هاأنذا أقفُ قبالةَ ماضيّ قبل ستِّ سنواتٍ، أقفُ في مدينةٍ سمّيتها مدينتي قبل أن تأكل الحرب جناح ضحكات الأطفال في أزقتها، لم تعد ضحكات الأطفال تطير، ولا الطائرات الورقية ولا رائحةُ الحياة، وحدها الرصاصات تسبحُ في سماءِ شنگال، تسبحُ الرصاصات في مسابحِ أرواحنا، لا تتعب، ولا نحن ننتهي.
أشاهدُ (خانێ مالێ) الحجرة التي فتحت أحضانها لي ووهبتني من أوكسجينها، أولُ حجرةِ دخلتُها بعد ولادتي، لم يبدُ عليها حجرة بعد الآن، قد تهدم الجدارُ والسقفُ أصبحَ ملجأً للحشرات. قالتْ أمي إنني خطوتُ أولى خطواتي في هذه الحجرة. كانت تبتسمُ مع أبي وتشاركهما جدران الحجرة ابتسامتهما بأول إنجاز لي (المشي). لم يدرك أحدٌ أن هذه الخطى سوف تكبر معي حتى تبلغ شبابها. لم يدرك أحدٌ أنني بخطىً مشابهةٍ لهذه سأهربُ، سأهربُ من الموت. كُلٌ مِنّا يقضي على ما يستطيع القضاء عليه، وما لا نقدرُ عليه؛ يقضي علينا.
لم يكُ بمقدورِ امرأةٍ تخبزُ على تنورٍ طينيٍ وتزرع الابتسامات على وجوه أطفالها أن تقضي على الحربِ. لم يكُ بمقدورِ شابَّةٍ بعمرِ الخامسة عشر لا هدف لها سوى العثور على نوعٍ جديدٍ من الورود لحديقتها أن تقضي على الاغتصاب. لم يكُ بمقدورِ طفلٍ يلعبُ بالطين أن يلعب بالأقدار. لم يكُ بمقدورِ عجوزٍ تقفُ كل صباحٍ بمواجهةِ الشمسِ وتدعو لكل البشرِ أن تقضي على الموت. لم يكُ بمقدوري أن أقضي على الحياة في المخيم.
ترددتُ وأنا أوشكُ على الدخول إلى بيتي (كان بيتي، الآن اصبحَ مدينةً للنهارات التي خرجت من التقويم الميلادي وتركت الساحة لِلَّيل). وددتُ لو بجانبي ما أستند عليه. دخلتُ، على اليسار (خانێ مێرا) لم يبقَ من الغرفةِ التي يقارب طولها خمسة عشرة مترًا سوى بعض الركام. كان أبي قد رسم عصافيرًا وأشجارًا وسماءً ونهرًا على جدارها. العصافيرُ طارت وخريفُ العمر حَلَّ على الأشجار. السماءَ صارت هاوية، والنهرَ صارَ بركة لأسماكِ الغياب.
على اليسار حديقتنا، يبسَ العشبُ، في مكان مرجوحتي كرسيٌ مهترئٌ وطاولةٍ بلا أقدام، يجلسُ عليها غيابي ويحدِّقُ فيَّ. لم يبقَ مني في هذا المنزل سوى غيابي. حين لا نتواجد، لا تبقى أماكننا فارغة، الغيابُ يحتلُّها حالما نخطو خطوة. ليس للغيابِ حربٌ يخوضها، للوجود حروبٌ لا تنتهي.
خرجتُ من البيت. لم أحتملْ ما رأيت، وما لم أرَ. مشيتُ إلى السوق، في الشوارعِ التي اجتزتها وأنا ألهثُ، أتنفسُ بصعوبة. هذا الخراب لا يقف على الأرض، يقف على صدري ويمنعني من التنفس براحة. ليس للبيوت نوافذٌ ولا شرفة تطل على الشارع. أغلبها بيوتٌ ذات طابق واحدٍ وطينيّة. بيوتنا هويتنا، ولأنني بلا بيت، لا هوية لي. ولا أنتمي لأي مكان، أشعر بالغربة في كل مكان، حتى وأنا جالسٌ لوحدي، لا أنتمي لي.
لاحظتُ في السوقِ معهد موسيقى افتُتِحَ جديداً (بعد الإبادة) تذكرتُ كيف أن إحدى الشابات التي كانت ترافقنا في السيارة اثناء التهجير، عزفت على أسفل قِدر نحاسيٍ لتطمئن اخيها الصغير وتغطي على صوت الرصاصات. لكنّها لم تفلح، لا يُمكِن للموسيقى أن تقتل الرعب. من السهلِ أن تهرب من الموت، لكن الاستخفاف به ليس بالأمر الهيّن. للموتِ مشاعرٌ، للموتُ مشاعرُ كرهٍ يكنّها للأبرياء. حين أجبرت أمٌ شنگالية على طبخ طفلها وأكله كان الموت فرحاً. حين حمل أبٌ سنجاريٌ رأسَ ابنتهِ وحملتْ زوجته جسدها، كان الموت فخوراً بعبيده، كان الموت ينظر لهم بطرف عينه وهم يركضون بملابسهم الرثة ويبتسمُ كالغبي. لا يمكن أن نفعل شيئاً. اكتسبت الحياة برودةً في المخيم. أصبحتْ لا تشعر بأطرافها، وتحتاجُ بيتًا يأويها.
في المخيمِ شتاءٌ شابٌ طائِشُ يدخُلُ في خصوصيةِ الخيَّمِ ويَحُرمُ عليهم (دفء العائلة السعيدة) في المخيم؛ الناسُ فقراءٌ ولا يملكون ثمنًا للحياة، ولا للموت. لكن الموت كريمٌ ومعطاء. يُهديهم موتًا مجانيًا ويرتدون خيّمَهُم البيضاء بدلًا عن الكفن، يموتون باردين. مَن لم يمُت، يبقى جثة متحركة، تبردُ أطرافه والشحوب يصبغ وجوههم. السعادةُ تحتاجُ أفقاً واسعاً، والخيمة ضيقة.
في المخيم نساءٌ يلففن القطن الأبيض حول رؤوسهن ويشربن الكثير من المياه، لتنبت الورود على قبور الموتى في قلوبهن. وحين تزورُ منظمةٌ إنسانية أطفال المخيم العراة، يهبونهم ملابس، يُسِرعُ الأطفال إلى ارتدائها، لكنَّهم يوقفونهم، ليلتقطوا صورة، وينشرونها على الإنترنت.
أجفلني صوت سيارةٍ مظللةٍ وهي تسرع على الطريق العام. كانت شمسُ شنگال ساطعة والغيومُ بيضاء لطيفة تستمتع بسمائها الزرقاء. لكنني شعرتُ بالبرد، ارتجفت اطرافي ولم أستطع التحمل. أخرجتُ سترتي من حقيبتي وارتديتها، بردُ المخيمُ ينهشُ عظامي ويرحل معي أينما رحلتُ. كل مكانٍ نعيش فيه يترك بصمة على أرواحنا لا يمكن محوها بسهولة كما نتصور. الذكريات لا تعرفُ طريقًا، تجيء كعاصفةٍ هائجة وتدمر ما طاب لها من طمأنينة. المخيم ترك البرد بصمةً له على روحي. لا يمكن لأي نارٍ أن تُدفئ روحي، إلا حين تصعد روحي للسماء وتجلس على كرسيٍ هزازٍ قرب الشمس.