«هو الذي رأى كل شيء، فغنّي بذكره يا بلادي»
(گلگامش)
الوطن قصيدة. قصيدة حفظ صفاء معانيها عن ظهر قلب. لحّنها بأنفاسه، وجعل نبضه إيقاعاً لها. الوطن قصيدة أجاد صفاء إلقاءها وأبدع. غنّاها بحياته، وأغناها بروحه. لا تندرج هذه الكلمات في باب البلاغة. فأنا أعنيها حرفيّاً. فالوطن، أيّ وطن، ليس مساحة جغرافيّة على أرض، تتسع أو تضيق، فحسب. وليس الوطن ذاك الذي نجده على الخرائط، ونحفظ تضاريسه وشكله، أو الذي نقرأ عنه في كتب التاريخ فحسب. بل هو فكرة، أيضاً، وحلم جمعي (يجعله الطغاة كابوساً)، ونصٌ وخطاب. تدور الصراعات والمعارك على تفسير معانيه، وعلى سرديّات بداياته وتواريخه. يحترب البشر على الحق في اقتسام ثرواته، والباطل في احتكارها وإهدارها. وتسيل الدماء دفاعاً عن حدوده ووجوده ومعانيه. وفي زمن أمعن فيه الطغاة الجدد في تشويه فكرة هذا الوطن، وعاثوا فساداً وإفساداً في كل شبر فيه، وحولوه إلى جحيم لمواطنيه. شوّهوا معانيه وأغانيه، وحولوا الحلم إلى كابوس طويل. في هذا الزمن، زمن اليأس والبؤس، كان هناك من هب ليدافع عن الحلم وعن الحق فيه. كان هناك من آمن بالعراق في أحلك ساعاته. «من صميم اليأس» ومن تربة تشقّقت عطشاً، لكنها تظل معطاءة وعنيدة، خصبها في ذاكرتها وفي جذورها، منها نهض ثائرٌ. كان اسمه ابن ثنوة. وصار اسمه ابن ثنوة.
***
بعث لي شابٌ ذات يوم رسالة على الفيسبوك يسأل فيها عن تفاصيل في رواية «وحدها شجرة الرمّان» ويستفسر عن تحديّات الكتابة وهواجس البداية. وكانت تلك بداية مراسلات استمرّت لسنوات، وبذرة صداقة. جمعتنا هموم مشتركة. حلم الوطن، وكوابيسه، وهواجس التعبير. وجمعتنا انحيازاتٌ للجواهري ومظفّر. فتنتني شخصية هذا الشاب ورؤيته الناضجة للحياة. وأعجبتُ بشجاعته في ما كان يقوله على الملأ وينشره على جداره. كان يشكو لي أيّامه السيزيفيّة وتحمّله لشظف العيش وانكسار قلبه وهو يرى المرض الخبيث يغزو جسد والدته دون أن يتمكّن من صدّه. لكنّه ظل قويّاً وأبيّاً ومصرّاً على المضيّ في الدراسة والحياة. صافي القلب والروح. يحمل شاعرية الطفل وبراءته، السخرية اللاذعة أمام مرارة الدنيا وقسوتها. أبهرني وعيه الراديكالي، ورؤيته العميقة، والنقد الشجاع الذي لا يساوم، لكل تمظهرات السلطة السياسية والاجتماعية وخطابها ومثقفيها. أحببت إيمانه بالعراق، والوفاء لحلم الوطن الحر. وإصراره على الدفاع عنه. صفاء الثائر ، الذي يعتمد بوصلة القلب والضمير. وينحاز إلى الإنسان الكادح ضد السلطة، بكل أشكالها. وكنت أخاف عليه، خصوصاً بعد تعرّضه للاعتقال والتعذيب والترهيب وما ذكره من تفاصيل في رسائله. حين التقيت به بغداد في شباط ٢٠١٩، لتناول الفطور، كان يتوكّأ على عكّاز ويشكو من آلام الظهر بسبب آثار التعذيب. تحدّث عن آلامه. لكنّه كان يبتسم. بهيّ الحضور، بوسامته وضحكته الحلوة. وتنبّأ يومها أن إمعان النظام في إذلال الشعب واستهتار الطبقة الحاكمة سيؤدي إلى طوفان ثوري. وكان ما سيكون في تشرين. وكان صفاء في الطليعة كعادته.
***
أصبح صفاء أيقونة لثورة تشرين ورمزاً لجيلها. لكن صفاء كان إنساناً، يحبّ ويكره، يخطئ ويصيب، يحمل في دواخله طيفاً غنيّاً من المشاعر، ومن هشاشة وشعرية الذات المرهفة المبدعة. لا يغتال المجرمون الذين يجثمون على صدر العراق وعصاباتهم الحاضر فحسب. بل يغتالون المستقبل واحتمالاته الواعدة. يقتلون ما كان سيكون. فكر صفاء الثوري ورؤيته العميقة وشجاعته ووطنيّته وشخصيّته الملهمة، كانت كلها خصال قائد. كان صفاء ورفاقه من الشهداء (من منتظر الحلفي ، أول شهداء الثورة، الذي كتب له صفاء قصيدة، إلى آخر شهيد) سيقودون جيلهم وشعبهم إلى عراق جديد، أقلّ ظلاماً وبؤساً. ومع أن راية الظفر حُسِرت عنه وعنهم، فهناك من يحملها وسيحملها باسم صفاء ورفاقه الذين اغتالهم القتلة. سيظل صفاء من أسماء العراق الحسنى.
***
«طمنّي عليك. سمعت مصاب؟»
لم يجب صفاء على الرسالة الأخيرة.
***
يعانق جسد صفاء ثرى العراق الذي أحبّه وغازله. لكن روحه تحلّق في سماء العراق وفوق سوح الاحتجاج. بعد أيّام من اغتياله شاهدت صورة تظهر فيها حمامة بيضاء تقف على نعش أحد الشهداء في ساحة التحرير.
فسألتُه بصمت. أهذا أنت؟ جئت تصطحبه؟
لم يجب.
كنت قد كتبت قبل سنوات قصيدة ولم أكن أعلم أنّي كتبتها عن صديقي دون أن أعرف:
«لا يذهب الشهداء إلى الجنّة
بل يختارون صفحات الكتاب
السماويِّ
كلٌّ على طريقته
طَيْراً
أو نجماً
أو غيمةً
ويُطِلّون علينا
كلّ يوم
يبكوننا
نحن الذين لم نزلْ
في جَحيم
حاولوا إطفاءهُ
بدمهم»
***
عدت إلى بغداد وثورة تشرين في شهرها الرابع. ذهبت إلى خيمة صفاء السراي في ساحة التحرير.
كانت صورته فيها، لكنه لم يكن هناك.
زرت بيته وأهله ولم يكن هناك.
أضمّد جرح غيابه وأقول لنفسي إنّه في الأعالي، يحرّض ويقود احتجاجاً ما. وإنّه يطلّ على وطنه. وإنّه ما زال «على قيد. . . العراق».
أحتفظ بصورتين. واحدة نبتسم فيها معاً. والأخرى، التي يعرفها الجميع، التقطها صفاء لنفسه. يظهر فيها متكئاً إلى شجرة. ينظر إلينا. لا يبتسم، كأنّه كان يعرف أنّه سيكون «على قيد العراق.»