الجنود الفرنسيون في الساحل واللاوعي الاستعماري

[ جنود فرنسيون في تمبكتو، في 27 أبريل/نيسان 2016. موقع وزارة الدفاع الفرنسية.] [ جنود فرنسيون في تمبكتو، في 27 أبريل/نيسان 2016. موقع وزارة الدفاع الفرنسية.]

الجنود الفرنسيون في الساحل واللاوعي الاستعماري

By : Arabic Editors

ريمي كارايول

في الشريط الساحلي الصحراوي، يروي الجنود الحرب بكلماتهم الخاصة، كلمات أولئك الذين تشبّعوا منذ الطفولة بـ“مآثر” الفتوحات الاستعمارية والمُقوْلبون في المدارس العسكرية، وهم من الواضح متحمسون لمهمتهم ومندفعون لما يعتبرونه مغامرة غير عادية، غير أن منظورها العسكري والأبوي يقول الكثير عن الجيش الفرنسي.

على الرغم من ضحالتها في الوقت الحالي فإن عدد الشهادات المنشورة لجنود شاركوا في حرب فرنسا في الساحل تتزايد عاما بعد عام. آخر مولود ظهر هو كتاب موجه للأطفال، وهو من تصميم ضابطين فضَّلا عدم الكشف عن هويتهما (هما إذا الملازمان ياء (y) بالنسبة للنص وزين(z) بالنسبة للصور).

يحكي كتاب “مغامرات”بونهوم“[الرويجل] في إفريقيا” يوميات الجنود الفرنسيين في الصحراء المالية -صعوبة العثور على الماء، وجبات بلا طعم والمخيمات المؤقتة- دون الخوض في تفاصيل العمليات، ولا حتى في قلب الموضوع. فلا نعرف لماذا ومن يقاتلون. كل ما نعرفه هو أنها “رحلة غريبة” وأن أعداؤهم “أشرار”. ويصوَّر الجنود الفرنسيين في شكل حيوانات متنوعة موجودة هناك “لمساعدة قرى بعيدة للدفاع عن نفسها”. لا وجود لعبرة تستخلص من هذا الكتاب الموجه للأطفال الصغار وخاصة أبناء وبنات الجنود الذين يعانون من ذهابهم المنتظم في مهمة، باستثناء التعميمات المعتادة التي تكرس صورة قارة جامدة، والتي يكون واقعها نفسه في كل مكان (“تحت الشمس الإفريقية الحارقة”) وعلى الخصوص البراري حيث لا وجود للبشر.

هوية الناشر ليست ثانوية، فهي تحملنا إلى العالم الذي انحدر منه عدد كبير من الضباط وضباط الصف الفرنسيون. “بيار تيكي”، هي “دار نشر كاثوليكية تأسست سنة 1868” من طرف راهب مارياني، كما يشير موقعها الإلكتروني. كان الهدف آنذاك إنتاج وترقية “كتب لا تشوبها شائبة على المستوى العقائدي وسليمة أخلاقيا ومثيرة للاهتمام بالمعنى الحرفي للكلمة”. وهو عمل من أجل “الدفاع عن الأسرة وترقيتها” وهي تدعي مواصلته اليوم. يقول مسيرها فرانسوا لومير إن “الأمر يتجاوز الإعلام بل يتعلق بالتكوين”.

إعادة غزو شمال مالي

أما كتب الحرب الأخرى التي تنشر فهي أساسا الدراسات. وهي إذا أكثر إثارة للاهتمام للمطالعة والتشريح لمن يريد فهم تسيير الجيش والمحفزات الإيديولوجية التي تحركه ونظرته للقارة الإفريقية. تم نشر الكتابين الأولين في 2015، أي بعد حوالي عامين من بداية عملية سيرفال (يناير/كانون الثاني 2013). ويتعلق الأمر بشهادتين لضباط لعبوا دورا رئيسيا خلال “إعادة استرجاع الشمال”. “عملية سيرفال، ملاحظات حربية” (“Opération Serval, notes de guerre”) هي مذكرات اللواء بيرنارد باريرا الذي قاد العملية. ويذكر الكاتب اللواء هنري بانتيجيات في المقدمة بأنه “من انتصر في الميدان، شمال مالي، في إحدى أصعب المعارك التي خاضها الجيش الفرنسي منذ نهاية حرب الجزائر”.

كتاب “تحرير تمبكتو. يوميات الحرب بمالي”، نشر في نفس الوقت وهو عمل الملازم فريديريك غوت، الذي أُرسل إلى مالي مع بداية عملية “سيرفال” كقائد لفوج المروحيات القتالية الخامس المتمركز في مدينة بو بجنوب غرب فرنسا. “بين رجالي وقادتي، يوميات ملازم في مالي”، نشر سنة 2017، وهو يوميات ضابط صف شاب يدعى سيباستيان تانشيني قاتل في مالي سنة 2014، في مرحلة تحولت فيه عملية “سيرفال” إلى عملية “برخان” وامتدت إلى أربع بلدان أخرى في المنطقة هي موريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد. هذا الكتاب “المدون على شكل يوميات سير، يوما بعد يوم، تحت حرارة الصحراء المالية” هو عبارة عن سلسلة من “الانطباعات الفورية” وأيضا عن أفكار وآراء يعترف كاتبها أنها قد تكون صادمة ولكنه يتبناها بشكل كامل.

من المؤكد أن هذه المنشورات جلبت حماس المتعصبين للعمليات العسكرية. وهي تسمح إلى حد ما بفهم الحقائق العسكرية لميدان معقد -سواء تعلق الأمر بالمستوى البشري أو بالمناخ والطوبوغرافيا- وبالتالي لعملية صعبة بشكل خاص، كما تسمح بإلقاء نظرة على الصعوبات التي قد يواجهها قائد عسكري في خضم المعركة. علاوة على كونها تمنح القارئ الناقد أيضا تفاصيل تقول الكثير عن طريقة تفكير الضباط ورؤيتهم لمسرح غريب عنهم من الواضح أنهم غير متمكنين تماما من حيثياته.

زمن المستعمرات المبارك؟

تتجلى حقيقة أولى عند قراءة الكتب الثلاثة: حتى وإن بدا بعيدا فإن “زمن المستعمرات المبارك” لا يزال راسخا بقوة في ذهنيات العسكريين. يذكر باريرا، الذي مر بمدرسة سان سير العسكرية (دفعة مونسابيرت 1982-1985) “مدرسة المثل والخدمة والتقاليد” بأن “الجنود متمسكون بتاريخ وحداتهم، مثل القدامى”، وبأنهم “يستمدون من هذه المراجع فخرهم وتميزهم”. لكن في الجيش البري تعود العديد من هذه المراجع إلى فترة الغزو الاستعماري. ويروي باريرا كيف عاد إليه “التاريخ العظيم” أثناء تقدم القوات الفرنسية نحو تمبكتو في يناير/كانون الثاني 2013، وهو ينظر إلى خريطة مالي:

من خلال قراءة الأسماء، أعثر مجددا على مسار الحملة الفرنسية لعام 1894، من باماكو إلى تمبكتو، في زمن السودان الفرنسي، إنه التاريخ العسكري في خدمة العمليات! ليري، نيافونكي، غوندام، المسيرة المرهقة لرتل العقيد بونير، وقد تبعه رتل المقدم جوفر، المنتصر المستقبلي في معركة المارن، وهم يتعرضون بانتظام لهجمات الطوارق المتمردين الذين جاؤوا لشن غارات على السكان السود المستقرين بنهر النيجر. وأنا أقرأ اسم نيافونكي على الخريطة، أرى مجددا جدي الضابط الاستعماري القديم وهو يقص علي في سهرات صيفية بفيلته الكبيرة بمرسيليا قصص العمليات البعيدة.

نيافونكي التي تم “تحريرها 119 سنة بعد غزوها من طرف جنود جوفر في 20 يناير/كانون الثاني 1894، مقابل 100 متمرد قتيل”.

ثم يضيف:

أنظر إلى خريطتي: نيافونكي، غوندام و35 كيلومترا أبعد، الهدف، هدف جوفر. [...] تحضرني ذكرى العقيد بونير وقيادة أركانه: 13 فرنسي، و63 مشاة قتلوا في 15 يناير/كانون الثاني 1894 بتاكوباو.

بعد تطهير تمبكتو من الجهاديين، ينطلق باريرا على خطى أحد أبطاله التاريخيين، روني كايي. فبينما كان الوضع يبدو تحت السيطرة، قام بعبور المدينة لزيارة منزل كايي “أول غربي دخل المدينة في 20 أبريل/ نيسان 1828” وكان قد قطع عهدا على نفسه وهو يقرأ كتاب “عبد الله”، لروجي فريزون-روش الذي يسرد مغامرات كايي.

شمالا، يجد المناظر الطبيعية التي كانت تسكن أحلام طفولته:

مرتفعات الهقار الجزائرية والمالية بأدرار إيفوغاس وجبال آير النيجيرية ملأت مخيلتي خلال شبابي، عندما كنت أطالع قصص المهاري.

إلى درجة أنه يكاد يندم لكونه ولد متأخرا جدا لكي يشهد الحملات الصحراوية الكبرى. ولكن أيها بالضبط؟ فبعضها تركت ذكريات سيئة لهذه الشعوب الإفريقية التي يقول بأنه فخور بتحريرها من نير الجهاديين. واحدة من أشهرها والأكثر دموية أيضا، هي ما يسمى بمهمة “فولات-شانوان”، باسم القبطانين المكلفين بغزو ما سيصبح تشاد، في 1899، والتي تسببت في مقتل مئات الرجال والنساء من بين السكان الذين رفضوا إطعام الرتل العسكري، مع تدمير عدة قرى.

“فكرة معينة عن الحضارة الأوروبية”

عندما وجد نفسه في حصن آروان، في قلب الصحراء، أثنى باريرا على “هؤلاء الرجال الذين كانوا يتمتعون بحياة داخلية قوية ورسالة عميقة كي يعيشوا لمدة أشهر وسنوات بين هذه الكثبان الرملية خارج الزمن”. ثم يختتم بهذه القصيدة التي تمجد الاستعمار:

كان عمل الدولة يندرج في الأمد الطويل، وكان المعلمون والمهندسون والتقنيون والإداريون يتبعون الأرتال العسكرية ويحملون فكرة معينة عن الحضارة الأوروبية [...] التاريخ ليس بعيدا أبدا في إفريقيا. وحتى إن تحصلت الشعوب على الحرية بصفة مشروعة فهي تحتفظ في الذاكرة بمعالم وذكريات سلطة، غالبا ما اختفت، وهي مرادفة للأمن.

ويروي فريديريك غوت (الذي تخرج من مدرسة سان سير مثل باريرا) قصة أقل انطباعية بكثير، مكتفيا معظم الوقت بسرد تفاصيل العمليات، ومع ذلك لا يمتلك نفسه هو أيضا من لحظة حنين إلى الماضي عندما يصل إلى غوسي حيث كتب: “أشعر وكأنني أعثر من جديد على مغامرات كنت أطالعها في زمن غابر”.

لكن الحنين الاستعماري حاضر بقوة أكبر في رواية سيباستيان تانشيني، الذي يكاد يقفز حرفيا من صفحة إلى أخرى، وهو شعور منتشر بقوة عند الجيش. هذا الضابط الشاب المتخرج من المدرسة العسكرية المتعددة الأسلحة دفعة بيجار (2010-2012)، على اسم أحد أهم قادة حروب الهند الصينية والجزائر والذي كان يعتبر أن التعذيب “شر لابد منه”. من البداية وبعد إشادته بأسطورة الامبراطور نابليون وقبل أن يكتب بأن الشعب الفرنسي هو في عينيه “الأكثر شجاعة والأكثر استثنائية من بقية الشعوب”، يحذر الكاتب: “إذا صدم القارئ من بعض الأفكار والآراء، فليعرف أن هذه الأفكار راودتني فعلا”.

ويا لها من أفكار! إفريقيا - “ذلك الحلم الاستعماري للجمهورية الفتية”، “ذلك المسرح الرائع” الذي يجذبه “أكثر بكثير من البلقان الباردة”، هذه الأرض “لكل الأخطار” ولكن أيضا لكل “التخيلات” و“الأمجاد الاستعمارية القديمة وماضي فرنسا المجيد”- حصلت حسب رأيه من الجمهورية على “فوائد الحضارة” وتم “تحريرها من نير تجار العبيد العرب”. آه! يا للسحر الإفريقي “بهذه العملة التي يعود تاريخها إلى العهد الاستعماري”، هذه المناظر الطبيعية الخلابة، هذه الشعوب الساذجة والسخية (“في هذه البلدان لا يتطلب الأمر كثيرا لجعل الناس سعداء”).

دو غسكلان الجدد

تانشيني هو أيضا مثل غوت ومثل باريرا، شعر خلال مهمته أنه عاد نحو الماضي، لأننا في إفريقيا نعيش “في زمن آخر”. يتساءل: “هل نحن في سنة 2014 أم في 1350؟”. هل نحن دو غسكلان الجدد الذين أتوا إلى مالي لطرد عصابات الطرق الذين يضطهدون شعب الريف وبالتالي استعادة السلام؟ “. بالنسبة له، فالأمر بديهي: فرنسا،”فرنسا الجميلة!“لها دور تلعبه في إحلال السلام بمالي كما فعلت ذلك منذ قرن مضى.”نحن بلد قوي، مقتدر ومحترم: فلنفرض وصاية لفترة قصد حل المشاكل [...] ويمكننا أن نغادر من جديد مع الاحتفاظ هناك ب “عين أبوية”. كأننا عدنا إلى 1890. ولكن يجب ألا نخطئ، فتانشيني شاب ابن عصره حيث يوضح: “نحن لا نطارد هنا الإنكليزي السيء، بل مجانين الله”. في هذه المرة فرنسا، “الأمة العظيمة ذات القلب الكبير[...] تطير لنصرة شعب مضطهد من قبل الهمجية الإسلامية”. ها نحن مطمئنون إذا!

فضلا عن هذا الفيض من الحنين النتن، يُظهر الضباط الفرنسيون أحيانا جهلا بالبلدان التي يقاتلون فيها وبالشعوب التي يعتقدون أنهم يساعدونها بل ينقذونها والأعداء الذين يقولون إنهم يقاتلونهم. بالنسبة لهم الأمر واضح، فهناك من ناحية “الأشرار” ومن ناحية أخرى “الأخيار”. هذه الرؤية الثنائية التي دافع عنها على الخصوص المؤرخ اليميني المتطرف برنارد لوغان، المدافع بدون هوادة عن نظام التمييز العنصري بجنوب إفريقيا والذي يحظى بتقدير كبير لدى الضباط، لا تترك أي مجال لمقاربة أكثر اتزانا.

“الأشرار” أولا: أعداؤهم. هم “إرهابيون” ولكن أيضا متاجرون دنيئون، وأيضا “مهربو الصحراء” (وفق باريرا)، و“قطاع طرق” (وفق غوت). يردد العسكر إلى درجة الغثيان أسطورة الإرهابي المتاجر بالمخدرات، والذي يستخدم الإسلام لتنفيذ تجارته والذي لا يملك في الحقيقة ربا سوى المال، مع أن معظم المتخصصين في المنطقة قد أظهروا منذ زمن طويل محدودية هذا الخطاب. وقد لخص ذلك مؤخرا الباحث غيوم سوطو-مايور في حوار مع موقع “موند أفريك” قائلا: “لا يجب أبدا الخلط بين الفاعلين الإجراميين والفاعلين الجهاديين، فذلك خطأ فادح” ويضيف:

الفكرة القائلة بأن الجماعات المسلحة الجهادية هي مجموعات قُطاع طرق يلتحفون غطاء دينيا بينما هدفهم الأساسي هو المال هي فكرة عبثية وغير واقعية [...] هذا الوصف الناركو-جهادي هو عمًى متعمد، وهو يخدم في الغالب أهدافا سياسية. كون جزء ضئيل من الجهاديين يأتي من الإتجار، وبعض المتاجرين يقدمون لهم المال، أو كون الجماعات الجهادية المسلحة وبعض الجماعات المسلحة تتعاون في وئام بالمنطقة، لا يعني أن الجهاديين أصبحوا مهربين.

برابرة جدد دون مشاريع

كل شيء يصلح لنزع أي طموح سياسي من هذا “الشرير” وحرمانه من أي إمكانية للتفكير. فباريرا، وهو رجل معرفة واعتدال، لا ينجو من التبسيط المفرط عندما يؤكد:

يدعو الجهاد في منطقة الساحل إلى العودة إلى الأصول، ولكنه يستفيد من مركبات تويوتا وأجهزة الكمبيوتر وهواتف الأقمار الصناعية. وقصد توسيع سلطته وفرض عمليات تهريبه على مناطق كاملة فهو يدمر دون أن يبني. ويفرض العودة إلى العصور الوسطى على شعوب ضعيفة تخضع لدكتاتورية عدد قليل.

ويختم بمقارنة غريبة: “كانت للشيوعية، عدونا السابق، نظرة ومشاريع معينة للمجتمع. أما البرابرة الجدد فليس لهم أي مشروع”.

من جانبه شكل غوت لنفسه فكرة دقيقة عن ماهية الإسلام. فجهاديو الساحل بالنسبة له “لا يحترمون شيئا أو أحدا، لا سيما الإسلام”. كما أنهم يتعاطون المخدرات بالمناسبة. وبالنسبة لتانشيني فهم مجرد “جهلة”.

في مواجهة هؤلاء “الأشرار”، يكون هناك “أخيار”. وهم الجنود الفرنسيون طبعا! ولكن أيضا الماليون “المسالمون وهم يعيشون غالبا في سلام” كما يعتقد غوت. فالماليون، مثل كل الأفارقة، ساذجون، دافئون، لطيفون ومبتسمون. “وسهل التأثير عليهم”، كما يقول أيضا (انشيني، ولا علاقة لهم إذا بهؤلاء الجهاديين الغامضين. وهذا رغم العديد من الأبحاث التي أجريت في الميدان تظهر أن الجزء الكبير من القوات التي تشكل مختلف الكتائب النشطة في الساحل تم تجنيدها محليا. فإذا كانت القاعدة في بلدان المغرب الإسلامي قد ولدت في الجزائر وإذا كان قادتها أتوا في مرحلة أولى من شمال إفريقيا، فقد تم استبدالهم منذ فترة طويلة برجال ذوي أصول من مالي وبوركينا أو النيجر. فإياد آغ غالي، قائد مجموعة “دعم الإسلام والمسلمين” التي خلفت القاعدة في المنطقة هو من طوارق مالي. أما حمادون كوفا، قائد جبهة تحرير ماسينا، وهي واحدة من الجماعات الأكثر نشاطا في مالي، فهو فُلاَّني مالي. أما قائد “أنصار الإسلام” التي تنشط شمال بوركينا فهو فُلاَّني بوركيني. لكن هذه الحقائق لا مكان لها في رواية العسكريين الفرنسيين. وهذا لا يمنع تانشيني من التأكيد على “ضرورة أن يبقي العسكري فكره في حالة تأهب وأن تكون له نظرة أكثر شمولية من النظرة المبسطة التي تفرضها وسائل الإعلام والتربية الوطنية”.

نظرة كاريكاتورية عن إفريقيا

لا داعي للذهاب بعيدا للبحث عن المراجع الإيديولوجية لهذا الضابط الشاب الذي لديه “الانطباع بأننا آخر الحصون [...] آخر الناجين لفكرة معينة عن فرنسا”. لا شك أن هذا المُتَحَمِّس لآي ميريك شوبراد، وهو مستشار سابق لمارين لوبان (قائدة حزب اليمين المتطرف الفرنسي)، والذي يذكره كمرجع في مجال الجيوـسياسية، قد التهم أيضا كتب بيرنار لوغان. بالنسبة لهذا المؤرخ المنبوذ من طرف أغلب زملائه، كل شيء بسيط في إفريقيا، كل شيء يعود إلى العرق، وكل شيء متوقف في الزمن. تلك هي أيضا الرسالة التي يمررها كتابنا العسكريون، إذ يكتب باريرا: “لقد توقف الزمن في هذه المدينة” (تمبكتو). وبخصوص “الأزقة الرائعة” لتمبكتو، يرى غوت أن “لا شيء تغير منذ قرون”. طبعا، ومع كل ذلك، كما كتب باريرا “إنها إفريقيا، هنا لا شيء منطقي”.

تقول هذه النظرة الكاريكاتورية عن القارة الكثير عن الطريقة التي ترى بها المؤسسة العسكرية القارة الإفريقية، مسرح عملياتها الرئيسي. وهي لا تمنع أحيانا ظهور فترات من الاستبصار. فإن كان باريرا محقا في حديثه عن أحد انتصارات عملية “سيرفال” (انتصار “الجندي الفرنسي الأزلي، الشجاع والسخي” كما يصر على القول) فهو يعترف منذ عام 2015 بأن هذه الانتصارات التكتيكية “لن يكون لها معنى إلا إذا تبعها وضع دبلوماسي جديد”، كما يذكر ببداهة: “لقد تكلم السلاح، لكن الجواب لا يمكن أن يكون سوى سياسيا”.

[ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬