أطفال الفلوجة: اللغز الطبي في قلب حرب العراق (١ من ٣)

        [اللوحة للفنانة مولي كرابآبل] [اللوحة للفنانة مولي كرابآبل]

أطفال الفلوجة: اللغز الطبي في قلب حرب العراق (١ من ٣)

By : Arabic Editors

لورا جوتسدينر Laura Gottesdiener

أبلغ الأطباءُ عن ارتفاع كبير في التشوهات الخلقية بين أطفال المدينة منذ غزو 2003، وحتى هذا اليوم لا أحد يعرف السبب.

بعد ثلاث سنوات من حصار الجنود الأميركيين لمدينتها بدأت طبيبة الأطفال العراقية سميرة العاني تواجه مشكلة في قسم التوليد، ذلك أن النساء يُنْجبن أطفالاً بأعضاء تنتأ من بطونهم أو لهم سيقان ملتصقة معاً كأذيال حوريات البحر. وبدا البعض كأنهم مكسوون بجلود ثعابين فيما خرج آخرون من الرحم وهم يلهثون دون نجاح من أجل الهواء. لم يعرف أحد ما المشكلة لدى الأطفال، ويمكن القول أيضاً إنه لم يكن هناك أحد يسعى إلى معرفة ذلك. كان العام هو 2007، أوج العنف السياسي والطائفي الذي سببه الغزو والاحتلال الأميركيان. واعتُبرت الفلوجة، حيث كانت العاني تعيش وتعمل، من أخطر المدن على وجه الأرض من ناحية عدم الاستقرار وتعذر الدخول إليها. وانتقلت الأنباء عن الأطفال من أروقة المستشفى إلى الأفنية الداخلية لمنازل المدينة، وهُمست بين القريبات الإناث والجيران. وسمعتْ انتصار حسين، وهي ربة بيت من الفلوجة، عن التشوهات بعد أن عادت ابنة عم لها من جناح التوليد. وروتْ حسين عن لسان ابنة عمها: ”أنجبت امرأة طفلاً بذيل، وأنجبت أخرى طفلاً له وجه أرنب“. زحف المرض إلى عائلة حسين، أيضاً، كما ذكرت: أنجبت زوجة أحد أخوتها طفلاً بدون عظام جمجمة لحماية أنسجة الدماغ، وتوفي الطفل أثناء الولادة. وتعرضت زوجة أخ أخرى لإجهاضين ثم أنجبت طفلاً برأس كبير منتفخ. توفي أيضاً. بعد ذلك في الحال صار أطفال الفلوجة موضوعاً يثير القلق في الاجتماعات العشائرية وفي نقابة الأطباء في المنطقة. واشتبه كثير من السكان بأن الهجمات الأميركية الرئيسية ضد المدينة ربما لها علاقة بهذه التشوهات. ذلك أن الهجوم الثاني الذي بدأ في أوائل تشرين الثاني\نوفمبر 2004 كان المعركة الأشرس من بين كل معارك الحرب الأميركية في العراق، فالحصار الذي استمر ستة أسابيع قتل آلاف العراقيين والعشرات من الأميركيين ودمر معظم المدينة.  لكن هذه الشبهات ظلت طيَّ الكتمان. وخارج منازل الناس، خلف أبواب المداخل الحديدية، سيّر رجال مشاة البحرية الأميركية الدوريات في الشوارع. وقال السكان إنهم يخافون من أن الولايات المتحدة لن تستجيب بلطف لتلميحات قد تقدح شرارة أزمة صحية عامة. فضلاً عن ذلك، لم يكن الأميركيون الفاعلين الوحيدين الذين يجب أن تضعهم الفلوجة على قائمة المسؤولية. فقد شنت الحكومة الوطنية التي يتزعمها الشيعة في بغداد، (التي نظر إليها الجميع كدمية لواشنطن وطهران) حملة اعتقالات ومارست التعذيب والانتقام السياسي من نقادها، وخاصة في مناطق ذات أغلبية سنية كالفلوجة. وفي الفلوجة تنافست ميليشيات وأحزاب سياسية عراقية مختلفة على السلطة السياسية، وهي أيضاً سعت إلى السيطرة على نشر المعلومات من أجل أجنداتها الخاصة. لكن حتى إذا لم يكن الناس خائفين، لم يبد أن هناك الكثير الذي يمكن أن يفعله أي شخص حيال التشوهات الخلقية في تلك الأيام كما قال الأطباء والسكان. ففي جميع أنحاء العراق، أطلق الغزو الأميركي موجة عنف ضد الأطباء، الذين جعلتهم ثروتهم النسبية وعملهم أهدافاً سهلة وسط الصراع الطائفي المتنامي في البلاد. وفي 2007، حين بدأت العاني تلاحظ التشوهات الخلقية في الفلوجة قدّرت الجمعية الطبية العراقية أن نصف الأطباء المسجلين أُجبروا على الفرار من البلاد. وتعرض الذين بقوا مثلها لخطر الاعتقال والاغتيال وعملوا أيضاً في ظروف سيئة بسبب نقص الأدوية والأجهزة الطبية والماء والكهرباء.

 

[الطبيبة الجيدة: الدكتورة سميرة العاني تقدم المعلومات حول التشوهات الخلقية بين المرضى في مستشفى الفلوجة الحكومي.]

قالت: “شعرنا أن هناك خللاً ما، لكن لم يكن بوسعنا فعل أي شيء“. وظنت زميلة العاني منتهى علواني، وهي طبيبة مختصة بالأجنة أيضاً، أن هناك مشكلة. بدأت المرأتان العمل في المستشفى منذ أواخر التسعينيات، واعتقدتا أنهما بدأتا تشاهدان تشوهات خلقية أكثر مما كان عليه الأمر قبل الغزو الأمريكي. وباشرت العاني بهدوء تسجيل الحالات، وصوّرتْ علواني المرضى الصغار. وصنعت العاني استمارة لتسجيل التشوهات الخلقية ووزعتها على أجنحة المستشفى. شكك كثير من زملائهما بالأمر، وذكرت العاني أن البعض قالوا لها: “لا فائدة ترجى من هذا، لكنهم كانوا مخطئين. لفتنا انتباه العالم كله من خلال توثيقنا“.

كان سجل العاني المخصص لهذا العمل بداية بحث متواصل استمر عاماً لتوثيق اللغز الطبي الأكثر إثارة للجدل في الحرب العراقية والتحقيق فيه: ازدياد التشوهات الخلقية، والتي بدأت كما ذكر الأطباء المحليون بعد أن غزت الولايات المتحدة البلاد في 2003 وما تزال تحدث في المدينة حتى هذا اليوم. لكن السؤال المثير للجدل هو: هل أسهمت الأنشطة العسكرية الأميركية في الفلوجة في حدوث هذه التشوهات الخلقية؟ حوّل هذا الاحتمال القلق الصحي العام إلى جدل علمي وسياسي دولي. وركز الجدل الحامي حول الفلوجة لسنوات على استخدام وتأثير مادة سامة محتملة في الأسلحة الأميركية، وخاصة اليورانيوم المنضب(1). لكن النقاش أغفل بصورة خاصة أسئلة أشمل وربما أكثر إلحاحاً حول التأثيرات الصحية العامة طويلة الأمد للحرب الحضرية على السكان المدنيين وأخطار تسييس العلم والطب في أوقات الصراع.

 

[آلات الحرب: أثناء معركة الفلوجة الثانية في 2004، مشاة البحرية الأميركية يقصفون المدينة]

لم تجب وزارة الدفاع على معظم الأسئلة التي طرحتها مجلة "ذ نيشن" حول مزاعم أعداد مرتفعة للتشوهات الخلقية في الفلوجة ناجمة عن الحرب. وقدمت نشرتها التي تشرح فيها ”سياسة المعالجة البيئية خارج الولايات المتحدة“ التي تقر بأن ”وزارة الدفاع لا تمتلك سلطة عامة أو تمويلاً للانخراط في المعالجة البيئية خارج الولايات المتحدة“. وتقر السياسة أيضاً أن وزارة الدفاع” لا تقوم بأي فعل لمعالجة التلوث البيئي الناجم عن الصراع المسلح“. بدورها، قالت الحكومة العراقية إن الولايات المتحدة قدمت موارد لا تُقدر بثمن لمعالجة المخاوف البيئية والأمنية في البلاد في الأعوام التي أعقبت الغزو. وصرح جاسم عبد العزيز حمادي الفلاحي، وكيل وزارة الصحة والبيئة في العراق: ”تدعمنا الولايات المتحدة ليس فقط في حقل الإشعاعات بل في حقل التغير المناخي وتلوث موارد المياه". لكن بعد مرور 17 عاماً على الغزو الأميركي، ما زال لغز أطفال الفلوجة يشغل بال العراقيين.  وبقيت معظم مظاهر القصة عن التشوهات الخلقية في المدينة موضوعاً مثيراً للجدل. ورغم أن التقارير والصور عن أطفال الفلوجة المبتورين والمشوهين سافرت من صالات منظمة الصحة العالمية وصفحات المجلات الطبية إلى نص مذكرات البنتاغون الداخلية وملصقات المسيرات المناهضة للحرب، واصلت العاني وزملاؤها العمل في مركز تشوهات خلقية صغير ويخلو من الموارد، وهم يعالجون الآن أطفالاً كان آباؤهم أطفالاً حين غزت الولايات المتحدة العراق.

ففي جميع أنحاء العراق، أطلق الغزو الأميركي موجة عنف ضد الأطباء، الذين جعلتهم ثروتهم النسبية وعملهم أهدافاً سهلة وسط الصراع الطائفي المتنامي في البلاد. وفي 2007، حين بدأت العاني تلاحظ التشوهات الخلقية في الفلوجة قدّرت الجمعية الطبية العراقية أن نصف الأطباء المسجلين أُجبروا على الفرار من البلاد.

في صباح يوم حار من أيام أيلول في 2019، كانت مجموعة من النساء تنتظر خارج بناء غير قانوني في مشفى التوليد في الفلوجة على ضفاف نهر الفرات. جلست بعض النساء وحيدات، يحملن أطفالهن وأحفادهن في أحضانهن وتمشّى بعضهن الآخر وتبادلن التحية بقبلة على الخد. كانت بينهن سميرة أحمد التي ذكرتْ أن حفيدتها مرام تصارع كي تتنفس منذ أن أخذتها الأسرة إلى المنزل منذ بضعة شهور. وأضافت أن مرام هي الابنة الأولى لزوجة ابنها بعد حملين سابقين انتهيا بالإجهاض. واكتشف طبيب قلب الأطفال فيما بعد في ذلك اليوم ثقباً صغيراً في قلب مرام. كانت العاني آنذاك تقود السيارة من بيتها في وسط الفلوجة إلى المستشفى. وفيما هي تقود عبرت محلات الألبسة والخضار ومحلاً براقاً لبيع شرائح اللحم ومناصب شاي على جانب الطريق حولها عجائز يراقبون الأباريق المغلية وكؤوس زجاج الاستكان الرقيقة. كانت نهاية الصيف هي فصل البلح في العراق، وتكومت الأطباق المليئة بالثمار الحلوة عالياً في جميع زوايا الشارع تقريباً. وأحاطت السقالات ببعض المساجد المشهورة التي بانت في مآذنها ثقوب الرصاص. لم تكن رحلة العاني اليومية مريحة. ففي 2005 و2006 بعد أن احتلت القوات الأميركية الفلوجة، اختنقت الشوارع بنقاط التفتيش الأميركية فكانت تضطر إلى اجتياز الميلين من بيتها إلى المستشفى مشياً على الأقدام.  وفي أوائل 2014 كان تقود سيارتها بقلق بين مقاتلين مقنعين من تنظيم الدولة الإسلامية وهي في طريقها إلى العمل. قُصف بيتها والمستشفى عدة مرات، ومنعها هذا من التنقل بين فترة وأخرى. وبعد الثامنة صباحاً بقليل ركنت العاني سيارتها أمام مركز التشوهات الخلقية. كانت امرأة صغيرة ونحيلة تنحني إلى الأمام وهي تسير، مما منحها مظهر امرأة متلهفة للوصول. فتحت باب العيادة ثم أسرعت بخطوات قصيرة مدروسة عبر الأعشاب المصفرة عابرة رجالاً يدخنون السجائر ينتظرون أخباراً طيبة عن زوجاتهم، ودخلت إلى قسم حديثي الولادة حيث انحنت فوق طفل يُدْعى محمد وُلدَ منذ أسبوعين بجيب كبير يحتوي جزءاً من دماغه ينتأ من قفا جمجمته، بحسب صورة من المستشفى.  سجل هذا التشوه الذي يُدعى”قيلة دماغية كيسية“(2) نسبة وفيات عالية لكن الأطباء المناوبين قالوا إن الطفل يتماثل للشفاء من العملية الجراحية التي استأصلت الكيس وجففت السائل الدماغي الشوكي المفرط. انحنت العاني فوق الحاضنة رافعة ذراعيْ وساقيْ محمد وفحصت عنقه القصيرة وأضلاعه المشوهة. قالت ببرود:” سيكون مشلولاً“. كان أحد أربعة أطفال أصيبوا بتشوهات خلقية ولدوا في المستشفى في 28 آب، بحسب سجلات المستشفى ولقاءات مع الأطباء. كان اثنان منهما توأمين، أحدهما برأس منتفخ والثاني بأعضاء مشوهة وأعضاء جنسية غير سوية.  الرابع له فتحتا منخرين مغلقتان بشكل كامل. قبل أيام، كانت الطفلة تستلقي في حاضن إلى جانب محمد، تبكي وهي تصارع كي تتنفس. نظرت العاني في الغرفة المكتظة بحثاً عن جدتيْ محمد، اللتين بقيتا في المستشفى إلى جانبه منذ ولادته. تمتمت العاني لنفسها:” يوجد أربعة أطفال وثماني نساء هنا، ليس هذا جيداً للأطفال“. كان سلوك العاني فظاً إلى جانب السرير وزاد من فظاظته الأشياء المختلفة التي تضايقها: كثير من النساء المحتشدات في جناح حديثي الولادة، والأطباء الذين يبيعون حليب الأطفال لصالح شركات الحليب، والأسوأ من كل شيء، الزملاء الذين يرفضون المشاركة في سجل التشوهات الخلقية المحاصر. وقبل عقدين وقعتْ في حب طب الأطفال أثناء دراستها للطب في بغداد، وكرست حياتها للمهنة منذ ذلك الوقت. كانت تذهب خمسة أيام في الأسبوع إلى العمل في مشفى الفلوجة الحكومي، حتى حين هرب الأصدقاء إلى العاصمة أو إلى خارج البلاد أو اختاروا أن يمضوا معظم وقتهم في العيادة الخاصة. وبعد أكثر من 20 سنة من أداء الواجب، تتمنى أحياناً لو أنها اختارت التخصص في الأمراض الجلدية أو الأشعة أو أي شيء غير العناية بالأطفال في مدينة مصابة على ما يبدو بتشوهات خلقية غير قابلة للتفسير. بعد فحص محمد، ذهبت العاني إلى أرشيف المستشفى كي ترصد الملف الخاص بمريض وُلد منذ بضعة أيام دون جمجمة لكن الذي لم تسجل حالته في سجلها.  وبعد أن فتشت قليلاً عثرت على وثائق الطفل وسط أكداس ملفوفة من الأوراق البيضاء والزرقاء والقرنفلية.  كانت العائلة من أبو غريب، على بعد عشرين ميلاً إلى الشرق من الفلوجة والتي كانت مقراً للسجن الأمريكي سيء الصيت والذي مارس الجنود الأميركيون خلف جدرانه التعذيب والاعتداء الجنسي. ثم عادت إلى مركز التشوهات الخلقية كي تفحص طفلاً شُخص بأنه مصاب بمتلازمة بيير روبن(3)، وهي حالة نادرة يؤدي فيها صغر الفك السفلي إلى التسبب بمشكلات تنفسية وغذائية. ”هل سيصبح طبيعياً؟“ سألتها جدة الطفل ناهدة سامي الغول. قالت هذه هي المرة الثانية التي تنجب فيها ابنتها طفلاً مصاباً بتشوهات خلقية، ففي 2014 أنجبت طفلاً برأس متقلص لم يُكتب له عمر. ردت العاني بشكل قاطع: "كلا لن يكون سوياً على الأرجح"،  محذرة من أن طفلاً مصاباً بهذا المرض يمكن أن يموت من أسباب تنفسية.

سألت الغول: ”نحن خائفون من الحمل التالي، هل يمكن أن يحدث هذا ثانية؟“. لم تمتلك العاني جواباً، واستُدعيت في الحال إلى قسم حديثي الولادة كي تفحص مولوداً أنثى جديداً نتأ عمودها الفقري من ثقب أحمر كالدم في ظهرها.  كانت الأم ما تزال في غرفة الولادة، ولم تعرف بعد عن حالة الطفلة.  كانت جدتها تسير حول الحاضنة وتعبر عن قلقها بصوت مرتفع أنها لا تملك النقود كي تدفع من أجل معالجتها. محمد نامق، طبيب أطفال آخر، دخل إلى الغرفة من الممر.

قال: ”لدينا حالات كثيرة كهذه“.

كان هذا عامه الأول في المستشفى، بعد مهمات خارج بغداد وفي شمال وجنوب شرق البلاد. ذكر أنه شاهد حالات من التشوه الخلقي في الفلوجة أكثر من أي مكان آخر عمل فيه. وأخرج هاتفه وأرانا صورة لطفل ولد في المستشفى في ذلك العام، بحسب سجلات من عيادة التشوهات الخلقية. لم يكن للطفل أنف، وهي حالة نادرة جداً تدعى الأرينيا (4). أضاف نامق أنه أجرى عملية جراحية للطفل، لكنها لم تنجح. مات الطفل بعد العملية. وبحسب الأدبيات الطبية، لم يسجل في العالم إلا اثنتي عشرة حالة مماثلة.

عبّر الجنود المتطوعون والمدنيون في أنحاء العالم في القرن السابق عن مخاوف متكررة حيال التأثيرات الصحية للحرب على الأجيال المستقبلية. فقد شكل الصراع دوماً أخطاراً على الصحة العامة. لكن الحرب القائمة على الصناعة في القرن العشرين أدخلت الأسلحة الكيماوية وتهديد الهجمات النووية، مما أدى إلى التعرض لسموم جديدة واحتمال عواقب جينية وخيمة.  وفي آب 1945 رمت الولايات المتحدة القنبلتين الذريتين على المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناغازاكي وقتلت أكثر من مائتي ألف شخص وأدخلت العالم في العصر الذري. وفي أعقاب القنبلتين،” ركز الاهتمام العام على النتائج الجينية أكثر من أي نتيجة صحية أخرى“، كما قال عالم الجينات وليم تشول، عضو لجنة الحكومة الأميركية لضحايا القنبلة النووية، مضيفاً ”أن كثيراً من الأفراد امتلكوا رؤى عن وباء ولادات ينتج وحوشاً مشوهة الشكل أو رضّعاً محكوماً عليهم بالموت المبكر“. وأثار احتمال أن تشوه الحرب الحديثة الأجيال المستقبلية انتباهاً وجدلاً غير مسبوقين منذ ذلك الوقت، حتى بينما لم يكن العلم حاسماً حيال المسألة. وقامت بالدراسة الطولية الأضخم للناجين من هيروشيما وناغازاكي وأطفالهم لجنة ضحايا القنبلة النووية وخليفتها مؤسسة أبحاث تأثيرات الإشعاعات الأميركية اليابانية. وبعد فحص أكثر من خمسة وسبعين ألف طفل حديث الولادة في هيروشيما وناغازاكي، توصلت المؤسسة إلى أنه ”لا توجد زيادة مهمة إحصائياً في التشوهات الخلقية الرئيسية أو نتائج غير مرغوب بها تتعلق بالحمل بين أطفال الناجين“، وكانت هذه نتيجة دعمتها دراسات الوكالة اللاحقة.

 

[الأدلة على الغزو: غلاف الألمنيوم الخاص بالقذيفة عيار 30 مم من اليورانيوم المنضب على الأرض في بغداد خلف وزارة التخطيط، التي كانت هدفاً لغارة جوية أميركية في 3 أيار، 2003.]

ورغم هذه الاكتشافات أرسل الخوف من تشوهات جينية خطيرة موجات صدمة في العالم العلمي وألهم علماء الأوبئة لإنشاء بعض أول السجلات الرئيسية للتشوهات الخلقية. وانتشر الخوف بين السكان الأوسع أيضاً. وفي العقود التي تلت، عبّر المحاربون القدماء الأميركيون الذين شاركوا في تجارب البنتاغون على غاز الخردل (5) أثناء الحرب العالمية الثانية عن مخاوفهم حيال العقم والتشوهات الخلقية بين أطفالهم. وهذا ما فعله محاربون قدامى أُرسلوا إلى جزر المارشال في أواخر السبعينيات كي ينظفوا النفايات السامة لاختبارات البنتاغون النووية التي لم تتوقف، وكذلك سكان جزر المارشال الذين قالوا إن التسربات الإشعاعية من 67 انفجاراً نووياً أنتجت ما يدعى ب "أطفال قناديل البحر"(6). وفي الحالات الثلاث، لم تر الولايات المتحدة أن هناك دليلاً كافياً لربط هذه الاختبارات بالتشوهات الخلقية. وفي أواخر السبعينيات شاهد الجمهور الأميركي على شاشة التلفزيون في وقت الذروة هذه الرؤى الكابوسية، حين بدأ المحاربون القدماء في حرب فيتنام بالإبلاغ عن التشوهات الخلقية لدى أطفالهم. واعتبروا أن سبب التشوهات هو احتكاكهم بمبيد العامل البرتقالي (7) الذي رشته القوات الجوية الأميركية في مساحات واسعة من جنوب فيتنام. وقال العضو السابق في القوات الخاصة جون وودز في جلسة استماع في الكونغرس في 1979:"لسنا نحن المحاربين القدماء، بل أطفالنا هم المحاربون القدماء". في ذلك الوقت، قالت الجمعية الفيتنامية لضحايا العامل البرتقالي إن 3 ملايين مدني من أربعة أجيال أصيبوا بالسرطانات والاعتلال العصبي والمشاكل التناسلية، وأمراض أخرى ناجمة عن المواد الكيماوية السامة. وقال المسؤولون الفيتناميون إنهم يشهدون حتى الآن زيادة في عدد الأطفال الذين يولدون بتشوهات خلقية، بعد أربعة عقود من نهاية الحرب. وكما في الأمثلة السابقة، رفضت الحكومة الأميركية هذه المزاعم قائلة "إنه يوجد أدلة غير سليمة أو غير كافية حول التشوهات الخلقية الناجمة عن التعرض لمبيدات الأعشاب التكتيكية". لكن عدداً من الدراسات الأميركية والعالمية قالت بوجود رابط بين المواد الكيماوية وأنواع معينة من التشوهات الخلقية مما ساعد في إذكاء عقود من الجدل. وكان تعقيد العلم جزءاً من التحدي. فقد قالت ليزلي روبرتس، عالمة الأوبئة في جامعة كولومبيا التي عملت في منظمة الصحة العالمية: "إن التشوهات الخلقية صعبة الدراسة والفهم وليس من السهل التوصل إلى آليات سببية حيالها مما يجعلها التهابية على نحو فريد وغير قابلة للحل. أحياناً نحن جميعاً لدينا مسألة مثل العامل البرتقالي حيث نستطيع بالفعل أن نقيس علامات كيمائية للتعرض، لكننا عادة لا نستطيع". ما يضاعف هذه التحديات العلمية هو التعقيدات القانونية والمالية لأي أدلة قاطعة. أضافت روبرتس: "لدينا آلات دعاية معقدة جداً وضخمة تحاول تجنب أية مسائل تتعلق بالمسؤولية". أما بالنسبة للعامل البرتقالي، فقد حاكم المحاربون القدماء الأميركيون الشركات الكيميائية التي صنعته، وبينها دو ومونسانتو، وحصلوا على 180 مليون دولار بعد التوصل إلى تسوية في 1984. أجبروا أيضاً إدارة المحاربين القدماء على تقديم الرعاية الصحية لأبنائهم الذين وُلدوا مصابين بشلل الحبل الشوكي، وفي حالات معينة، بعدد من التشوهات الخلقية الأخرى، رغم أن الوكالة أكدت أنه لا علاقة لهذه التشوهات بالتعرض للعامل البرتقالي. في هذه الأثناء واصل المحاربون القدماء الأميركيون الذين تعرضوا للمبيد وأولادهم والمدنيون الفيتناميون والمنحدرون منهم المطالبة باعتراف إضافي وتعويض عن الإصابات. وفي 2008 رفضت محكمة أميركية دعوى جماعية رُفعت لصالح المدنيين الفيتناميين بعد أن دافع سيث واكسمان الذي خدم كنائب عام في ظل إدارة كلينتون عن الشركات الكيمائية قائلاً إن القضية قد تؤدي إلى مضاعفات سياسية كبيرة. عقب: "هذا لا يؤثر بدبلوماسيتنا المتواصلة". ولم تكن الدبلوماسية التي أشار إليها تجريدية بل مرتبطة بصراع محدد خيض على بعد ستة آلاف ميل، بأسلحته الخاصة المثيرة للجدل: الحرب في العراق، والتي أشيع خلالها أن الولايات المتحدة استخدمت اليورانيوم المنضب في الفلوجة.

[ترجمة: أسامة إسبر. المصدر The Nation]

لورا جوتسدينر مراسلة لرويترز مقيمة في المكسيك.

هوامش المترجم

1- جاء في تقرير نشرته قناة الجزيرة أن اليورانيوم المنضب هو أحد مشتقات اليورانيوم الطبيعي، ويُعبأ به نوع من القنابل تطلق من المدافع أو تلقى من الطائرات المقاتلة، وله قدرة عالية على إذابة المواد الصلبة الخرسانية والمدرعة.

2- القيلة الدِماغِيَّة أحياناً يطلق عليها القحف المشقوق، هي عبارة عن عيب في الأنبوب العصبي تتميز ببروز كيسي للدماغ والأغشية السحائية المحيطة خلال فتحة من الجمجمة. سببها هو عيب في غلق الأنبوب العصبي أثناء النمو الجنيني.

3- متلازمة بيير روبن: صغر حجم الفك السفلي، حلق مشقوق ولسان مشدود إلى الخلف.

4- الأرينيا، أي انعدام وجود الأنف.

5- يستعمل غاز الخردل كسلاح كيميائي وهو مركب سائل برتقالي اللون يصدر بخاراً له رائحة كالثوم أو البصل، أما الشخص الذي يتعرض له فيصاب بالحروق والتقيؤ والاسهال وصعوبة التنفس والعمى بشكل قد يؤدي إلى الموت والإصابة بالسرطان.

6- "أطفال قناديل البحر"، تشوه خلقي يؤدي إلى ولادة طفل بجلد رقيق ودون عظام.

7- العامل البرتقالي هو الاسم الحركي لمبيد أعشاب كان يستخدمه الجيش الأميركي أثناء حرب فيتنام كجزء من برنامج الحرب السامة (١٩٦١-١٩٧١).

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬