ناهد سيامدوست
كان محمد رضا شجريان، المغني الإيراني الأسطوري الذي توفي في الثامن من تشرين الأول\أكتوبر يحظى باحترام كبير لأسباب لا تتعلق فقط ببراعته الموسيقية. فقد كان هذا العلم في الموسيقا الفارسية الإيرانية، أهم موسيقي في إيران المعاصرة على الأرجح، وتوفي في سن الثمانين بعد صراع مع مرض عضال لسنوات كثيرة. واحتشدت الجماهير حول المستشفى الذي قضى فيه وبكتْ بصوت مرتفع وأنشدت أغانيه بشكل جماعي. وتسلق رجل على سيارة الإسعاف وصاح وسط تصفيق حماسي:“ ينتمي شجريان إلى شعب إيران كله. ومن حقنا أن نقيم له جنازة مهيبة. إنه فردوسي زمننا“، مشيراً إلى شاعر القرن العاشر الموقر ومؤلف الشاهنامة، الملحمة القومية لإيران الكبرى.
لم تقم الدولة لشجريان جنازة تليق به. لكنه دُفن إلى جانب ضريح أبي القاسم الفردوسي في مدينة طوس العريقة، وهذا مكان راحة أبدية ملائم. وكان شجريان، مثل الفردوسي، من إقليم خراسان الشمالي الشرقي، حيث تقع مدينة طوس. وقد قال مرة في مقابلة أُجريت معه: ”كما أنقذ الفردوسي لغتنا، فإن من واجبي أن أنقذ موسيقا البلاد“ (1). وغالباً ما نُظر إلى الشاهنامة التي ألفها الفردوسي بالفارسية ككتاب يشكل تحدياً ثقافياً ضد الفتح العربي لإيران. بهذا التعليق وضع شجريان نفسه على خط المواجهة مع الفردوسي كحافظ للثقافة الإيرانية في زمنه في ظل جمهورية إسلامية تحارب الموسيقا. لكن شجريان في الحقيقة اعتبر عمله (وعمل الفنانين بعامة) يتجاوز في أهميته إتقان الصنعة أو الحفاظ عليها. ذلك أن شجريان يرى، كما أخبرني في مقابلة أجريتها معه سنة 2011، أن عمل الفنان يمكن مقارنته بعمل رجال الدين الذين يرشدون الناس في حاجاتهم اللامادية. وأصبح هذا الالتزام أكثر وضوحاً بعد الثورة، كما أضاف شجريان، لأن رجال الدين فقدوا مكانتهم في قلوب الناس بسبب انشغالهم بمسائل السلطة والسياسة. وحين ضغطتُ عليه سائلة إذا كان يعني أن رجال الدين والفنانين يقومون بالعمل نفسه، أجاب:“ في حقيقة الأمر نعم، لكننا نفعل ذلك بشكل أكثر جمالاً ومترافقاً مع الموسيقى“. ولم يكن مفاجئاً بعد رحيله أن أطلق عليه كثيرون لقب ”صوت إيران“. وأخبرني في المقابلة نفسها:“هناك ظلم في المجتمع ويجب أن نتحدث علناً عن هذه المسائل لأن الفنان هو صوت الاحتجاج. نعيش وسط الشعب ومنه نتلقى الرسائل ونوصلها“.
أصبح صوت إيران
تعاون شجريان لمدة خمسين عاماً مع أعظم فناني الموسيقا الكلاسيكية الفارسية كي يبدع بعض الألبومات الموسيقية ذات القيمة العالية. وفي سياق هذا العمل جعل موسيقا كانت في طريق الانحدار في السبعينيات مشهورة، ومهّد أيضاً لإحياء أكبر للشعر الفارسي من خلالها. ويستطيع المرء القول، دون مبالغة، إنه سهّل وجود مكان للاستماع كي يتجمع فيه الناس ويتواصلوا داخل التراث الإنسانوي للشعر الفارسي. حظرت هيئات الدولة الجديدة أنواعاً أخرى كموسيقا البوب بسبب ”سمومها الغربية“ الواضحة، وحدت من موسيقا ”الشارع والبازار“ وأغانيها الصريحة أحياناً عن الحياة اليومية والعلاقات إلا أنها استثنت الموسيقا الكلاسيكية من رقابتها والسبب هو أن هذه الموسيقا التقليدية، كما هي معروفة أيضاً، تُعتبر شكلاً محلياً أصيلاً. وكان هناك سبب آخر أيضاً هو أن شجريان والآخرين في فرقة ”تشافوش“ في أواخر السبعينيات حولوا الموسيقا الكلاسيكية الفارسية إلى فن ملتزم دعم انتفاضة الشعب، ووقفوا مع الثورة ضد الشاه.
بدأ شجريان عمله قبل الثورة، حين في مهرجان شيراز الفني في 1977 أنشد:
لم تعرف عيناي النوم في الليل
أنتم أيها النيام
إن الظامئين في الصحراء
يموتون عطشاً
بينما الماء يُحمل
إلى قصور فاخرة.
انتقدت الأغاني التفاوت في الثروة في فترة بهلوي في إيران. وحين فتحت قوات الشاه النيران على المتظاهرين في أيلول 1978 وقتلت سبعين شخصاً تقريباً في مناسبة ثورية أساسية دُعيت ”الجمعة السوداء“، استقال شجريان وأعضاء آخرون في فرقة ”تشافوش" للفن والثقافة علناً من إذاعة الدولة وواصلوا صناعة أقوى أغاني الثورة. ودعت أغاني مثل ”قتال مشترك“ ”ومسافر ليل“ الإيرانيين إلى الانضمام ”إلى طريقنا“ وحثتهم قائلة: ”أعطني بندقيتي كي أستطيع الذهاب، لأن جميع العاشقين في الطريق“. وبشرت أغان أخرى مثل ”فجر“ بالأفق الجديد للثورة حيث ”من هذا الطريق الدموي، ستشرق شمس ميمونة“. ولكن رغم أنه أُثني على شجريان وفرقة ”تشافوش“ بسبب دعمهم للثورة بموسيقاهم، إلا أن المسؤولين في إعلام الدولة وهيئات حكومية أخرى، مسؤولة عن الموسيقا وسياسة الحفلات قيدت حرياتهم الفنية. وحالما نشبت الحرب مع العراق في أيلول 1980، مُنعت الحفلات الموسيقية ولجأ شجريان إلى الصمت لعدة سنوات. لكنه حين عاود الظهور، حافظ على موقفه النقدي الثابت مع مرور الأعوام مما كسب له دعماً كبيراً بين الأجيال المختلفة. وربما في مرحلة ما بعد الثورة الأكثر قمعية، أي في منتصف الثمانينيات، حين كانت البلاد متورطة في حرب مدمرة، والدولة الجديدة تحاول تجنب الخداع السياسي، أطلق شجيريان ألبومه ”بيداد“. وشكا فيه قائلاً:
”هذا المنزل كان أرض الرفاق وطيبي القلب،
متى انتهى اللطف؟
ماذا حدث لبلاد الملوك؟“
اعتبر المحافظون في المجلس الإيراني هذه التعابير خيانة. لكن مبيعات الألبوم التي حطمت الرقم القياسي أظهرت شعبيته في أوساط الشعب الذي خيبت نتيجة الثورة أمله. (2) ورغم أن إتقان شجريان الذي لا يُضاهى للموسيقا الإيرانية يفسر جزئياً شعبيته الهائلة، يجب على المرء أن ينظر إلى مساره السياسي على مدى العقود كي يفهم ما الذي جعله ”صوت إيران“.. إن أغنيته المميزة ”طائر الفجر“ (وهي مقطوعة كلاسيكية إيقاعية) تلخص هذا على خير وجه. وحين كان يؤدي في طهران، أو في أهم المسارح العالمية في لندن وباريس أو نيويورك، فقد كان الجمهوريتوسل إليه دوماً طالباً منه أن يغني هذه الأغنية مرة ثانية. وكان المغني الأيقوني يلبي الطلب دو تردد واضعاً يده اليمنى على قلبه، داخلاً في ما أصبح طقساً في حفلاته. وحين يغني شجريان بصوته الصادح والشاكي، يجسد الطائر المتألم، ويعبر درامياً بالموسيقا والشعر عن صراع الشعب:
يا طائر الفجر،
ابدأْ شكواك.
أعدْ إضرام ألمي
حطّم هذا القفص
بتنهيداتك المتلألئة
واقلبه رأساً على عقب
أيها البلبل المقيد الجناحين،
اخرجْ من زاوية القفص
وأنشد أنشودة الحرية الإنسانية.
وكان جمهور منتش من الطرب ينضم دوماً مردداً اللازمة التي كالصلاة، والتي تعبر عن رغبته بالحرية من الاستبداد:
يا إلهي،
أيتها السماوات،
أيتها الطبيعة،
اجعلي ليلتنا المظلمة تنجلي بصبح!
تعود القصيدة التي تستند إليها الأغنية إلى فترة العشرينيات، حين سحق استبداد رضا بهلوي وتسلطه آمال الإيرانيين بحكومة تمثيلية. وساد بعد ذلك القمع، وصارت القصيدة دعوة إلى الحرية. وحين أدى شجريان نسخته الغنائية، لم ينصهر في صوته تراث شعري وموسيقي عريق فحسب، بل أيضاً مرحلة بطول قرن من صراع سياسي حديث من أجل الحرية. وتعد أغنية ” طائر الفجر“ رمزاً لنقد شجريان ككل، والذي لم يكن أبداً صريحاً للغاية. إن موسيقاه المصاغة في تعابير الشعر الفارسي سمحت بمشاركة واسعة النطاق دون خوف من التداعيات العقابية. وحالما استأنف حفلاته الموسيقية بعد الحرب فإنها صنعت بعض الأمكنة العامة القليلة التي يستطيع الغرباء الاجتماع فيها معاً في أعداد كبيرة والانخراط معاً في خطاب نقدي، من خلال الأشعار التي كان شجريان يختارها بحرص شديد، وأيضاً من خلال سحر أدائه ودعمه.
مُنع شجريان من الأداء في إيران لمدة عقد تقريباً في الثمانينيات. لكنه أحيا آنذاك حفلات لجمهور من أبناء الشتات في أوربا والولايات المتحدة الذين غادروا إيران بسبب الثورة أو الحرب والذين يشكلون الآن جمهوراً كبيراً خارج حدود البلاد. ولعب الشتات وإعلامه دوراً مهماً في نمو شعبية شجريان لأنه قدم منبراً لإبداعاته. وكانت المرة الأولى التي أدى فيها شجريان أغنية ”طائر الفجر“ هي في جولة له سنة 1990 في الولايات حيث أقام حفلة لإحياء ذكرى مؤلف الأغنية مرتضى نيدافودي الذي وافته المنية. وكانت هذه الحفلات تُسجل وتُباع في السوق السوداء في إيران، من خلال التحايل على رقابة الدولة. وعلى عكس العام الذي قضاه في فرقة ”تشافوش“ قبل الثورة، لم يعد شجريان موسيقياً يمارس نشاطه سراً وحاول دوماً الحصول على التصاريح من أجل ألبومات هذه الحفلات. وحين كانت التصاريح تُرفض، الأمر الذي حدث بين فينة وأخرى، كانت تغذية الشتات للسوق السوداء في إيران تعوض الأمر. وفي منتصف التسعينيات رفضت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي منحه إذناً لتوزيع ألبومه ”الهندباء“، والذي يغني فيه شجريان أغنية لسعدي:
”إن الذين يقولون إن الشوق حرام،
يجعلون الشوق حراماً،
لكنهم يحللون دم الناس“.
من المحتمل أن هذه الأبيات تنتقد الثقافة في الجمهورية الإسلامية حيث يُعاقب على الحب بينما يُحتفى بالشهادة. ،ونُشر هذا الألبوم فيما بعد خارج البلاد وانتشر على نحو واسع في إيران.
هذه بعض الأمثلة فحسب عن الطرق التي تحدى بها شجريان الرقابة الرسمية. وكانت حظوظ شجريان في الحصول على التصاريح تشهد جزراً ومداً مع الإدارات المتعاقبة. وفسحت سنوات ما بعد الحرب، التي كانت نوعاً ما أكثر صرامة، المجال أخيراً لحكومة محمد خاتمي الإصلاحية بدءاً من 1997، وأثناءها بدأ شجريان يغني ”طائر الفجر“ في حفلاته في إيران، كما غنى في حفلته سنة 2000 (الأمر لا يُطاق من دونك) . وفي هذه الحفلة، وكي يقدم مثالاً آخر عن خطابه المعارض للدولة، غنى شجريان هذه الأبيات للعطار:
اليوم كعبتي ماخور
نديمي قاض والساقي إمام.
تعال، تعال يا عطار،
من يعرف دخيلاء نفسه؟
من هو السيد، من هو المتجول؟(3)
جو من الحصانة
كان شجريان، الذي نشأ في أسرة دينية في مشهد، يعرف البيئة الدينية جيداً. فقد درّسه والده التجويد القرآني من صغره، وحين صار مراهقاً، صار قارئاً معروفاً. وفي أواخر الخمسينيات حبب إليه البرنامج الإذاعي ”كلها“ الموسيقا الكلاسيكية الإيرانية، وكان هذا شكلاً فنياً ينقله أستاذ إلى طالب عبر الذاكرة. واحتراماً لوالده واصل شجريان دراسة الموسيقا الكلاسيكية الإيرانية تحت الاسم المستعار ”سيافاش بيدكاني“ لأن والده، مثل متدينين آخرين كثيرين، لم يعتقد أن الموسيقا تقود إلى الطريق المستقيم. وعن غير قصد، قدم شجريان الأب لولده تدريباً مبكراً على الغناء. ولم تكن التقنيات الصوتية المستخدمة للتجويد القرآني بعيدة عن āvāz، فن الغناء الكلاسيكي، حيث بدلاً من النص القرآني يُغنى الشعر الفارسي. إن دراسة شجريان للتجويد القرآني (رغم أنها لم تكن وثيق الصلة بعمله) منحته جواً من الأصالة والاحترام في قطاعات المجتمع الإيراني المختلفة، وهذه مكانة لم يحصل عليها إلا قلة من المغنين. وفي جمهورية إسلامية حيث يمكن أن يقود الموقف السياسي المعارض العلني الفنانين والكتاب إلى السجن، فإن هذه المكانة العالية، وبراعته الفنية وخلفيته الثورية أضفوا على شجريان جواً من الحصانة، واستخدم هذه الهالة كي يتحدث من أجل الشعب، مصراً طوال الوقت أن عمله ليس سياسياً ، بل بالأحرى من أجل الشعب. وقد حيّر هذا الموقف جميع الذين أجروا مقابلات معه، والذين واصلوا الإشارة إلى الطبيعة السياسة لأعماله. وحين ألححت عليه في 2011 قال: ”أحاول أن أتحرك في الاتجاه الصحيح“. ثم أضاف:“ حين يتحرك المرء مع الناس يكون موقفه واضحاً… يعرف الناس ماذا يريدون لكن السياسة السيئة تضع نفسها ضد الثقافة وضد الناس لفائدة السلطة“. كانت رسالته رسالة إنسانية كونية حلت مكان السياسة العملية وشددت على التسامح والعدالة والحرية.
قدم التعازي بوفاة شجريان قادة من خلفيات سياسية مختلفة مثل الملكة فرح بهلوي والرئيس حسن روحاني وزعيمة مجاهدي خلق مريم رجوي، وربما يفسر هذا تشديد شجريان على ”الطبيعة الشعبية“ وليس ”السياسية“ لعمله. وصار موقف شجريان أكثر وضوحاً في العقد الأخير من حياته. فبعد الاحتجاجات ضد الانتخابات في 2009، والتي أطلق عليها اسم الحركة الخضراء، وشكلت أكبر حشود احتجاجية نزلت إلى الشارع منذ ثورة 1979، قام الرئيس الذي أعيد انتخابه محمود أحمدي نجاد بنعت المحتجين بالرعاع. أغضب كلامه ملايين الناس الذي احتجوا سلمياً ضد ما سموه انتخابات مزورة. شجريان، الذي ظهر في سيارته وسط المحتجين وشهد عنف الحكومة ضدهم، عبّر عن غضبه، وفي مقابلة مع محطة البي بي سي بالفارسية، جدد طلبه الذي أعلنه مراراً منذ التسعينيات: أن يتوقف تلفزيون الدولة الإيرانية عن استخدام موسيقاه من أجل أهدافه السياسية. وأشار شجريان الذي أثرت به الأحداث إلى خطاب أحمدي نجاد:
”إن صوتي هو صوت الرعاع وسيبقى هكذا إلى الأبد… كلما سمعتُ صوتي الخاص في هذه القنوات الإعلامية كلما ارتجف جسدي وشعرتُ بالعار. إن هذه الأغاني، التي غنيتها في عامي 1978 و1979 كانت للانتفاضة التي قام بها الناس آنذاك… لكنهم الآن يسخرون من هذه الأغاني في وجهي وأمام الآخرين الذين مثلي وفي وجه الناس الذين غنيتها من أجلهم“.
في العام نفسه، أطلق أغنية (لغة النار) دعماً للمحتجين وحث الذي ينفذون عنف الدولة على أن يكونوا إنسانيين:
ضعوا بنادقكم
تعالوا، اجلسوا، تحدثوا، أصغوا إلى الكلمات، ربما
سيفتح وهج الإنسانية طريقاً في قلوبكم.
وعلى الرغم من أن شجريان حصل على شهرة عالمية ككنز قومي، فإن المتشددين شنوا حملة منظمة لتشويه سمعته، ونعتوه بالخائن والمغني البائع المتجول الذي قرر في شيخوخته أن يبيع نفسه لأمريكا. وحظروا بث جميع أعماله في أجهزة إعلام الدولة، بما فيه صلاة مؤثرة جداً تُدعى ”ربنا“ والتي كانت ترافق الإفطار في إيران أثناء رمضان لعقود. وكان شجريان قد فهم الأهمية الروحية لهذه القطعة ولهذا سمح ببثها في الإعلام الرسمي.أقلق إلغاءها كثيراً من الناس، لكنهم واصلوا عزفها على آلاتهم الخاصة. وحين سألته عن هذا رد بطريقته الهادئة المميزة: ”يعتقدون أنهم يضرونني. إنهم لا يمتلكون وعياً اجتماعياً كافياً كي يفهموا أنهم لا يستطيعون أن يجردوا الناس من شيء هم متصلون به روحياً“.
في المواكب التي أعقبت موته، غالباً ما غنى الناس: “إعلامنا الوطني عارنا“، مشيرين إلى الرقابة التي مارستها الدولة على المغني. وتعرض شجريان لعقوبته الأقسى حين بعد تصريحاته في 2009 مُنع من إحياء الحفلات في إيران. وكان شجريان يحب أكثر من أي شيء آخر الغناء في وطنه ولشعبه. وعلى عكس شخصيات أخرى بارزة استخدمت وسائلها الخاصة ومكانتها كي تهاجر، لم يفكر شجريان أبداً بمغادرة إيران. وبقي رغم الضغط الشديد، ولم يتخل عن إعلانه إيران وطناً له، وهذا في حد ذاتها تصريح سياسي. ولقد زاد هذا من حب المعجبين به له، والذين صاروا ينظرون إليه كواحد منهم. وحين سألته عن الأداء في إيران، قال: ”في إيران حين يؤدي الفنان يتذكر ويتقاسم الأسرار مع شعبه الذي عانى معه… نحن كلنا في قارب واحد ونعرف ما تعنيه الكلمات. في إيران الأمر يهم أكثر، كل ما تقوله له وزن أكبر“.
حرمت السلطات شجريان في العقد الأخير من حياته من مكان تواصله مع جمهوره شخصياً. وفي 2014، أعلن الناطق باسم وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي أن شجريان يجب أن يصحح أخطاءه السابقة مضيفاً: “لا يمكن لشخص ما أن يكون معارضاً وناقداً على نحو متطرف، ويرفض القواعد والمعايير الأرضية المتعلقة بالنظام ويتوقع أن يواصل عمله“.(4). وفي أحد ظهوراته العلنية الأخيرة في 2015 قبل مرضه، شكا شجريان بلطف وهدوء بعد تلقيه لجائزة وسط حفاوة الجمهور المصفق والواقف على قدميه: “ليس مسموحاً لي، لم أمتلك إذناً لبضع سنوات، كي أغني لشعبي وفي وطني“. ولكن صوت شجريان لم يغب أبداً عن جمهور المستمعين في إيران. فقد كانت موسيقاه تُسمع وما تزال في المطاعم والمخازن والتاكسيات ومنازل الناس وعلى منابر الإعلام الاجتماعي. وواصل توجيه رسالته عبر هذه التسجيلات.
حين توفي شجريان كتب عازف الكمنجة البارع الذي عمل معه سوهراب بورنازيري: “صارت إيران يتيمة“، وهذه عبارة عبّر عنها بصرياً آلاف المحتشدين في طهران ومشهد وهم يبكون علناً وبشكل مسموع. كانت لحظة صعبة على إيران، أن تفقد ”صوتها“. وفي خضم أوضاع اقتصادية تواصل تدهورها الشديد بسبب العقوبات الأمريكية القاسية والفساد الحكومي، وفي ظل وباء قتل حتى الآن ثلاثين ألف إيراني، يواجه الإيرانيون بعض أكثر الأوضاع تحدياً في الذاكرة الحديثة. وقد ردد الناس، أكثر من أية أغنية أخرى، أغنية ”طائر الفجر“ في تجمعات تذكارية في أنحاء إيران. إن هذه الأغنية، التي كانت نوعاً من النشيد الوطني في حفلات شجريان الطقسية على مدى العقود، ربما هي الآن مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. فهي في النهاية، تحمل وعد يوم جديد من داخل الظلمة الأشد، رسالة يصارع الإيرانيون كي يتعلقوا بها.
[ناهد سيامدوست مؤرخة ثقافية، متخصصة بالنتاج الثقافي في إيران والشرق الأوسط، صدر لها مؤخراً كتاب حمل عنوان ”الموسيقا المواكبة للثورة: سياسة الموسيقا في إيران“. نشرت المقالة بالإنكليزية على «جدلية» وترجمها أسامة إسبر.]
هوامش
[1] Interview with VOA Persian, 22 October 2011;
[2] See “Bidad-e Shajarian dar Majles,” 7 Aban 1394;
[3] I am indebted to Abbas Amanat for pointing me to this song, and for its translation.
[4] See “Shajarian bayad raftarha-ye gozashteh-ye khod-ra jobran konad,” 9 December 2014;