الاتحاد الأوروبي ومصر. شراكة تنتهك القيم الأساسية

[القاهرة في 31 مايو/أيار 2019. دعوة لوفد الاتحاد الأوروبي إلى مصر لإفطار خلال شهر رمضان، مع ممثلين عن وزارات مصرية ومنظمات غير حكومية ووكالات أممية وشركات وجامعات ودول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.] [القاهرة في 31 مايو/أيار 2019. دعوة لوفد الاتحاد الأوروبي إلى مصر لإفطار خلال شهر رمضان، مع ممثلين عن وزارات مصرية ومنظمات غير حكومية ووكالات أممية وشركات وجامعات ودول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.]

الاتحاد الأوروبي ومصر. شراكة تنتهك القيم الأساسية

By : Arabic Editors

بودوان لوس

ولّى زمن ابتهاج الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بالربيع العربي، ولم يعد هناك أدنى تردد في التعاون مع أكثر الديكتاتوريات وحشية، كالنظام المصري.

مرت رحلته إلى مصر دون أن يلاحظها أحد، في وقتٍ كانت فيه أعين العالم مشدودة إلى أمريكا، التي كانت تحبس أنفاسها في خضم الفرز الانتخابي. هكذا قام البلجيكي شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، بزيارة لبضع ساعات إلى القاهرة، يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السّيسي. يتعلق الأمر، وفق بروكسل، بالاستشارة مع أحد أهم القادة العرب في وقت تُلقي فيه الأزمة الجديدة التي اندلعت في فرنسا، وهي قضية الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد، بظلالها وتهدد بتعتيم العلاقات بين الغرب والشّرق. بلغة خشبية، قال شارل ميشيل عبر تغريدة من العاصمة المصرية: «استهدفت الهجمات الأخيرة في أوروبا قيمنا الأساسية، وحرية الضمير والدّين. إذا كنا عازمين بشكل مطلق على مكافحة الإرهاب، فإنه يتوجب علينا أيضًا تعزيز الحوار مع شركائنا. أنا اليوم في مصر من أجل توحيد جهودنا».

توَضح هذه الزيّارة بشكل جليّ الغموض الذي يكتنف العلاقات القائمة بين الاتحاد الأوروبي وجمهورية مصر العربية. إن اتحاد القوى بين كيان أوروبي يُمجّد حدّ التّباهي “قيمه الأساسية” ودولة من جنوب البحر الأبيض المتوسط تسعى بنجاح لأكثر من نصف عقد من الزمن لتستحق لقبها كدكتاتورية شرسة، يُثير بالفعل العديد من الأسئلة، إن لم تكن حتى الشكوك. تهيمن «السياسة الواقعية» بشكل ساحق، لتُقوّض بشكل كبير تطبيق القيم التي يدّعي الأوروبيون التّمسّك بها.

يبرز التاريخ الحديث تقدماً على مستوى الأولويات بين المصريين والأوروبيين. يرى كورت ديبوف، الباحث في “جامعة بروكسل الحرة” ورئيس تحرير موقع “إي يو أوبزيرفر” (EU Observer) الإلكتروني، وهو الذي قضى الفترة ما بين 2011 و2016 في القاهرة كمبعوث خاص للمجموعة الليبرالية في البرلمان الأوروبي، أن «العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر تطورت على مرّ السنين». يشرح ديبوف الأمر قائلاً إن هذه العلاقات، «بعدما كانت رسمية إلى غاية سنة 2011 وتعتمد على مشاريع صغيرة دون أمل في تحقيق تقدم كبير، مرت إلى مرحلة من التعاون المكثف بهبوب رياح التغيير الديمقراطي في المنطقة، قبل أن تقتصر خلال السنوات الأخيرة على المفيد: مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشّرعية. تحسّنت إذن العلاقات بعد 2011، لكن ليس بشكل كبير. لقد توفّرت على الأقل بعض فرص الاستثمار ليس فقط في الاقتصاد المحلي ولكن أيضًا في المجتمع وحتى في الديمقراطية. بيد أن القيادة المصرية لم ترغب أبدًا في التطرّق إلى هذا البعد الأخير».

«التعذيب أصبح منهجياً»

لكن هناك ما هو أخطر. تحت القيادة الاستبدادية للمشير السّيسي، شرع شريك الأوروبيين المصري، منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 الذي وضع حدا لسنة من حكم الإخوان المسلمين، في إدارة البلاد على أساس نزع الحرّيات، وبالتالي، قمع أي اختلاف. من مكتبه في تونس، يرى المصري حسين باومي، الباحث في منظمة العفو الدولية لشؤون شمال إفريقيا، أن «أزمة حقوق الإنسان في مصر صارخة“. ويشرح الوضع قائلاً إنّ «التّعذيب أصبح منهجيّاً، كما أن قوات الأمن تستخدم قوانين مكافحة الإرهاب لقمع المعارضين السّياسيين والأصوات المُنتقدة أو حتى نشطاء حقوق الإنسان. يتعرض آلاف الأشخاص لهذا القمع، وقد يتعرضون للاحتجاز وأحيانًا للتعذيب قبل أن يُحاكموا. يتعلّق الأمر بصحافيين لم يقوموا سوى بعملهم، وبمحامين وأشخاص ذنبهم الوحيد أنهم انتقدوا تدبير وباء كُوفيد-19، إلخ. لقد باتت انتهاكات حرية التعبير هي القاعدة، خاصة على الإنترنت، إذ يجد العديد أنفسهم رهن الاعتقال بسبب”الأخبار الكاذبة“على سبيل المثال، لمجرد إبداء رأيهم على شبكات التواصل الاجتماعي. كما يتعرض أفراد مجتمع”المِيم"1 لخطر الاعتقال. وهناك أيضاً حالات الاختفاء القسري، وأخيراً وليس آخراً، استمرار إعدام الأشخاص المُدانين2».

بفضل دعم كلٍّ من واشنطن والرياض وأبو ظبي وتل أبيب، تصاعدت لا مبالاة النظام المصري بالانتقادات التي توَّجه له في ملف حقوق الإنسان، خاصة مع إغماض الاتحاد الأوروبي نفسه لعينيه أمام ما تتعرض له “قيمه” من هجمات شرسة على ضفاف النيل، والاكتفاء بإبداء بعض الملاحظات والنصائح الشكلية تماماً. وبالتالي، باتت حجة الاستقرار الضروري والمقدس لمصر، التي فرضتها العواصم الأوروبية الأكثر نفوذاً، تشكل أساس العلاقات الثنائية بين هذا البلد والاتحاد الأوروبي. من جانبه، لا يتردد النظام المصري في تلميع صورته كشريك مفيد. ففي بروكسل على سبيل المثال، رحّب البعض بأدائه الذي يجعل منه نموذجًا للفعالية ضد الهجرة غير النظامية. وهذا ما يتّضح من خلال تصريح المستشار النمساوي سيباستيان كورتز يوم 20 سبتمبر/أيلول 2018 -أي في الوقت الذي كانت فيه بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي- حيث أشاد بمصر بوصفها «الدولة الوحيدة في شمال إفريقيا التي نجحت، منذ عام 2016، في كبح كل محاولات انطلاق المهاجرين» عن طريق البحر.

مساعدات معطّلة من قبل القاهرة

حفّزت هذه العلاقات المتميزة شعوراً بالتقدير الذاتي بل وادعاءً مزعوماً بالثقة في النفس لدى النظام المصري. وهكذا، عرفت بعض برامج التعاون التي خططت لها بروكسل تعثراً في بدء تنفيذها منذ عامين، لأن القاهرة كانت تطالب في كل مرة بحذف نفس المادة من الشروط العامة للاتفاقيات والتي تؤطر هذه المساعدات. يتعلق الأمر بالبند رقم 26، الذي ينص على إمكانية تعليق الاتفاقيات في حالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فمنذ عام 2018، ووزارة الخارجية المصرية تبلغ المفوضية الأوروبية أنها لا تقبل، أو لم تعد تقبل، هذا الشرط.

في حيرة من أمرهم، يبحث الأوروبيون عن حلِّ وسط، لأنهم حريصون على الحفاظ على الأقل على بعض برامج الدعم المخصصة للقطاعات الاجتماعية والاقتصادية والمجتمع المدني التي لا تربطها علاقة مباشرة بحقوق الإنسان، كتجديد الأحياء العشوائية على سبيل المثال. لكن الصراع متواصل، لأن مصر تجعل من القضية مسألة مبدأ. ومع ذلك، يعرف المراقبون المطلعون في القاهرة أن الشؤون الخارجية تخضع أيضًا لتأثير الأجهزة الأمنية، وأن الوزارات التقنية هي ضحاياها. باختصار، يجد التعاون المصري ـ الأوروبي نفسه رهينة التوترات السياسية.

لا يخاطر النظام المصري كثيراً، إذ أن رصيد الإعانات الحالية يبقى في حدود الـ 1.3 مليار يورو، وهي عبارة عن مساعدات للميزانية، ومساعدات قِطاعية، ومساهمات في وكالات التنمية، ومساعدات للشركاء العامّين أو للمنظمات غير الحكومية. تمثل أداة سياسة الجوار الأوروبية هذه حوالي 115 مليون يورو مخصصة لمصر سنويًا. المبلغ ليس هائلا لبلد يعد 100 مليون نسمة، فالمغرب يتلقى 200 مليون، وتونس 300، وفلسطين أيضا (بما في ذلك “الأونروا” -وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين). بل يُصبح مبلغ الـ 115 مليون دولار ضئيلاً مقارنة بالمساعدات الأمريكية أو ما يُقدّمه صندوق النقد الدولي، رغم أنها تبقى تبرعات وليست قروضًا. سعياً وراء النّجاعة، يُركز الاتحاد الأوروبي على عدد قليل من القطاعات كالمياه والطاقة والولوج إلى تمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى برامج تطوير الأحياء العشوائية في القاهرة الكبرى. دون أن ننسى الدعم الأكثر حذراً لعدد قليل من المنظمات غير الحكومية. وفوق كل هذا، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي الالتزام بهذه المبالغ.

لا تنزعج كبرى الدول الأوروبية من هذا الوضع، فرِهانات التجارة والهجرة ومكافحة الإرهاب أهم بكثير. على سبيل المثال، فضّلت فرنسا وألمانيا وإيطاليا توقيع عقود أسلحة تتألف على التوالي من مقاتلات قاذفة وغواصات وفرقاطات، وهو ما تقدَّر قيمته بمليارات الدولارات. لذلك، إذا كانت هذه الدول تحتفظ رسميًا بموقف خطابي أخلاقي بشأن حقوق الإنسان داخل المجلس الأوروبي، فإن بنوكها ووكالاتها التنموية لا توقع بنداً خاصاً باحترام حقوق الإنسان عند عقدها لاتفاقيات أو قروض مع هذا البلد، كما أن سفاراتها الثنائية في القاهرة لا تُظهر نفس الحزم، لأن كل طرف يدافع عن مصالحه الوطنية.

شريك “لا غنى عنه”

إلى جانب المصالح التجارية للأوروبيين، يُحرك النظام المصري بمهارة الأوراق التي بحوزته. تُوضّح ليزلي بيكيمال، مسؤولة المناصرة الأوروبية في معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن «السلطات عرفت، منذ 2015 على الأقل، كيف تلعب لعبة دبلوماسية سياسية ماهرة، أحيانًا أقل دقة لكن بشكل فعال جدًا، لتعزيز دور مصر كشريك “لا غنى عنه” ضمن الاستراتيجية الأوروبية في الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ، وكذلك في إطار مراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب. إن هذا الأمر يخلق رهانات في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر، والتي على أساسها لا يريد الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأعضاء فقدان التعاون المصري عن طريق الاصطدام مع السلطات المصرية بشأن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون".

من موقعها المتميز كمراقبة من بروكسل، تكشف ليزلي بيكيمال، من الجانب الأوروبي، وجود “تركيبة غير فعالة أو متماسكة بالضرورة، وهي مزيج من الدبلوماسية العامة، التي تتّسم بالخجل فيما يتعلق بالقضايا المزعجة (حقوق الإنسان، مكانة ووزن الجيش المصري، الدعم العسكري للمشير خليفة حفتر في ليبيا ...). وتنحصر هذه الدبلوماسية بشكل عام في القنوات الرسمية ذات الوقع الإعلامي الضعيف جداً، مثل المداخلات الشفوية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والتي تكون أحيانًا غائبة أو غير بارزة أمام أحداث مثيرة للقلق كقمع مظاهرات في سبتمبر/أيلول 2019 والذي أسفر عن 4400 اعتقال وإخفاء قسري». في الوقت ذاته، «تطفو هذه الدبلوماسية بشكل واضح ومتماسك وبارز نسبيًا عندما يتعلق الأمر بالجوانب”الإيجابية" للعلاقة مع مصر (الدعم المالي في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، والبنيات التحتية والغاز، أو التعاون حول القضايا الإقليمية مثل فلسطين...)».

البرلمان الأوروبي لإنقاذ الشرف

لإنقاذ الشرف الأوروبي، إذا جاز التعبير، فإن الوِجهة تكون نحو البرلمان الأوروبي. رغم افتقار هذه المؤسسة إلى صلاحيات حقيقية، مع الأسف، إلّا أنها أصدرت أربع قرارات طارئة تتعلق بحقوق الإنسان في مصر خلال السنوات الأخيرة (أولها عام 2016 بخصوص قضية الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، الذي قد تكون “الأجهزة” المصرية وراء وفاته الفظيعة في القاهرة). ومؤخرًا فقط، في 21 أكتوبر/تشرين الأول، وجّه 222 نائباً من البرلمان الأوروبي ومن برلمانات دول أوروبية رسالة مفتوحة إلى الرئيس السّيسي يطالبونه فيها بـ“إطلاق سراح السجناء السياسيين” و “وقف انتهاكات حقوق الإنسان”.

ما يَبرز أكثر، في المقابل، من العمل الدبلوماسي للهيئات التنفيذية للاتحاد الأوروبي هو ما تُجسده عبارة “الأعمال مستمرة كالعادة”، وهو ما توضحه أيضاً الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى القاهرة، في 3 سبتمبر/أيلول 2020 الإسباني خوزيب بوريل، وهو الممثل السّامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية. في تغريدة له تُغني عن أي تعليق، وصف بوريل الرحلة قائلاً: “بدأت زيارة مهمة إلى القاهرة بمحادثة مستفيضة مع الرئيس السّيسي. تلعب مصر دورًا رئيسيًا في المنطقة ونحن نسعى جاهدين لتعزيز العلاقات ومواصلة التعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك. الاتحاد الأوروبي ومصر شريكان قويان”. ومن يشك في ذلك؟

[ترجم المقال من الفرنسية هشام المنصوري.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬