لم يكن مقتل إسلام الاسترالي إثر التعذيب في قسم شرطة المُنيب الحالة الأولى من هذا النمط في القتل، القتل خارج القانون بواسطة التعذيب والضرب المبرح في أقسام الشرطة، بل على مرّ العقود الفائتة تكررت تلك الحوادث، ومات الكثيرون أثناء تواجدهم داخل تلك الأقسام، مِمَّا يوضح مدى انتهاجية السلطة التنفيذية لهذا النمط في التعامل وإدارة مشاكل المواطنين الغير مُنتمين، فالقتل هنا ليس من أجل معاداة سياسية، أو قمع واستثناء فئة إثنوسياسية مُعينة من حقوقها، بل يأتي القتل ضمن منهجية الاستعراض الشرطيّ على أجساد المواطنين. في هذا المقال. أحاول ذكر بعض الحالات التي حدثت مؤخراً، وتبيان علاقة السلطة الأمنية ورجالها بِأجساد وذوات المواطنين؟ وما هي ردّة الفعل والإجراءات التي تحدث من الطرف الرسمي للدولة وفي المقابل الطرف الآخر من ذوي الضحية؟
تعددت الأسباب والموت واحد
مساء يوم 1 ديسمبر عام 2019. في قسم شرطة الهرم، قُتِل المواطن أحمد طه المسلماني من قرية كرداسة بالجيزة بسبب التعذيب على يد ضابط المباحث ومُساعديه، اتَّهم أحد أصدقاء ضابط المباحث المواطن أحمد بالسرقة حيث كان يعمل عنده، واقتاده إلى قسم الشرطة، وحسب شهود العيان قام ضابط المباحث ورجاله بعمل حفلة تعذيب بحق الضحية حتى الموت.
في القاهرة أيضاً، في قسم شرطة الموسكي، يوم 9 أبريل الماضي فارق المواطن وليد محمد فتحي الحياة إثر تعرضه للتعذيب داخل السجن لمدة يومين، حسب شهود الحادثة، يعمل وليد مديراً لشركةِ شحن، أوّقفه ضابط قسم الموسكي ليسأله عن أحد المطلوبين وقد دلّه وليد على المكان، ليعود إليه من جديد ويُلقي القبض عليه بحجّة أنّه دلّهم على المكان بالخطأ، ليعود وليد بعد يومين إلى أهله جثة فاقدة الروح إثر تعرضه لنزيفٍ في المخ وكسور في الأضلُع نتيجةً للضرب حسب بيان الطب الشرعي.
مؤخراً. ومرةً أُخرى داخل قسم شرطة الهرم، يوم 7 أغسطس 2020، حيث قُتِل المواطن طارق محمد الجبري، حيث قد تم القبض عليه قبلها بيوميّن فقط، وقبل ذلك في 22 يوليو 2020، قد قُتِل المواطن علاء معوض في قسم شرطة أبو المطامير بمحافظة البحيرة نتيجةً للتعذيب، حيث كان مُحتجزاُ على ذمّة قضية جنائية.
ربما تكون الحادثة الأعلى صيتاً والتي بدورها استعادت ذاكرة جامعة لانتهاكات رجال أقسام الشرطة بحق المواطنين، هي حادثة مقتل إسلام الاسترالي، وهو شاب يبلغ من العمر 26 عاما، يسكن في حي المُنيب، يقف في محلاً لبيع الحمام والعصافير، حيث اندلع أثناء تواجده في المحل شجاراً بينه وبين ضابطاً وأربعة أمناء للشرطة بسبب "تندة المحل" حيث سبَّ أمين الشرطة إسلام بوالدته، فرد إسلام السبّة له، فتعرض للضرب من قِبلهم واقتادوه عنوّةً إلى قسم المنيب، ومساء هذا اليوم 7 سبتمبر 2020 أبلغ قسم الشرطة أهل إسلام أنّه توفى. رفضت والدة إسلام استلام الجسمان حينها واتهمت ضابط القسم ومساعديه من الأمناء بقتل ابنها، وبدورها فتحت النيابة العامة تحقيقا في الواقعة، حيث أدانت ضابطا وأربعة أمناء للشرطة، وذلك بعد تقرير الطب الشرعي الذي أثبت وجود ضربات على جسد إسلام، وأيضا بعد تفريغ كاميرات المراقبة التي كذبت رواية القسم وصوّرته وهو داخل إلى القسم حياً.
داخل القسم. بين السلطة والمواطن.
غالبية حالات التعذيب التي تؤدي إلى الموت مع الأشخاص المقبوض عليهم إثر اشتباهٍ جنائي، لا ينتج التعذيب فيها بسببٍ مادي، أي أنّه لا يُعذب من أجل الاعتراف بمعلومات عن أفراد في جماعة سياسية، أو جماعة مُسلحة تعادي نظام الحكم، هنا يستخدم المحقق أساليب التعذيب من أجل الاعتراف، وفي حالة أُخرى من أجل الانتقام لقيمة ما هو يمثلها ويدافع عنها، لكن في حالة المحتجز الجنائي، يقوم مبدأ التعذيب على إثبات القوة كوسيلة للقهر وإحكام السيطرة وإبداء القوة العُليا على أجساد المُعذّبين. ومن ثمّ ترسيخ ثقافة الطاعة والخضوع للسلطة عن طريق استباحتها أجساد المواطنين الفقراء، غير المنتمين لذوي الطبقات العليا، والذين لا يملكون سوى أجسادهم لتكون هي عقابهم الوحيد من السلطة.
في مصر. التعذيب ليس أداة حداثية، ولا هو من اختراع نظام يوليو العسكري ما بعد 1952، بل تواجد حتى من قبل الخديوية في مصر، كان للتعذيب في القرن التاسع عشر (1800 - 1900) كما يصف المؤرخ المصري خالد فهمي هدفين. الأول هو نزع الاعترافات من المتهمين في القضايا الجنائية، والثاني كعقاب رادع لمرتكبي تلك الجرائم. ولكن في عام 1861 صدر أمر من الإدارة الخديوية باستبدال عقوبة التعذيب بالسجن. لأسباب كثيرة من بينها أن التعذيب غير متكافىء كعقاب للجناة. أيضاً التعذيب غير مُجدٍ في جلب الاعترافات، لأن الاعترافات تكون مُزوّرة في كثيرٍ من الأحيان أملاً في التخلص من ألم التعذيب الواقع. [1]
لم تكن التشريعات سواء في عهد أحفاد العلويّة إلى الدستور الحالي (دستور 2014) مانعةً للتعذيب في الواقع، بل توحش الجهاز الشرطي بحق المواطنين ظل يتكالب حتى وصل إلى الذورة ممّا شكّل علاقة خاصة قائمة على القهر والخوف والقمع بين رجل الشرطة من جهة والمواطن من الأُخرى. تلك العلاقة تشكّلت في ذاكرة المواطن الغير منتمي لذوات الطبقات الاجتماعية أو الاقتصادية العُليا من جهة ومن الأُخرى بالجهاز الشرطي، حيث يرتعب الطرف الأول من الثاني ويخاف بطشه العنيف الذي لا مفرّ منه إن طاله أو احتكّ به، هنا العلاقة طبيعية التشكّل في ظل نظام استبدادي قائم على القوة والمحسُوبية وتوطيد المعارف بذوي السلطة، فالطرف الثاني هو من ضمن الدائرة السلطوية العليا من حيث القوة، فضلا عن المكانة الاجتماعية والاقتصادية أيضاً، والطرف الأول الذي تنقطع علاقته بالطبقة القوية في المجتمع ممّا يصبح عُرضة بشكلٍ دائم للقمع أو على الأقل للاشتباه [2]، لذلك يكون فعل ورد الفعل من المواطن الأول هو سلوك اجتناب التعامل مع الشرطة وأقسام البوليس خشيةً من التعذيب أو الحجز أو تلفيق القضايا فيما يسمّيه الأكاديمي المصري مصطفى حجازي بنظرية الإشراط الجنائي المنسوبة لعالم النفس الأمريكي بورهوس فريدريك سكنر. [3]
تشارك أيضاً السرديات الشفهية في الفضاء الاجتماعي لدى الناس في تكوين تلك الرهبة، تأتي تلك السرديات من أصحاب السوابق (الحبسجية)، الذين خرجوا أو مازالوا يذهبون إلى القسم سواء للمراقبة أو المتابعة، ومن حكايات الشباب ذوي الصلة بهم، وحتى من أفواه مخبري وأمناء شرطة المناطق، حيث يسمع الناس عن كمّ التعذيب الذي يحدث داخل أقسام الشرطة، وطرق التعذيب أيضاً سواء عن طريق الكهرباء أو الضرب المبرح وتعليق الجسد، وإهانته عن طريق التعرية، فضلاً عن إهانة النفس بسبِّ الأم والأب، وسبِّ الشخص وكنيّه بأسماء تدل على عدم ذكوريته، لذا يصبح قسم الشرطة كحالة مَكانية مُرعبة، وفضاءٌ لا يحب المواطن دخوله سواء كان شاكياً أو مشكوّاً.
ينخرط رجال الشرطة سواء ضباطاً أو مخبرو وأمناء للشرطة في عمليات الانتهاك بحق المواطنين، حتى وإن كانوا حديثي التخرج والتعيين، لأن ثقافة الانتهاك هنا هي ثقافة مُمنْهجة، وهذا هو ما تسمّيه الدكتورة بسمة عبد العزيز بثقافة الولاء للمنهج [4]، أي النظام المتواجد منذ عشرات ومئات السنين يسمح بتلك الانتهاكات ويستخدمها كأداة من أدوات السيطرة على السكان، ولا يحاسب عليها إلا في حالات استثنائيّة، فَالقيمة العليا لدى المُعذّب هي التي تحددها الدولة، كقيمة وطنية تستوجب التعذيب والخلاص من أيّ معارض سياسيّ للحكم أو حتى كقيمةٍ أخلاقية يحافظ بها النظام على هيبته من مجرمي وجنائيّ الأحياء والمناطق، لذا يتفاعل أي رجل شرطيّ متواجد داخل المنظومة طبقاً للولاء للمَنهج القائم عليه النظام، وكلما مارس المُعذّبون سلطتهم بإيلام جسد المُعذّب كلما أصبح الأمر عادياً بالنسبة لهم، ويصبح التعذيب علاقة نفسية واجتماعية يمارسها رجل السلطة بحق جسد الآخر. [5]
علاقة رجل الشرطة مع المواطن تختلف أيضاً وفقا لرتبته، فعلاقة أمين الشرطة ومخبرو الأقسام والمناطق تبدو علاقة احتكاكية يوميّة بالمواطن المصري، طبقا لظروف الناشئة الشعبية التي يتحلى بها أمين الشرطة والمخبر، خلاف ضابط الشرطة الذي يسكن بعيدًا عن المناطق الشعبية، ولا يتعامل مع هؤلاء المواطنين إلّا داخل الفضاء المكانيّ إثر سلطته في الضبط والتحقيق فقط. اختلاف آخر جديرٌ بالذكر هو علاقة الضابط بأمين الشرطة أو المخبر، فغالبا ما يتصدّر أمناء الشرطة أو المخبرون أعمال القمع والتعذيب للمواطن، إثر ذلك تختلف أيضاً إجراءات التعامل عند وقوع حالات موت بسبب التعذيب، فتكون قدرة الضابط أعلى وأقوى في تفادي الأمر والالتفاف حوله سواء بالضغط على الأهل بشتى الوسائل للتنازل عن المحضر أو حتى في استخدام نفوذه الاجتماعي لتفادي العاقبة قانونيا عكس أمناء ومُخبري الشرطة التي يسلك غالبا القانون فيهم مَجراه.
ردود الفعل
عندما يموت أحد المحتجزين في أقسام الشرطة نتيجةً للتعذيب، تأتي ردة فعل رسمية من جهتين الأولى هي رجال القسم. حيث يحاول ضباط القسم المتورطون في تعذيب الضحية حتى القتل إبلاغ أهله أنّه توفى نتيجةً لتوقف وظائف أجهزة الجسد، وأنهم لا دخل لهم في موته، بدورهم أهالي القتيل إن لم يأخذوا برواية ضباط القسم، يسجلون محضراً ويتهمون رجال القسم في قتله، وتأتي النيابة العامة لفحص الجسد بواسطة الطب الشرعي ومعاينة وسماع تفاصيل الحادثة، وبناءً عليه تفتح تحقيقاً، كما حدث في حادثة إسلام الاسترالي، حيث تم القبض على والدة إسلام من قِبل ضباط القسم للضغط عليها للتنازل عن المحضر وتسليمها أن ابنها توفي بشكلٍ طبيعي ولكنّها رفضت، وفتح المحضر وفيما بعد أمرت النيابة العامة بإخلاء سبيل الضابط وحبس 4 أمناء للشرطة على ذمّة القضية.
الجهة الثانية هي النيابة العامة. حيث يكون تحركها أقل مع تعذيب وقتل أشخاص محتجزين على ذمة قضايا سياسيّة سواء داخل أقسام الشرطة أو خارجها، كما في حادثة عويس الراوي، حيث شككّت النيابة العامة في تحقيقات الصحافة المستقلة وشهادة أهالي القرية بشأن مقتل عويس على يد الضابط بعد مشاجرةً معه، ولم تعلن بعدها مجرى التحقيق إلى أين وصل، يرجع هذا إلى تعطّل القانون الممنهج والمُسيّس من قبل رأس السلطة السياسية بشأن خصومه السياسيين، بالإضافة إلى موت العشرات من المحتجزين السياسيين في الأقسام والسجون نتيجةً للتعذيب، ولم يفتح تحقيقا بشأن تلك الانتهاكات.
يأتي هنا رد الفعل من ذوي المجني عليه، على شكليّن إما أن تكون تحركات فردية تأخذ السلك القانوني في تقديم البلاغات للنيابة العامة ومُجاراة التحقيق ومحاولة إثبات الإدانة بحق القتلة، أما الشكل الثاني هو الذي يأخذ رداً جماعياً من ذوي القتيل وأهالي منطقته، كما حدث في حالة إسلام الاسترالي وعويس الراوي حيث خرجت مظاهرات في المنيب وقرية العواميّة يطالبون بالقصاص ومحاكمة القتلة من ضباط ورجال القسم، وأحياناً أُخرى قد يتحوّل هذا الغضب إلى احتجاجات في أماكن أُخرى في الجمهورية، مُنددين بمنهجية التعذيب لدى الجهاز الأمني بحق المواطنين كما في حادثة مقتل خالد سعيد وسيد بلال منتصف عام 2010 وبدايات عام 2011، وكانت تلك الحادثتين سبباً رئيسيا في احتجاجات يوم 25 يناير وما بعدها حتى الإطاحة بنظام حسني مبارك.
مازالت العلاقة بين المواطن البسيط وبين رجال الداخلية في مصر كما هي، قائمة على الخوف والقهر والإذلال، ربما تستمر تلك العلاقة في قسوتها وانتهاكها المتزايد للقانون وكرامة وجسد المواطن إلى حين مَجيء سلطة عادلة تعيد هيكلة القانون من حيث الإشراف، وتغير منهجيات التعامل اللاآدمية القائمة بين الطرفين.
المصادر
1- "Justice, law and pain in Khedival Egypt,” in Standing Trial: Law and the Person in the Modern Middle East, ed. Baudouin Dupret (London: I.B. Tauris, 2004) pp. 85-116.
2- للمزيد حول تاريخ الاشتباه: على الرجّال، «مجتمع الاشتباه الدائم» المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية. دراسة نشرت بتاريخ. 19 أغسطس 2020.
3- مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي 2005، ص89.
4- بسمة عبد العزيز، ذاكرة القهر: دراسة حول منظومة التعذيب، دار التنوير ،2014، ص 211.
زيجمونت باومان، الحداثة والهولوكوست، ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان، مدرات للطبع والنشر، القاهرة، ص 183.