في مصر، عندما يصرخ المولود لحظة ولادته، تغض الدولة النظر عن فرحة أبويّه، أو حتى صرخته كإنسان أو كيان وطني جديد وُلد للتوّ وانتمى للوطن الذي نشأ فيه، بل على أبويه أن يذهبا إلى السجل المدني ليخبرا الدولة أن جسدًا واسمًا قد ولد وسوف يَشغل مع الوقت حيّزًا من المجال العام والخاص. تسجل الدولة المولود كجسدٍ جديد شرّف الوطن. وتعامله حسب رقيّه مستقبلًا، رقيّه طبقًا للحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سيصبح عليها. الكثير من عموم السكان المصريين بطبيعة الحالة الاقتصادية المنعدمة يصبحون بين الفقر والفقر المدقّع بلا نفوذ اجتماعي أو سياسي. وينخرط قلّة قليلة في سيادة وإدارة بيروقراطية الدولة، ولاسيما الأجهزة الأمنية ذات النفوذ الواسع الآخذ شرعيته من حالة الاستثناء المفروضة على البلد منذ عقود كثيرة. [1] بذلك يصبح عموم السكان حتى غير ذوي الانتماءات الإثنوسياسيّة في حالة بطشٍ مستمر من رجال الدولة ومُقرّبيهم. بل إن الدولة تمتلك في أحيانٍ كثيرة حق إنهاء حياة المواطن، بل وتعاقب أي جسد آخر ينتهك تلك الخصوصية في القتل. فكيف تمتلك الدولة حق القتل؟
القتل بغير استثناء
المكان مصر قبل الجمهورية، والزمان يوم 6 نوفمبر عام 1958، وفي إحدى السرايات التابعة للخديوية العلوية (أسرة محمد على) وهى سراية إلهامي باشا ابن عباس باشا وهو أخٌ خديوي مصر عهدئذٍ سعيد باشا. في نهار هذا اليوم وقع العقاب على أحد عبيد حقل السرايا ويدعى سلطان العبد، حيث جُلد ما يزيد عن ألف جلدة بأمرٍ من ناظر الاسطبل عمر بك وذلك لتخلفه يومين عن ميعاد رجوعه إلى الاسطبل، لم يكتفي عمر بك برسم عقابه على جسد سلطان العبد، بل حرم جسده من التئام جروحه حيث أمر بمنع الطعام والشراب عنه، حتى زاد العذاب وفقدت الروح الجسد ومات سلطان العبد، اجتمع عشرات العبيد بعد انزعاجهم ممّا حدث لرفيقهم وهربوا من السرايا ذاهبين إلى الضبطيّة ناحية الأزبكية بالمحروسة (القاهرة حاليًا) وقد أبلغوا عن الحادث وبالفعل ذهبت قوة من الضبطية وقبضت على القاتل عمر بك، وبعد عدة أشهر عُوقبَ بالنفي خارج مصر غير عائدًا إليها مرةً أُخرى.
لا تدلّ هذه الحكاية في عُمقها على وحشيّة ذوات السرايا على العبيد العاملين لديهم أو حتى على عدالة الضبطية والمحكمة (الدولة) في القصاص للمقتول، فلو كان حُكمًا عادلًا لكان جُلد مثله حتى مات، أو وضع في السجن كعقوبةٍ أقل. مع العلم أن مَن كان يرتكب السرقة أو التشرّد أو الهروب من الجيش من عموم السكان في مصر كان يعاقب بعقوبات شديدة مثل القتل والجلد والسجن والوشم وقطع أجزاء من الجسد كاليدِ. ولكنّهم اكتفوا بنفيّه ليس لتحقيق العدالة، بل لأنه تجاوز حق الدولة في إنهاء حياة أحد الأجساد المسجّلة لديها وأحد أدوات الإنتاج الحيويّة المملوكة لها وفقًا لنظريات السلطة الحيويّة عند الفرنسي ميشيل فوكو. [2] [3]
ومنذ بدايات الدولة المصرية في التحديث وصولًا إلى وقتنا هذا، تعقدت أجهزة الدول أكثر وأكثر وزادت في بيروقراطيتها،.وفي القلب منها الأجهزة الأمنية، زادت صلابة وقوّة وتوسع في البطش والقتل في عموم السكان، بل كان بناء القوة الأمنية والدفاعية هو أساس بناء مصر الحديثة متمثلةً في الجيش الحديث للباشا محمد علي، حتى فرضت الدولة كينونتها في رؤية الأفراد العاديين من الشعب غير ذوي السلطة إلى أن وصلت إلى حد الألوهية حسب تعبير الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الدولة المصرية وحشُ في لحظتنا هذه يخاف منه الأفراد ويخشونه [4].
في فيلم إبراهيم الأبيض، من تأليف وإخراج عباس أبو الحسن ومروان حامد، يتجسّد قانون القوّة والبلطجة في الحارات الشعبية بالقاهرة، من الجمل التي قالها الفنان عمرو واكد (عشري) في إحدى المشاهد وهو يشرح جرأة صديقه أحمد السقا (إبراهيم الأبيض) في الخناقات (المشاجرات). عندما ذكر التفاعل من الدولة بشأن الجريمة. قال "اكمـن الحكـومة تصـدر لك قفـاهـا فى أيـتُهـا حـاجه حتـى لو داخلها مشقوق نصيــن .. إلا القتـل" معنى ما قاله بالعاميّة المصرية، أن الحكومة أي الجهاز الشرطي في مصر يتغاضى عن أي مشاجرة تحدث بين البلطجية وأشقياء الحارات، حتى إن نتج عنها فقع عين أو جروح في الجسد، تتغاضى عنها أي أنها لا تسرع في ملاحقة الجاني، ولكن إن نتج عن المشاجرة قتل. وقتئذٍ ارتكب الجاني جرمًا كبيرًا ليس لأنه قتل نفسًا بغير حق، بل لأنه اعتدى على حق الدولة في القتل، ومن هنا لا يهدأ للدولة بال حتى تأتي به وتستجوبه وتُسلمه للمحاكمة، كل هذا تفعله الدولة بغير حاجّتها إلى الاستثناء، فالاستثناء هنا وتعطيل القانون يحدث بحق فئة عرقية أو سياسية بعيّنها.
مساء يوم الاثنين 7 ديسمبر - كانت الهتافات تدوّي حيّ المنيب بمحافظة الجيزة، تحديدا أمام قسم المنيب حيث اتهم الأهالي قوات الداخلية بقتل الشاب إسلام الاسترالي ابن المنطقة الذي تشاجر صباح نفس اليوم مع أمين شرطة إثر تعدي أمين الشرطة على غطاء وجهة محل إسلام، حسب رواية الأهالي، ضُرِبَ إسلام من قِبل أمين الشرطة وقوة معه من الداخلية وجرّوه بعدها إلى القسم حيث لفظ أنفاسه الأخيرة هُناك، جاءت رواية الداخلية مخالفة لرواية الأهالي تمامًا. وتقول أن إسلام توفى إثر مشاجرة في الحيّ مع شباب آخرين، وأصدرت النيابة العامة بيانا تؤكد فيه رواية الداخلية إلا أنها تنتظر نتيجة الطب الشرعي المُشرّح لجسد إسلام وقد بيّن بشكلٍ مبدأي ضربات عنيفة على جسده أدت إلى وفاته، أيًا كان صحة الروايتين فَالقتل خارج القانون بيد الجهاز الأمني في مصر ليس بجديد، بل حدث يتكرر دائمًا.
عبر العقود الطويلة الماضية، ومع توحش الجهاز الأمني في مصر، نتيجةً لذلك اشتهرت مصر بالدولة البوليسية، فقد ارتكبت عدة حالات قتلٍ من قبل أفراد السلطة الأمنية ضد مواطنين مصريين أثناء سيرهم في الفضاء العام، أفراد السلطة الأمنية هنا مُتمثلون في الضباط وعلى الأغلب أمناء ومُخبري الشرطة، لأن الضابط له مساحته الخاصة داخل قسم الشرطة يستطيع بداخله ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب التي تؤدي إلى القتل، وهو يفضل ألا يختلط كثيرًا وسط الجموع، أما أمين الشرطة فهو عُرضة يوميّة بالأحياء الشعبية وغير الشعبية لكثرة وجوده في الفضاء العام، ومن خلال اختلاطه وفرض سيطرته على الناس، يحدث الشجار، مثل أمين الشرطة الذي قتل سائق توك توك في محافظة الشرقية، أو حادث مقتل سائق توك توك آخر في منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، بعد تلك الحوادث يقوم قسم الشرطة المعنيّ أو التابعة لمنطقة الحدث بعمل تحقيق والقبض على الجاني كما حدث مع أمناء الشرطة، ويحدث حتى ذلك مع الضباط، لأن سلطة القتل متمثلةً في الدولة، والدولة لا يمثلها شخصٌ أو آخر حتى إن كان هذا الشخص أحد أفرادها، ولكن تتم العقوبة بعد ذلك حسب نفوذ الجاني أو عائلة المجني عليه ومدى سلطتهما وعلاقتهما المتفاعلة والمتشابكة مع السلطة السياسية والقضائية للدولة في مصر.
القتل بالاستثناء
المؤسسة العقابية في مصر (السجن) خير نموذجٍ مُصغر ومُحكّم في إدارة الأجساد التي تسكن فضائه، لأن السلطة هناك تتعامل مع الإنسان كجسد فقط، وجسد يحتاج أن يُرقّم، ويسمى بعد ذلك برقمه، ومن بعد ذلك وعن طريق انضباط وهندسة الجسد، تُنتج السلطة جسدًا جديدًا للسجين، جسدًا خاضع تعلمه الطاعة وتنفيذ الأوامر وحقارة ونفي ذاته وكينونته، وهذا هو ليس حديثنا، ولكن سنذكر عندما يموت سجين داخل السجن. ماذا تفعل سلطة السجن؟ طبقًا لدراسة استقصائيّة قد أجريتها من قبل عن المؤسسة العقابية في مصر، فعندما يموت سجين، وهذا يحدث كثيرًا داخل السجون، يموت بعدة أشكال إما نتيجة لتوقف أجهزة الجسد عن العمل، أو بالانتحار، أو خلال ضرب رجل من السلطة له أثناء تأديبه، من المستحيلات قتل السجين لسجينٍ آخر، أو حتى تشويه جسده، لأن السلطة تُعلّم السجين أن الجسد هنا مملوكٌ لها، والعقاب شديد عند التجرأ بمس الجسد، حتى لو كان جسد السجين ذاته، بعد أن يُبلّغ أن سجينًا مات، تحدث حالة طوارئ داخل السجن، يمنع بقية السجناء من الخروج في أوقات التريّض (الفسحة)، ويجتمع ضباط السجن، ليروا كيف مات، ويبلغوا النيابة العامّة، إن كان الأمر يحتاج إلى فحص للجسد بواسطة الطب الشرعيّ، وذلك في حالات التعذيب، هنا سلطة السجن تتعامل أن الجسد بعد موته ليس من حقها، بل هو مسؤولية النيابة، يُكتب تقرير بعد ذلك وإن كان التقرير طبيعيّ، يخبروا أهل الجسد الميت أن يأتوا ليستلموا الجسد لدفنه، سواء من السجن أو حتى من القسم التابع له في بلدته.
تستبيح السلطة أيضًا جسد الفئات السياسية المعارضة لها، سواء بالقتل المباشر عند القبض على المعارضين فيما يسمّى بالتصفية الجسدية خارج إطار القانون، أو حتى بالعزل الكُلّي ويسمى الاختفاء القسري، أو حتى العزل بالاعتقال، فتقارير كثيرة من منظماتٍ حقوقية عدة تحدث عن عشرات وربما مئات من التصفيات الجسدية خارج القانون من قبل السلطة الأمنية في مصر (ما بعد 3 يوليو 2013) بحق معارضيها وفي القلب منهم الإسلاميين (الإخوان)، تستبيح السلطة الجسد، بل وتستعرض قوّتها عليه، يتجلّى هذا الاستعراض، في حفلات التعذيب والتأديب داخل أقسام الشرطة والمؤسسات العقابية، بل ومؤخرًا في حق ضابط الجيش السابق هشام عشماوي، عندما التحق بجماعات التمرّد الإسلامي ضد الدولة، ولكن أُلقي القبض عليه وحاكمته الدولة المصرية في تهمّ مختصة بالإرهاب وأعدمته، ولكن الغريب هنا أنها سربت فيديو إعدامه الحقيقي لأحد الممثلين المصريين لينشره على صفحات التواصل الاجتماعي، في مشهد مثير وعميق تستعرض فيه الدولة المصرية قوتها على جسد متهم لديها.
في كل الدول الشمولية، ذات الطابع السلطوي في الحكم، تدخل تلك الدول في إطار التحديث وتكون من ضمن منظومات الحداثة الجديدة، بل تتعاون معها للسيطرة على عموم السكان، بل تأخذ استثناءً قانونيا للتحكم في فئة إثنية أو سياسية بعينها، كما فعلت النازية في اليهود في معسكرات حرق الأجساد، وغيرها من الإبادات الجماعية التي جاءت ضمن محطة قطار الإبادة والاستثناء.
المصادر
١. تعريف حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي، وقد ناقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين. أنظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.
٢. خالد فهمي، الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة، ترجمة شريف يونس، دار الكتب والوثائق القومية،. ص211.
٣. ميشيل فوكو ، تاريخ الجنسانية: إرادة العرفان، ترجمة محمد هشام ،ط4 ، – إفريقيا الشرق –المغرب ، ص 116.
٤. د. عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية: في الجذور والبذور والثمر، ط4، دار الشروق، ص 219.