على امتداد السنوات الخمس المنطوية هباء من عمر البلد، كنت قد بدأت بالاحتجاج، وهي قصيرة وقريبة، قياساً، بمن سبقوني في صرختهم ضد الظلم وسعيهم الذي تواصله الأجيال من بعدهم، وهو حلم "الدولة العراقية" بما للعبارة من معنى. أسوق هذه الأسطر للتذكير بمساحةٍ، تقع، في حافة الهامش، وهي الفضاء المتاح لمن رفضوا وما زالوا، ضد السلطات الحاكمة والمتفردة بالمغانم والمكاسب، وترك البلاد بما فيها وعليها تسرح نحو الهاوية.
منذ فتوى عبد المحسن الحكيم وإلى اليوم، ما زالت أية حركة ترفض السلطة ومنهجيتها، تتهم وتختزل بعبارات جاهزة ومعلبة، يتداولها الشعب ويلوكها، من دون فرز وتعريض للكشف أو الوقوف على الحركات الرافضة وتبيان فيما إذا كانت صائبة أو لا، وذلك-وبعد تجرع المرارة والألم-أصبح من البديهيات، إنما، تكمن أشد القسوة، أن تتهم مِمَّن تريد لهم حياة كريمة تليق بكرامته وكينونته، فالّذي بلغ عن تشي غيفارا، كان يقول: كانت حروبه تُروِّع أغنامي! والحال نفسه في الواقع العراقي، إذ يستشيط غضباً من قطع الشارع أو إيقاف المؤسسات، إنما، هو راض عن تلك المؤسسات التي تهينه كل يوم، بدءاً من الماء والتيار الكهربائي والتعليم والصحة وكافة الخدمات، فهو يقف حجر عثرة في حياته وحياة غيره، فهل يا ترى يوجد فرد عراقي، لم يُهَن ولم تسحل كرامته ولم يغتصب بكل الأشكال الجسدية والمعنوية وكافة المعاملات التي أصبحت بديهية أيضاً وبمرارة أشد؟
مع انطلاقة تشرين الناصعة والبيضاء، كان بخلد كل من آمن بتشرين، أنه سيكون: أغلب الشعب ضده، والعصابات والمليشيات والسلطات كافة، الاجتماعية والقبلية والدينية والحكومية، وأقلام السلطة المستأجرة، بل حتى جهات خارجية تقف قنبلة بطريقه، أو بالمجمل، سيكون جثة من أجل بلاده، ويدرك تماماً، أن جثته لن تلقى الاحترام الذي يليق بجثة، ويا للأسى، أن قبور تشرين المتوهجة بالحرية، لم تسلم من التخريب! وما كان أشد إجراماً ما حصل بتشرين، أن مخيماتها، تبتاع من قبل السلطة، فبالوقت الذي تتهشم فيه الرؤوس وتتناثر أشلاءً، كان أصدقاء الرؤوس يجالسون القتلة والمجرمين والسفلة، غير مكترثين بما يحصل في الساحات، والأدلة التي بحوزتنا، أن بعض المخيمات-ولكم وددت أن أسميها باسمائها-كانت تلتقي مع الأحزاب، منذ يوم 27/10 أي قبل سقوط صفاء السراي، والإشارة للحالمين.
وبطبيعتي، لا أطمئن ولا أستأمن، شباب المدن الكبرى، ولم يخب حدسي فيهم، هؤلاء الذين امتهنوا بلادهم وأهلهم وشعبهم واصدقائهم وشرفهم وضمائرهم.
إرتقى مصطلح "تشريني" ليمثل الروح العراقية بالمعنى الواضح والصريح، ولن نغالي إذا قلنا، أن تشرين ومن آمن بها-وليس من خذلها-هما روح العراق الجديدة، وما تمظهر في تشرين، وقف من يؤمن بها، ضد أهل بيته، ومن ثم شارعه ومنطقته ومدينته وأغلب شعبه، والدول الجوار وأبعد من ذلك أيضاً، وقف التشريني، ضد مشروع الحشد الذي احتل العراق بمرحلة الحرب والتحرير وما بعدها، ليكون النسخة الثانية للحرس الثوري الإيراني، وضد عصابات ولاية الفقيه، وقناص السلطة، والشعب النائم الجائع لتخوين المحتجين وشيطنتهم..إلخ لتكون المحصلة المريرة، أن خيم تشرين، كانت ضد مشروع تشرين-الدولة العراقية، فبأي وسيلة أو أداة أستطيع أن أعري أو أخوّن من كنت أقف معهم؟ إذ يستطيع المعني، أن يهرب ويبرئ نفسه، ذلك أن من يعري خيم الساحات، يريد تسقيطها وهو مستفيد بلا شك، وتلك سمحت للكثير، بالبقاء ممثلين لتشرين وناكحين لها بالوقت نفسه.
"لا فولتير لتشرين العراقية"
ليس بخلدي ولا غاية أو مطمح لي، أن أستعير ذكر فولتير، بغية، تزويق أو تجميل "تشرين" نجمة الثورات العراقية على امتداد تاريخه القديم والحديث والمعاصر، إنما، لا يستنكف-فولتير-من الوقوف مع المحتجين في ساحة الحبوبي.
ومن البديهيات، أن اسمه أصبح رمزاً لرفض الظلم، فبداخل كل محتج تشريني حقيقي، ستجد روح فولتير، حاضرة.
إنما، خلت حركة الاحتجاجات العراقية ببدايتها، حتى تشرين، لم تتوافر روح فولتير القيادية بشخصية، سياسية كانت أم اجتماعية أو ثقافية، وذلك نتيجة السلطة العاهرة، فسياستها، مع الأصوات المزعزعة لنفوذها، إما ان تبتاع تلكم الأصوات، أو تُختطف، تُهدد بحياتها وعملها وعائلتها، أو العمل على تلفيق سمعة سيئة، تلصق جزافاً، بالأصوات العالية، وما أجوَع المجتمع العراقي بتلقف ولوك وتداول، التهم والتلفيقات المشينة لأي شخصية كانت، ليس إلا، أن النميمة والفضيحة، وجبتان دسمتان في مائدة الحديث الاجتماعي العراقي، بل الأكثر من ذلك-وذلك ما لم يحدث في سائر البلدان كافة، وهو خلو المشهد السياسي العراقي من عمل ودور ووجود المعارضة، داخل صرح البرلمان أو خارجه، إذ لا وجود لمساحة تمثل العمل السياسي المهني والمنضبط، وأنت محاط بالقتلة والسراق، ولا توجد مؤسسة واحدة، تدافع وتطالب بحقوق القتلى والضحايا والجرحى، وسواء اتفقنا مع عمل ومهنة هشام الهاشمي أو اختلفنا، إذ أن شخصية مثله، بمكانة كبرى ومهمة ومفصلية، فما هو حجم توحش مليشيات الإسلام السياسي، وهي تقتل مستشار رئيس وزراء البلاد وأيضا رئيس جمهوريتها، بكل صلافة وعنجهية، بل وعلنية، وإذا فعلوا ذلك بكل بساطة، وغاب عنهم القضاء والقانون والسلطة الرادعة لمثل تلكم العمليات والمجتمع، فما هي صورة المحتج العاري بعقلية العصابات والمليشيات؟
يتفق أغلب الشعب العراقي، المنخرطون بالتكتلات والانتماءات بكافة مسمياتها أو المستقلون، على أن خراب الحياة العراقية وانهيارها، ومعيشتهم المُهانة، سببها، الأحزاب! وذلك الحديث يدور في البيت والشارع والمقهى والنقاشات كافة! ولا يتفقون على تغيير ذلك الواقع المشين، فنحن عباقرة في سرد الخيبات والمظالم والجور الواقع على كاهلنا، إذ يبقى في جيفته، يريد من القدر والسماء أن تغير واقعه، وما يريده العراقي الخدران والمخدر، من حركة تشرين أن تغير من معيشته بلحظة خاطفة، وأن يطلي المدن بالذهب، ويداوي الخراب الإنساني، وهو نفسه يقف صخرة في ذلك الطريق الوعر، وفولتير نفسه، عاش طيلة عمره ولم يرَ ما حارب من أجله، إنما، أفنى سنين عمره ولم يجابه أكثر مما وقف ضد صوت تشرين. وذلك، ما سنختتم به نقاشنا.
ولد فولتير في نهايات القرن السابع عشر من عائلة كاثوليكية، والذي ثار ضدها ورفضها رفضاً قاطعاً، مهدداً، حياته بذلك. وقد تعلم وأتقن أكثر من لغة، في مسيرته الدراسية، وهو تقريباً، من الفلاسفة المعمرين، إذ عاش من الزمن ما يناهز أربعا وثمانين سنة، قضاها فولتير، هارباً، من قبضة السلطة السياسية الفرنسية، المتمثلة بالكاثوليك، متنقلاً، بين البلدان البروتستانتية
"إنكلترا، بروسيا، وجنيف" وما يتوفر فيها من مساحة آمنة وهامشية لا بأس بها، لقول وتدوين ما يريد تعريته، فيما يخص الكنيسة بحكمها الكاثوليكي، التي خيمت بوحشيتها وبظلاميتها على رئة أمم أوربا، وهو وغيره، من سبقه ولحقه من فلاسفة عصر التنوير، أمثال جان جاك روسو ورينيه ديكارت وآخرين غيرهم عاشوا أغلب حياتهم مطاردين وملاحقين، بل أنهم كتبوا متونهم خارج أسوار فرنسا، ومن ثم إدخالها سراً لباريس، وحتى وصل بهم الأمر إلى أن يجترحوا أسماءً مزيفة، للتخلص من الملاحقة، ومن ثم تأمين الكتاب من الحرق أو المصادرة ومنعه من التداول، ليصل إلى الشعب الفرنسي عامة. لم يجد فولتير، المساحة والأمان الكافيين، حين يهرب بجلده نحو المماليك البروتستانت، إنما، كان أيضاً، محاصراً بالإغراء والعروض للاستفادة من عبقريته والعمل مع السلطات التي كان يأتمن على حياته بظلها، فهم، بعكس حكومة بلاده، يقدرونه أيما تقدير لعلمه وأسلوبه المؤثر وكتابته النافذة في صلب المشكلات الراهنة آنذاك. ولم تحلو بعينه ولا بجسده، الراحة والأمان، المتوافران هنا وهناك بظل البروتستانت، إذ كان يمني نفسه، بالعودة للديار الباريسية، بعدما حرم منها، ما يقارب ثلاثين عاماً. أسوق تلك الحكاية الغابرة والبعيدة، وأقربها من الراهن العراقي، أن فولتير، لم يُحارب شعبه، ولم يُحاربه الشعب، بل حارب من أجل الشعب المسحوق والمهان، إذ أن باريس بعد قدومه والسماح له بدخولها، هبّت جميع أطيافها وطبقاتها، لنيل رؤية ذلك الفرد العظيم، وما هو بديهي، أن الشعوب تشبه-بطريقة أو بأخرى-وجه السلطة التي تحكمها، فلو أن الشعب المسيحي آنذاك في فرنسا، لم يغير من نفسه، فلن تجد باريس مثل ما هي عليه في الزمن الراهن. لم تكن آنذاك نفوذ لجهات خارجية في فرنسا، مثل ما هو الراهن العراقي وحتى العربي بشكل عام، ولم يقف الشعب متخاذلاً مع الظلاميين ضد التنويرين، بل ذاق أشد المرارة من الأصوليين وعنجهيتهم. إنما في المشهد العراقي الراهن، نجد ومن دون مبالغة، أن حركة تشرين، واقع على كاهلها، آثار وتبعات ونتائج الدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم، ولو افترشنا وتأملنا، ذلك، سنجد: أن الملكية، ومن ثم الجمهورية ومن بعدها الشيوعية، والبعثية والدعوجية، لم تكن إلا سكين تغرز جيداً في روح العراق وأمته ومقدراتها، وأكثر من ذلك، أن التشريني العاري من كل أمان، إلا من ملابسه، يحارب الجهات الخارجية والداخلية، ويجابه العصابات والمليشيات، والشعب والأهالي، السلطات كلها، ومن ثم جاءت الرصاصة الأخيرة لتشرين من صميم تشرين. تبقى مسألة في غاية الأهمية: أن الأصوات الحرة، غير الملوثة والمستأجرة، تقاسي أشد الحروب، وهي ترى أن الدماء الطاهرة، صارت عملة لاستثمار كراسي السلطة، وأيضاً، لا تستطيع أن تعري خونة تشرين، فالحقيقة هنا، تحسب في خانة تسقيط شباب الثورة، ولكم وددت أن أطلق ضحكتي هنا. ما بقي من تشرين، محكوم عليه بالمرارة المزمنة، فلا الصوت يلقى أذناً تستمع، ولا السكوت يعزي العناء، فحياتنا مرهونة ومختطفة، ولا نعرف فيما إذا سنقتل الآن، غداً، أو في أية لحظة!