لورا جوتسدينر Laura Gottesdiener
أبلغ الأطباءُ عن ارتفاع كبير في التشوهات الخلقية بين أطفال المدينة منذ غزو 2003، وحتى هذا اليوم لا أحد يعرف السبب.
بعد ثلاث سنوات من حصار الجنود الأميركيين لمدينتها بدأت طبيبة الأطفال العراقية سميرة العاني تواجه مشكلة في قسم التوليد، ذلك أن النساء يُنْجبن أطفالاً بأعضاء تنتأ من بطونهم أو لهم سيقان ملتصقة معاً كأذيال حوريات البحر. وبدا البعض كأنهم مكسوون بجلود ثعابين فيما خرج آخرون من الرحم وهم يلهثون دون نجاح من أجل الهواء. لم يعرف أحد ما المشكلة لدى الأطفال، ويمكن القول أيضاً إنه لم يكن هناك أحد يسعى إلى معرفة ذلك. كان العام هو 2007، أوج العنف السياسي والطائفي الذي سببه الغزو والاحتلال الأميركيان. واعتُبرت الفلوجة، حيث كانت العاني تعيش وتعمل، من أخطر المدن على وجه الأرض من ناحية عدم الاستقرار وتعذر الدخول إليها. وانتقلت الأنباء عن الأطفال من أروقة المستشفى إلى الأفنية الداخلية لمنازل المدينة، وهُمست بين القريبات الإناث والجيران. وسمعتْ انتصار حسين، وهي ربة بيت من الفلوجة، عن التشوهات بعد أن عادت ابنة عم لها من جناح التوليد. وروتْ حسين عن لسان ابنة عمها: ”أنجبت امرأة طفلاً بذيل، وأنجبت أخرى طفلاً له وجه أرنب“. زحف المرض إلى عائلة حسين، أيضاً، كما ذكرت: أنجبت زوجة أحد أخوتها طفلاً بدون عظام جمجمة لحماية أنسجة الدماغ، وتوفي الطفل أثناء الولادة. وتعرضت زوجة أخ أخرى لإجهاضين ثم أنجبت طفلاً برأس كبير منتفخ. توفي أيضاً. بعد ذلك في الحال صار أطفال الفلوجة موضوعاً يثير القلق في الاجتماعات العشائرية وفي نقابة الأطباء في المنطقة. واشتبه كثير من السكان بأن الهجمات الأميركية الرئيسية ضد المدينة ربما لها علاقة بهذه التشوهات. ذلك أن الهجوم الثاني الذي بدأ في أوائل تشرين الثاني\نوفمبر 2004 كان المعركة الأشرس من بين كل معارك الحرب الأميركية في العراق، فالحصار الذي استمر ستة أسابيع قتل آلاف العراقيين والعشرات من الأميركيين ودمر معظم المدينة. لكن هذه الشبهات ظلت طيَّ الكتمان. وخارج منازل الناس، خلف أبواب المداخل الحديدية، سيّر رجال مشاة البحرية الأميركية الدوريات في الشوارع. وقال السكان إنهم يخافون من أن الولايات المتحدة لن تستجيب بلطف لتلميحات قد تقدح شرارة أزمة صحية عامة. فضلاً عن ذلك، لم يكن الأميركيون الفاعلين الوحيدين الذين يجب أن تضعهم الفلوجة على قائمة المسؤولية. فقد شنت الحكومة الوطنية التي يتزعمها الشيعة في بغداد، (التي نظر إليها الجميع كدمية لواشنطن وطهران) حملة اعتقالات ومارست التعذيب والانتقام السياسي من نقادها، وخاصة في مناطق ذات أغلبية سنية كالفلوجة. وفي الفلوجة تنافست ميليشيات وأحزاب سياسية عراقية مختلفة على السلطة السياسية، وهي أيضاً سعت إلى السيطرة على نشر المعلومات من أجل أجنداتها الخاصة. لكن حتى إذا لم يكن الناس خائفين، لم يبد أن هناك الكثير الذي يمكن أن يفعله أي شخص حيال التشوهات الخلقية في تلك الأيام كما قال الأطباء والسكان. ففي جميع أنحاء العراق، أطلق الغزو الأميركي موجة عنف ضد الأطباء، الذين جعلتهم ثروتهم النسبية وعملهم أهدافاً سهلة وسط الصراع الطائفي المتنامي في البلاد. وفي 2007، حين بدأت العاني تلاحظ التشوهات الخلقية في الفلوجة قدّرت الجمعية الطبية العراقية أن نصف الأطباء المسجلين أُجبروا على الفرار من البلاد. وتعرض الذين بقوا مثلها لخطر الاعتقال والاغتيال وعملوا أيضاً في ظروف سيئة بسبب نقص الأدوية والأجهزة الطبية والماء والكهرباء.
[الطبيبة الجيدة: الدكتورة سميرة العاني تقدم المعلومات حول التشوهات الخلقية بين المرضى في مستشفى الفلوجة الحكومي.]
قالت: “شعرنا أن هناك خللاً ما، لكن لم يكن بوسعنا فعل أي شيء“. وظنت زميلة العاني منتهى علواني، وهي طبيبة مختصة بالأجنة أيضاً، أن هناك مشكلة. بدأت المرأتان العمل في المستشفى منذ أواخر التسعينيات، واعتقدتا أنهما بدأتا تشاهدان تشوهات خلقية أكثر مما كان عليه الأمر قبل الغزو الأمريكي. وباشرت العاني بهدوء تسجيل الحالات، وصوّرتْ علواني المرضى الصغار. وصنعت العاني استمارة لتسجيل التشوهات الخلقية ووزعتها على أجنحة المستشفى. شكك كثير من زملائهما بالأمر، وذكرت العاني أن البعض قالوا لها: “لا فائدة ترجى من هذا، لكنهم كانوا مخطئين. لفتنا انتباه العالم كله من خلال توثيقنا“.
كان سجل العاني المخصص لهذا العمل بداية بحث متواصل استمر عاماً لتوثيق اللغز الطبي الأكثر إثارة للجدل في الحرب العراقية والتحقيق فيه: ازدياد التشوهات الخلقية، والتي بدأت كما ذكر الأطباء المحليون بعد أن غزت الولايات المتحدة البلاد في 2003 وما تزال تحدث في المدينة حتى هذا اليوم. لكن السؤال المثير للجدل هو: هل أسهمت الأنشطة العسكرية الأميركية في الفلوجة في حدوث هذه التشوهات الخلقية؟ حوّل هذا الاحتمال القلق الصحي العام إلى جدل علمي وسياسي دولي. وركز الجدل الحامي حول الفلوجة لسنوات على استخدام وتأثير مادة سامة محتملة في الأسلحة الأميركية، وخاصة اليورانيوم المنضب(1). لكن النقاش أغفل بصورة خاصة أسئلة أشمل وربما أكثر إلحاحاً حول التأثيرات الصحية العامة طويلة الأمد للحرب الحضرية على السكان المدنيين وأخطار تسييس العلم والطب في أوقات الصراع.
[آلات الحرب: أثناء معركة الفلوجة الثانية في 2004، مشاة البحرية الأميركية يقصفون المدينة]
لم تجب وزارة الدفاع على معظم الأسئلة التي طرحتها مجلة "ذ نيشن" حول مزاعم أعداد مرتفعة للتشوهات الخلقية في الفلوجة ناجمة عن الحرب. وقدمت نشرتها التي تشرح فيها ”سياسة المعالجة البيئية خارج الولايات المتحدة“ التي تقر بأن ”وزارة الدفاع لا تمتلك سلطة عامة أو تمويلاً للانخراط في المعالجة البيئية خارج الولايات المتحدة“. وتقر السياسة أيضاً أن وزارة الدفاع” لا تقوم بأي فعل لمعالجة التلوث البيئي الناجم عن الصراع المسلح“. بدورها، قالت الحكومة العراقية إن الولايات المتحدة قدمت موارد لا تُقدر بثمن لمعالجة المخاوف البيئية والأمنية في البلاد في الأعوام التي أعقبت الغزو. وصرح جاسم عبد العزيز حمادي الفلاحي، وكيل وزارة الصحة والبيئة في العراق: ”تدعمنا الولايات المتحدة ليس فقط في حقل الإشعاعات بل في حقل التغير المناخي وتلوث موارد المياه". لكن بعد مرور 17 عاماً على الغزو الأميركي، ما زال لغز أطفال الفلوجة يشغل بال العراقيين. وبقيت معظم مظاهر القصة عن التشوهات الخلقية في المدينة موضوعاً مثيراً للجدل. ورغم أن التقارير والصور عن أطفال الفلوجة المبتورين والمشوهين سافرت من صالات منظمة الصحة العالمية وصفحات المجلات الطبية إلى نص مذكرات البنتاغون الداخلية وملصقات المسيرات المناهضة للحرب، واصلت العاني وزملاؤها العمل في مركز تشوهات خلقية صغير ويخلو من الموارد، وهم يعالجون الآن أطفالاً كان آباؤهم أطفالاً حين غزت الولايات المتحدة العراق.
في صباح يوم حار من أيام أيلول في 2019، كانت مجموعة من النساء تنتظر خارج بناء غير قانوني في مشفى التوليد في الفلوجة على ضفاف نهر الفرات. جلست بعض النساء وحيدات، يحملن أطفالهن وأحفادهن في أحضانهن وتمشّى بعضهن الآخر وتبادلن التحية بقبلة على الخد. كانت بينهن سميرة أحمد التي ذكرتْ أن حفيدتها مرام تصارع كي تتنفس منذ أن أخذتها الأسرة إلى المنزل منذ بضعة شهور. وأضافت أن مرام هي الابنة الأولى لزوجة ابنها بعد حملين سابقين انتهيا بالإجهاض. واكتشف طبيب قلب الأطفال فيما بعد في ذلك اليوم ثقباً صغيراً في قلب مرام. كانت العاني آنذاك تقود السيارة من بيتها في وسط الفلوجة إلى المستشفى. وفيما هي تقود عبرت محلات الألبسة والخضار ومحلاً براقاً لبيع شرائح اللحم ومناصب شاي على جانب الطريق حولها عجائز يراقبون الأباريق المغلية وكؤوس زجاج الاستكان الرقيقة. كانت نهاية الصيف هي فصل البلح في العراق، وتكومت الأطباق المليئة بالثمار الحلوة عالياً في جميع زوايا الشارع تقريباً. وأحاطت السقالات ببعض المساجد المشهورة التي بانت في مآذنها ثقوب الرصاص. لم تكن رحلة العاني اليومية مريحة. ففي 2005 و2006 بعد أن احتلت القوات الأميركية الفلوجة، اختنقت الشوارع بنقاط التفتيش الأميركية فكانت تضطر إلى اجتياز الميلين من بيتها إلى المستشفى مشياً على الأقدام. وفي أوائل 2014 كان تقود سيارتها بقلق بين مقاتلين مقنعين من تنظيم الدولة الإسلامية وهي في طريقها إلى العمل. قُصف بيتها والمستشفى عدة مرات، ومنعها هذا من التنقل بين فترة وأخرى. وبعد الثامنة صباحاً بقليل ركنت العاني سيارتها أمام مركز التشوهات الخلقية. كانت امرأة صغيرة ونحيلة تنحني إلى الأمام وهي تسير، مما منحها مظهر امرأة متلهفة للوصول. فتحت باب العيادة ثم أسرعت بخطوات قصيرة مدروسة عبر الأعشاب المصفرة عابرة رجالاً يدخنون السجائر ينتظرون أخباراً طيبة عن زوجاتهم، ودخلت إلى قسم حديثي الولادة حيث انحنت فوق طفل يُدْعى محمد وُلدَ منذ أسبوعين بجيب كبير يحتوي جزءاً من دماغه ينتأ من قفا جمجمته، بحسب صورة من المستشفى. سجل هذا التشوه الذي يُدعى”قيلة دماغية كيسية“(2) نسبة وفيات عالية لكن الأطباء المناوبين قالوا إن الطفل يتماثل للشفاء من العملية الجراحية التي استأصلت الكيس وجففت السائل الدماغي الشوكي المفرط. انحنت العاني فوق الحاضنة رافعة ذراعيْ وساقيْ محمد وفحصت عنقه القصيرة وأضلاعه المشوهة. قالت ببرود:” سيكون مشلولاً“. كان أحد أربعة أطفال أصيبوا بتشوهات خلقية ولدوا في المستشفى في 28 آب، بحسب سجلات المستشفى ولقاءات مع الأطباء. كان اثنان منهما توأمين، أحدهما برأس منتفخ والثاني بأعضاء مشوهة وأعضاء جنسية غير سوية. الرابع له فتحتا منخرين مغلقتان بشكل كامل. قبل أيام، كانت الطفلة تستلقي في حاضن إلى جانب محمد، تبكي وهي تصارع كي تتنفس. نظرت العاني في الغرفة المكتظة بحثاً عن جدتيْ محمد، اللتين بقيتا في المستشفى إلى جانبه منذ ولادته. تمتمت العاني لنفسها:” يوجد أربعة أطفال وثماني نساء هنا، ليس هذا جيداً للأطفال“. كان سلوك العاني فظاً إلى جانب السرير وزاد من فظاظته الأشياء المختلفة التي تضايقها: كثير من النساء المحتشدات في جناح حديثي الولادة، والأطباء الذين يبيعون حليب الأطفال لصالح شركات الحليب، والأسوأ من كل شيء، الزملاء الذين يرفضون المشاركة في سجل التشوهات الخلقية المحاصر. وقبل عقدين وقعتْ في حب طب الأطفال أثناء دراستها للطب في بغداد، وكرست حياتها للمهنة منذ ذلك الوقت. كانت تذهب خمسة أيام في الأسبوع إلى العمل في مشفى الفلوجة الحكومي، حتى حين هرب الأصدقاء إلى العاصمة أو إلى خارج البلاد أو اختاروا أن يمضوا معظم وقتهم في العيادة الخاصة. وبعد أكثر من 20 سنة من أداء الواجب، تتمنى أحياناً لو أنها اختارت التخصص في الأمراض الجلدية أو الأشعة أو أي شيء غير العناية بالأطفال في مدينة مصابة على ما يبدو بتشوهات خلقية غير قابلة للتفسير. بعد فحص محمد، ذهبت العاني إلى أرشيف المستشفى كي ترصد الملف الخاص بمريض وُلد منذ بضعة أيام دون جمجمة لكن الذي لم تسجل حالته في سجلها. وبعد أن فتشت قليلاً عثرت على وثائق الطفل وسط أكداس ملفوفة من الأوراق البيضاء والزرقاء والقرنفلية. كانت العائلة من أبو غريب، على بعد عشرين ميلاً إلى الشرق من الفلوجة والتي كانت مقراً للسجن الأمريكي سيء الصيت والذي مارس الجنود الأميركيون خلف جدرانه التعذيب والاعتداء الجنسي. ثم عادت إلى مركز التشوهات الخلقية كي تفحص طفلاً شُخص بأنه مصاب بمتلازمة بيير روبن(3)، وهي حالة نادرة يؤدي فيها صغر الفك السفلي إلى التسبب بمشكلات تنفسية وغذائية. ”هل سيصبح طبيعياً؟“ سألتها جدة الطفل ناهدة سامي الغول. قالت هذه هي المرة الثانية التي تنجب فيها ابنتها طفلاً مصاباً بتشوهات خلقية، ففي 2014 أنجبت طفلاً برأس متقلص لم يُكتب له عمر. ردت العاني بشكل قاطع: "كلا لن يكون سوياً على الأرجح"، محذرة من أن طفلاً مصاباً بهذا المرض يمكن أن يموت من أسباب تنفسية.
سألت الغول: ”نحن خائفون من الحمل التالي، هل يمكن أن يحدث هذا ثانية؟“. لم تمتلك العاني جواباً، واستُدعيت في الحال إلى قسم حديثي الولادة كي تفحص مولوداً أنثى جديداً نتأ عمودها الفقري من ثقب أحمر كالدم في ظهرها. كانت الأم ما تزال في غرفة الولادة، ولم تعرف بعد عن حالة الطفلة. كانت جدتها تسير حول الحاضنة وتعبر عن قلقها بصوت مرتفع أنها لا تملك النقود كي تدفع من أجل معالجتها. محمد نامق، طبيب أطفال آخر، دخل إلى الغرفة من الممر.
قال: ”لدينا حالات كثيرة كهذه“.
كان هذا عامه الأول في المستشفى، بعد مهمات خارج بغداد وفي شمال وجنوب شرق البلاد. ذكر أنه شاهد حالات من التشوه الخلقي في الفلوجة أكثر من أي مكان آخر عمل فيه. وأخرج هاتفه وأرانا صورة لطفل ولد في المستشفى في ذلك العام، بحسب سجلات من عيادة التشوهات الخلقية. لم يكن للطفل أنف، وهي حالة نادرة جداً تدعى الأرينيا (4). أضاف نامق أنه أجرى عملية جراحية للطفل، لكنها لم تنجح. مات الطفل بعد العملية. وبحسب الأدبيات الطبية، لم يسجل في العالم إلا اثنتي عشرة حالة مماثلة.
عبّر الجنود المتطوعون والمدنيون في أنحاء العالم في القرن السابق عن مخاوف متكررة حيال التأثيرات الصحية للحرب على الأجيال المستقبلية. فقد شكل الصراع دوماً أخطاراً على الصحة العامة. لكن الحرب القائمة على الصناعة في القرن العشرين أدخلت الأسلحة الكيماوية وتهديد الهجمات النووية، مما أدى إلى التعرض لسموم جديدة واحتمال عواقب جينية وخيمة. وفي آب 1945 رمت الولايات المتحدة القنبلتين الذريتين على المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناغازاكي وقتلت أكثر من مائتي ألف شخص وأدخلت العالم في العصر الذري. وفي أعقاب القنبلتين،” ركز الاهتمام العام على النتائج الجينية أكثر من أي نتيجة صحية أخرى“، كما قال عالم الجينات وليم تشول، عضو لجنة الحكومة الأميركية لضحايا القنبلة النووية، مضيفاً ”أن كثيراً من الأفراد امتلكوا رؤى عن وباء ولادات ينتج وحوشاً مشوهة الشكل أو رضّعاً محكوماً عليهم بالموت المبكر“. وأثار احتمال أن تشوه الحرب الحديثة الأجيال المستقبلية انتباهاً وجدلاً غير مسبوقين منذ ذلك الوقت، حتى بينما لم يكن العلم حاسماً حيال المسألة. وقامت بالدراسة الطولية الأضخم للناجين من هيروشيما وناغازاكي وأطفالهم لجنة ضحايا القنبلة النووية وخليفتها مؤسسة أبحاث تأثيرات الإشعاعات الأميركية اليابانية. وبعد فحص أكثر من خمسة وسبعين ألف طفل حديث الولادة في هيروشيما وناغازاكي، توصلت المؤسسة إلى أنه ”لا توجد زيادة مهمة إحصائياً في التشوهات الخلقية الرئيسية أو نتائج غير مرغوب بها تتعلق بالحمل بين أطفال الناجين“، وكانت هذه نتيجة دعمتها دراسات الوكالة اللاحقة.
[الأدلة على الغزو: غلاف الألمنيوم الخاص بالقذيفة عيار 30 مم من اليورانيوم المنضب على الأرض في بغداد خلف وزارة التخطيط، التي كانت هدفاً لغارة جوية أميركية في 3 أيار، 2003.]
ورغم هذه الاكتشافات أرسل الخوف من تشوهات جينية خطيرة موجات صدمة في العالم العلمي وألهم علماء الأوبئة لإنشاء بعض أول السجلات الرئيسية للتشوهات الخلقية. وانتشر الخوف بين السكان الأوسع أيضاً. وفي العقود التي تلت، عبّر المحاربون القدماء الأميركيون الذين شاركوا في تجارب البنتاغون على غاز الخردل (5) أثناء الحرب العالمية الثانية عن مخاوفهم حيال العقم والتشوهات الخلقية بين أطفالهم. وهذا ما فعله محاربون قدامى أُرسلوا إلى جزر المارشال في أواخر السبعينيات كي ينظفوا النفايات السامة لاختبارات البنتاغون النووية التي لم تتوقف، وكذلك سكان جزر المارشال الذين قالوا إن التسربات الإشعاعية من 67 انفجاراً نووياً أنتجت ما يدعى ب "أطفال قناديل البحر"(6). وفي الحالات الثلاث، لم تر الولايات المتحدة أن هناك دليلاً كافياً لربط هذه الاختبارات بالتشوهات الخلقية. وفي أواخر السبعينيات شاهد الجمهور الأميركي على شاشة التلفزيون في وقت الذروة هذه الرؤى الكابوسية، حين بدأ المحاربون القدماء في حرب فيتنام بالإبلاغ عن التشوهات الخلقية لدى أطفالهم. واعتبروا أن سبب التشوهات هو احتكاكهم بمبيد العامل البرتقالي (7) الذي رشته القوات الجوية الأميركية في مساحات واسعة من جنوب فيتنام. وقال العضو السابق في القوات الخاصة جون وودز في جلسة استماع في الكونغرس في 1979:"لسنا نحن المحاربين القدماء، بل أطفالنا هم المحاربون القدماء". في ذلك الوقت، قالت الجمعية الفيتنامية لضحايا العامل البرتقالي إن 3 ملايين مدني من أربعة أجيال أصيبوا بالسرطانات والاعتلال العصبي والمشاكل التناسلية، وأمراض أخرى ناجمة عن المواد الكيماوية السامة. وقال المسؤولون الفيتناميون إنهم يشهدون حتى الآن زيادة في عدد الأطفال الذين يولدون بتشوهات خلقية، بعد أربعة عقود من نهاية الحرب. وكما في الأمثلة السابقة، رفضت الحكومة الأميركية هذه المزاعم قائلة "إنه يوجد أدلة غير سليمة أو غير كافية حول التشوهات الخلقية الناجمة عن التعرض لمبيدات الأعشاب التكتيكية". لكن عدداً من الدراسات الأميركية والعالمية قالت بوجود رابط بين المواد الكيماوية وأنواع معينة من التشوهات الخلقية مما ساعد في إذكاء عقود من الجدل. وكان تعقيد العلم جزءاً من التحدي. فقد قالت ليزلي روبرتس، عالمة الأوبئة في جامعة كولومبيا التي عملت في منظمة الصحة العالمية: "إن التشوهات الخلقية صعبة الدراسة والفهم وليس من السهل التوصل إلى آليات سببية حيالها مما يجعلها التهابية على نحو فريد وغير قابلة للحل. أحياناً نحن جميعاً لدينا مسألة مثل العامل البرتقالي حيث نستطيع بالفعل أن نقيس علامات كيمائية للتعرض، لكننا عادة لا نستطيع". ما يضاعف هذه التحديات العلمية هو التعقيدات القانونية والمالية لأي أدلة قاطعة. أضافت روبرتس: "لدينا آلات دعاية معقدة جداً وضخمة تحاول تجنب أية مسائل تتعلق بالمسؤولية". أما بالنسبة للعامل البرتقالي، فقد حاكم المحاربون القدماء الأميركيون الشركات الكيميائية التي صنعته، وبينها دو ومونسانتو، وحصلوا على 180 مليون دولار بعد التوصل إلى تسوية في 1984. أجبروا أيضاً إدارة المحاربين القدماء على تقديم الرعاية الصحية لأبنائهم الذين وُلدوا مصابين بشلل الحبل الشوكي، وفي حالات معينة، بعدد من التشوهات الخلقية الأخرى، رغم أن الوكالة أكدت أنه لا علاقة لهذه التشوهات بالتعرض للعامل البرتقالي. في هذه الأثناء واصل المحاربون القدماء الأميركيون الذين تعرضوا للمبيد وأولادهم والمدنيون الفيتناميون والمنحدرون منهم المطالبة باعتراف إضافي وتعويض عن الإصابات. وفي 2008 رفضت محكمة أميركية دعوى جماعية رُفعت لصالح المدنيين الفيتناميين بعد أن دافع سيث واكسمان الذي خدم كنائب عام في ظل إدارة كلينتون عن الشركات الكيمائية قائلاً إن القضية قد تؤدي إلى مضاعفات سياسية كبيرة. عقب: "هذا لا يؤثر بدبلوماسيتنا المتواصلة". ولم تكن الدبلوماسية التي أشار إليها تجريدية بل مرتبطة بصراع محدد خيض على بعد ستة آلاف ميل، بأسلحته الخاصة المثيرة للجدل: الحرب في العراق، والتي أشيع خلالها أن الولايات المتحدة استخدمت اليورانيوم المنضب في الفلوجة.
[ترجمة: أسامة إسبر. المصدر The Nation]
لورا جوتسدينر مراسلة لرويترز مقيمة في المكسيك.
هوامش المترجم
1- جاء في تقرير نشرته قناة الجزيرة أن اليورانيوم المنضب هو أحد مشتقات اليورانيوم الطبيعي، ويُعبأ به نوع من القنابل تطلق من المدافع أو تلقى من الطائرات المقاتلة، وله قدرة عالية على إذابة المواد الصلبة الخرسانية والمدرعة.
2- القيلة الدِماغِيَّة أحياناً يطلق عليها القحف المشقوق، هي عبارة عن عيب في الأنبوب العصبي تتميز ببروز كيسي للدماغ والأغشية السحائية المحيطة خلال فتحة من الجمجمة. سببها هو عيب في غلق الأنبوب العصبي أثناء النمو الجنيني.
3- متلازمة بيير روبن: صغر حجم الفك السفلي، حلق مشقوق ولسان مشدود إلى الخلف.
4- الأرينيا، أي انعدام وجود الأنف.
5- يستعمل غاز الخردل كسلاح كيميائي وهو مركب سائل برتقالي اللون يصدر بخاراً له رائحة كالثوم أو البصل، أما الشخص الذي يتعرض له فيصاب بالحروق والتقيؤ والاسهال وصعوبة التنفس والعمى بشكل قد يؤدي إلى الموت والإصابة بالسرطان.
6- "أطفال قناديل البحر"، تشوه خلقي يؤدي إلى ولادة طفل بجلد رقيق ودون عظام.
7- العامل البرتقالي هو الاسم الحركي لمبيد أعشاب كان يستخدمه الجيش الأميركي أثناء حرب فيتنام كجزء من برنامج الحرب السامة (١٩٦١-١٩٧١).