط السوفياتي أجبرا إسرائيل وحلفاءها الأوربيين على الانسحاب. ورغم الهزيمة العسكرية بزغت مصر من الحرب غير منحنية ومسيطرة على قناة السويس، وكان هذا نصراً سياسياً ضخماً. ولمع نجم ناصر بين الحكام العرب الذي قبلوا ذل الهيمنة الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية. وسعى القادة السياسيون في سوريا إلى الاستفادة من نفوذ ناصر وعرضوا الوحدة مع مصر. تحمل ناصر متردداً المسؤولية عن سوريا متصدعة، وشعر بأنه ملزم بالموافقة على وحدة مقترحة للحفاظ على قيادته في العالم العربي وفكرة الوحدة العربية، فتم تأسيس الجمهورية العربية المتحدة في 1958.
الاشتراكية العربية
شرع ناصر ببناء قطاع عام كبير من خلال تأميم ملكية جميع المواطنين البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين بعد العدوان الثلاثي لكنه فعل هذا دون خطة في البداية. ثم في 1960، ولأن طبقة رجال الأعمال المحلية امتنعت عن الاستثمار في الصناعة، بادر ناصر إلى تأميم بنك مصر وجميع المصالح الصناعية والمالية والتجارية المرتبطة به ووضع خطة خمسية. وأممت "المراسيم الاشتراكية" الصادرة في تموز\يوليو 1961 معظم المشاريع غير الزراعية وخفضت السقف في الملكية الزراعية للفرد إلى مائة فدان ( ثم إلى 50 فداناً في 1969) . وفي 1962 أعلنت وثيقة الميثاق الوطني الاشتراكية العربية كإيديولوجيا رسمية للدولة، كما تم الإعلان عن تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي العربي كتنظيم موحد يقود الحياة السياسية في مصر. وتبنت الاشتراكية العربية، مثلها مثل الاشتراكية الأفريقية، وتنويعات أخرى معادية للماركسية من الاشتراكية في العالم الثالث، تبنت التنمية الاقتصادية وفق النموذج السوفياتي في التصنيع السريع ورفع مستوى استهلاك الطبقات الشعبية في الوقت نفسه. ولم تمتلك مصر ما يكفي من رأس المال لتحقيق هذا المشروع دون نزع ملكية كبار ملاك الأراضي وتطبيق إصلاح زراعي أكثر راديكالية. لكن ناصر عارض تعبئة الغالبية الفلاحية في صراع طبقي ضد أعمدة النظام القديم. وحاكت الاشتراكية العربية المصرية مظاهر أخرى كثيرة من الحكم السوفياتي، بما فيه ممارساته الأكثر بغضاً المعادية للديمقراطية. وأصبح ضباط من ذوي الرتب العالية الذين لا يمتلكون خبرة اقتصادية كافية مديري شركات قطاع عام ضخمة، وشكلوا برجوازية دولة كانت إلى حد كبير غير كفء وفاسدة. وحسّنت الاشتراكية العربية حياة العمال في المشاريع العامة وجهاز الدولة البيروقراطي، الذي حصل على وظائف ثابتة وفوائد اجتماعية مثل الرعاية الصحية والرواتب التقاعدية. وتلقى جميع المصريين سلعاً أساسية مدعومة وتعليماً عاماً مجانياً من الروضة إلى الجامعة، بينما حصل أولاد العمال والفلاحين على فرص أكبر في التعليم العالي.
حدود الناصرية
بقيت الفجوة بين أصحاب الثروات والمعوزين واسعة. ولم تتغير علاقات الإنتاج داخل المعامل كثيراً، وفي بعض الحالات حلَّ الاستبداد العسكري مكان أبوية القطاع الخاص. وهيمن الفلاحون الأغنياء على الريف، وفي غالب الأحيان مارسوا إكراهاً غير قانوني على الفلاحين الفقراء والعمال المأجورين في القطاع الزراعي. وكان الماركسيون المصريون محدودي العدد ومفككين ومعزولين عن غالبية الفلاحين فلم يتمكنوا من تشكيل بديل لنظام ناصر. ونشر عدد من الماركسيين المصريين الذين يعيشون في فرنسا مثل أنور عبد الملك وسمير أمين ومحمود حسين انتقادات مطولة للاشتراكية العربية الناصرية. لكن مزيجاً من القمع والتعلل بالآمال والتمسك بالخط السوفياتي وبأن مصر لم "تكن على الطريق الرأسمالي في التنمية" عطل الملكات النقدية للذين يعيشون في مصر. وفي كانون الثاني\يناير 1959 سجن نظام ناصر تقريباً جميع الشيوعيين المصريين وأخضعهم لتعذيب وحشي إلى أن تم الإفراج عنهم في 1964. وبالرغم من ذلك، هلّل الشيوعيون من معسكرات سجنهم في الصحراء "للمراسيم الاشتراكية". وبتبنيه للاشتراكية العربية دون مشاركتهم، بز ناصر بدهائه الشيوعيين وصورهم بأنهم غير ضروريين. حل الحزبان نفسيهما في 1965، تماماً حين وصل مشروع ناصر إلى حدوده. وحثت المراسيم الاشتراكية حلفاً ضم طبقة رجال الأعمال السوريين والجيش على التمرد والانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في أيلول\سبتمبر 1961. وفي العام التالي، ومن أجل تدعيم موقفه على الساحة العربية، شجع ناصر على انقلاب قام به الضباط الأحرار اليمنيون الشماليون ضد الإمام وأرسل الجيش المصري لدعمهم حين تدخلت القوات السعودية لاستعادة حكم الإمامة. وأصبح اليمن الشمالي فيتنام مصر، ونُشر حوالى سبعين ألف جندي وطيار في اليمن حتى 1970. وبسبب الأداء الضعيف للجيش المصري في اليمن الشمالي عرف ناصر وعبد الحكيم عامر، رئيس أركان الجيش، وأعز صديق لناصر منذ الثلاثينيات، أن مصر غير جاهزة للحرب. وقوض عامر الانضباط العسكري والاستعداد مغدقاً على سلك الضباط الامتيازات وبنى شبكة محسوبية كان إخلاصها له أقوى من إخلاصها لناصر. ومنعت عاطفة ناصر تجاه عامر وإدراكه أن الجيش سيطيع عامر في الأزمة القائد المصري من تحميل عامر المسؤولية عن إخفاقات الجيش. وفي أيار\مايو 1967، ودون الحصول على موافقة ناصر، أرسل عامر بتهور فرقتين إلى شبه جزيرة سيناء. مما دفع إسرائيل إلى شن هجوم على مصر وسوريا والأردن في 5 حزيران. وانتصرت إسرائيل في حرب حزيران بعد أن سحقت القوات المصرية أكثر مما فعلت في الحربين السابقتين.
عصر جديد
في ٩ حزيران\يونيو أعلن ناصر الاستقالة والتقاعد من السياسة. رداً على ذلك تدفقت حشود المصريين إلى شوارع القاهرة مطالبة ناصر بالبقاء رئيساً لهم، رغم أن هناك سبباً للاعتقاد أن ضباط ناصر هم الذين نظموا هذه المظاهرات. وبالرغم من أن المظاهرات كانت ظاهرياً عرضاً للدعم، إلا أنها كشفت ضعف ناصر الكبير. فقد أقنع أو أجبر الشعب المصري على أن يعهد له بجميع القرارات الرئيسية. وفي لحظة أزمة، لم يمتلك الشعب ثقة بإرادته. وبددت هزيمة مصر في حرب 1967 الموقع الدولي للبلاد، وأثقلت اقتصادها وأنذرت بموت الاشتراكية العربية والقومية العربية، الأمر الذي فاقمه سحق إسرائيل لحليف مصر في وقت الحرب، سوريا. وسعى يسار عربي جديد لملء الفراغ السياسي، مُلْهَماً من المقاومة المسلحة التي قادتها فتح برئاسة ياسر عرفات وخصماها الماركسيان (على الأقل اسمياً) الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ومنحت معركة الكرامة في آذار\مارس 1968 هذا الأفق السياسي الجديد شعبية بعد أن ألحق مقاتلون من فتح والجيش الأردني خسائر فادحة بالقوات الإسرائيلية التي توغلت عميقاً في الأردن. وألهم هذا النصر العربي، بالرغم من أنه كان تكتيكياً وليس استراتيجياً، المئات في العالم العربي للتطوع في فتح للقتال ضد إسرائيل. وتنازل ناصر إلى حد كبير عن قيادة مصر السابقة للصراع من أجل فلسطين للمقاومة الفلسطينية المسلحة. وفي تموز\يوليو 1968، أخذ ناصر عرفات معه إلى موسكو وقدمه للقيادة السوفياتية، وبعد ستة أشهر، رضخ ناصر لعرفات كي يصبح رئيس اللجنة التنفيذية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
إرث ناصر
في 21 شباط\فبراير، 1968 قام العمال والطلاب المصريون بأول مظاهرات ضخمة ضد نظام ناصر منذ 1954، وقد حثهم على ذلك التساهل مع قادة القوى الجوية في المحاكمة رغم عدم كفاءتهم في حرب 1967. وفي النهاية عبّر المتظاهرون عن مطالب أكثر جوهرية مثل حرية التعبير والديمقراطية ووضع قيود على سلطة قوى الأمن الداخلي. وتواصلت المظاهرات تقريباً لأسبوع، وقُتل عاملان وجُرح 67 مدنياً في الاشتباكات مع الشرطة. وسواء كان ناصر من أمر القوى الجوية بأن تطلق النار على الطلاب في الإسكندرية لسحق المظاهرات أم لا (على الأقل هناك كاتب واحد يزعم هذا هو هشام السلاموني) فإن تلك الطلقات بينت فشل المشروع الاشتراكي العربي لعبد الناصر. لكن هيبة ناصر الشخصية بقيت قوية بما يكفي له كي يتوسط في اتفاقية القاهرة في نوفمبر\تشرين الثاني التي منحت منظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان البالغ عددهم ثلاثمائة ألف ووضعت الشروط التي على أساسها ستسمح السلطات اللبنانية بالهجمات الفلسطينية على إسرائيل. وفي القمة العربية في أيلول\سبتمبر 1970 عمل ناصر لساعات طويلة لترتيب وقف لإطلاق النار أنهى الحرب الأهلية الفلسطينية الأردنية ورتب إجلاء الجماعات الفلسطينية المسلحة من الأردن إلى لبنان. وأثرت الدبلوماسية المكثفة لذلك الجهد على صحة ناصر، والتي كانت سيئة لسنوات ولم يكن هذا معروفاً للعامة. وأدى هذا الجهد إلى نوبة قلبية قاتلة في 28 أيلول\سبتمبر، 1970.
لقد جسّد جمال عبد الناصر تطلعات بلدان مُستعمَرة سابقاً في الجنوب العالمي كي يؤكد مصالحها السيادية في عالم ثنائي القطبين. وعرّفت إنجازاته على الصعيد العالمي ومكنت لها في آن واحد معاً الفترة التاريخية لإنهاء الاستعمار وحدودها. وأنشأ ناصر روابط عاطفية مع الشعب المصري وحسّن حياته كثيراً لكن افتقاره للثقة به قاد إلى فشله كقائد.
[نشرت المقالة في مجلة «جاكوبن» وترجمها إلى العربية أسامة إسبر]
هوامش
١-جويل بينين أستاذ التاريخ وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد. صدر له مؤخراً كتاب بعنوان ”عمال ولصوص: الحركات العمالية والانتفاضات الشعبية في تونس ومصر“ (مطبوعات جامعة ستانفورد، 2016).
٢-The Tennessee Valley Authority شركة فيدرالية في الولايات المتحدة أنشأها الكونغرس الأميركي في 18 أيار 1933 لتوفير الملاحة والسيطرة على الفيضانات، وتوليد الكهرباء وصناعة الأسمدة والتنمية الاقتصادية لوادي تينيسي، وهو منطقة تأثرت جراء الكساد الكبير.
٣- من خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمناسبة تأميم قناة السويس.