وُلدتْ الشاعرة الأميركية ماري أوليفر Mary Oliver في ولاية أوهايو سنة 1935 ونشرتْ أول ديوان شعري لها سنة 1963حين كانت في الثامنة والعشرين من عمرها. وفي سياق حياتها الشعرية حصلتْ على أرفع الجوائز الشعرية في أميركا، فقد فاز ديوانها الرابع ”بدائي أميركي“ بجائزة بوليتزر للشعر في 1984. وحصلت أيضاً على جائزة الكتاب الوطنية، وعلى جائزة الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب، كما حصلت على جائزة لانان للإنجاز الأدبي للشاعر في فترة حياته، وغيرها من الجوائز المرموقة.
حظيت أوليفر بشهرة واسعة في الولايات المتحدة الأميركية وحققت دواوينها أفضل المبيعات وقد أحبّ قراء الشعر اهتمام ماري أوليفر بالعالم المادي والروابط القوية بين كل الأشياء الحية.
لُقبت ماري أوليفر ب“الشاعرة المتصوفة“ لكن تصوفها لم يكن دينياً، وفي محاولتها لاكتشاف نفسها متجلية في أشكال الوجود الطبيعي، ذهبت إلى أعمق، وأضاءت جانباً مظلماً يظل متربصاً بك، لكنك في النهاية تقف عند هذا الحد الفاصل، في هذه النقطة كي تعلن احتفاءك بالوجود وبكونك حياً وبالمتع التي مُنحت لك، وبحياتك كهدية ثمينة يجب أن تقدرها لأنه كان من المحتمل ألا تولد. ورغم أن عالم الطبيعة يحتوي على الصياد والطريدة، وعلى الوحش والفريسة، فإن هناك فسحة للجمالي، وللاحتفاء بالحياة وتحققها، ولا يهمّ إن كانت عابرة، لأنها ستستمر في أشكال أخرى، وستتواصل دورة الطبيعة. وتمجّد ماري أوليفر في شعرها النبض والقبلة والابتسامة والعناق وتفتح الوردة وأشكال الغيوم التي تمتع الناظر وكل ما هو مرئي وجميل ومشحون بما هو أبعد منه، وفي النهاية، تنظر إلى الإنسان كعضو في عائلة أشياء العالم.
كانت ماري أوليفر من الشعراء الذين يربطون بين تأليف الشعر والمشي، فالمشي في عوالم الطبيعة، داخل الغابات وعلى شواطئ البحار، وقدرتك على السير خلف الأشياء واقتفاء آثارها، وتأمل الطبيعة، مدخل لكتابة القصيدة. وقد تمكنت ماري أوليفر من بناء لغة شعرية توحي للوهلة الأولى بالبساطة لكنها تقودنا كقراء إلى اكتشاف ما هو مجهول في الواقع وهذه إحدى وظائف الشعر الجوهرية. وهكذا تصبح المرئيات مصدر الوحي حيال الأشياء العليا الماورائية والمطلقة.
ويجب ألا يفوتنا أن نذكر أن ماري أوليفر كانت قارئة مدمنة لشعر جلال الدين الرومي، وقد صرحت مرة إن كتبه لا تغادر يديها.
توفيت ماري أوليفر عن عمر ناهز 83 عاماً في كانون الثاني\يناير 2019 في ولاية فلوريدا، وبهذا خسر الشعر الأميركي أحد أهم وأعمق أصواته الحديثة.
من كتب ماري أوليفر:
١-منزل الضوء
٢-لماذا أستيقظ باكراً
٣-ظمأ
٤-دليل
٥-خيول زقاء
٦-الورقة والسحابة
كما ألفت كتباً نثرية منها:
١- مراعي زرقاء
٢- قواعد للرقصة
٣- ساعات الشتاء
حين يأتي الموت
حين يأتي الموت
كالدبّ الجائع في الشتاء
حين يجيءُ الموت ويُخْرج
جميع القطع النقدية اللامعة من محفظته
كي يشتريني، ثم يُغلقها مصدراً طقطقة.
حين يأتي الموت
مثل الجدري
حين يأتي الموت
كجبل جليدٍ بين لوحيْ الكتفين
أريد أن أدخل من الباب مليئةً بالفضول، وأتساءل:
كيف سيكون، كوخُ الظلمة ذاك؟
بالتالي سأنظر إلى كل شيء
كأخوة وأخوات
وإلى الزمن
على أنه ليس أكثر من فكرة
وسأعتبر الأبدية احتمالاً آخر
وسأفكر بكل حياة كزهرة، شائعة
كأقحوانة الحقل، ومفردة
وسأفكر بجميع الأسماء كموسيقا مريحة في الفم
تميل، كما تفعل كل موسيقا، إلى الصمت
وبأن كل جسد أسدُ شجاعةٍ، وشيء
ثمين للأرض.
وحين ينتهي الأمر أريد أن أقول: طوال حياتي
كنت عروساً متزوجة من الدهشة
كنت العريس الذي يعانق العالم بذراعيه.
حين ينتهي الأمر، لا أريد أن أتساءل
إذا كنتُ قد جعلتُ من حياتي شيئاً خاصاً، وحقيقياً.
لا أريد أن أجد نفسي متنهدة وخائفة،
أو مليئة بالشك.
لا أريد أن أنتهي
بكوني زرتُ العالم فحسب.
الإوز البريّ
لستَ مضطراً إلى أن تكونَ جيداً
لست مجبراً على الزحف على ركبتيكَ
مائة ميل إلى الصحراء كي تتوب
كل ما عليك فعله هو أن تجعلَ الحيوان الناعم لجسمكَ
يحبُّ ما يحبّه.
أخْبرني عن اليأس، الذي تشعر به،
وسأخبركَ عن يأسي.
في غضون ذلك يستمر العالم
تنطلقُ الشمس وحصى المطر اللامعة
عبر المشاهد الطبيعية،
فوق المروج والأشجار العميقة،
فوق الجبال والأنهار.
في هذه الأثناء، يحلق الإوز البري،
عالياً في الجو الأزرق الصافي،
في طريقه إلى الوطن ثانية.
أيّاً كنت، ومهما كنْت وحيداً
فإن العالم يقدّم نفسه لخيالك،
يدعوك كالإوزّ البري،
بصوتٍ أجشّ وبهياجٍ
معلناً مرة بعد أخرى مكانكَ
في عائلة الأشياء.
مخزن
حين انتقلتُ من منزلٍ إلى آخر
كان لدي أغراض كثيرة لم أمتلك موضعاً لها.
ما الذي يفعله المرء في هذه الحالة؟
استأجرتُ مستودعاً وملأتهُ. ومرّتْ الأعوام.
كنت أذهبُ أحياناً إلى هناك كي ألقي نظرة،
لكن لم يحدث أي شيء،
ولم يهْفُ قلبي مرة واحدة.
وبعد تقدمي في السن قلّت الأشياء
التي أحرص عليها،
لكنها صارتْ أكثر أهميةً.
وهكذا في أحد الأيام أزلتُ القفل
واتصلتُ بعامل التنظيفات
فأتى ونقلَ كلَّ شيء.
شعرتُ كأنني مثل حمارٍ صغير
أُنزلت حمولته في النهاية.
الأشياء!
أحرقوها، أحرقوها!
أشعلوا ناراً جميلة.
أفسحوا في قلوبكم
مجالاً أكبر للحب،
للأشجار!
إن ما يجعل الطيور تطير
هو أنها لا تملك شيئاً.
طيورُ البجع الصافرة
هل تحني رأسكَ حين تُصلّي
أم تنظر عالياً إلى السماء الزرقاء؟
قمْ بخياركَ، فالصلواتُ تطير من جميع الجهات،
ولا تقلقْ أية لغة ستستخدم
ذلك أن الله يفهم اللغات كلها.
وحتى حين تحلّق طيور البجع نحو الشمال وتُصدر
الضجيج المزعج أكيد أن الله يُصغي ويفهم.
قال الرومي: لا يوجد دليل على وجود الروح.
لكن أليست عودة الربيع،
وكيف ينبع في قلوبنا، إشارة جيدة؟
نعم، أعرف أن لا شيء يزعج صمت الله،
لكن هل حقاً هذه هي المشكلة؟
هناك آلاف الأصوات في النهاية.
ثم ألا تظنون (أقترح الأمر فحسب)
أن طيور البجع تعرف عن الموضوع بقدر ما نعرف عنه؟
وهكذا أصْغوا إليها وراقبوها،
وهي تنشدُ وتطير.
خذوا منها ما تقدرون عليه.
ذلك الوحش الصغير
ذلك الوحشُ الصغيرُ والجميل، القصيدةُ
تمتلكُ ذهناً خاصاً بها.
أحياناً أريدها أن تشتهي التفّاح
فتشتهي اللحم الأحمر.
وأريد أحياناً أن أسير بهدوء
على الشاطئ
فتريد أن تتعرى من كل ثيابها
وتغطس.
أحياناً أريد أن أستخدم كلمات صغيرة
وأجعلها مهمة
فتبدأ بالصياح على القاموس،
والفرص.
أحياناً أريد أن ألخّص وأقدم الشكر
وأرتب الأمور
فتبدأ بالرقص في الغرفة
على أربع أرجل فرائية، ضاحكة
وتنعتني بأنني شنيعة.
لكن أحياناً، حين أكون مستغرقةً في التفكير بكَ
وتعلو وجهي ابتسامة صادقة،
تجلس بهدوء، واضعةً برثناً تحت ذقنها،
وتُصغي فحسب.
البِرْكة
أتى آبُ صيفٍ آخر، ومرة ثانيةً
أتشرّب الشمس
ومن جديد تنتشر الزنابق في أنحاء المياه،
أعرف الآن أنّ ما تشتهيه هو أن تلمس بعضها.
كنتُ غائبة لسنوات كثيرة
وفي ذلك الوقت واصلتُ عيش حياتي.
ومثل طائر البلشون الليلي،
الذي يستطيع أن ينعب فحسب،
ويتمنى لو أنه يستطيع أن يغني
تمنيت لو أنني قادرةٌ على الغناء.
إن تسبيحاً خفيفاً من جميع الحناجر سيكون مناسباً.
وهذا ما حدث:
كنت طوال حياتي قادرة على الشعور بالسعادة،
التي أتذكرها أيضاً.
إن كلَّ واحدٍ منا يمتلك ظلمة في داخله.
لكن الآن جاء الصيف ثانية
وها أنذا أراقب الزنابق تنحني لبعضها
أراقب ميلانها في الريح وشدة توقها،
قربها والتصاقها ببعضها.
وبعد قليل سأستدير وأعود إلى البيت.
ومن يدري،
ربما سأغني وأنا في طريقي.
أستيقظُ مع طلوع الفجر
لماذا يواصلُ البشرُ الإلحاحَ على
مشاهدة بطاقةِ هوية الله
حين يكون انبلاج الفجر في الظلام
أكثر من كاف؟
إنَّ أيَّ إلهٍ يمكن أن يستديرَ مبتعداً
مشمئزّاً من هذا.
فَكّروا بملكة سبأ وهي تقترب
من مملكة سليمان.
أتظنّون أنه كان عليها أن تسأل:
”هل هذا هو المكان؟"
العالمُ الذي أعيش فيه
رفضتُ أن أعيشَ
مسجونةً في المنزل المُنَظَّم
للأسباب والبراهين.
إن العالم الذي أعيش فيه أكثر رحابةً.
وبأية حال، ما المشكلة مع ربما؟
لن تصدّقوا ما رأيته مرةً
أو مرتين. سأقول لكم هذا فحسب:
إذا كان هناك ملاكٌ في رؤوسكم
من المحتمل حينئذ فحسب أن تشاهدوا واحداً.
أعرف شخصاً
أعرفُ شخصاً يُقبِّل بالطريقة التي
تتفتّح بها زهرة، لكن بسرعةٍ أكبر.
إن الأزهار جميلة، وتعيشُ حياةً
قصيرةً وشديدة البهجة.
وتقدّمُ متعةً كبيرة.
ما من شيءٍ في العالم
يمكن أن يُقال ضدها.
أليس من المحزن، إذاً
أن كلّ ما تستطيع الأزهار تقبيله
هو الهواء.
نعم، نعم
نحن الأشخاص المحظوظين.
الهدية
كوني هادئةً يا روحي، وصامدةً.
فما تزال الأرض والسماء تراقبان
رغم أن الوقت يجفُّ من الساعة
ومشيتكِ، التي كانت واثقةً وسريعةً
صارت بطيئة.
كوني بطيئةً إذا شئت، لكن اتركي
القلب يواصلُ لعبَ دوره الحقيقي.
واعشقي كما كنتِ تعشقين مرةً، بعمقٍ
ودون صبرٍ.
واجعلي الله والعالم يعرفان
أنك ممتنةٌ
وأنك قد تلقيتِ الهدية.
قصة حياة
حين عشتُ تحتَ أشجار البلوط السوداء
شعرتُ أنني مصنوعةٌ من الأوراق.
وحين عشتُ قربَ بركة ليتل سيستر
حلمتُ أنني ريشةُ طائر بلشونٍ أزرق
مرمية على الشاطئ.
كنتُ زنبقة البِركة،
وكان جذري حسّاساً كالشريان
وجهي كنجمة
وسعادتي طافحة.
فيما بعد صرتُ الخطى التي تتبع البحر.
عرفتُ المدَّ، وحُطامَ السفن.
عرفتُ بطّ العيْدر، والعقابَ البحريَّ ذا العنق الحمراء
بمنقاره المرتفع وعينه الذكية.
شعرتُ أنني قمّة الموجة
لؤلؤة الماء على ظهر بطة العيْدر اللامع.
كلا، ما من مهربٍ، ولا أرغبُ بالهرب
من هذه النزهة، من تحرّر القدمين هذا، من هذا الحلّ
للجاذبية والشكل الواحد.
الآن أنا هنا،
وفيما بعد سأكون هناك.
سأكون تلك السحابة الصغيرة التي تُحدّق
إلى المياه في الأسفل
وتلك التي تتريث،
وتلك التي ترفع ساقيها البيضاوين،
وتلك التي تبدو كالحمل.
مدينة فاراناسي
باكراً في الصباح عبرْنا الممرّ الجبليّ
حيث ما تزال تخمد النيران
وحدّقنا، بأذهاننا الغربية، إلى نهر الغانج
فرأينا امرأةً تقف وسط النهر حتى خصرها
ترفع حفنات ماءٍ وترشّها فوق جسمها ببطء، مرات كثيرة
إلى أن بدا كأنه جاءت لحظة
من التناغم الداخلي بين حياتها وحياة النهر.
ثم غمستْ إناء أحضرتْهُ معها
وحملتْهُ ممتلئاً عائدة عبْر الممر الجبلي،
كي تبارك، دون شك، ضريحاً ما في المنطقة التي تعيش فيها.
كانت هذه مدينة شيفا المقدسة، صانع
العالم، وكان هذا نهره.
لا أستطيع أن أضيف أكثر،
باستثناء أن كل شيء قد حدث
في صمتٍ وبساطة مطمئنة،
وأنه شيء ما يجعلك تشعر
بأنه نعيمُ يقينٍ وحياة تُعاش
وفْقاً لذلك اليقين.
اعتقدت أنني يجب أن أتذكر هذا
ونحن في الطائرة عائدين إلى أميركا.
وصلّيت لله كي أتذكره.
المصدر
Mary Oliver: Devolutions
The Selected Poems of Mary Oliver
Penguin Press 2017