تشرين العراقية: ما لها وما عليها

 تشرين العراقية: ما لها وما عليها

تشرين العراقية: ما لها وما عليها

By : Mohamad Hathoor محمد حاذور

على امتداد السنوات الخمس المنطوية هباء من عمر البلد، كنت قد بدأت بالاحتجاج، وهي قصيرة وقريبة، قياساً، بمن سبقوني في صرختهم ضد الظلم وسعيهم الذي تواصله الأجيال من بعدهم، وهو حلم "الدولة العراقية" بما للعبارة من معنى. أسوق هذه الأسطر للتذكير بمساحةٍ، تقع، في حافة الهامش، وهي الفضاء المتاح لمن رفضوا وما زالوا، ضد السلطات الحاكمة والمتفردة بالمغانم والمكاسب، وترك البلاد بما فيها وعليها تسرح نحو الهاوية.

منذ فتوى عبد المحسن الحكيم وإلى اليوم، ما زالت أية حركة ترفض السلطة ومنهجيتها، تتهم وتختزل بعبارات جاهزة ومعلبة، يتداولها الشعب ويلوكها، من دون فرز وتعريض للكشف أو الوقوف على الحركات الرافضة وتبيان فيما إذا كانت صائبة أو لا، وذلك-وبعد تجرع المرارة والألم-أصبح من البديهيات، إنما، تكمن أشد القسوة، أن تتهم مِمَّن تريد لهم حياة كريمة تليق بكرامته وكينونته، فالّذي بلغ عن تشي غيفارا، كان يقول: كانت حروبه تُروِّع أغنامي! والحال نفسه في الواقع العراقي، إذ يستشيط غضباً من قطع الشارع أو إيقاف المؤسسات، إنما، هو راض عن تلك المؤسسات التي تهينه كل يوم، بدءاً من الماء والتيار الكهربائي والتعليم والصحة وكافة الخدمات، فهو يقف حجر عثرة في حياته وحياة غيره، فهل يا ترى يوجد فرد عراقي، لم يُهَن ولم تسحل كرامته ولم يغتصب بكل الأشكال الجسدية والمعنوية وكافة المعاملات التي أصبحت بديهية أيضاً وبمرارة أشد؟

مع انطلاقة تشرين الناصعة والبيضاء، كان بخلد كل من آمن بتشرين، أنه سيكون: أغلب الشعب ضده، والعصابات والمليشيات والسلطات كافة، الاجتماعية والقبلية والدينية والحكومية، وأقلام السلطة المستأجرة، بل حتى جهات خارجية تقف قنبلة بطريقه، أو بالمجمل، سيكون جثة من أجل بلاده، ويدرك تماماً، أن جثته لن تلقى الاحترام الذي يليق بجثة، ويا للأسى، أن قبور تشرين المتوهجة بالحرية، لم تسلم من التخريب! وما كان أشد إجراماً ما حصل بتشرين، أن مخيماتها، تبتاع من قبل السلطة، فبالوقت الذي تتهشم فيه الرؤوس وتتناثر أشلاءً، كان أصدقاء الرؤوس يجالسون القتلة والمجرمين والسفلة، غير مكترثين بما يحصل في الساحات، والأدلة التي بحوزتنا، أن بعض المخيمات-ولكم وددت أن أسميها باسمائها-كانت تلتقي مع الأحزاب، منذ يوم 27/10 أي قبل سقوط صفاء السراي، والإشارة للحالمين.

وبطبيعتي، لا أطمئن ولا أستأمن، شباب المدن الكبرى، ولم يخب حدسي فيهم، هؤلاء الذين امتهنوا بلادهم وأهلهم وشعبهم واصدقائهم وشرفهم وضمائرهم.

إرتقى مصطلح "تشريني" ليمثل الروح العراقية بالمعنى الواضح والصريح، ولن نغالي إذا قلنا، أن تشرين ومن آمن بها-وليس من خذلها-هما روح العراق الجديدة، وما تمظهر في تشرين، وقف من يؤمن بها، ضد أهل بيته، ومن ثم شارعه ومنطقته ومدينته وأغلب شعبه، والدول الجوار وأبعد من ذلك أيضاً، وقف التشريني، ضد مشروع الحشد الذي احتل العراق بمرحلة الحرب والتحرير وما بعدها، ليكون النسخة الثانية للحرس الثوري الإيراني، وضد عصابات ولاية الفقيه، وقناص السلطة، والشعب النائم الجائع لتخوين المحتجين وشيطنتهم..إلخ لتكون المحصلة المريرة، أن خيم تشرين، كانت ضد مشروع تشرين-الدولة العراقية، فبأي وسيلة أو أداة أستطيع أن أعري أو أخوّن من كنت أقف معهم؟ إذ يستطيع المعني، أن يهرب ويبرئ نفسه، ذلك أن من يعري خيم الساحات، يريد تسقيطها وهو مستفيد بلا شك، وتلك سمحت للكثير، بالبقاء ممثلين لتشرين وناكحين لها بالوقت نفسه.

"لا فولتير لتشرين العراقية"

ليس بخلدي ولا غاية أو مطمح لي، أن أستعير ذكر فولتير، بغية، تزويق أو تجميل "تشرين" نجمة الثورات العراقية على امتداد تاريخه القديم والحديث والمعاصر، إنما، لا يستنكف-فولتير-من الوقوف مع المحتجين في ساحة الحبوبي.

ومن البديهيات، أن اسمه أصبح رمزاً لرفض الظلم، فبداخل كل محتج تشريني حقيقي، ستجد روح فولتير، حاضرة.

إنما، خلت حركة الاحتجاجات العراقية ببدايتها، حتى تشرين، لم تتوافر روح فولتير القيادية بشخصية، سياسية كانت أم اجتماعية أو ثقافية، وذلك نتيجة السلطة العاهرة، فسياستها، مع الأصوات المزعزعة لنفوذها، إما ان تبتاع تلكم الأصوات، أو تُختطف، تُهدد بحياتها وعملها وعائلتها، أو العمل على تلفيق سمعة سيئة، تلصق جزافاً، بالأصوات العالية، وما أجوَع المجتمع العراقي بتلقف ولوك وتداول، التهم والتلفيقات المشينة لأي شخصية كانت، ليس إلا، أن النميمة والفضيحة، وجبتان دسمتان في مائدة الحديث الاجتماعي العراقي، بل الأكثر من ذلك-وذلك ما لم يحدث في سائر البلدان كافة، وهو خلو المشهد السياسي العراقي من عمل ودور ووجود المعارضة، داخل صرح البرلمان أو خارجه، إذ لا وجود لمساحة تمثل العمل السياسي المهني والمنضبط، وأنت محاط بالقتلة والسراق، ولا توجد مؤسسة واحدة، تدافع وتطالب بحقوق القتلى والضحايا والجرحى، وسواء اتفقنا مع عمل ومهنة هشام الهاشمي أو اختلفنا، إذ أن شخصية مثله، بمكانة كبرى ومهمة ومفصلية، فما هو حجم توحش مليشيات الإسلام السياسي، وهي تقتل مستشار رئيس وزراء البلاد وأيضا رئيس جمهوريتها، بكل صلافة وعنجهية، بل وعلنية، وإذا فعلوا ذلك بكل بساطة، وغاب عنهم القضاء والقانون والسلطة الرادعة لمثل تلكم العمليات والمجتمع، فما هي صورة المحتج العاري بعقلية العصابات والمليشيات؟

يتفق أغلب الشعب العراقي، المنخرطون بالتكتلات والانتماءات بكافة مسمياتها أو المستقلون، على أن خراب الحياة العراقية وانهيارها، ومعيشتهم المُهانة، سببها، الأحزاب! وذلك الحديث يدور في البيت والشارع والمقهى والنقاشات كافة! ولا يتفقون على تغيير ذلك الواقع المشين، فنحن عباقرة في سرد الخيبات والمظالم والجور الواقع على كاهلنا، إذ يبقى في جيفته، يريد من القدر والسماء أن تغير واقعه، وما يريده العراقي الخدران والمخدر، من حركة تشرين أن تغير من معيشته بلحظة خاطفة، وأن يطلي المدن بالذهب، ويداوي الخراب الإنساني، وهو نفسه يقف صخرة في ذلك الطريق الوعر، وفولتير نفسه، عاش طيلة عمره ولم يرَ ما حارب من أجله، إنما، أفنى سنين عمره ولم يجابه أكثر مما وقف ضد صوت تشرين. وذلك، ما سنختتم به نقاشنا.

ولد فولتير في نهايات القرن السابع عشر من عائلة كاثوليكية، والذي ثار ضدها ورفضها رفضاً قاطعاً، مهدداً، حياته بذلك. وقد تعلم وأتقن أكثر من لغة، في مسيرته الدراسية، وهو تقريباً، من الفلاسفة المعمرين، إذ عاش من الزمن ما يناهز أربعا وثمانين سنة، قضاها فولتير، هارباً، من قبضة السلطة السياسية الفرنسية، المتمثلة بالكاثوليك، متنقلاً، بين البلدان البروتستانتية

"إنكلترا، بروسيا، وجنيف" وما يتوفر فيها من مساحة آمنة وهامشية لا بأس بها، لقول وتدوين ما يريد تعريته، فيما يخص الكنيسة بحكمها الكاثوليكي، التي خيمت بوحشيتها وبظلاميتها على رئة أمم أوربا، وهو وغيره، من سبقه ولحقه من فلاسفة عصر التنوير، أمثال جان جاك روسو ورينيه ديكارت وآخرين غيرهم عاشوا أغلب حياتهم مطاردين وملاحقين، بل أنهم كتبوا متونهم خارج أسوار فرنسا، ومن ثم إدخالها سراً لباريس، وحتى وصل بهم الأمر إلى أن يجترحوا أسماءً مزيفة، للتخلص من الملاحقة، ومن ثم تأمين الكتاب من الحرق أو المصادرة ومنعه من التداول، ليصل إلى الشعب الفرنسي عامة. لم يجد فولتير، المساحة والأمان الكافيين، حين يهرب بجلده نحو المماليك البروتستانت، إنما، كان أيضاً، محاصراً بالإغراء والعروض للاستفادة من عبقريته والعمل مع السلطات التي كان يأتمن على حياته بظلها، فهم، بعكس حكومة بلاده، يقدرونه أيما تقدير لعلمه وأسلوبه المؤثر وكتابته النافذة في صلب المشكلات الراهنة آنذاك. ولم تحلو بعينه ولا بجسده، الراحة والأمان، المتوافران هنا وهناك بظل البروتستانت، إذ كان يمني نفسه، بالعودة للديار الباريسية، بعدما حرم منها، ما يقارب ثلاثين عاماً. أسوق تلك الحكاية الغابرة والبعيدة، وأقربها من الراهن العراقي، أن فولتير، لم يُحارب شعبه، ولم يُحاربه الشعب، بل حارب من أجل الشعب المسحوق والمهان، إذ أن باريس بعد قدومه والسماح له بدخولها، هبّت جميع أطيافها وطبقاتها، لنيل رؤية ذلك الفرد العظيم، وما هو بديهي، أن الشعوب تشبه-بطريقة أو بأخرى-وجه السلطة التي تحكمها، فلو أن الشعب المسيحي آنذاك في فرنسا، لم يغير من نفسه، فلن تجد باريس مثل ما هي عليه في الزمن الراهن. لم تكن آنذاك نفوذ لجهات خارجية في فرنسا، مثل ما هو الراهن العراقي وحتى العربي بشكل عام، ولم يقف الشعب متخاذلاً مع الظلاميين ضد التنويرين، بل ذاق أشد المرارة من الأصوليين وعنجهيتهم. إنما في المشهد العراقي الراهن، نجد ومن دون مبالغة، أن حركة تشرين، واقع على كاهلها، آثار وتبعات ونتائج الدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم، ولو افترشنا وتأملنا، ذلك، سنجد: أن الملكية، ومن ثم الجمهورية ومن بعدها الشيوعية، والبعثية والدعوجية، لم تكن إلا سكين تغرز جيداً في روح العراق وأمته ومقدراتها، وأكثر من ذلك، أن التشريني العاري من كل أمان، إلا من ملابسه، يحارب الجهات الخارجية والداخلية، ويجابه العصابات والمليشيات، والشعب والأهالي، السلطات كلها، ومن ثم جاءت الرصاصة الأخيرة لتشرين من صميم تشرين. تبقى مسألة في غاية الأهمية: أن الأصوات الحرة، غير الملوثة والمستأجرة، تقاسي أشد الحروب، وهي ترى أن الدماء الطاهرة، صارت عملة لاستثمار كراسي السلطة، وأيضاً، لا تستطيع أن تعري خونة تشرين، فالحقيقة هنا، تحسب في خانة تسقيط شباب الثورة، ولكم وددت أن أطلق ضحكتي هنا. ما بقي من تشرين، محكوم عليه بالمرارة المزمنة، فلا الصوت يلقى أذناً تستمع، ولا السكوت يعزي العناء، فحياتنا مرهونة ومختطفة، ولا نعرف فيما إذا سنقتل الآن، غداً، أو في أية لحظة!

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • لنخمس مال الله: الفهم النواسي للقرآن والسُّنَّة

      لنخمس مال الله: الفهم النواسي للقرآن والسُّنَّة

      مختومة ومترسخة، صورة أبي نواس في المخيال العربي طوال قرونه الأربعة عشر.

    • الأديب الأخطبوطي: يحق له، لوحده فحسب

      الأديب الأخطبوطي: يحق له، لوحده فحسب

      لا أعرف متى بدأت بإقامة علاقات مع المفردات، لكنها منذ سنوات بعيدة، وما زالت هذه العلاقة حاضرة، وأظنها ستكون مُزمنة. وأغلب المفردات التي عاشرتها كانت مفردات عاميّة، دارجة و«جلفية». 

    • المثقف العراقي: جهاز السلطة الصامت

      المثقف العراقي: جهاز السلطة الصامت

      ربما يقابل الحديث والكتابة عن المثقف، غالباً، بعدم الاكتراث واستبعادهما من طاولات الحوار، وهذا لم يأت من فراغ، إنما، هو شأن من شؤون السلطة، فيما إذا كشفنا السياق التاريخي لتمرحل هذا المصطلح ودلالته المرفوضة-بعد التجربة الواقعية الملموسة، سنجد غرس بذوره، ثماراً في جيب السلطة.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬