سبعون سنة على رحيل يهود العراق

[يهود عراقيون في طائرة تقلهم إلى إسرائيل. أرشيف عائلة دنغور.] [يهود عراقيون في طائرة تقلهم إلى إسرائيل. أرشيف عائلة دنغور.]

سبعون سنة على رحيل يهود العراق

By : Arabic Editors

إيلا شوحيط

بعد مضي سبعة عقود، لم تحسم بعد الرواية الحقيقية للنزوح الكبير ليهود العراق، حتى بين المهجّرين أنفسهم. الوجود الذي ينوف في بلاد ما بين النهرين على الألف عام، غدا مستحيلاً بعد زوبعة التغييرات التاريخية التي أرساها تنافس القوى السياسية الطاغية وصراع الأيديولوجيات. سقوط السلطنة العثمانية، الحكم الاستعماري البريطاني الذي تلاه، وظهور الحركات القومية اليهودية والعربية، كل هذا ولّد ضغوطاً سياسية، داخلية وخارجية، على اليهود العراقيين. تجاذُبُ هؤلاء بين اتجاهات مختلفة أدى إلى إلحاق الضرر بهم بالتساوي من كل الإيديولوجيات المتحاربة.

لحق التهجير بغالبية اليهود العراقيين غداة تأسيس دولة اسرائيل والنكبة الفلسطينية. بين 1950 - 1951، نحو 120 ألف يهودي عراقي غادروا العراق، معظمهم إلى إسرائيل، في عملية سميت «تسقيط الجنسية»، نسبة إلى إصدار الحكومة العراقية قانوناً يُسقط الجنسية العراقية عن كل يهودي غادر أو يغادر العراق بصورة مشروعة او غير مشروعة. السردية المتعارف عليها لهذا الخروج الكبير، المعروف بين اليهود العراقيين بـ «سنة التسقيط»، تُصوّر هذه الهجرة على أنها نهاية السبي البابلي وتحقّق الوعد الالهي بالعودة الى أرض صهيون.

في التقليد اليهودي، تعتبر بابل إحدى محطات الشتات، وفيها يتكثّف السبي كما عبّرت عنه التوراة: «على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون». بإسقاط المفاهيم الدينية على الخطاب الإثنو - قومي، كان للعقيدة الصهيونية العاملة على جمع الشتات اليهودي في إسرائيل دور في إضفاء التعمية على حركة العبور الملحمي للحدود بين المناطق المتنازعة. وفي الواقع، فإن التسمية الرسمية التي انتشرت لعملية إجلاء اليهود العراقيين جواً إلى إسرائيل (عملية عزرا ونحميا وهما من أنبياء بني إسرائيل)، جعلت من هذه العملية عودة توراتية إلى القدس لإعادة بناء هيكل سليمان. مع ذلك، فإن ما يعدّ غالباً «حصاد المنافي» واستعادة الشتات إلى القدس، هو في الواقع تجربة معقدة ومؤلمة، وصدمة متواصلة عبر الأجيال، أنتجت شعوراً متناقضاً بالانتماء لدى اليهود الشرق أوسطيين الذي نزحوا من بلدانهم.

الرحيل وآلامه

نشوء دولة إسرائيل عام 1948، والهجرة الجماعية الضخمة التي تلتها للفلسطينيين إلى البلدان العربية المجاورة، أدّيا إلى وضع اليهود من السكان الأصليين لبلدان الشرق الأوسط في موقع ضعيف جداً. كان على اليهود العرب التعهد بالولاء لهوية باتت الآن مرتبطة بحركتين متصارعتين («اليهود» و«العرب»)، وكلاهما له تعريفه الجديد وفق رواية تاريخية للانتساب الإثنو - قومي. ورغم تنافرها مع اليهودية التقليدية كدين، فإن إعادة التعريف الصهيونية للتهود كحالة قومية - إثنية ولّدت جدلاً ومعضلة أخلاقية وتوترات بين اليهود العراقيين أنفسهم، خصوصاً بعدما بدأ بعض الشباب من هؤلاء يرون في إسرائيل الخيار الموعود. بعد 1948، باتت الأمور أكثر حدة مع تعرض الفلسطينيين للنكبة، واستفاقة اليهود العرب على نظام عالمي جديد لا مكان فيه بعد اليوم لمن ينتمون إلى اليهودية والعروبة في وقت واحد.

في ظل هذا المحيط المتحوّل بسرعة كبيرة، كان على اليهود في العراق، مصر وسوريا وغيرها أن يدافعوا عن يهوديتهم التي باتت، للمرة الأولى في تاريخهم، لا ترتبط بديانتهم فحسب، وإنما بقومية مستعمِرة. هذه الأحداث البالغة الأهمية أدت إلى حالة عامة من العداء والإجراءات العنصرية ضد اليهود من السكان الأصليين في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ضغط الحركة الصهيونية لتهجير الجاليات اليهودية وإنهاء الـ«الغولا» (الشتات) من جهة، وتنامي الشعور القومي العربي الذي يساوي بين اليهودية والصهيونية من جهة أخرى، أديا إلى الافتراق النهائي لليهود العرب عن بلدانهم. وللمفارقة، فإن رؤية الحركة الصهيونية للعروبة واليهودية كـسمتين متعارضتين كانت تلتقي في هذا السياق مع الخطاب القومي العربي، ما وضع اليهود العرب أمام معضلة حادة ومحيرة. صرامة هاتين الصيغتين، بالتحديد، أنتجت أزمة اليهود العرب، إذ إنّ أياً منهما لم تكن قادرة على احتواء الهويات والعلاقات المتقاطعة والمتعددة.

وعلى الرغم من أن قسماً كبيراً من اليهود العراقيين لم يكن منخرطاً في أي نشاط سياسي - سواء قومي أو صهيوني أو شيوعي - إلا أنهم لاإرادياً أُقحموا، بشكل خطير، في الإيديولوجيات القومية المتنازعة. التصريحات المتعددة الرافضة للصهيونية التي أدلى بها الزعماء الدينيون لليهود، كالحاخام باشي ساسون خضوري (حاخام اليهود ورئيس الطائفة في العراق)، كانت موضع نقاش وعرضة لتفسيرات متعددة، بمعنى هل كانت تلك التصريحات فعلاً تعبّر عن الموقف الحقيقي لهؤلاء الزعماء أم أنها كانت لحماية أبناء طائفتهم. على سبيل المثال، في عام 1936، ومع تفاقم الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في فلسطين المنتدبة، أصدر الحاخام تصريحاً باسم «الطائفة الاسرائيلية»، كان الهدف منه إزالة أي شكوك قد تحوم حول الاشتباه بعلاقة ما بين اليهود العراقيين والحركة الصهيونية. وكتب الحاخام: «إن أياً من أفراد الطائفة الاسرائيلية في العراق لا يملك أي علاقة أو اتصال أو نشاط مشترك مع الحركة الصهيونية على أي صعيد من الصعد». وشدّد على أن «يهود العراق عراقيون وجزء من الشعب العراقي».

مع ذلك، وبعد عقد من الزمن، بعد عام 1948، فإن التوتر العقائدي حول مستقبل الطائفة، وما رافقه من توتر بين الزعامة التقليدية للطائفة والحركة الصهيونية السرية، وصل إلى تشنج غير مسبوق. كوسيط بين النظام الحاكم والطائفة، اعتمد الحاخام مقاربة توافقية اعتبر بعض أبناء الطائفة أنها لن تؤدي إلى نتائج، فيما رأى فيها آخرون، خصوصاً الصهاينة منهم، مهادنة واسترضاء لنظام مضطهِد. مع تزايد الاعتقالات لشبان يهود بتهمة الانتماء الصهيوني، نُظّمت تظاهرة ضد الحاخام أدت إلى استقالته من منصبه في ديسمبر/كانون الأول عام 1949.

وحتى لو أن أعداداً متزايدة من اليهود في بلدان كالعراق عبّرت عن رغبتها بالذهاب إلى إسرائيل، فإن السؤال هو لماذا، بشكل مفاجئ، وبعد ألف عام من غياب مثل هذه الرغبة، يريد هؤلاء ترك حيواتهم والمغادرة بين عشية وضحاها. فحتى ما بعد إنشاء دولة إسرائيل، كانت الطائفة اليهودية العراقية تبني مدارس ومشاريع جديدة، ما يؤشر إلى غياب أي نية ممنهجة لمغادرة العراق. النزوح من هذا البلد، بكلمات أخرى، كان نتيجة الاستثمار المباشر في «ألياه» (جمع الشتات اليهودي)، بالمعنى القومي للكلمة، وأيضاً نتيجة ظروف معقدة أدى فيها الذعر والخوف والشعور باللاانتماء دوراً أساسياً. هذا «الحصاد» يبدو وكأن لا مناص منه إذا ما أخذنا في الاعتبار الظروف المعقدة التي أدت إلى المغادرة، وتحديداً: 1) الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية السرية في العراق لتشويه سمعة الزعامة التقليدية لليهود العراقيين ورؤساء الطائفة، كالحاخام ساسون خضوري الذي لم يكن مشاركاً في النسخة الجديدة من اليهودية؛ 2) محاولاتها لدق إسفين بين اليهود والمسلمين في هذا البلد؛ 3) مأسسة الممارسات العربية العنصرية تجاه اليهود؛ 4) الحملة الإعلامية الشعواء ضد اليهود خصوصاً من قبل «حزب الاستقلال»؛ 5) تحفّظ معظم النخب العربية المثقفة عن الجهر بالتمييز بين «اليهود» و«الصهاينة»؛ 6) إخفاق القيادات العربية بالحفاظ على مكان لليهود في الدول العربية؛ 7) اعتقال الشيوعيين، وبينهم يهود، ممن كانوا مناهضين للفكرة الصهيونية؛ 8) الاتفاقات السرية بين بعض القيادات العراقية والإسرائيلية على إجلاء اليهود إلى إسرائيل؛ 9) الالتباس، لدى قسم معتبر من اليهود العرب، حول الفارق بين هويتهم الدينية وانتمائهم وعاطفتهم، وبين مشروع الدولة القومية للصهيونية الذي قُدم على أساس رؤية علمانية أورومركزية، تتماهى في الوقت نفسه مع الخطاب المسيحاني.

وحتى اليوم، لا يزال النقاش حول الظروف التي أدت إلى هجرة اليهود العراقيين يستدعي نزاعاً سياسياً حاداً في مقابل مسألة النزوح الفلسطيني عام 1948. الخطاب القومي العربي الطاغي قدّم الهجرة الجماعية لليهود كمؤشر على الخيانة اليهودية للأمة العربية. والخطاب الإسرائيلي الطاغي، في المقابل، يقوم على رواية تضع الهجرة نفسها في سياق طرد اليهود. وحديثاً، بدأ ربط قضية «النازحين اليهود من البلدان العربية والإسلامية» بالتهجير الجماعي للفلسطينيين عام 1948، كجزء من الجهد المبذول لتفنيد الرواية الفلسطينية حول طرد الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم. ربط «النكبة» بـ«تسقيط الجنسية» لجهة المساواة المفترضة بين الحالتين، وُضعت في التداول كجزء من سردية «التبادل السكاني». الربط، في هذا السياق، ينحو إلى التخفيف من المسؤولية الإسرائيلية عن التهجير الجماعي للفلسطينيين. وبعض أوجه هذا الخطاب يضمر افتراضاً بأن المسلمين كانوا على الدوام مضطهِدين لليهود، في سياق التاريخ «الإبادي» لليهود. وفي واحدة من أكثر صوره انحيازاً، يدمج هذا الخطاب المسألة العربية - اليهودية بالمحرقة، ومثال على ذلك الحملة التي أطلقت لإدخال «الفرهود» (أعمال عنف ونهب في بغداد استهدفت سكان المدينة من اليهود في 1 يونيو/حزيران 1941) ضمن برامج متحف المحرقة التذكاري في الولايات المتحدة. ويمكن المرء أن يدين العنف الذي رافق «الفرهود» العراقي، وحتى ربطها بالبروباغاندا النازية في العراق، ولكن من دون استغلالها لمساواة العرب بالنازيين، وتكريس السردية المزورة حول العداء الإسلامي الأبدي للسامية. فبعيداً عن حقيقة أنه خلال أعمال «الفرهود» حمى بعض المسلمين جيرانهم من اليهود، نحت السردية الأورومركزية لمسألة اليهود العراقيين إلى التعامل مع أحداث العنف هذه كجزء من الإبادة، مسقطة التجربة التاريخية لليهود في أوروبا المسيحية على الفضاء الإسلامي.

المكوث وآلامه

على الرغم من أن غالبية اليهود العراقيين نزحوا غداة قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل، إلا أن أقلية من أفراد الطائفة امتنعت عن المغادرة عبر «التسقيط». أسباب هؤلاء للبقاء متنوعة، من بينها أنهم اعتبروا أنفسهم عراقيين أولاً وأساساً، و/أو لأنهم اعتقدوا بأن هذه عاصفة ستمر، و/أو لأنهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم. معاناة الانفصال العائلي كانت قد اختبرته عائلة الحاخام ساسون خضوري، إذ إنّ أكثر أبنائه هاجروا إلى إسرائيل فيما بقي بعضهم الآخر في العراق. تابع الحاخام عمله على رأس الطائفة، مواصلاً اعتماد مقاربة مرنة ليهودية قادرة على التكيف مع الأعراف الاجتماعية المتغيرة. وبانغماسه الشديد في حياة أبناء الطائفة، في أفراحهم وأتراحهم، تحول الحاخام إلى رمز حيوي للانتماء اليهودي لهؤلاء. بعد الخروج الكبير لغالبية اليهود العراقيين، انحسرت الأجواء الكارثية التي سادت سابقاً. ورغم استمرار التوتر المرتبط بالصراع العربي - الإسرائيلي، إلا أن هذه الفترة تميّزت باستقرار نسبي بالمقارنة مع العقد الذي تلى انقلاب عام 1963 في العراق، والعنف الذي أعقب حرب عام 1967 العربية - الإسرائيلية.

مع انقلاب عام 1968، كان لسيطرة الديكتاتورية البعثية على العراق تأثير مدمّر على العراقيين بمختلف طوائفهم. التدابير المرعبة التي اتخذت لسحق الأخصام الفعليين أو المفترضين للنظام، أدّت، كما نعرف، إلى سجن وتعذيب وخطف وقتل كثيرين من العراقيين الأبرياء عموماً، لكن القمع استفحل أكثر في حالة اليهود العراقيين الذين باتوا تحت ظلال من الشك الدائم بالخيانة. إخضاع العراقيين للرصد والمراقبة، بات في حالة اليهود منهم اتهامات جاهزة بالتعامل مع «العدو الصهيوني»، وإعدامات علنية، والأهم خطراً وجودياً على الطائفة. القمع الذي مارسه البعثيون بين 1969 و1971 أدى الى مغادرة من بقي من اليهود العراقيين. مع مطلع السبعينيات، استمرت أرقام أبناء الطائفة التي شارفت على الاضمحلال بالتناقص: تبعثر الوجود اليهودي الألفي في بلاد ما بين النهرين، وتوزع بين إسرائيل بشكل كبير، وبين المملكة المتحدة وأميركا الشمالية. مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان عدد اليهود العراقيين المتبقين لا يتعدى العشرات مع سقوط نظام صدام حسين. فرغم أن أفرادها من السكان الأصليين لهذه البلاد، ورغم رسوخ بناها الاجتماعية، كانت الطائفة اليهودية تحت ضغط مرعب أدى إلى تداعيها.

عام 1999، كتب شاؤول حاخام ساسون السيرة الذاتية لخضوري. الكاتب الذي بقي مع والده في العراق، فنّد بشدة الصورة السلبية التي أُلصقت بالحاخام الذي طعنت السردية الصهيونية بسمعته. الكتاب المعنون «راع ورعيته»، نشرته في القدس هيئة الأكاديميين اليهود من العراق. بحرارة شديدة، يناقش المؤلف بأن الحاخام كان من دون أدنى شك زعيماً كرّس حياته لأبناء طائفته. خشية منه على مصلحة الطائفة، بل على وجودها نفسه، آثر الحاخام الدفاع عنها وسط ضغوط شديدة وثمن شخصي مرتفع. طوال خمسة عقود مضطربة، حتى وفاته في بغداد عام 1971، اجتاز الحاخام التحوّلات السياسية الشديدة في المنطقة التي كانت لها عواقب وخيمة على اليهود العراقيين وعموم اليهود في الشرق الأوسط بصورة أعم. في الحقيقة، في الفترة العاصفة بعد عام 1967، كان شاؤول نفسه محتجزاً في سجن صدّام حسين، بهدف ممارسة ضغط على الحاخام على ما يبدو ليدلي بتصريحات مؤيدة للنظام في ظل الاحتجاجات الدولية المتنامية. في مذكراته عن السجن الصادرة عام 1999، المعنون باللغة العربية «في جحيم صدّام حسين»، أوضح شاؤول حاخام ساسون سبب قراره مغادرة العراق عقب وفاة الحاخام في 24 مارس/آذار 1971. قال «اقتلعتُ نفسي وانتقلت إلى بريطانيا» حيث «ما زلت أعيش ... حاملاً ذكريات حزينة، راجياً الله تحرير العراق من طغاته البعثيين». كما أعرب عن أمله للعراق في «العيش بسلام وازدهار»، وهو واظب في منفاه بلندن على وصف العراق بأنّه «وطني ومسقط رأسي». ختم المذكرات متمنياً لكل العراقيين الذين «اضطروا إلى المغادرة أن تتسنى لهم العودة إلى عراق حرّ وديموقراطي حيث يمكن للطوائف والمواطنين من الأديان كافة العيش وسط التسامح والمساواة».

لأنّها عاشت في ظلّ حروب، ثورات، ونظام ديكتاتوري جعل أحوال العراقيين جميعهم جهنميةً، وبخاصة اليهود، ولأنّها بقيت كما فعلت وسط شبهات مستمرة بالخيانة، فإنّ عائلة الحاخام، إجمالاً، تجسّد قصة طائفة من بلاد ما بين النهرين تفككت وتشتت.

في أعقاب الخروج من العراق وصدمة بلوغ إسرائيل، عانى العراقيون اليهود إلى جانب اليهود الشرق أوسطيين عموماً، التهميش، النبذ وتشييئهم كشرقيين، في مكان ينظر إليه على أنّه آخر ملجأ. قد يشار إلى إدراك عدم الانتماء بأسى: «في العراق كنا يهوداً، في إسرائيل نحن عرب». صادف عام وفاة الحاخام في بغداد نشوء حركة الفهود السود الاحتجاجية في وجه التمييز بحق المزراحيين في إسرائيل. في الواقع، طيلة عقود بعد «التسقيط»، أعرب العراقيون اليهود عن شعورهم بالإحباط تجاه الخيانة على يد العراق وإسرائيل. استشهدوا بالشائعات حول (ما يزال موضع خلاف) وضع المفخخات في الكنس وبالصفقة السرية بين الحكومتين العراقية والإسرائيلية برعاية البريطانيين. كما أنّهم تحدثوا عن الدولتين على أنّهما استفادتا مادياً من رحيلهم – العراق من خلال الممتلكات التي خلفوها، وإسرائيل من خلال استغلالهم كيد عاملة رخيصة. تعبّر عبارة «باعونا» عن شعور بالغضب حيال مأزق راوح بين الخوف السائد قبيل الخروج من الاضطهاد في حال البقاء في العراق وبين مواجهة سلوك الأوروبيين - الإسرائيليين حيال الشرقيين. كان الشعور في مرحلة ما بعد «التسقيط» بأنّهم خارج المكانين لا يتماشى وسردية إنقاذ اليهود من أيدي المسلمين الذين يضطهدونهم دوماً، ولكنّه جعل من خروج اليهود العراقيين كبش فداء للتضحية على مذبح الصراع العربي الإسرائيلي.

[ترجم هذا المقال من الانكليزية وفيق قانصوه.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية

الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية[i]

تأليف: جون ف. هنري[ii]

ترجمة: فؤاد ريان

تعتمد القوة النظرية والإيديولوجية لليبرالية الكلاسيكية على العلاقة بين الملكية الخاصة، و"السوق" والفرد. وقد كتب أحد المؤرخين البارزين لليبرالية أنّ "الملكية الخاصة هي تجسيد للحرية الفردية في شكلها الأكثر بدائية، وحريات السوق هي مكونات لا تقبل التجزئة للحريات الأساسية للشخص". (Gray 1986, 50)

وتقول المحاجّة: مع تطور الملكية الخاصة المنتجة، فإنّ الأفراد يتحررون من الحكم الاعتباطي للسلطة الاستبدادية؛ فتحكم الأفراد بمواردهم الخاصة، يحررهم في عملية اتخاذ القرارات بناء على مصالحهم الخاصة، وفي تعزيز هذه المصالح بفضل جهودهم الخاصة، بالذكاء والدهاء. ويجب إخضاع تلك المصالح للفحص الدقيق من قبل الآخرين، حيث يحاول الجميع تعزيز أهدافهم الخاصة بشيء من المسابقة مع جميع الآخرين. هذه المسابقة يتم لعبها في إطار ما يصطلح عليه بـ"السوق"، والفائزون هم أولئك الذين يتمتعون بذكاء أكبر، وبجهد عمل أفضل، وبفاعلية أكبر. طبعا، سيكون هناك خاسرون، ولكن الجميع لديهم نفس الحرية في البحث عن المكاسب، والكلّ يخوض هذه المسابقة بنفس قواعد اللعب. ولا مكان، في هذه المسابقة، للحكومة أكثر من إرساء قواعد اللعب والفصل في الخلافات بين اللاعبين.

من ناحية تاريخية، لقد كانت هذه هي الرؤية الحاكمة لقرابة مائتي سنة. ويبدو أنّ هذا يفسر الكثير؛ لماذا نجح البعض (العاملون بجد والمقتصدون) وفشل البعض الآخر (الكسالى وعديمو الحكمة)؟ ولماذا أظهر الاقتصاد القائم على السوق نموا اقتصاديا (دافعية الربح حفزت الإنتاج)؟ وهكذا.

لا أريد هنا أن أخضع النظرية للنقد، ولكن أريد فقط أن أثير النقطة الرئيسة حول تعثر الليبرالية في نهاية القرن التاسع عشر. فلكي تحافظ الليبرالية على ذاتها، على الاقتصاد الرأسمالي أن يظهر المنافسة. وعلى جميع اللاعبين التمكن من الوصول إلى الملكية (بغض النظر فيما إذا تمكنوا من الوصول أم لا)، ولا يجب السماح لأحد أن يكون لديه ميزة وضعية احتكارية. فالإطار التنافسي هو شرط ضروري من أجل السماح بعملية الضبط الداخلية التي تنتج المخرجات المثلى المفترضة. وهي ضرورية أيضا من أجل السماح لمحددات الفضائل الأخلاقية للمجتمع الرأسمالي، حيث النتائج الفردية تعتمد على أفعال الفرد نفسه.

 ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ الإطار التنافسي الذي ازدهرت فيه الليبرالية يتبدد. وبشكل متزايد، أصبح الاقتصاد الرأسمالي يُظهر تشكّلات لا تنافسية احتكارية كشكل سائد للتنظيم. فعلماء الاقتصاد من كل المشارب (تقريبا) أخذوا في الحسبان هذا التحول منذ تطوره. فماركس (Marx) وفيبلين (Veblen)، وحتى علماء الاقتصاد النيوكلاسيكيين (neoclassical) انضموا إلى صفوفهم، مع أنّ نظرة التحليلات النيوكلاسيكية كانت أقل تبصرا من تلك التحليلات الماركسية أو تحليلات فيبلن، مشددين على ما يشار إليه الآن بـ"فشل السوق" (market failure). وفي عام 1924، أعلن كينز (Keynes) "نهاية سياسة عدم التدخل الحكومي" (the end of laissez faire) (لمعرفة شبه كاملة عن التطورات ضمن المدارس المختلفة للنظرية الاقتصادية، انظر:هوارد وكينج 2008). أمّا الذي كان يشكل الخطورة الأكبر على النظام الاجتماعي الرأسمالي فهو حركات الطبقة العاملة التي كانت في صعود، فهي نفسها نتيجة لهذا التحول مع ما صاحبه من نمو وتمركز لهذه الطبقة.

وفي المراحل المبكرة لهذا التحول، حصلت بعض الدعاوى الاحتجاجيّة ضد “النزعة الجماعيّة" (collectivism) المفرطة. أمّا ذوو القناعات الليبرالية الأكثر عمقا، فقد حاولوا إنقاذ الليبرالية في حين كانوا يدركون وجود أشكال غير تنافسية (احتكارية). وربما كانت المحاولة الأكثر تقدما بهذا الخصوص هي مقالة جون ستيوارت مل (John Stuart Mill) غير المكتملة، "فصول عن الاشتراكية" (وقد كانت هذه بمثابة نموذج لمقالة مارشال (Marshall) (1907) "الإمكانيات الاجتماعية للفروسية الاقتصادية"). وقد اقترح مل (Mill) في تحليله، بينما أبدى تعاطفا مع مأزق العمال، تعديلات على حقوق الملكية في حينه لاستيعاب التغييرات في بنية الصناعة من أجل الاحتفاظ بالملكية الخاصة، والمنافسة، و"السوق"، بحيث يحوّل مسار التحدي الاشتراكي إلى مسار أكثر أمنا، ويقول باختصار:

تتطلب الحالة المريعة، التي يستطيع الاشتراكيون خلقها ضد النظام الاقتصادي الحالي للمجتمع، دراسة كاملة لكل الوسائل التي يمكن للمؤسسة (للملكية الخاصة) أن يكون لها من خلالها فرصة العمل بطريقة أكثر فائدة للقسم الأكبر من المجتمع، الذي يحظى في الوقت الحالي بأقل حصة من منافعها المباشرة (Mill [1869] 1879, Ch. 4, 11).

 لقد كانت معظم الجهود لإنقاذ الليبرالية الكلاسيكية خلال فترة مطلع القرن العشرين، ببساطة، عبارة عن ردود أفعال، مكرِّرة للمبادئ الأساسية للموقف اللوكي (Lockean)، ومكرِّرة لمحاجّات منظرين من أمثال هيربرت سبنسر (Herbert Spencer)، وتحديدا تلك المعروضة في مؤلفه "الرجل ضد الدولة" (1884)، أو تلك المروّجة لتنبؤات هيلير بيلوك (Hilaire Belloc) الكئيبة في مؤلفه لسنة 1912 "دولة العبودية"، حيث يقول فيه إنّ السّير نحو "النزعة الجماعية" سيقود إلى دولة عبيد جديدة. وقد بذلت بعض المؤسسات، مثل "رابطة الدفاع عن الحرية والملكية"، التي تأسست عام 1882، والمؤسسة الدستورية البريطانية (1907)، والاتحاد المناهض للاشتراكية (1908)، جهودا ضد النظريات والممارسات المناهضة للفردانية. حيث ظهرت الليبرالية كبرنامج فاقد للصلاحية ومسفّه.

وفي عام 1922 نشر لودفغ فون ميزس (Ludwig von Mises) مؤلّفَه "الاشتراكية: تحليل اقتصادي وسوسيولوجي". وبعيدا عن التدقيق النقدي لمحاجّة فون ميزس، يلاحَظ أنّ عمله كان أول من قدّم تفسيرا مقنعا عن استحالة وجود آلية تسعير منطقية في ظل الاشتراكية، مدافعا عن "السوق" بأنّه العملية الوحيدة الممكنة التي يمكن من خلالها أن تخصّص الموارد بشكل عقلاني وفعّال. ويجدر بنا هنا أن نقتبس من مقدمة الكتاب لنوضح مخاوف الليبراليين في حينه:

إنّ مؤيّدي الاشتراكية...ليسوا محصورين في البلاشفة... أو في أعضاء الأحزاب الاشتراكية العديدة، فكل من يعتبر النظام الاشتراكي للمجتمع متفوقاً اقتصاديا وأخلاقيا على ذلك النظام القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو اشتراكي...وإذا عرّفنا الاشتراكية بشكل عام هكذا، فإنّ الغالبية العظمى من الناس اليوم هم مع الاشتراكية. أمّا أولئك الذين يعترفون بمبادئ الليبرالية، والذين يرون أنّ النظام الوحيد الممكن لاقتصاد المجتمع هو ذلك القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج فهم فئة قليلة. (von Mises [1922] 1932, 26-27).

 لقد لفت دفاع فون ميزس عن "السوق" انتباه الليبراليين الأعمق فكريا في تلك الفترة، مثل ليونيل روبنز (Lionel Robbins) وفريدريش فون هايك (Friedrich von Hayek) على وجه الخصوص. وكلاهما كان عضوا في حلقة النقاش الخاصة بفون ميزس، جنبا إلى جنب مع فريتز ماكلوب (Fritz Machlup)، وفرانك نايت (Frank Knight)، والذين سيكونوا لاحقا من الشخصيات المهمة في تشكيل جمعية مونت بيليرين (Mont Pelerin Society) في عام 1947. ويظهر الآن أنّ الذخائر الفكرية في مساندة الدفاع عن الليبرالية الكلاسيكية لقوى السوق وضد مدّ "النزعة الجماعية"، الذي كان على ما يبدو لا يمكن إيقافه، قد أخذت في التطور منذ ذلك الوقت.

 إنّ نقطة التحول، في كل من أفول الفكر الليبرالي وفي الفهم القائل أنّ على الليبرالية إعادة تشكيل نفسها إن أرادت أن تسترد جاذبيتها السابقة، قد وجدت في المناقشات التي حدثت في المجلس الاستشاري الاقتصادي (Economic Advisory Council)، الذي تم تأسيسه من قبل الحكومة البريطانية في عام 1929 لعقد اجتماع لعلماء اقتصاد بارزين لتقديم نصائح سياساتية حول كيفية التخلص من آثار "الكساد الكبير" (The Great Depression) تحت رئاسة كينز (Keynes)، وقد اشتمل المجلس على علماء اقتصاد بارزين مثل هيوبرت هندرسون (Hubert Henderson)، ودينيس روبرتسون (Dennis Robertson)، وآرثر سيسيل بيجو (A. C. Pigou)، وروبنز (Robbins)، ومن ثم أعضاء هيئة التدريس في كلية لندن للاقتصاد (London School of Economics) (LSE).

وقد دفع كينز، في النقاشات التي دارت في المجلس، نحو برنامج يدعو فيه إلى الإنفاق الحكومي على الأشغال العامة. بالإضافة إلى توصيته للإخلال بالتجارة الحرة من خلال زيادة التعرفة الجمركية بنسبة 10% على الواردات و10% إعفاء على الصادرات، وقد أربك هذا روبنز وآخرين بشكل كبير (Howson 2009, 262-63). ومن التهم التي كيلت إلى كينز أنّه لم يتطرق إلى الأسباب الجذرية للركود، وأنّه كان يضع النفعية السياسية فوق المبادئ الاقتصادية، وأنّ التبعات على المدى الطويل لمثل هكذا برنامج تحديدا، وهو التضخم، ستجعل من العلاج أسوأ من المرض. وبالنسبة لروبنز، فإنّ العوامل الأساسية التي سببت الركود تكمن في تلك العناصر الاقتصادية التي وقفت ضد مبادئ الليبرالية الكلاسيكية، وهي: النقابات المهنية التي أنتجت جمود الأجور، وتدخل الحكومة المتزايد، وتحديدا تأمينات البطالة، التي تتداخل مع قواعد عمل السوق "الطبيعية". إذا تم "تحرير الأسواق"؛ فإنّ الاقتصاد سيتكيّف بسرعة وسيخرج العالم من المستنقع الحالي من خلال معجزة "اليد الخفيّة" (the invisible hand). من أجل مناقشة كاملة انظر إلى كتاب "الكساد الكبير" لسنة 1934).

ونلاحظ، عند هذه المرحلة، التلاقي بين التغيير المؤسسي والقلق الأيديولوجي. فقد تآكلت الأسس الاقتصادية لليبرالية الكلاسيكية بسبب التطورات التي ولدت من رحم الديناميات الداخلية للرأسمالية نفسها. فالليبرالية عبارة عن بناء يتطلب هيكلية اقتصادية "تنافسية" صغيرة الحجم في أساسها. لكن التراكم الرأسمالي أنتج هيكليات احتكارية غير تنافسية، وتطورات في النقابات العمالية، وانخراطاً متزايداً للحكومة لمعالجة العديد من القضايا-مثل البطالة المزمنة وما شابه ذلك، والتي كانت نتائج لعملية التراكم هذه. لقد فقدت الليبرالية أساسها المؤسسي. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن لليبراليين اللجوء إليه هو تكرار المبادئ الاقتصادية المرتبطة بالمبادئ القديمة، وهو الآن شكل من أشكال التنظيم الرأسمالي. وبالنسبة لليبراليين كانت هذه حالة مريعة. وبعد كل هذا، فإنّ جوهر "الحرية" (كما هي معرّفة من قبل الليبراليين) كان على المحك، ونظرا لعدم وجود حجة مضادة مقنعة، يبدو أنّ "الاشتراكية" ستفوز كتحصيل حاصل.

 وقد جاء رد روبنز؛ فبالإضافة إلى الإطار النظري الخاص به، وتحديدا كتابه لعام 1937 "التخطيط الاقتصادي والنظام العالمي"، فقد جلب هو وإدوين كانن (Edwin Cannan)، الذي صار لاحقا رئيس دائرة الاقتصاد، هايك (Hayek) إلى كلية لندن للاقتصاد، كبروفيسور للاقتصاد في عام 1931، دامجا النظرية الاقتصادية النمساوية مع الليبرالية البريطانية. وقد صارت كلية لندن للاقتصاد رائدة في الحفاظ على الفكر الليبرالي وتقدمه (Cockett 1994, 25). وبعد روبنز وهيك، برزت بعض الأسماء المرموقة من كلية لندن للاقتصاد خلال السنوات الخمس عشرة اللاحقة، مثل: آرثر سلدون (Arthur Seldon)، وبايزل يامي (Basil Yamey)، ووليام إتش. هوت (William H. Hutt)، وفرانك بايش (Frank Paish)، ورونالد كوز (Ronald Coase)، وبيتر باور (Peter Bauer). ولم يساهم كل هؤلاء فقط في تطوير النيوليبرالية، ولكن ارتبطت أسماؤهم بأول مركز أبحاث منظم خصيصا لتعزيز الإصلاح، والبرنامج الليبرالي المجدد-ممثلا بمعهد الشؤون الاقتصادية (Institute of Economic Affairs)، الذي تأسس عام 1955.

 أما في جنيف، فقد رعى المعهد العالي للدراسات الدولية (Institut Universitaire des Hautes Etudes Internationales)، الذي أنشئ عام 1927، مؤتمرين في عامي 1935 و1937 يركزان على تبعات الكينزية (Keynesianism). وبتمويل من مؤسسة روكفيلر (Rockefeller Foundation) (والتي ساهمت أيضا في الثروة المالية لكلية لندن للاقتصاد LSE) ضمّ المعهد في هيئة التدريس كل من فون ميزس (Von Mises)، وفيلهلم روبكه (Wilhelm Ropke)، وجاكوب فاينر (Jacob Viner). وقد جاءت فكرة تجميع المدافعين عن الليبرالية معا في مؤتمر عام 1935 من أجل تطوير نقد متماسك للتخطيط والنظرية الاقتصادية الكينزية. وقد أدى هذا إلى ندوة والتر لبمان (Le Colluque Walter Lippmann) لسنة 1938.

 وفي عام 1937، نشر لبمان، وهو متمسك بالأيديولوجية الليبرالية، كتابه "المجتمع الصالح". وفي تفسيره، بعد أن اعترف أولا بأسبقية موقف "النزعة الجماعية"، كتب لبمان:

بعد مئة عام على نشر آدم سميث لكتابه "ثروة الأمم" (The Wealth of Nations) فإنّ الفلسفة الليبرالية في تدهور...وقد أصبحت عبارة عن مجموعة من الشعارات دائمة التذمر يتّكل عليها أصحاب الأملاك عند التعدّي على مصالحهم الخاصة...

يبدو (أنّها) تشير إلى أنّه في مرحلة ما من مراحل تطورها، فإنّ الفلسفة لليبرالية أصبحت غير قابلة للدفاع عنها علميا، وأنّه بعد ذلك توقفت عن إحراز الاحترام الفكري أو أن تلبي الضمير الأخلاقي لقادة الفكر. 1937, 183-84)).

ثم وضع بعدها برنامج عمل ينادي فيه كل ذوي القناعة الليبرالية بالهجوم المضاد، من خلال تنقيح الفكر الليبرالي وتجديده، واستعادة الليبرالية باعتبارها المنظور النظري الوحيد الذي يتفق مع المصلحة البشرية العميقة الملزمة بأن تكون "حرة". ويجب الإشارة إلى أنّ لبمان ردّ على الفارق المتنامي الذي لوحظ في القسم الأول من القرن مع الدعوة لضرورة السيطرة على "الناس" (العمال). وفي كتابه "الانحراف والبراعة" لعام 1914، وضع تصوره للخطر الذي يلوح في الأفق على النظام الرأسمالي، وأعلن لأول مرة نداءه لـ"العِلم" ليهندس اجتماعيا وسائل تخرج النظام مما اعتبره فوضى (انظر Ewen 1996, 60-64, passim).

وفي عام 1938، عقد لوي روجيه (Louis Rougier)، فيلسوف ومؤرخ مؤتمرات جنيف، اجتماعا لتبني أطروحات لبمان. وكان من بين الحضور الستة والعشرين كل من: لبمان، وريمون آرون (Raymond Aaron)، وجاك روف (Jacques Rueff)، ومايكل بولاني (Michael Polanyi)، وهايك، وفون ميزس، وويلهلم روبكه (Wilhelm Ropke)، وذلك من أجل أن يقوموا بدور بارز في إحياء الليبرالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحسب كوكيت (Cockett) (1994, 12)، فإنّ تركيز نقاشاتهم كان موجها نحو شخص واحد كانوا يعتقدون أنه المسؤول عن الحالة المؤسفة لليبرالية-ألا وهو كينز. وحسب كوكيت أيضا، لقد كان في هذا المؤتمر تحديدا أن فكّر هيك (Hayek) في كتابة "الطريق إلى العبودية" (The Road to Serfdom) (56)، وكانت هنا أيضا البذرة الأولى لما سيصبح لاحقا "جمعية مونت بيليرين". بالإضافة إلى ذلك، كان في هذا المؤتمر أيضا أن اختيرت "النيوليبرالية" كمصطلح أنسب للبرنامج الذي سيتم إنشاؤه (Plehwe 2009, 13).

من الواضح أنّ الحرب العالمية الثانية قد عطّلت أي انتقال سلس لمستوى أعلى من التنظيم، لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ الحجج الأساسية لمناهضة الكينزية كانت موجودة في أواخر الثلاثينات. وما كانت بحاجة له هو هيكل تنظيمي، سيكون بمثابة نقطة مركزية، بحيث يمكن للبرنامج النظري أن يُنسّق، والآليات التي يمكن من خلالها نشر البرنامج على نطاق واسع، والعلاقات التي تشكلت مع "المصالح الثابتة" للذين لديهم الوسائل لنشر هذا البرنامج. كانت تلك هي جمعية مونت بيليرين، التي تأسست عام 1947.

لا يسعني في هذه الورقة أن أتفحص تاريخ النيوليبرالية فيما بعد عام 1947 (انظر:Cockett 1994; Hartwell 1995; Hoover 2003; Mirowski and Plehwe 2009). على كل حال، يجب الإشارة إلى بعض النقاط المهمة من منظور مؤسسي:

أولا، كان التشديد بين أولئك الذين شاركوا في تلك الاجتماعات المبكرة على تطوير ليبرالية "جديدة" ("new" liberalism). وقد تم الاعتراف (تقريبا) من قبل الجميع أنّ الليبرالية الكلاسيكية في شكلها الأصلي لم تعد تمتلك القوة النظرية والأيديولوجية. ومع ذك، فإنّ العناصر الجوهرية في الليبرالية الكلاسيكية- السوق، والملكية الخاصة، والفردانية- يجب الاحتفاظ بها.

 ثانيا، بينما كان هناك توافق على مبادئ محددة، فقد كانت محددات برنامج النيوليبرالية مفتوحة للنقاش. وبشكل خاص، فقد كان دور "الدولة" محل نزاع شديد. وعلى العكس من الفهم السائد حول النيوليبرالية، لم يتم، ببساطة، التصويت على الدولة كشيء مكروه جدا (بعبع) في مقابل "السوق". في الواقع، فإنّ النسخة الألمانية من النيوليبرالية، "الأوردوليبرالية" (Ordoliberalism) [أو الليبرالية الانتظامية]، تطالب بدولة قوية "لتأمين نظام اجتماعي راسخ، ويعمل بشكل جيد" لتسيير عمل "اقتصاد سوق اجتماعي" (Ptak 2009, 101). حتى التخطيط لم يكن مستبعدا، و"التخطيط الارشادي" الفرنسي يدين كثيرا للنيوليبراليين الذين شاركوا في فبركة الاقتصاد الفرنسي لما بعد الحرب العالمية الثانية (انظر Denord 2009). وبالتالي، بينما كانت الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، وسياسة عدم التدخل الحكومي بارزة في كثير من الأجندات النيوليبرالية، لكن لم يكن هذا هو الحال عند الجميع.

ثالثا، لقد أسّس الأكاديميون النيوليبراليون مؤسسات مع رجال أعمال، وصحفيين وسياسيين. في حين أننا عموما نرى الصعود النيوليبرالي مرتبطا بانتخاب مارغريت تاتشر (Margaret Thatcher) ورونالد ريغان (Ronald Reagan) كل في منصبه، لكن التنفيذ الجزئي لبرنامج النيوليبرالية بدأ مباشرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في فرنسا وألمانيا. وكمثال على ذلك، فقد عين لودفيغ إيرهارد (Ludwig Erhard)، وهو من الأعضاء المبكرين في جمعية مونت بيليرين، وزيرا للاقتصاد في مجلس الوزراء الأول الذي شكلته حكومة أديناور (Adenauer) (1949). وكان إيرهارد مسؤولا إلى حد كبير عن إدخال "السوق الاجتماعي" في ألمانيا الغربية. وهذه المؤسسات لم تقدم فقط تمويلا ماديا للأكاديميين النيوليبراليين (مؤسسة روكفيلر)، وصندوق وليام فولكر (William Volker Fund)، ومؤسسة أولين (Olin Foundation)، بل عملت أيضا كقنوات يتم من خلالها الترويج للأيديولوجيا النيوليبرالية. ومن الأمثلة البارزة على الطريقة التي تم من خلالها نشر هذه الأيديولوجية كان الترتيب الذي قامت به ريدرز دايجست (Readers Digest) بنشر واسع النطاق لكتاب "الطريق إلى العبودية" بنسخة موجزة. وقد تم هذا الترتيب من قبل هنري هازلت (Henry Hazlitt)، وهو صحفي أعمال مؤثر في صحيفة نيوزويك (Newsweek) وعضو في جمعية مونت بيليرين منذ تأسيسها.

وأخيرا، فقد أنشأ النيوليبراليون أو استطاعوا السيطرة على مختلف "مراكز البحوث". وكانت أول مؤسسة من هذا القبيل هي معهد الشؤون الاقتصادية (the Institute of Economic Affairs) الذي تأسس عام 1955. وقد تبعه بعد ذلك: مركز دراسة السياسات (Centre for Policy Studies)، ومعهد آدم سميث (Adam Smith Institute)، ومؤسسة هيريتيج (Heritage Foundation)، وغيرها. (انظر Cockett 1994). وأصبح العديد من مراكز الدراسات هذه مرتبطا في شبكة الحرية (Freedom Network) ومؤسسة أطلس للدراسات (Atlas Research Foundation). وكلاهما مؤسسات مظلة من تصميم (السير) آنتوني فيشر ((Sir) Anthony Fisher) والذي كان القوة المحركة خلف إنشاء معهد الشؤون الاقتصادية (Mudge 2008, 10-12). وتوفر هذه المؤسسات مظهرا خادعا لكن مرموقا للعقلانية الفكرية، وتشتمل على منشورات داخلية يمكن من خلالها نشر البرنامج السياسي النيوليبرالي.


خلاصة

لقد وضعت أسس البرنامج النيوليبرالي في القرن التاسع عشر مع نمو النزعات "الجماعية" في النشاطات الاقتصادية، مثل: صعود الشركات الكبرى، وتنامي التدخل الحكومي في الاقتصاد، والأهم، تطور الحركة العمالية، و"التهديد" المصاحب للاشتراكية. وبينما ولد الرد النيوليبرالي قبل عمل جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes)، لقد كان الإطار النظري لعمل كينز، بهدف خلاص الرأسمالية من خلال تدخل حكومي نشط، هو الذي عجّل في برنامج النيوليبرالية المنظم، وكان الهدف هو الحفاظ على نظام اجتماعي رأسمالي لمصالح الملاك الكبار (عموما). وقد حقق هذا البرنامج نجاحا ضخما بهذا الخصوص، بالرغم أنّ العديد من التوصيات المحددة- مثل الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، الخ- أثبتت كارثيتها. ومع ذلك، وفي حال انتعاش الاقتصاد، على الأقل بمقياس كبير، فستبقى النيوليبرالية على الأجندة السياسية. وبالنظر إلى القوة التنظيمية للنيوليبراليين، وصلتهم بمصادر التمويل الأساسية، ومع الوسط الأكاديمي، ومع الجهات الحكومية، والتزامهم ببرنامجهم، إلا أنني أشك بشدة أنّ النيوليبرالية ستصمد في وجه العاصفة الحالية.

المراجع

 

Cockett, Richard. Thinking the Unthinkable: Think-Tanks and the Economic Counter-Revolution, 1931-1983. London: HarperCollins Publishers, 1994.

 Denord, Francois. "French Neoliberalism and Its Divisions: From the Colloque Walter Lippmann to the Fifth Republic." In The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective, edited by Philip Mirowski and Dieter Plehwe, pp. 45-67. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

Ewen, Stuart. PR! A Social History of Spin. New York: Basic Books, 1996.

Gray, John. Liberalism. Milton Keynes, England: Open University Press, 1986.

 Hartwell, Ronald. A History of the Mont Pelerin Society. Indianapolis: Liberty Fund, 1995.

Hoover, Kenneth. Economics as Ideology: Keynes, Laski, Hayek, and the Creation of Contemporary Politics. New York: Rowman & Littlefield, 2003.

Howard, Michael and John King. The Rise of Neoliberalism in Advanced Capitalist Economies: A Materialist Analysis. New York: Palgrave Macmillan, 2008.

Howson, Susan. "Keynes and the LSE Economists." Journal of the History of Economic Thought 31, 3 (2009): 257-280.

Keynes, John Maynard. "The End of Laissez-Faire." In The Collected Writings of John Maynard Keynes, volume 9, edited by Donald Moggridge, pp. 272-94. London: Macmillan and Saint Martin's Press, 11926] 1972.

Lippmann, Walter. An Inquiry into the Principles of The Good Society. Boston: Little, Brown and Company, 1937.

Mill, John Stuart. Chapters on Socialism, [1869] 1879. Available at http://www.laits.utexas.edu/poltheory/ jsmill/cos/cos.cOl.html. Accessed February 16, 2010.

Mirowski, Philip and Dieter Plehwe. The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

Mudge, Stephanie. "What is Neo-Liberalism?" Socio-Economic Review 6, 4 (2008): 703-71.

Plehwe, Dieter. "Introduction." In The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective, edited by Philip Mirowski and Dieter Plehwe, pp. 1-42. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

Ptak, Ralf. "Neoliberalism in German: Revisiting the Ordoliberal Foundations of the Social Market Economy." In The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective, edited by Philip Mirowski and Dieter Plehwe, pp. 98-138. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

von Mises, Ludwig. Socialism: An Economic and Sociological Analysis, 2nd edition. Translated by ]. Kahane. New York: The Macmillan Co., [1922] 1932.



[i] Henry, John F. "The Historic Roots of the Neoliberal Program." Journal of Economic Issues 44, no. 2 (2010): 543-550.

[ii] بروفيسور اقتصاد امريكي، درّس في العديد من الجامعات الأمريكية وله العديد من المؤلفات، حاليا من كبار الباحثين في معهد ليفي للاقتصاد-كلية بارد.