حان وقت الإغلاق في هافوك وجلس فارغو إلى البار، يمزمز بكأسه.
قال جوي: حان الوقت من أجل آخر طلب، نحن على وشك الإغلاق.
أردف فارغو: سأساعدك في الإغلاق إن أحببتَ.
أكد جوي: هذا جيد.
يبدو أنك أمضيتَ ليلة ممتعة.
جاءت حبيبتك باكراً.
حقاً؟ مع كوهلر؟
نعم، مع كوهلر. مع من غيره؟ حدثتْ مشاجرة كبيرة بينهما وغادرت بسرعة.
هل كانت منتشية؟
كانت بالطبع مسلطنة. منتشية وثملة، ملعونة، مختلة، مضطربة، سمِّ الأمر كما تشاء. إنها امرأة مجنونة يا فارغو. من الأفضل أن تعثر لنفسك على امرأة أخرى.
كان جوي عادة يحتسي القليل جداً من الكحول أثناء العمل لكنه الليلة ولسبب ما شرب لساعات، وكان فيه طريقه كي يثمل.
عقّب فارغو: من الصعب فهمها. فهي متقلبة المزاج. ربما ليست حتى مجنونة، ربما تبحث عن شيء ما، أو شخص ما. أُحبّها.
أحبها أنا أيضاً. ماذا إذاً؟ أحب أن أضاجعها أيضاً. ماذا إذاً؟ هذا لا يعني أنها سوية.
ليست سوية. إنها مجنونة.
قال فارغو: ربما هذا عادي. ربما هذا ما تعنيه كلمة عادي. ربما تعني مجنوناً. انظر حواليك، ما الذي تراه؟ مجانين في كل مكان. ربما هذا هو العرف.
علّق جوي: ليس العرف. بل هذه أميركا. إنها بلاد ملعونة، هذا ما هي عليه. إنها تجعل الناس مجانين.
قال فارغو: من المفترض أن تكون أعظم بلاد في العالم. فكيف حصل أنها تجعل كثيراً من الناس يفقدون عقولهم؟ لا أستطيع أن أفهم هذا. ما أعرفه هو أن بيلي تنحدر من عائلة من الضواحي سعيدة وسوية وتخلو من المشاكل. أعني هذا يجعلك تتساءل: إذا كانت تنحدر من مكان رائع كهذا، كيف حصل وانحرفت بهذه الطريقة؟
تناول فارغو رشفة من كأسه، ثم وضعه على البار وقال:
ذهبتُ الأسبوع الماضي أنا وبيلي إلى جيرسي. سقنا في البلدة التي نشأتْ فيها، وهي بلدة صغيرة. لها اسم جميل أيضاً هو فيرهيفن. اسم جميل جدا. فيرهيفن. يجب أن تذهب إلى هناك يوماً ما وتراها.
لماذا؟
لأنها كما قلتُ لك بلدة جميلة جداً. كما أنها قريبة من هنا.
أين تقع بالضبط؟
في أميركا. هنا. أين تعتقد أنها تقع؟
قال جوي مستاء: لا أحتاج إلى الذهاب إلى مكان آخر كي أشاهد أميركا. أينما حللتُ هنا أكون، في أميركا، طالما أنني لا أغادر البلاد. لماذا يجب أن أذهب إلى نيوجيرسي؟
قال فارغو الذي تعلّم بعد سنوات من العمل خلف البار أنه يجب أن تردد كلامك ثلاث مرات لثمل كي يسمعه مرة: لمشاهدة فيرهيفن.
كانت المرات الثلاث غير كافية على ما يبدو لجوي، الذي حدق بفارغو بعدائية وقال:
ولماذا يجب أن أذهب إلى فيرهيفن؟
رد فارغو: كي تراها. كي ترى البلدة وشوارعها.
لدينا شوارع هنا. لماذا يجب أن أذهب إلى هناك؟
إنها شوارع مخططة بالأشجار، يا جوي. لديهم شوارع مخططة بالأشجار، أشجار الدردار والقيقب. منازل جميلة. مروج وحدائق. الكثير من النقود. مكتبات ومدارس، وكل الأشياء التي من المفترض أن تجعلنا سعيدين وأسوياء وعاقلين.
قال جوي: إذا كان والداها يعيشان في منزل جميل أو بلدة جميلة أو أي شيء فهذا لا يعني أنهم ناس جيدون. انظرْ إلى فيتنام.
فيتنام؟ ما علاقة فيتنام بهذا؟
يمكن ألا تعرف هذا، لكنني سأقول لك شيئاً، نحن ندفع جميعاً، أنت وأنا، ودافعو الضريبة الأميركيون الآخرون، ثلاثمائة ألف دولار كلفة كل فيتنامي نقتله، كل فرد، وهذا يشمل الأطفال والنساء. ثلاثمائة ألف دولار. هل تعتقد أن بلاداً تنفق ثلاثمائة ألف دولار في محاولة لقتل شخص واحد، بلاداً تنفق ملايين الدولارات كل يوم في محاولة لقتل آلاف الناس الذين لم تسمع بهم أبداً، سوف تلتفت وتنشئ أمة مليئة بالأطفال الأسوياء والعقلاء والسعداء والمحظوظين؟ انْسَ هذا، يا رجل، انطلقت هذه البلاد في رحلة موت لعينة منذ أربعمائة عام. انظر إلى نفسك مثلاً، لديك كل ما تعيش من أجله، وماذا تفعل؟ تخرج وتبني علاقة مع مختلة عقلياً تعيش مع قاتل محترف. إنها رحلة موت، هذا كل ما هي عليه، أنت لا تختلف عن أي شخص آخر. إن الحلم الأميركي هو: القتل والنيك والموت. كنتُ في نامْ(1). لا تحدثني عن الأطفال السعداء. بأية حال، هي ليست طفلة، ولستَ أنت كذلك، إذا واصلتما اللقاء، سيموت أحدكما.
ارتشف جوي رشفة طويلة من كأسه وأضاف:
رأيتُ كثيراً من الناس يموتون في فيتنام. صدقني يا فارغو، الأمر لا يستحق ذلك.
بصراحة يا جوي أجهل لماذا ذهبنا إلى فيتنام. لم أفهم السبب إطلاقاً. لماذا نخوض الحرب هناك؟ نقتل كل أولئك البشر. ما الهدف من هذا؟ ما الذي فعلوه لنا؟
حدق جوي بفارغو لوقت طويل. كانت نظرة ثملة، غير مركزة على نحو عميق، ومهددة على نحو غامض، كما لو أن جوي يصارع كي يتذكر من هو فارغو. بدا جوي غاضباً، على شفا الانفجار.
سأله فارغو: بماذا تحدق؟
تجاهل جوي سؤال فارغو وقال:
هل تعرف ماذا سمعتُ؟ هذه هي الحقيقة أيضاً، هذا ما سمعته، بسبب التنجستن (2) اللعين. التنجستن! لم أسمع بهذا الخراء من قبل أبداً. ما التنجستن؟ أعني، انظر، أنا أميركي، مثلك تماماً، وطني لعين. أنا متزوج. لدي أطفال. إذا أساء أحد ما لعائلتي أنا مستعد كي أحاربه، سأقتل كل من يفعل هذا، ما من مشكلة. اللعنة! أن تقتل من أجل أسرتك ومنزلك وعملك وشيء تحبه شيء، لكن التنجستن اللعين. إنه ليس إلا…
تلعثم جوي للحظة، كما لو أنه يختنق بالكلمات، ثم أطلقها بغضب:
إنه معدن لعين، يا رجل. فتشتُ عن معنى الكلمة. التنجستن. من يهتم؟
قال فارغو: أعتقد أنه ثمين. لا أعرف. أعتقد أنني سمعتُ هذا أيضاً. التنجستن. هذا يكفي ليصيبك بالجنون.
صاح جوي: سأخبرك ما الشيء الثمين. أنا ثمين. أنت ثمين. زوجتي وأطفالي، زوجتك وأولادك. ماذا عن الفيتناميين؟ ألا تعتقد أنهم قيّمون أيضاً؟
قال فارغو: أتمنى لو تتوقف عن الصراخ في وجهي. لم أقل أبداً لم يكونوا هكذا.
نهر ميكونغ اللعين، الأدغال، كل ذلك الخراء، كان هذا مقيتاً يا رجل. كيف حدث أنك لم تذهب أبداً؟
قال فارغو: كنت متزوجاً. أعتقد أنني كنت محظوظاً.
أنت الآن مطلق.
منفصل، ليس مطلقاً.
قال جوي: لديك أسرة جميلة.
قال فارغو: نعم، أعرف ما لدي.
انتابت جوي نوبة بكاء. صُدم فارغو. كان جوي دوماً شخصية قيادية، وآخر شخص في العالم توقع فارغو أن يشاهده يبكي. جعل حزن جوي فارغو يصحو على الفور، فدفع كأسه جانباً وبلطف أخذ الكأس من يد جوي ثم أمسك برأسه وضمه، تعانق الاثنان من فوق البار، وتلامس وجهاهما، بينما كان جوي يبكي. دلك فارغو قفا رأس جوي بيد وربت على ظهره باليد الأخرى، كان ربتاً بطيئاً وإيقاعياً كخفق قلب، وواصل جوي البكاء. لم ينتبه أحد في هافوك. كان رواده ثملين ومنتشين جداً فلم يلاحظوا، أما الحياة الصاخبة الإيروتيكية للبار التي بدت الآن غير منطقية أو مهمة لفارغو فقد واصلت التموج حولهما. وقف جوي في المركز الهادئ لهذه العاصفة المصطنعة، ورأسه يضغط بشدة على رأس فارغو، والاثنان متشابكان، واحد يبكي ويجهش والآخر يربت ويدلك. تمتم فارغو كلمات مريحة لا معنى لها في أذن جوي، أصواتاً خفيفة من التعاطف والصداقة، من الأمل والابتهاج، كان جدول تمتمة ثابتاً من الكلام الذي من الجلي أنه في ترافقه مع تدليك رأس جوي والربت على ظهره أحدث تأثيراً مهدئاً، وبعد وهلة، بدأ جوي يزداد هدوءاً. انتهى بكاؤه، ثم توقف جسده عن الارتجاف، وأخيراً، بعد أن طال بكاؤه قليلاً، هدأ بين ذراعيْ فارغو، ثم ربت على قفا رأس فارغو، إشارة صغيرة كي يجعل فارغو يعرف أنه هو، جوي، على ما يرام الآن، ويستطيع فارغو أن يفلته، وأنه سيكون بخير، ونوبة البكاء انتهت.
سأله فارغو: هل أنت بخير؟
قال جوي: ربما الأسبوع القادم سنذهب إلى فيرهيفن. نشاهد الأشجار وكل شيء.
قال فارغو: أكيد. لماذا لا؟ سأحب هذا.
إنها رحلة موت لعينة كبيرة، يا فارغو.
هل تتحدث عن فيتنام ثانية؟
أتحدث عن كل مكان، فيرهيفن، فيتنام، نيويورك، أينما ذهبت. خذ حذرك، اتفقنا؟ إن كوهلر سكين مهووس لعين.
[ترجمة: أسامة إسبر]
*- فصل من رواية ”فارغو بيرنز“ للروائي والمسرحي الأميركي كوس كوستماير تصدر قريباً عن دار خطوط وظلال في الأردن. وهو روائي وشاعر ومسرحي وكاتب سيناريو أميركي. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيه جائزة دائرة نقاد الدراما في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية، كما حصل على جائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية. صدر له عدد من الروايات والمسرحيات والدواوين الشعرية.
الفصل المنشور هنا هو السادس عشر وقمنا بوضع العنوان.
هوامش
١- المقصود هنا فيتنام كما كانت تدعى في أميركا أثناء الحرب.
٢--كلمة تنجستن مشتقة من اللغة السويدية tung (ثقيل) وsten (حجر) وتعني الحجر الثقيل. اكتشفه الكيميائي السويدي كارل فيلهيلم شيله سنة ١٧٨٣، وهو عنصر يستخدم في صناعة الأسلاك المتوهجة في المصابيح الكهربائية. يدعى أيضاً الولفرام.