أيّها السادة، يهمّني أن أقدّم لكم كاتبًا أحسن منكم جميعًا، يهمّني أن أصفعكم به، فافتحوا آذانكم جيدًا واسمعوا وعوا. إنّ خمسة أصوات [1967] واحدة من أفضل أفضل الروايات التي شهدها أدبنا الحديث، ومؤلّفها «غائب طعمة فرمان» هو من أحسن أحسن الذين يمسكون القلم في هذه القارة الممتدّة – أدبيًا – من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
لن نجد تقديمًا لغائب طعمة فرمان أفضل من هذا التّقديم الذي أرغمَ فارس فارس، وهو مَنْ هو في عالم النّقد اللاذع ممّن لا يعجبهم العجب، على الإقرار بالموهبة والبراعة الطّاغيتَيْن اللتين تتقطّران من رواية خمسة أصوات. يستوقفنا تكرار صيغ التّفصيل التي قد تبدو مبالغة مفرطة، ولكنْ لا بدّ من قراءة هذه «المبالغة» ضمن سياقها الزمنيّ. مَنْ هؤلاء الـ «منكم» الذين يخاطبهم غسان كنفاني/فارس فارس؟ ليس الكتّاب العرب كلّهم بطبيعة الحال، وإنْ كان الكلام يومئ بهذا. إذ على الأغلب أن فارس كان يقصد الأدباء الشوام، وهم قرّاء زاويته الصحفيّة الأوائل. نعم، كان هناك قحطٌ أدبيّ مرعب في السنوات التي تلت هزيمة 67، لا يخفّفه إلا بذور قليلة بدأت تشقّ طريقها فوق تلك التّربة القاحلة: في سوريا، زكريا تامر وهاني الراهب وحيدر حيدر؛ في فلسطين، ليس لدينا إلا إميل حبيبي وكنفاني نفسه؛ ربّما تيسير سبول في الأردن ولكنّه سينتحر بعد بضع سنوات، وغالب هلسا الذي كان ما يزال يخطو خطواته الأولى، ولكنّه سيُحسَب على مصر لا الأردن؛ أما في لبنان فكان لا بدّ من حرب بعد عدة سنوات كي يتفجّر السرد مع تفجّر البلاد، بل إنّ تلك الحرب عجزت عن تفجير السرد مباشرةً وبقيت لبنان في قحطها السرديّ حتّى نهاية الثمانينيّات، إذ نتذكّر كلام الروائيّ اللبنانيّ الياس خوري (وهو كان الروائيّ المهم الأوحد في تلك الفترة الفاصلة) حين أشار عام 1983 إلى غياب الرواية اللبنانيّة في ظل طوفان الشعر. إذن، ليست تلك المبالغة مبالغةً في نهاية المطاف، وإنْ كانت تلك الرواية «الكرباج»، بحسب تعبير كنفاني، ليست الرواية التي تستحق – على جمالها – صيغ التفضيل تلك لو كان كنفاني قد قرأ النّخلة والجيران التي صدرت قبلها بعام. تلك الرواية هي الكرباج الحقيقيّ. كانت وما زالت وستبقى لسنين طويلة.
أين مصر من هذه المعادلة؟ مصر كوكب مستقل، يُصدِّر ولا يستورد، ويغذّي تيّاراته المتلاحقة بنفسه، إذ لم يتوقّف السرد يومًا، وبغزارة وجودة مذهلتين، باستثناء العقد الأخير ربما. ولعلّ هذا التدفّق المرعب بالذات هو ما منح النّخلة والجيران أهميّتها الكبرى. ثمة رواية عظيمة تولد خارج كوكب مصر؛ رواية لا تشبه الرواية المصريّة، بل تؤسّس لرواية عراقيّة كان لها أن تنافس المارد العملاق لولا الكوارث المتلاحقة التي أنهكتْ العراق وشرّدَتْ كتّابه. نتذكّر هنا الضجّة الغريبة التي اندلعت إثر تصريح الروائيّ العراقيّ علي بدر عام 2015، حين نفى تأثير نجيب محفوظ في الرواية العراقيّة وسيرورتها. تحوّلتْ محاولة السّجال هذه إلى المهاترة المعتادة: «مَنْ الذي شتم آلهتنا؟» بدلًا من فتح باب نقاش هادئ مثرٍ للسرد ولتأريخه. ليس في كلام بدر أدنى خطأ: لم يكن لمحفوظ أثر في نشوء الرواية العراقيّة. هذا واقعٌ لن ينفيه عناد مَنْ لم يقرأ التجارب العراقيّة أو لم يقرأ محفوظ، أو لم يقرأ لا هذه ولا ذاك. لعلّ لمحفوظ أثر لاحق يبرّر ما يقوله فرمان نفسه بشأن تأثير محفوظ عليه؛ غير أنّ كلام فرمان كان عام 1984، بعد أن جرتْ مياهٌ كثيرة تحت جسر الرواية العراقيّة، وجسر روايات فرمان على الأخص. تشبَّث البعض بقشّة الأصوات الخمسة في رواية فرمان التي توازي الأصوات الخمسة في ميرامار محفوظ، ولكنّهم غفلوا عن أنّ الروايتين صدرتا في عام واحد (1967)، وبذا لم تكن هناك إمكانيّة تأثير وتأثّر بهذه السرعة. لا بدّ من البحث عن مؤثِّر آخر، مؤثِّر أقدم. كان هذا ما التقطه كنفاني بدقّة حين أشار إلى أنّ فرمان يكتب في خمسة أصوات نسخةً عراقيّةً من وليم فوكنر. كان فوكنر هو المؤثِّر الفعليّ في محفوظ وفي فرمان على السواء، وفي روايات عربيّة أخرى تزايدتْ بعد ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لرواية فوكنر اللَّغَط (أو الصخب والعنف كما سادتْ ترجمتها) أوائل الستينيّات. لم يكن كنفاني ليَغْفَلَ عن هذا التأثير الحاسم لأنّه هو أيضًا كتب خمسة أصوات في نسخة فلسطينيّة من فوكنر في ما تبقّى لكم عام 1966. كانت المؤثّراتُ التي وسمتْ الرواية العراقيّة مؤثّرات أجنبيّة، أميركيّة وروسيّة على الأخص. وإنْ كان لنا أن نحدّد تأثيرًا واحدًا لمحفوظ في الرواية العراقيّة، فسيكون أنّ الرواية العراقيّة سعتْ منذ البدء، بقرارٍ واعٍ، إلى طريقٍ لا تشبه طريق محفوظ في شيء. التأثّر بألّا تتأثّر على الإطلاق؛ بأن تكتب أعمالًا لا تشبه أعمال محفوظ. ولعلّ بوسعنا مدَّ هذه النقطة لتشمل السرد المصريّ في واقع الحال، حين حرص الأدباء الأهم، منذ الستينيّات إلى اليوم، على الهروب من تأثير محفوظ الطاغي، ولذا كان للسّرد المصريّ هذا التنوّع المُبهر. لا يمكن لشجرة أن تنمو في ظل شجرة، والأدب لا يعترف بالعشب، ولذا لا بدّ للشّجرة (إنْ كانت تحرص أن تكون شجرةً لا محض عشب) من أن توازي الشّجرة التي سبقتها كي تحيا وتبسق. لم يكن غائب طعمة فرمان يرضى لنفسه أن يكون أقل من شجرة، ولم تكن النّخلة والجيران ستبدو بهذا الألق لو كان لنا أن نلتقط أدنى أثر من تأثيرات محفوظ: لا الشخصيّات شخصيّاته، ولا الحارة حارته، ولا السّرد سرده؛ ولا الحوار حواره، وهذه هي النّقطة الفاصلة.
لم يدخل غائب طعمة فرمان في السّجال المكرور حيال لغة الحوار في السرد، إذ اختار بذكاء استخدام المحكيّة في النخلة والجيران، وإنْ بدت للوهلة الأولى ناشزةً على الأذن التي لا تعرف اللهجات العراقيّة. لم يكن فرمان من أنصار الدخول في سجالات أدبيّة، بل بقي يحفر تجربته بصمت، ولكنّه أُرغم على الدخول في سجال الحوارات لاحقًا حين انقسم الأدباء إلى فسطاطين لا سبيل إلى رتق الهوّة العميقة بينهما: يرى الفريق الأول (وعلى رأسهم نجيب محفوظ) وجوب كتابة الحوار بالفصحى؛ فيما رأى الفريق الثاني (وعلى رأسهم الطيّب صالح) أنّ الحوار في الأدب لا يختلف عن الحوار في الحياة التي تُقيم فصلًا واضحًا وحادًا بين الفصحى والمحكيّة: الفصحى للمكتوب والمحكيّة للمنطوق، ولذا لا معنى لفَصْحَنة الحوارات كيلا نُغرقَ السرد في تغريب أعمق، تبدو فيه الشخصيّات محض أقنعة زائفة. انتصر أنصار الفريق الأول بكل أسف، وضاعت علينا فرصة تنوّع المحكيّات واللهجات في الأدب، على الأخص حين التصق السرد – في الغالب الأعم من الأعمال – في جحيم هموم مثقّف الطبقة الوسطى التي كادت تتلاشى من الحياة فعليًا من دون أن تتلاشى من الأدب. ولكنّ الانتصار لم يكن ساحقًا، إذ مالَ حتّى محافظو الفريق الأول إلى القبول بحيلةٍ ملتوية سمّوها «اللغة الثالثة» التي لا تعريف لها، إذ بقيت غامضة كأيّة حيلة ملتوية أخرى، ولكنّها أرغمت الفريق الثاني على القبول بهذا المنطق الغامض، فتخلّى فرمان وفؤاد التكرلي وسمير نقّاش (لو استعرضنا الأسماء الأهم في الأدب العراقيّ) عن المحكيّة و«ارتدّوا» إلى الفصحى متذرّعين بأنّها أنسَبُ للغة شخصيّاتهم التي لم تعد من قاع المجتمع بل باتت أقرب إلى كتّابها، وبأنّ «الانغلاق» في المحكيّة سيحرمهم من قرّاء كثيرين سترهقهم اللهجات؛ وهي ذريعة معقولة لو قارنّاها بذريعة الكتّاب اليوم الذين يسعون جاهدين لتخفيف أيّة «مطبّات» في أعمالهم، لا من أجل القارئ العربيّ، بل من أجل المترجمين الأجانب. المفارقة هنا هي أنّ محفوظ عوَّض، من غير قصد، «ثأره» المؤجّل من المتمرّدين العراقيّين حين أدخلهم في فريقه الذي لا يرضى بديلًا للفصحى، حتّى حينما خفّفها في أعمال لاحقة، كما في حكايات حارتنا مثلًا، فيما انعتق المصريّون من سطوة حواراته ليلجؤوا بالتدريج إلى المدرسة الأوسع، مدرسة الحوارات المحكيّة، التي بدأت بيحيى حقّي، ومن ثم يوسف إدريس، وجيل الستينيّات. بقي العراق أسير الحوارات الفصيحة إلى أن اضطر عبد الرحمن منيف إلى كسر عناده، فاعتنق المحكيّة للمرة الأولى في روايته الأعظم أرض السواد (1999). لم يجرؤ منيف على التخلّي عن الفصحى (أو اللغة الثالثة) حتّى في مدن الملح التي بدت فيها اللهجة متذبذبة بين المحكيّة والفصحى، فيما تألّقت إلى أقصاها في أرض السواد. وهذه هي المفارقة الثانية التي وسمت السرد العراقيّ حين أُعيدت المحكيّة إلى أرضها القديمة، ولكن على يدي روائيّ غير عراقيّ، ولم يُقدَّر لهذه التجربة أن تُستثمر من العراقيّين بكل أسف، باستثناء تجربة سنان أنطون الذي أعاد إلينا نكهة لهجات الروايات العراقيّة القديمة، روايات التأسيس لما سيحدث لاحقًا.
ليست المحكيّة محض عنصر نافل في النّخلة والجيران، بل لا نبالغ لو قلنا إنّها العنصر الأهم في الرواية، إذ لولاها ما كان للرواية أن تتميّز إلى اليوم. بل يكاد التخلّي عن المحكيّة يكون سببًا مهمًا في تأرجح تجربة فرمان نفسها، حين شرعتْ بالتراجع شيئًا فشيئًا لولا الإنقاذ المتأخّر الذي قدّمته روايتاه آلام السيّد معروف (1982)، والمرتجى والمؤجَّل (1986) اللتان حملتا بريق التجربة الأولى، ولكنّه أقرب إلى انعكاس للبريق القديم، نستشعر فيه وجود نقص غامض، هو غياب المحكيّة على الأغلب، بالتّوازي مع تعاظم غربة فرمان عن العراق القديمة التي بدأت تشيخ في أعماله تباعًا. رواية النخلة والجيران رواية مكان في الدرجة الأولى، ولا معنى للمكان بلا لغته، لغته المحكيّة التي يمكن (ولا بدّ) أن تصل إلى درجة الإغراق أحيانًا، مع أنّ فرمان ضبط جرعتها بدقّة. ليس المكان مقاهي وبارات المثقّفين وأنصاف المثقّفين، والموظّفين بتسلسل درجاتهم في خمسة أصوات وما تلاها من روايات، بل هي لغة الشارع، لغة المسحوقين، لغة الأميّين الذين لا يعرفون معادلةً للحياة إلا معادلة «من اليد إلى الفم»: إنْ لم تعمل اليوم لن تأكل. هم عمّال مياومون في مصنع الحياة البائسة حيث لا فوارق كبيرة بين شخصيّاتها. لن نجد اختلافات ساطعة في مستوى المعيشة أو التعليم (في حال وجوده)، ولذا لن نجد مبرّرًا أو حاجةً إلى اختلاف المحكيّة. تداركَ فرمان الفوارق بين الشخصيّات المتعلّمة وبين الشخصيّات الأميّة في خمسة أصوات حين منح الفصحى للمتعلّمين، والمحكيّة (أو شبه المحكيّة) لغير المتعلّمين، ولذا تبدّى شيءٌ من الخلل في الرواية، لأنّ الحياة لا تعترف بالفصحى في الحوارات حتّى لدى المتعلّمين. الحياة هرميّةٌ متدرّجةٌ من المحكيّات، وليست هرميّة فُصْحَيات كما حاول الأدباء أن يقنعونا. سندرك براعة فرمان أكثر حين نلتقط النّقلة الهائلة التي فصلت بين مجموعته القصصيّة الأولى حصيد الرحى (1954)، وبين روايته الأولى النخلة والجيران (1966). كان فرمان في القصص الأولى متردّدًا يبحث عن صوته الخاص، ولذا بدا الحوار متخبّطًا، ولكنّه حسم أمره في الرواية منذ السطور الأولى ليباغت القرّاء بمحكيّةٍ صارخة، حيث لا مكان للهدوء أو الهمس في أزقّة بغداد المظلمة التي تتقلّب مطحونةً بين رحى الحرب ورحى الفقر. تبدأ الرواية بصياح، وتنتهي بتعثّر، وترسم بينهما حياة شريحة «المُذّلِّين المُهانين» الذين كان لا بدّ لنا من انتظار الأدب الروسيّ كي يذكّرنا بهم كي نتذكّر كتابتهم، يذكّرنا بأنفسنا، يذكّرنا بأزقّتنا، وبشوارعنا، وبمدننا، وببلادنا التي تنوس هي أيضًا بين الصياح والتعثّر. كانت هذه الحياة منسيّة في روايات الطبقة الوسطى المدينيّة، ولا تظهر إلا في الترجمات؛ كانت تبدو بعيدة غريبة وكأنّها تحدث في عالمٍ آخر، عالم أجنبيّ لا يصلنا لظى لهبه إلا مفلترًا في الترجمات، فيما هو يُحرقنا يوميًا، في كل تعاملاتنا منذ الطفولة إلى الشيخوخة. كانت الروايات منشغلةً بتدوين أفكار مثقّفي الطبقة الوسطى ومتعلّميها، حملة لواء التغيير في المدينة، في مقاهي المدينة وباراتها وشوارعها الأنيقة، بينما «ملح الأرض» من الأميّين الهامشيّين يولدون خارج هذه الصورة ويبقون خارجها.
لم يقع فرمان في إغواء الكتابة النظيفة التي لا تتسخ بأوحال الأزقّة المعتمة، إذ حرص حتّى في رواياته اللاحقة التي تتمحور حول متعلّمي الطبقة الوسطى أن يلتفت إلى الصورة الموازية التي تُخفيها شوارع وسط البلد؛ ولم يقع في فخّ أسطرة المسحوقين كما سنجد في روايات عربيّة كثيرة كُتبت تحت يافطة «الواقعيّة». كتبهم كما هم في الحياة، بآلامهم وأحزانهم وأفراحهم وجهلهم وسذاجتهم. أبقاهم كما هم بعيدين من التأثير أو التأثّر المباشرين بالأحداث الكبرى، من دون تجاهل أنّهم أوّل طبقة ستحترق مع كل انتكاسة سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة. لا نجد من الحرب العالميّة، مثلًا، إلا أصداءً بعيدةً من أسماء أجنبيّة يصعب نطقها، ولكنّ لهيب الحرب البعيدة تلك يحرقهم في تعاملاتهم اليوميّة؛ لا نجد تركيزًا مباشرًا على التحوّلات الاقتصاديّة الهائلة التي ستغيّر ملامح المدينة والبلاد، ولكنّنا نتلمّس آثارها القاتلة حين ندرك تعاظم الفقر وبداية ظهور المقارنات بين العمارات الحديثة والبيوت الرثّة، بين المصانع والورشات المتواضعة، بين الصمّون الأبيض والخبز الأسود، بين كهرباء الشوارع وعتمة الأزقّة. لا نجد طرحًا مباشرًا لمسألة الأنا المحليّة والآخر الأجنبيّ الذي يحتلّ البلاد، لأنّ الآخر في هذا العالم المسحوق هو الأنا نفسها. ليست الصراعات إلا صراعات «صغيرة» لن تختلف باختلاف حكّام البلاد، أكانوا إنكليزًا أم عراقيّين، أم من كوكب آخر. صحيح أنّ النخلة والجيران ليست أول رواية عراقيّة مهمة تتناول هذه الشريحة، إذ سبقتها نوڨيلا الوجه الآخر لفؤاد التكرلي، ولكنّ تميُّز فرمان كان في اختياره الطريق الأصعب التي تردّد التكرلي أمامها. أدخَلَ التّكرلي شخصيّة الموظّف المتعلّم بحيث بدا بمثابة مرآة نفهم منها شخصيّات أولئك المسحوقين، غير أنّنا لا نرى فعليًا إلا انعكاسات غير مباشرة، صورًا عبر عيني ذلك الراوي المتعلّم، ولذا لا نحسّ بأنّها من لحم ودم، بل أقرب إلى نماذج منتقاة تولد وتموت وتدور في فلك الشخصيّة الرئيسة. أمّا فرمان فقد ترك تلك الشخصيات تعيش حياتها بلا أدنى تدخُّل، أو تشذيب أو مبالغة. كانت كلّ شخصيّة من تلك الشخصيّات مرآةً لنفسها ومرآةً للآخرين، عالمًا مفردًا متكاملًا وجزءًا من عالمٍ أكبر يشكّل مجموع تلك الشخصيّات. لم نكن نقرأ تأمّلات فرمان في الشخصيّات، بل نقرأ الشخصيّات في ذاتها؛ وهنا بالتّحديد يكمن ذكاء النخلة والجيران وكاتبها.
تبدأ الرواية بالنخلة الهرمة العاقر التي تبدو للوهلة الأولى مرآةً موازيّة لسليمة الخبّازة، على أنّ مواصلة القراءة ستكشف لنا أنّ تلك النّخلة مرآة للجميع، أكانوا جيرانها أم لا. جميع الشخصيّات هرمة وعاقر حتّى لو كانوا في سنّ صغيرة أو ولودين، إذ أدرك فرمان بذكاء أنّ طبقة المسحوقين تولد هرمةً، ولذا نستشعر أنّ جميع الشخصيّات تبدو أسنّ مما هي عليه. ما من شخصيّة تتجاوز الخمسين ربّما، ولكنّنا لا نرى إلا شيخوخة تحكم المكان وسكّانه، وإيقاعًا أوحد يحكم سيرورة الأحداث، إنْ كان ثمّة سيرورة أصلًا. تنكشف شيخوخة المكان حين تدخل عناصر جديدة إليه أو حين يخرج بعض سكّانه إلى الشوارع المضيئة، إلا أنّ المكان لن يتغيّر حتّى لو هجره بعض ناسه لأنّ عجلة الدورات الرتيبة ستعوّض الفارق. تذهب خبّازة وستحلّ أخرى محلّها، يرحل سمسار ويولد سمسار محلّه، يُقتَل مجرم فيُفسِح مجالًا لقاتله كي يحلّ محلّه، ويُقتَل مساكين فيولد مساكين آخرون من دمائهم كي يُقتَلوا بعد حين. تبدو الشخصيّات كلّها منكسرة لأنّ سقف أحلامها واطئ كسقف بيوتهم؛ تولد أحلامهم مُكبَّلةً بخيوط عنكبوت الفقر والقهر والرطوبة والعتمة. نقرأ مشهدًا جميلًا حين يُفاجأ الناس بعتمة البيت وعطنه بعد أن يُهدَم، غير أنّنا ندرك أنّ ذلك الضوء العابر سيخفت إلى أن يستحيل عتمةً رطبةً عطنةً مرة أخرى حين ستعود تلك البيوت إلى مكانها الطبيعيّ في الظلال، ظلال المصانع والعمارات الشاهقة وشوارع المُترَفين، إلى أن تنكشف مرةً أخرى بالهدم وحده. لا فارق إنْ كان الهدم بفعل قنابل الحرب أم تطوُّر العمران، لأنّ الهدم بحدّ ذاته ليس إلا مرحلةً ضمن مراحل دورة الحياة الرتيبة التي تحكم على سكّان تلك الأزقّة بالتكرار الخانق. ندرك متأخّرين، كما سيدرك الشّخوص أنفسهم بعد حين، أنّ عالمهم دوّامة ستجذبهم إليها مرةً أخرى حتّى حين يظنّون أنّهم قد فرّوا، لأنّ العالم عالم سقوف متتالية أيًا يكن ارتفاعها، عالم هوامش تلتهم المتن شيئًا فشيئًا، عالم محكوم بالهدم حتّى حين لا يتدخّل في الأحداث لأنّ الأحداث ستلتهمه لا محالة، عالم رمليّ تكفي أصغر موجة كي تهزّه وتدمّره.
من الغريب أن يطمح رجل اسمه «غائب» بأن يكون «حاضرًا» في عالم الإنتاج الأدبيّ، أو أن يكون لدى شخص اسمه الثاني «فرمان» طموح أعلى من أن يتوظّف ككاتب في دائرة الطابو التابعة للباب العالي.
لا نجد اختلافًا كبيرًا اليوم في مصير غائب طعمة وفرمان وأعماله مقارنةً بكلام كنفاني الذي كتبه عام 1968. واصل غائب عمله في مهنةٍ قريبةٍ من مهنة كتّاب الطابو، حين غرق في جحيم الترجمة التي أنهكت عينيه وجسده، وهمّشت عالمه الأجمل في الكتابة. الفارق الوحيد هو أنّ غائب لم يغب بل غُيِّب، لأسباب كثيرة: منافيه البعيدة المتلاحقة، ترجماته الغزيرة، كسل النقّاد القاتل، وإصراره العنيد على كتابة زمان واحد ومكان واحد في أغلب أعماله، بحيث بدت أعماله ظلالًا لرواية واحدة. لم أكن أعرف كلّ هذه التفاصيل حين قرأت فرمان للمرة الأولى عام 1999، إلا أنّ اسمه استوقفني كما استوقف كنفاني. لاسمه فتنة تعادل فتنة الغروب التي يُدمنها السيّد معروف في روايته آلام السيّد معروف، التي كانت أول رواية أقرؤها لفرمان، وما تزال مفضّلتي من بين أعماله، وستبقى على الأغلب. يبدو معروف مرآةً لفرمان، مع فارق أنّ معروف ما يزال في العراق، بينما فرمان في المنفى، فيما جحيم رتابة العمل الخانقة هو ذاته في الحالتين. تلذَّذ فرمان في كتابة تداعيات معروف اللغويّة، وكأنّه يخشى أن يفقد اللغة في صقيع منفاه، وقسا عليه (على نفسه؟) حين حكمَ على معروف بأن يبقى في الهامش دومًا. كان هامشًا جميلًا، كان افتتانًا جميلًا، حتّى ولو كان بالغروب الذي لا يختلف معناه في الوطن أو المنفى. ولكنّه أوغل في القسوة حين حرمه حتّى من افتتانه ذاك، فبدأت مصائبه تتلاحق مع ابتعاده من الغروب الشجيّ؛ افتتانه حزين وابتعاده كارثة، فيما منفاه قد ولد معه، إذ يبدو غريبًا عن الجميع حتّى عن مدينته وأهله. كمْ كان جميلًا لو أنّ فرمان بقي مع افتتانه بالكتابة وحدها، وكم كان جميلًا لو أنّ معروف بقي مع افتتانه بالغروب وحده، ولكن كان لا بدّ من الترجمة، ولا بدّ من الوظيفة بالرغم من إدراك كلٍّ منهما أنّ مقتله سيكون فيها وعلى يديها. الافتتان مُغرٍ «بس الخُبزة تنراد»، كما يقول مرهون في النخلة والجيران وهو يبكي انهيار عالمه القديم. هذه الخبزة التي تُحْيي وتُميت.